المركبات
كلمة «مركب» من الكلمات التي خرجت من الميدان السيكلوجي إلى ميادين أخرى في الأدب والاجتماع بل في الحديث العام، وهذا يدل على أنها قامت بمهمة فسيولوجية كنا نحتاج إليها في لغتنا، وواضع هذه الكلمة هو يونج السيكلوجي السويسري، وهو يقصد منها إلى مجموعة من الأفكار العاطفية تندس في الكامنة (العقل الباطن) ثم توجهنا بميول واتجاهات تخفى علينا، وقد استعمل هذه الكلمة فرويد فيما أسماه «مركب أوديب» واستعملها أدلر فيما أسماه «مركب النقص».
ويرى القارئ لهذا الكتاب فصلًا مستقلًّا فيه عن «مركب النقص»، ولذلك نحتاج هنا إلى أن نتحدث في إيجاز عن المركبات وعن مركب أوديب خاصة.
فالمركبات هي في صميمها رجوع مكيفة أي: معدولة، مثالها: الرجوع التي أحدثها بافلوف في الكلاب؛ فالكلب يجرب لُعابه إذا رأى أو إذا شم اللحم؛ فإذا قُرِعَ جرس مع رؤية اللحم أو شَمِّه، ثم كُرِّرَ القرع والجمع بين الاثنين — أي اللحم والجرس — نشأ في نفس الكلب رَجْع انعكاسي مكيف؛ أي: معدول، حتى إننا إذا قرعنا الجرس وَحْدَه دون رؤية اللحم أو شمه سال لعاب الكلب؛ لأن هنا «مُرَكَّبًا» مؤلفًا في نفس الكلب من الجمع بين الجرس واللحم، ومُرَكَّبات الإنسان تزيد على ذلك بالطبع؛ أي إنها ليست بهذه البساطة، وهي مركبات لغوية واجتماعية وعائلية؛ أي إن المجتمع واللغة والعائلة كلها يكفينا ويعين لنا — بما غرسه فينا من مركبات — ميولًا واتجاهات وتصرفات ننساق فيها مندفعين بعواطف لا ندري مأتاها؛ لأنها غُرِسَتْ — في الأغلب — ونحن أطفال، لم نكن نتنبه إلى مَنْطقها أو نعارض في تأثيرها.
فالهندوكي ينشأ على تقديس البقرة، فقداسة البقرة عنده «مركب» يشتبك بعواطفه، وهو يعده حتى للموت في سبيل الدفاع عن البقرة، وكلمة «الدم» في بعض قرى الصعيد «مركب» يؤدي إلى الأخذ بالثأر وارتكاب الجرائم للانتقام، وعندئذٍ نجد أن هاتين الكلمتين اللتين تردان على ألسنتنا في بساطة، البقرة والدم، تُحْدِث كل منهما مركبًا إجراميًّا في نفس الهندوكي بالهند ونفس الجرجاوي أو القناوي بالصعيد.
كان أحد الأشخاص — وهو الآن في الستين — قد عصى وهو طفل ورَفَضَ الذهاب إلى المدرسة، وكان الخادم قد طَلَبَ إليه حَمْله أو جره إلى المدرسة، وبينما هو في هذا المأزق العاطفي يبكي ويرفس ويضرب كان ديك قريب يصيح، فاقترن صياح الديك بعواطف الكرب والخوف (اذكر اللحم والجرس)، فهو إلى الآن — أي بعد نحو خمسين سنة — لا يسمع صياح الديكة إلا وَيُحِسُّ كَرْبًا وضيقًا، فهنا مُرَكَّب قد استقر في كامنته ولم يبرحه حتى بعد نصف قَرْن من عمره.
ونحن نعيش؛ أي: نسلك في الوسط المتمدن بمركبات حسنة وسيئة؛ أي إن رجوعنا الانعكاسية ليست أولية كما هو الشأن في الحيوان؛ إذ هي ثانوية أو ثالثية أو حتى عاشرية؛ أي إن الرجع الانعكاسي قد كُيِّفَ، انتقل من اللحم إلى الجرس، ثم انتقل بعد ذلك إلى رجع آخر ثم آخر، فالذكر من الحيوان يرى الأنثى فيشتهيها وينتقل من الإحساس الجنسي إلى العمل، وأنا أنظر إلى المرأة فأنتقل من الرجع الجنسي الساذج (قل الغريزة) إلى تأمل الملابس وتقدير مكانتها الاجتماعية منها، ثم أتذكر فضيلة العفاف، ثم الدين، ثم مكانتي الاجتماعية، وكل هذه رجوع مكيفة أبدو بها متمدنًا، أو قل: إني تعلمت كظومًا ودُرِّبت عليها حتى أَخَذَتْ في الوسط المتحضر الذي أعيش فيه مكان النزوة الانعكاسية الأولى، ونستطيع أن نقول: إن النفس البشرية بهذا الاعتبار ليست بشرة طبيعية حساسة، بل أديمًا مدبوغًا صقيلًا يجمد عند اللقاء ولا يتحرك بالأنثى أو الطعام أو الخوف أو الغضب، أجل؛ هي نفس كاظمة، والآن ننظر فيما يسميه فرويد «مركب أوديب».
