مركب النقص
للشاعر المعري بيت كبير المعنى يدل على بصيرة هذا العبقري هو:
ذلك أن الرجل الصغير في جسمه أو الدميم في وجهه أو الحقير في مقامه، أو الذي يحس صغارًا لعيب فاضح، يتخذ أسلوبًا تعويضيًّا كي يستر هذا النقص الذي رُكِّبَ فيه ووُلِدَ معه أو أحدَثَتْه ظروفٌ اجتماعية مدةَ طفولته، والنقص أنواع مختلفة، فقد يكون أنفًا ضخمًا أو قصرًا مفرطًا، أو نحافة تشبه الهزال، أو فوهًا بالغًا أو أيَّ شوهة جسمية أخرى، وقد تكون هذه الشوهة اجتماعية في حادث فاضح أو معيب تَرَكَ أثرًا نفسيًّا سيئًا.
وفي كل هذا تحاول النفس — على غير وجدان؛ أي بلا دراية — أن تعَوِّض من هذا النقص كمالًا، وعلى قَدْر الظروف الاجتماعية والفرص التعليمية، وأيضًا على قَدْر الذكاء الموروث، يكون هذا التعويض.
والطفولة نفسها من أطوار النقص؛ لأن الطفل يجد أن كُلَّ مَنْ حَوْله أكبر منه وأَقْدَر؛ ولذلك يفرح كثيرًا حين يقف على كرسي ويجد أنه أعلى من هؤلاء الكبار، ويفرح كثيرًا حين يضرب أحدًا فيجري منه؛ لأن هذا الانتصار يوهمه قوةً تجوعُ إليها نفسُه؛ فإذا كان بالطفل عشاوة أو عرج أو لعثمة أو حَوَل، أو أي نقص آخر، زاد شذوذه وطلب الكمال التعويضي بسُبُل غير طبيعية، أي: غير سوية، وعندئذٍ يصير التعويض نفسه شذوذًا، لأنه يُفْرط فيه، وقد يستقر على نوع من التعويض السخيف الذي لا يخدمه في ارتقائه الاجتماعي، بل يؤذيه. كالتكبر مثلًا؛ فإن المتكبر يجد أنه في النهاية مُبْعَد عن المجتمع يتوقاه الناس ويكرهون مُلَاقَاته.
وهناك أفراد قليلون ورِثوا كفاية ذهنية ممتازة إلى جنب النقص، فلم يُؤَخِّرهم هذا النقص، بل وجدوا فيه حافزًا للتبريز والنبوغ، فهُم في موقف سقراط الفيلسوف الإغريقي حين أَلَّفَ عنه أرستوفان درامة «السحاب» فهزأه ورسمه في صورة كاريكاتورية، وحضر سقراط هذه الدرامة ورأى الجمهور يَضْحَك من تهزئته، فلم يَغْضَب، بل وَقَفَ يَعْرض وجْهَه الدسم وجِسْمه المتكتل كي يُزِيد الجمهور ضحكًا! وهذا معقول؛ لأن سقراط كان قد بَلَغَ مركزًا اجتماعيًّا ساميًا، فلم يكن يبالي أن يُعَيِّرَه أحد بدمامة وَجْهه.
وحدث قبل سنوات أن اشترك شابٌّ أمريكي في مباراة رياضية فانهزم الفريق الذي كان هو أحد أعضائه، فكتب إلى أبيه يقول: «وَجَدَ الفريق الآخر ثَغْرَة خطيرة في فريقنا، وكُنْتُ أنا هذه الثغرة.»
فنحن هنا إزاء إحساس بالنقص، ولكنه بدلًا من أن يُحْدِث هوانًا وضعةً، أحْدَثَ عند سقراط سرورًا، وأَحْدَثَ عند هذا الشاب اعترافًا يدل على قوة العزيمة والاستعداد للانتصار القادم، ولكن يجب أن نذكر أن النقص هنا أَحَسَّ به سقراط وهذا الشاب وهما على وجدان ويقظة، فقاوَمَهُ كلاهما بالتعقل والنظر الموضوعي.
