الكابوس وأسبابه
قَلَّ منا مَنْ لم يعرف الكابوس، وهو حلم مثل سائر الأحلام يدل على أننا كظمنا عاطفة، فَلَمَّا نِمْنَا وزال عنا الوجدان بَرَزَتْ وحققتْ وجودها، والمبدأ العام في الأحلام هو أنها تُحَقِّق شهوة أو رغبة مكظومة يتضح في الكابوس كما يتضح في أي حلم آخر.
فالحضارة التي نعيش فيها تمنعنا من التعبير عن مخاوفنا؛ فالتلميذ مثلًا يكره الامتحانات ويخشاها ويَوَدُّ لو يفر منها، والجندي يخشى المعركة، وهو يتخذ موقف الشجاعة مضطرًّا، والموظف الذي تلاعب بأموال الحكومة يخشى الافتضاح، والأم تخاف الأخطار العديدة التي يلقاها ابنها في الشارع، والمالي يخشى الإفلاس، وهو دائم الْهَمِّ بشأن الأسعار والأسهم، والمريض يخشى الموت أو مشْرط الجرَّاح.
وكل هذه الهموم نكظمها ولا نتحدث أو نُفْصِح عنها، وكأنها أسرار مُقْفَلَة في نفوسنا لا نحب أن أحدًا يعرفها، حتى لا يُعَيِّرنا بالجبن أو بغير ذلك من الرذائل؛ فإذا نمنا استباحت عاطفة الخوف طريقَ الانفراج؛ ولذلك يصرخ التلميذ والجندي والموظف والأم والمالي والمريض، وهم في صراخهم لا يحلمون بالمشكلة التي كانت في صحوهم سببًا لهذا الكابوس في النوم؛ لأن الأحلام تتخذ أساليب قديمة؛ فالمشكلة العصرية بشأن الامتحان عند التلميذ، أو البورصة عند المالي تتخذ أسلوبًا قديمًا يمثل الإنسان (بل الحيوان) البدائي في الغابة، أو ما يقارب هذا في الرمزية؛ ولذلك نجد هؤلاء جميعًا يبكون أو يصرخون في النوم؛ لأنهم يَرَوْن وحشًا يتربص بهم الموت، أو ما يرمز إلى هذا الوحش من رجل يحمل سكينًا يطلب قَتْلَهم، أو لصًّا تحت السرير يستعد للوثوب.
وقد سَبَقَ أَنْ قلنا: إن الإنسان في نومه يلغي وجدانه وتبقى عواطفه وانعكاساته، فهو في حالٍ تفكيرية وقت النوم تشبه الحال التفكيرية للزواحف والسمك وقت الصحو، واستجاباته تشبه استجاباتها؛ ولذلك تجري الأحلام على مَنْطق قديم، وإن كانت البواعث التي أثارتها عصرية.
ونحن في معاملتنا للأطفال كثيرًا ما نقول: «ما تخافش. ما تصْرُخْش. ما تعَيَّطْش. خليك شجاع»، والطفل يخضع ويطاوع ويكتم خَوْفه، ولكن الصراخ كان شهوة طبيعية عند الطفل، فلما كظمها وَجَدَت الانفراج في النوم بما نسميه الكابوس، وكذلك يفعل الجندي الذي مُنِعَ من الهرب، والأم التي مُنِعَتْ من البكاء. إلخ.
وإلى هنا لا نرى اختلافًا بين الحلم العادي والكابوس، كلاهما يُعَبِّر عن عاطفة أو شهوة كانت مكظومة، ولكن القارئ يعرف أننا كثيرًا ما نستذكر في يقظتنا المواقف الحسنة التي استمتعنا بها أو طَرِبْنا بها، كي نستعيد الاستمتاع واللذة، ثم تأخذ أحلام اليقظة في التوارد خاطرًا بَعْد آخر كُلُّها طرب ولذة، نفعل ذلك عندما نسترخي بعد الغداء أو قُبَيْل النوم، ثم إذا نمنا رأينا الأحلام اللذيذة التي تتصل بهذه المواقف، فكيف نفسر هذا؟
نفسره بأنه أيضًا — أي هذه الأحلام في اليقظة والنوم — تُعَبِّر عن رغبات مكظومة؛ لأننا لم نشبع من «المواقف الحسنة التي استمتعنا بها أو طربنا بها» فنحن نجوع إليها ونستعيدها، وكأننا نحب أن نملأ كل ساعة من حياتنا بها.
ثم هناك مواقف سيئة أوذينا فيها بالألم أو بالخزي والهوان، ونحن في خواطر اليقظة نستعيدها ونجترها مع التنقيح الذي يجعلنا في موقف المنتصر، ثم في الحلم أيضًا نستعيدها مع هذا التنقيح؛ أي: إذا حدث لنا أن اصطدمنا بحادث مُهِين لنا فإننا نحلم بأننا قد الْتَقَيْنَا بالشخص الذي أهاننا وضربناه، أو عامَلْنَاه بما يخزيه ويهينه، ثم نستيقظ من النوم مرتاحين لهذا الاتزان الذي حققه لنا الحلم في عواطفنا: انتصار في النوم عقب هزيمة في اليقظة.
وهذا هو سلوك النفس السليمة، ومنهجنا في النوم هو نفسه منهجنا في اليقظة؛ فإن أحدنا الذي يلقى ظرفًا سيئًا يحاول معالجته أو نسيانه، وهو في النوم يُسَرِّي عن نفسه بحلم يخفف من وَقْعه؛ لأنه يرغب في سلوك سوي.