فإن فرويد يقول: إن الطفل حين يرضع أمه في السنة الأولى من عمره يجد لذة جنسية معممة في الرضاع والالتصاق بأمه، وهو ينشأ بعد ذلك على علاقة غير وجدانية، تربطه برباط جنسي بأمه؛ ولذلك فإنه يكره أباه ويَعُدُّ وجودَه بالبيت خطرًا عليه، بل هو يخشى أن تُؤْثر أمه أباه عليه؛ فإذا شَبَّ وحَدَثَ له تزعْزُع نفسي فيجب أن ننشد البؤرة لهذا التزعزع في «مركب أوديب»؛ أي إن الطفل قد عاش في طفولته وهو يخشى أن يُفْصل من أمه، التي يَعُدُّها — من حيث لا يدري — زوجته، ومواقف القلق التي يقفها بعد ذلك إنما هي صراع خفي في نفسه، موضوعه هو حبه لأمه من ناحية، ثم تَغَلُّب الأخلاق الاجتماعية من ناحيةٍ أخرى، وهذه الأخلاق تقول بضرورة الرجوع عن هذا الحب؛ لأن أمه لأبيه وليست له من الناحية الجنسية، مثال ذلك: قد يجد هذا الطفل — وهو شاب في العشرين أو الثلاثين — أنه عندما يقف في البلكون يحس دوارًا وكأنه سيسقط مغشيًّا عليه، فعند فرويد أن مرجع هذا الدوار هو ما استقر عند هذا الشاب من أنه مذنب يريد أن يقترف الاتصال الجنسي بأمه، وأن هذا الذنب هو «السقوط» الروحي أو الأخلاقي؛ أي: السقوط الذي أحس به وهو في البلكون.
وقصة أوديب من القصص الإغريقية القديمة. خلاصتها أن أوديب هذا قد تزوج أمه وهو لا يدري، حتى إذا عَرَفَ الحقيقة فقأ عينيه، أما أمه فتنتحر، وقد نقلها فرويد وجعلنا جميعًا متهمين بحب أمهاتنا، وأن ما يصيبنا من نيوروز؛ أي: قلق نفسي في المستقبل إنما يرجع إلى أننا لا نطيق هذا الصراع بين الأخلاق الاجتماعية التي تقول باحترام الأم، وبين هذه الرغبة الطفلية المستقرة في الكامنة، التي تقول بأننا يجب أن نستأثر وحدنا بحب أمهاتنا دون الآباء.
وكثير من السيكلوجيين يؤمن بأن مركب أوديب هذا من الحقائق السيكلوجية التي لا يمكن تجاهلها أو إهمالها، ولكن أكثر منهم، بل أكثر كثيرًا جدًّا يقولون بأن هذا الفرض لا أصل له بتاتًا، وأنه اختراع سخيف، وقد حاوَلْتُ أنا طوال السنين العشرين الأخيرة أن أجد أصلًا لهذا المركب، على النحو الذي يقول به فرويد، فلم أجده، وكل ما أستطيع أن أفهمه من علاقة الطفل بأمه هو أن هذه العلاقة كبيرة القيمة في التوجيه الجنسي في المستقبل، بمعنى أن الطفل يحب أمه ويتعلق بها كثيرًا مدة الرضاعة وعَقِبَه، وهو بالطبع في هذا الحب يعتقد أن أمه جميلة تُثِير الحب في نفسه لقامتها ووجهها وصوتها وأسلوب حركتها؛ فإذا بلغ المراهقة لم يستجمل من الفتيات سوى أولئك اللائي يشبهن أمه في كل هذه الأشياء؛ ولذلك يختار الشبان — في العادة الغالبة — فتيات يشبهنهم حتى لَيَظُنُّ مَنْ ينظر أحيانًا إلى زوجين أنهما شقيقان، والسبب أن الشاب اختار فتاة تشبه أمه؛ أي إنها تشبهه هو؛ لأنه هو يأخذ كثيرًا من ملامح أمه.
وعلى كل حال قد نبَّهَنا فرويد بما أسماه «مركب أوديب» إلى القيمة العظمى لسني الطفولة التي يقضيها كل إنسان مع أبويه، وقد أفاض أدلر في هذا الموضوع.