الانتحار السيكلوجي
كلنا يعرف هذا الانتحار المادي، وكلنا يقرأ عنه في الجرائد، عن الفتاة التي كَرِهَتْ زوجها أو ضرتها ثم أشعلت النار في ملابسها، وعن الشاب الذي رَفَضَ أبوه أن يُعْطِيه ما طلبه من نقود فألقى بنفسه في النيل، وعن التاجر الذي كان يخشى الإفلاس فأطْلَقَ المسدس على صدره.
ونُحِسُّ كأن هؤلاء المساكين كانوا عقلاء أذكياء، ثم طرأ عليهم هذا الطارئ الذي أَفْقَدَهُمْ عقولهم، فانتحروا.
ولكن لا؛ فإنه ليس هناك مجرم يرتكب جريمة بيديه إلا كان قد سبق له أن ارتكبها جملة مرات بعقله، بخياله، بأحلامه. ولم يكن الارتكاب بالفعل سوى نتيجة الارتكاب بالفكر في شهور سابقة، في سنين سابقة.
وهذا المنتحر بالسكين أو المسدس أو بمياه النيل قد سبق ارتكابَهُ بالفعل ارتكابٌ بالفكر، فانتحر جُمْلَةَ مرات قبل ذلك انتحارًا سيكلوجيًّا؛ أي إن نفسه انتحرت قبل أن ينتحر جسمه.
ولو أنك كنت قد رأيته قبل أن يستحيل جسمه إلى جثة، لرأيت رجلًا أو امرأة أو شابًّا أو حتى صبيًّا قد كَرِهَ الحياة، فهو لا يُحِبُّ عمله ولا يَهْتَمُّ بوسَطِه، ولا يعبأ بثراءٍ أو وجاهةٍ أو ثقافةٍ، هو كارِهٌ للدنيا قد سَئِمَ العيش فيها.
بل هو أحيانًا يسلك السلوك المعيَّن الذي يعمل لفنائه بدلًا من بقائه، كذلك الموظف الذي أُحِيلَ على المعاش؛ فإذا به يجد نفسه سُدًى لا يسأل عنه أَحَدٌ ولا يربطه بالمجتمع رابط؛ لأنه لم يكن يعرف من هذا المجتمع سوى وظيفته، فلما انتهت انتهى هو أيضًا، هو ضائع، هو سُدًى؛ ولذلك يكره الدنيا، ويعمد إلى النوم قبل الظهر وبعد الظهر وفي الليل، والنوم رَمْز إلى الموت، هو اعتكاف، هو استقالة من الحياة، والسريرُ قَبْرٌ.
أو هو يعمد إلى الشراب، ويقول لك: إنه يُسَرِّي عنه السأم، وهو هنا لا يكذب ولكنه لا يتعمق نفسه، ولو فَعَلَ لعَرَفَ أنه يشرب كثيرًا كي يموت؛ لأن الشراب يسممه، ويُعَجِّل وفاته؛ أي: انتحاره.
أو اعْتَبِر «مي» الأديبة المصرية التي انتحرت؛ لأنها لم تُطِقْ أن تعيش بلا شباب وبلا تلألؤ فصامت عن الطعام حتى ماتت، أليس هذا انتحارًا؟
قد تقول: إنه جنون، وهو كذلك من حيث إنها خالفت المألوف، ولكن الواقع أنها كَرِهَت الحياة قبل ذلك بنحو عشر سنوات، وانتحرت سيكلوجيًّا جملة انتحارات، واندس هذا الحب للموت في أعماق عقلها الكامن، ثم استسلمت له بالانقطاع عن الطعام.
إن فرويد العظيم يقول: «إن في كل منا غريزة للحياة، وغريزة أخرى للموت.» أي: كما نحب أن نحيا، نحب كذلك أن نموت.
نحب أن نحيا بالاستطلاع والاقتحام والارتزاق والتجوال والحركة والبناء، ونحن عندئذ إبجابيون نضحك للحياة ونقول لها: نعم، وعندئذٍ نُحِسُّ القوة والفرح وندعو إلى الحرية والسعادة ونقتحم المستقبل.
