المجتمع البشري
كان الناس في فَجْر البشرية يعيشون في مجتمع بيولوجي؛ أي: غايته سد الحاجات الأولى من طعامٍ وأنثى ومأوًى، ولا يزال بعض المجتمعات البشرية يعيش على هذا المستوى، كأولئك الذين يقطنون الغابات ولَمَّا يهتدوا إلى الزراعة، وأولئك القانعون بالصيد في بيئة نائية عن الحضارة، وفي مثل هذه المجتمعات يعيش الناس بلا تاريخ؛ أي: يعيشون على المستوى الجغرافي فقط، لم يصلوا إلى المستوى التاريخي، ولا تتجاوز معيشتهم الأعمال التكرارية اليومية، وليس عندهم مما يَجْمَعون ما يمكن أن يتوافر حتى تختزن للجيل القادم، فهم من اليد إلى الفم في جميع حاجاتهم.
ولكن بعد الاهتداء إلى الزراعة وتوافُر المحصولات شَرَعَ الإنسان يُنْتِج أكثر من حاجاته، وعلى هذا نشأ الرق؛ لأنه ما دام الإنسان لا ينتج أكثر من طعامه فلا فائدة من استرقاقه؛ إذ ماذا نكسب منه؟
ولكنه حين يشرع في الإنتاج بحيث يؤدي عَمَلَه في الزراعة مثلًا إلى توفير الطعام لشخص ونصف، حينئذٍ فقط، يصير الرق مفيدًا؛ لأني عندئذٍ أستعبد شخصين وألزمهما العمل فينتجان طعامهما وطعامي، دون أن أحتاج أنا إلى مشقة العمل.
والآن نسأل: هل مذهب الرق نشأ قبل ممارسة الرق أم العكس هو الذي حدث؟ أي إن الناس مارسوا الرق ثم وضعوا نظامه ودافعوا عن مذهبه؟ نظن أن القارئ يُسَلِّم بالفرض الثاني؛ أي إن الأفكار تأتي بعد الحوادث، والتفسير السيكلوجي لهذا أننا حين نملك عبدًا نُحِسُّ عاطفة الاقتناء والتسلط، ومن العاطفة تنشأ العقيدة، وهي أن الرق نظام حَسَن.
وعلى هذا القياس نقول: إن الناس امتلكوا الأرض قبل أن ينشأ «مذهب» الامتلاك؛ فالأحوال المادية التي نمارسها في الوسط هي التي تقرر لنا عقائد؛ لأنها تحدث لنا مَكَارِهَ ومَحَابَّ، ومن هذه العقائد تنشأ الأنظمة الاجتماعية.
وليس شك أن الأسس التي ينبني عليها المجتمع هي غرائز الفرد؛ فالرغبة في الجنس الآخر قد أحدثت أنظمة الزواج والعائلة والمواريث، إلخ، والرغبة في الطعام قد أحدثت أنظمة الصناعة والزراعة والتجارة.
والرغبة في الطمأنينة قد أحدثت أنظمة الحكومة والديانة.
والرغبة في التسلط (= الطمأنينة الإيجابية) قد أحدثت امتلاك الأرض واسترقاق الأفراد.
ولكن كل هذه الرغبات قائمة أيضًا عند الإسكيماوي في القطب الشمالي وعند رجل الغابات، ولكن لم تنشأ منها عندهما عائلة أو صناعة أو تجارة أو حكومة أو ديانة؛ لأن الوسط المادي لا يتيح هذا التفكير لهما؛ إذ ماذا يستفيد الإسكيماوي مثلًا من استرقاق رجل آخر يعرف أنه لن يصيد أكثر مما يكفيه؟ أو ماذا ينتفع من الحكومة وهو لا يخشى أحدًا إذ ليس عنده شيء يُسْرق؟ أي: إنه بعد أن اجتمع الناس بالزراعة وبعد أن استعبدوا الأسرى شرعوا يسوغون امتلاك الأرض والرق بأنظمة نتوهم أنها هي الأصل؛ مع أنها هي الثمرة.