ولكن مركب النقص يتكون في العادة أيام الطفولة والصبا، حين لا يكون الوجدان قد تَكَوَّنَ وارتقى؛ ولذلك فإن المقاومة له في أغلب الأحيان تكون طفلية سخيفة يشقى بها الناقص ويتعس غيره، وفي حياتنا العامة تُجَابِهُنا في سلوكنا ظروف تجعلنا نُحِسُّ بنقصنا، وليست أحلام اليقظة سوى مُعَالَجة لذيذة لهذا النقص، وأحيانًا إذا كان النقص يَغْمر الشخصية بفداحته فإن الناقص يعمد إلى الخيال ويستسلم لأحلام اليقظة حتى يكاد يقطع ما بينه وبين الواقع.
وهناك ضروب من المقاومة للنقص نراها في حياتنا العامة، كالمرأة الدميمة تسترجل إلى حد الفظاظة، وهناك الشاب المَهين يَرْفَع صوته في الحديث ويؤكد رجولته بإيماءات لا ضرورة لها، وهناك الشاب القميء الذي لا تلتفت إليه فتاة يتحدث عن اقتحاماته الجنسية، أو هو يعود «فاضلًا» يَعْزف عن النساء ويذكر خيانتهن وإيثار العزوبة على الزواج، أو هو حين يتزوج يَضْرب زوجته كي يؤكد رجولته الناقصة.
وفي أمثال هذه الحالات نكاد نرى مُرَكَّب النقص سافرًا، ولكنه في أحوال أخرى يتخذ ألوانًا من التعويض تخفي علينا، كتلك العانس التي تقدمت بها السن فلم تتزوج، ولكن غريزة الأمومة لا تزال حية في كيانها، فتعمد إلى تربية القطط، وهذا حَمَق وسَخَف، أو هي تعمد إلى تبني الأطفال ومساعدة الملاجئ، وهذا عقل وحكمة، وقد نجد شابًّا يؤْثر العزلة ويتجنب المجتمع لأنه أعور، أو هو يخجل كأنه بنت في سن العاشرة، وهو يستضر بهذا السلوك ويتأخر عن النجاح، وكان يجب التعجيل في تزويده بعين صناعية لإزالة هذا النقص، أو بالأحرى لتخفيفه، ثم انظر إلى ذلك الرجعي الذي يكره الحضارة الأوروبية؛ إذ يجد أنها تُنَاقِضُ وتكافِح كُلَّ ما نشأ عليه حتى إنها تكاد تطارده في عيشه، فهو ينعى على العصر الحاضر تَهَتُّكه، ويعود بمزاجه وذهنه إلى التمدح بالقديم قبل ألف عام، والدعوة إلى جحد القرن العشرين، بل هناك في هذا الوقت أدباء قَصُرَتْ بهم كفايتهم عن تَفَهُّم الحضارة القائمة، أو عجزوا عن حَمْل الجمهور الجامد على اعتناقها فشرعوا يتمدحون بالعرب قبل ألف عام ويؤلفون الكتب في ذلك، كما أن هناك كُتَّابًا حملهم مُرَكَّب النقص على السباب والبذاء حتى صار هذا حرفتهم.
وأحيانًا يؤدي الخوف من النساء — لعيب صحيح أو موهوم — إلى الزيغ الجنسي، وأعظم العلامات لمُرَكَّب النقص هو الرغبة في الانعزال، وهذا الانعزال ثلاثي؛ إذ هو يتم بالجسم والعاطفة والذهن، والناقص يقيم الجدران التي تفصل بينه وبين المجتمع، في حين أن الشخص السوي يهدم هذه الجدران، الأول يخاصم لأوْهى الأسباب ويتجنب ويعتزل، والثاني يُصَالِح ويختلط وهو يتفاءل ويحس الغيرية والمسئولية الاجتماعية كما يُحِسُّ شجاعة اجتماعية يُقْدِم بها على الأعمال والمشروعات، في حين أن ذاك يتشاءم ويحس الأنانية التي يَتَوَهَّم أنه يغذوها بالاعتزال، وهو يشقى بهذا كُلَّ الشقاء؛ لأنه يعتقد في أعماق نفسه أن الاجتماع يكشف عيوبه أمام الناس، مع أن هذه العيوب كثيرًا ما تكون وهميةً، أو حتى حين تكون حقيقية لا تَلْفِت انتباه الناس إلى الحد الخطير الذي يعتقده.