ولكن إذا كانت النفس مريضةً فإن السلوك هنا يتغير، فقد يكون أحدنا تاجرًا ثم يفلس، أو قد يكون هانئًا بزواجه ثم يتضح له أن زوجته خائنة وأنها قد فَرَّت منه إلى آخر، فهو يجتر هذا الحادث فلا ينسى إفلاسه أو لا ينسى خيانة زوجته، ولا يفكر في بناء جديد يبني به ما تفرق من كيانه النفسي، فهو هنا يحمل همًّا يجتره بلا تدبير للمستقبل؛ أي: بلا أمل؛ فإذا نام رأى في الحلم كابوسًا كأنه يسقط من بناءٍ عالٍ، والسقوط هنا رمز للإفلاس المالي، أو كأن وحشًا قد شق صدره وخطف قلبه، وهذا رمز لغريمه الذي انتزع زوجته؛ فالكابوس هنا يمثل جرحًا في النفس يحس صاحبه أنه غير قادر على لأمه.
وفي مثل هذه الظروف يتكرر الكابوس حتى يعود المريض إلى حال سوية؛ أي: حتى يبرأ من جرحه النفسي.
وفي حياتنا المحفوفة بالمخاطر تَمُرُّ بنا أوقات نسلك فيها سلوك المرضى؛ فإننا مثلًا قد نسرف في تخويف الفتاة من الاختلاط بالشبان حتى تختلط الشهوة الجنسية عندها بالخوف العظيم على بكارتها، فهي ترى — مثلًا — فيلًا يهجم عليه بخرطومه، فهنا كابوس يَرْمز «بالخرطوم» إلى الخوف من الاتصال الجنسي، أو هي ترى لصًّا يطعنها بخنجر أو يطلق عليها مسدسًا؛ فالمسدس والخنجر والخرطوم كل منها رَمْز إلى عضو التناسل الذي تخشاه لفرط ما سمعت عن قيمة الطهارة وضرر الاختلاط، واذكر هنا رمزية الثعبان (الحية) في تعريف آدم وحواء بالأسرار الجنسية.
ومثل هذا الكابوس يزول عقب الزواج، وسببه أننا بالحضارة وزواجرها الكثيرة قد أَحَلْنَا حلمًا لذيذًا إلى كابوس مزعج.
- (١)
كابوس نرغب فيه ونشتهيه؛ لأنه ينفس عن عاطفة الخوف التي كظمناها.
- (٢)
كابوس يدل على جرح نفسي لا يستطيع صاحبه أن يتخلص منه، فهو يجتر نكبته في يَقَظَتِهِ ثم تعود كابوسًا في نومه.
- (٣)
كابوس ثالث يختلط بالرغبة الجنسية.
وثَمَّ كابوس رابع نستطيع أن نسميه «الكابوس البيولوجي» قد اقتضاه تطورنا، فكلنا يعرف أن كثيرًا من الحيوانات لا ينام، أو أن نومه خفيف جدًّا كالفرس أو الحمار، وبدهي أن نوم الوحوش أخف من نوم الفرس أو الحمار، وعلة هذا أن الأخطار كثيرة جدًّا في الغابة والحياة الوحشية؛ ولذلك فإن الكابوس يُنَبِّه ويُوقِظ؛ أي إنه يأتي إلى النائم كي يُحَفِّزَه على اليقظة حتى لا يقع فريسة لوحش يَنْسَلُّ إليه في الظلام.
ونظامنا النفسي مؤسَّس على الأخطار العديدة التي مرت بنا في مئات الألوف من السنين الماضية؛ فالنفس تطالبنا باليقظة وألا نستسلم للنوم كما لو كنا سكارى.
ومعظم أنواع الكابوس يتخذ شكل العبء الذي يجثم على الصدر حتى يضيق النائم بالنفس ويصرخ، والعادة أننا نقول: إن الأكلة الثقيلة السابقة للنوم قد ضَغَطَتْ وأثقلتْ، وقد تكون هذه الأكلة هي السبب المباشر، وإن كان كثير من الكابوس يَحْدُث حتى عندما ننام بلا عشاء، ولكن هذا الثقل هو نفسه رمز إلى حيوان جاثم يوشك أن يمزقنا؛ فالنفْس تتنبه كي تستيقظ، وهو لهذا السبب مفيد — أو كان مفيدًا، بل مفيدًا جدًّا — أيام الغابة والوحوش حولنا، والصراخ مفيد؛ لأنه يوقِظ مَنْ حَوْلَنا من الجماعة.
انْظُر إلى هذا الكابوس: رجل يحلم أن يده وذراعه قد صارتا مومياء، واللحم والجلد يتناثران منهما، فما المعنى؟
عندما يستيقظ يجد أنه كان قد توسد ذراعه فخدرت، فهنا يُعَدُّ الكابوس تنبيهًا؛ إذ كيف يجوز لأحد أن ينام في الغابة ويده خدرة؟ ألا يتعرض بهذا لأعظم الأخطار إذا كبسه نمر أو ضبع؟
وبدهي أنه إذا كَثُرَت الهموم التي نعجز عن حلها كثر الكابوس، وفي حضارتنا نتحمل همومًا كثيرة ونخاف كثيرًا ونكظم مخاوفنا كثيرًا فلذلك يكثر الكابوس، والمجتمع السليم الذي يربي الشخصيات المتفائلة التي تنظر إلى المستقبل راضية، يكاد يخلو من الكابوس.