وأحيانًا نرغب في الموت، فنعتكف ونجمد فلا نستطلع، ونكف عن الارتزاق ونكره البناء — بناء الشخصية، بناء المنزل، بناء الدنيا — ونقعد عن السعي، ونعود سلبيين نقول للحياة: لا، وعندئذ نُحِسُّ الضعف والحزن، ونأخذ بفلسفة الشك، ونلتزم قواعد الفعل الماضي فنقول كُنَّا وكانوا.
وهذا الانتحار السيكلوجي يصيب بعض الأفراد الذين دُلِّلُوا في الطفولة، أو لم يتعودوا مجابهة الصعوبات، أو لم يتعلموا السعي والجهد؛ فإذا أرهقتهم الظروف وثَقُلَتْ عليهم تكاليفُ الحياة آثروا الموت عليها؛ ولذلك تراهم يَبْدُون مُشَعَّثِين، يَلْبَسون الرث من الملابس، ليس لهم طموح أو سعي إيجابي.
•••
هل الدنيا كئيبة إلى الحد الذي يدفعنا إلى هذا الانتحار السيكلوجي؟
ننتحر بالاعتكاف والتعطل، ونتناول الخمور والمخدرات، وبالتجمد حين لا نقرأ ولا نستطلع، وبالقناعة حين نرضى بالتافه من الطعام والرث من الثياب، وبالانفصال عن المجتمع، فلا صداقة ولا اهتمام بالسياسية ولا عناية بالثقافة ولا سعي وراء مكانة؟
قَصَّ عليَّ تاجر أنه فيما بين ١٩٣١ و١٩٣٣ عَمَّ الكساد التجارة، فكان المَتْجَر الذي يبيع بنحو عشرين جنيهًا في اليوم لا يكاد يبيع بجنيهين اثنين، وكان مَتْجَره في شارع الموسكي، ولم تَكُن المتاجر الأخرى تَفْضُل مَتْجَرَه، وكان الكساد يُخَيِّم عليها جميعًا، والذباب يَعْكُف على موظفيها وأصحابها، والجو مشبعًا بالتشاؤم، ولم يَعُدْ شعاعٌ واحد من الشمس ينفذ إلى نفوسهم.
وبينما هذا التاجر يسير في شارع إبراهيم، خَطَرَ بباله أن يذهب إلى جِسْر قَصْر النيل كي يتنسم هواء الصباح وكي يَبْعُد عن مَتْجره — الذي صار يكرهه — ساعة أو ساعتين، وكان الشارع يكاد يكون خاليًا؛ لأن الوقت كان مبكرًا، وبينما هو في هذا السأم، في هذا الجمود، في هذا الانتحار السيكلوجي، إذا برجل قد بُتِرَتْ ساقاه يسير على عربة صغيرة، بأن يدفع الأرض بيديه خَلْفَه، قد نظر إليه وهو يقول: نهارك سعيد.
قال لي التاجر إنه عندما سَمِع هاتين الكلمتين من هذا الكسيح العاجز، فَزِعَ وتَنَبَّه، وكان نهارًا جديدًا قد طلع عليه؛ لأنه تأمل نفسه؛ إن هذا الرجل المسكين يضحك للصباح على ما به من عجز، فما لي أنا أحزن؟
كانت غريزة الحياة قوية في هذا المسكين، كان نهاره على الدوام سعيدًا.
وكانت غريزة الموت عند هذا التاجر قوية، فكان نهاره كئيبًا.
وهنا وقفة نتلبث عندها!
إن هذا التاجر كان يعتقد أنه كان ينوي التنزه على جسر قصر النيل، ولكنه كان جاهلًا لا يعرف ما أراده من هذه النزهة.
إنه كان يريد الانتحار بإلقاء نفسه في مياه النيل، وكانت نزهَتُه استطلاعًا للموت (عَمَل مقايسة)؛ ولذلك «فَزِعَ» وطلع عليه «نهار جديد» عندما حيَّاه هذا المسكين الذي كان يسير بيديه بدلًا من ساقيه، كأنه قد نَبَّهَه إلى ضَلَالِهِ.
لا، ليست مسرات الدنيا هي التي تجعلنا سعداء، وإنما هي الفكرة التي نعيش بها، والأهداف التي نهدف إليها، والفلسفة التي نعتمد عليها، وفي كل هذا كان هذا «المسكين» الذي يسير بلا ساقين أنْضَجَ عقلًا وأَصَحَّ فلسفة وأَعْرَفَ بالحياة من هذا التاجر.