وأسوأ الأشياء في مُرَكَّب النقص أن يرافقه تدليل؛ فإن الناقص المدلل نكبة على نفسه وعلى الناس، وهو ينشأ عاجزًا عن كَسْب قوته، وأنت قد ترى في المدينة رجلين كلاهما أحدب، أولهما يعمل في صناعة قد يَرْبَح منها خمسين أو مائة جنيه في الشهر، وقد أنساه النجاحُ هذا النقصَ، فهو يسير وكأنه ليس به أي حَدَبَ، حتى لقد اعْتَدَلَ قوامه بعض الشيء، فهذا الأحدب لم يُدَلَّل، ولكن انْظُر إلى هذا الآخر الذي احترف الشحاذة؛ فإن أمه دللته وأَعْجَزَتْه بهذا التدليل عن كَسْب قوته، فهو شحاذ يسير وقد زادت حدبته للذلة التي يمارسها كي يستجدي العطف.
وأعظم ما يُؤَخِّر أو يعطل نمو الشخصية وإيناعها هو مُرَكَّب النقص بألوانه الظاهرة والخفية، ونحن في حياتنا العامة لا نُصَاب بمُرَكَّب واحد للنقص؛ فإن هناك مرَكَّبات عديدة توالينا إلى سن الشباب، ولكن مُرَكَّب النقص يتكون — في العادة — أيام الطفولة، حين لا يكون الوجدان قد نشأ ونما واستطاع المقاومة.
انظر إلى شاب قد وَصَلَ إلى العشرين وخاب في حياته المدرسية؛ فإن هذه الخيبة قد تَحْمِله على التواكل والرضا بالمركز الوضيع الذي لم يستطع أن يرتفع إلى أعلى منه مع الحقد على الناجحين، ولكن من جهةٍ أخرى قد تَحْمِله هذه الخيبة على أن ينبغ في علم أو فن بمجهوده الشخصي حتى يعوض ما فاته.
ولكن يجب أن نذكر أن مركب النقص إذا أدى مرة إلى نبوغ وإقدام فإنه يؤدي عشر مرات إلى انكفاف وانعزال وضعة، وفي كل منا نقطة حساسة ترجع إلى مركب النقص، ولكننا ننساها بالنجاح.
وعلامة البراءة من مركب النقص هي قدرة الشخص على أن يتهكم على نفسه وأن يَسْلُك — في غير تكلف — وألا يبالي أن يعرض عيوبه مثل سقراط، وأن يتحمل الإساءات الصغيرة التي لا يتحملها غيره، وأن يختلط بالمجتمع في يُسْر.
وكثيرًا ما نتعوض من مركب النقص بأن نتخذ اتجاهًا مُعَيَّنًا في الحياة يحملنا على ألوان من السلوك الشاذ أو المستغرب أو الغامض؛ فإن الناقص كي يدافع عن نفسه — من حيث لا يدري — يتنقص غيره؛ فالجاهل يستجهل الآخرين ويهجم عليهم في عنف وصخب، والمرأة الدميمة يزداد حياؤها وهي تتقلص أمام الرجال، ولا تطيق صراحة الإيماءة أو اللغة، والرجل الذي لم يتعلم في الجامعة يُصِرُّ على أن يتعلم أبناؤه في الجامعة، والمرأة التي تزوجت رجلًا مسنًّا تُصِرُّ على أن تتزوج بناتها شبانًا، كأن الأب والأم قد نقلا نقصهما إلى الأبناء وعَمَدَا إلى التعويض فيهما.
وأخيرًا يجب أن نَذْكُر أننا أحيانًا نحدث أنفسنا عجزًا كي نزيد كفاءتنا؛ فإن دميسي — الملاكم المشهور — كان وقْتَ التدريب يربط يده اليمنى إلى ظهره، ثم يلاكم بيده اليسرى فقط رجلًا له يدان حُرَّتان للملاكمة، وكان ديموستين الخطيب الإغريقي أَلْكَنَ، ولكنه كان يزيد مركب النقص هذا؛ أي: اللكنة بأن يضع الحصا في فمه ثم يخطب وهو على شاطئ البحر، حتى يُسْمِع صوتَه من خلال اصطخاب الأمواج — على الرغم من الحصا وعلى الرغم من اللكنة.
أجل، إن العجز أحيانًا يؤدي إلى الكفاءة، اذْكر عنترة الشاعر الأسود، وتيمورلنك الأعرج، بل كافور الخصي، واذْكُر المئات من أمثال هؤلاء.