•••
إن جميع المنتحرين — ولو بلغوا الخمسين أو الستين من العمر — أطفال قد تَجَمَّدَتْ أخلاقهم على أسلوب الطفولة، وهناك علامات واضحة للطفولة في سلوكهم حين تراهم يأكلون، أو يشتمون أو يرفسون وَقْت الغضب، أو يسرقون حتى أصدقاءهم، كما أنهم يَجْبُنون عن مواجهة الصعوبات، ويعتمدون على غيرهم الذي يأخذ — في مقاييسهم — مَقَامَ الأبوين، وهم — في الأغلب — قد دُلِّلُوا تدليلًا سيئًا أيام طفولتهم.
اعْتَبِر «مي» الأديبة التي صامت نحو عشرة أيام في منزلها حتى ماتت.
لقد كانت وَحِيدةَ أبويها اللذين دَلَّلَاها، وكانا يُلَبِّيان كل ما كانت تطلبه، فقد كانت في الأيام العشرة الأخيرة من عمرها تتبول وتتبرز على أرض الغرفة وعلى سريرها وعلى سائر الأثاث، والتبول والتبرز هما نداء للأم، هما صيحة الاشتهاء للعودة إلى الطفولة، وكثير من الأطفال الذين يجدون إهمالًا وتركًا من أمهاتهم يتبولون في الفراش حتى تأتي الأم وتنظفهم وتُعنى بهم، ولا يبالي الأطفال المتبولون أن يُضْرَبوا في سبيل ذلك؛ لأن الالتصاق بالأم — حتى مع الضرب — لذة حميمة عندهم.
ونشطت الكامنة — العقل الكامن — في «مي» في أيامها الأخيرة، فطلبت أُمَّها بأسلوب الأطفال، وكان هذا بعض جنونها.
•••
كيف نتقي هذا الانتحار النفسي الذي يؤدي في النهاية إلى انتحار جسمي، وكيف نعالجه عندما يقع أحدٌ فيه؟
نتقيه بأن نربي الناس على أن يشبوا عن الطوق وأن يتركوا الطفولة ويصيروا رجالًا ونساءً ناضجين؛ أي: يجب أن يعرفوا أن في الدنيا صعوبات وعقبات، وأن الرجل الناضج يجب ألا يقابلها بالبكاء والرثاء كما يفعل الأطفال؛ إذ عليه أن يتلقاها بالتحدي والكفاح، والرجل الناضج يُحِسُّ أنه ما دام حيًّا فإنه يجب عليه أن ينهض ويسعى ويبني، وليس عليه أن يَقْعُد ويستسلم.
عليه أن يستطلع ويدرس ويعمل، ويستمتع بجمال الطبيعة والفن، ويخطط مشروع حياته.
ماذا أقول؟
إني أكره بول سارتر وما يسميه «الفلسفة الوجودية»، ولكني أجد في دعوته الأخلاقية ما يُغْريني؛ فإنه يقول: «إن الحياة هي مشروع يَشْرَعه كل إنسان لنفسه، هي خارطة يرسمها بيديه، هي مجموعةُ ما يختار من الدنيا، هي تحفة يصنعها بيديه.»
إن سارتر يطالبنا بأن نكون ناضجين لا نعتمد على غيرنا، وهذا حسن منه؛ لأن المنتحرين أطفال غير ناضجين يعجزون عن الاعتماد على أنفسهم.
يجب أن نقبل الوجودية على أنها «أكذوبة» اجتماعية، مثل الأكاذيب القانونية، نهدف منها إلى أن نجعل من أبنائنا وبناتنا، رجالًا ونساءً ناضجين.
يجب أن نقول لهم: أشرعوا مشروع حياتكم وأنتم في الشباب، وارسموا خارطة السنين القادمة، ورَتِّبوا برنامجكم لخمسين أو ستين سنة؛ فإن حياتكم هي بيت تَبْنُونه فأحسنوا البناء، وتجنبوا العادات التي تَهْدِم هذا البيت، وأقبلوا على الاستطلاع والاختبار، وتعلموا من الكوارث دروسًا، ومن الأمراض صحة، واكسبوا حكمة، وليسألْ كُلٌّ منكم نَفْسَه عندما يضعف: ألا أزال طفلًا؟