ونحن نعيش في مجتمعنا بعقائد أملت العواطف، ونحن نسوغ سلوكنا في المجتمع — سواء كنا نسير على قواعده أم نشذ — بتفسيرات أو حتى تخريجات لا تصطدم بعواطفنا، وسلوكنا الاجتماعي ينبني لهذا السبب على أسس عاطفية وليست وجدانية، وقليل منا — بل قليل جدًّا — من يحاولون النظر إلى نَظْم المجتمع بالوجدان؛ أي: هذا النظر الموضوعي المنطقي التعقلي الذي لا يستسلم للعاطفة.
وجميع عقائدنا عاطفية، حتى ولو كان لها أصل وجداني؛ فإن المُسْلم لا يُحَرِّم لحم الخنزير فقط، بل يشمئز منه؛ أي إن العقيدة عنده تستند إلى عاطفة، وكذلك كان الشأن عند آبائنا عندما طُلِبَ إليهم تحرير عبيدهم؛ فإن اقتناء العبيد أَحْدَث عندهم عاطفة لذيذة هي الامتلاك والتسلط، وهذه العاطفة أحدثت عقيدة الرق وأنظِمته.
والتفسير الاقتصادي للتاريخ أو النظر المادي للتاريخ هو نفسه وجداني لأنظمة المجتمع وتغيراته؛ ولذلك يَكْرَهُه بعض الناس أَشَدَّ الكراهة؛ لأنهم يؤمنون بعقيدة الامتلاك التي أَوْجَدَتْهَا — في زعمهم — «غريزة» الاقتناء والادخار.
ومن هنا الصعوبة الكبرى في تغيير الأنظمة الاجتماعية؛ لأن هذه الأنظمة قد أحدثت في نفوسنا عواطف، وهذه بَعَثَت عقائد نكاد نظن أنها طبيعية، وهذا يفسر لنا كيف أن فيلسوفًا عظيمًا مثل أرسطوطاليس لم يجد في الرق ما يستحق الانتقاد، بل إن الأنبياء أنفسهم لم يعترضوا على نظامه ولم يفكروا في الانتقاد.
وخلاصة القول أن البيئة المادية التي تحيط بنا تُحْدث لنا عواطف وعقائد نُسَلِّم فيها بطبيعتها ونَكْره ذلك الوجداني الذي يرفض العواطف ويحاول أن يُغَيِّر ويبدل في الأنظمة، ومن هنا الاضطهاد أو على الأقل الكراهة للاشتراكيين والبشريين ودعاة ضَبْط التناسل ونحوهم؛ لأنهم يشذون على قواعد المجتمع التي يمارسها أفراده بقوة العواطف.
فنحن مثلًا نلبس ملابسنا على الزي الذي يرسمه لنا المجتمع، ونتحمل المشاق في سبيل الخضوع لقواعده هنا، حتى إننا في أشد الأيام الحارة وأجسامنا ترشح العرق من جميع أجزاء البشرة نلبس ملابسنا الكاملة بلا نقص، بل نحن أيضًا نأكل — كما يطالبنا المجتمع — على آنية يرسمها لنا بنظام يجب ألا نخالفه فيه، ونحن نساير المجتمع في كل ذلك بإيحاء المحاكاة فنحب ألا نخالف.
وليست هذه المحاكاة مقصورة على اللباس والطعام؛ لأن العقائد العامة نفسها تجري مجرى اللباس والطعام؛ بحيث إننا ننظر إلى الرجل الذي يشذ عن قواعد الدين نَظْرَتَنَا إلى رجل يسير في الشارع بلا رباط رقبة أو يأكل البصل على المائدة كما يأكل التفاح؛ فالمجتمع يُكْسِبنا — بإيحاء المحاكاة — أزياء في اللباس والطعام كما يُكْسِبنا أزياء في الأخلاق والعادات، ونحن نشمئز من المخالفة هنا كما لو كنا نخالف غريزة طبيعية، والحق أن الغرائز الاجتماعية مثل اجتناب لحم الخنزير أو التبول جهرًا أو تحدي العادات الاجتماعية، هذه «الغرائز» تؤلمنا مخالفتها كما تؤلمنا مخالفة الغرائز الطبيعية، بل إن هناك من يعجز عن التبول في المراحيض العامة، أو في الفراش حين يكون مريضًا؛ لأنه منذ طفولته دُرِّبَ على اجتناب التبول إلا منفردًا متسترًا، فهنا تتغلب «الغريزة» الاجتماعية على الرجع الانعكاسي الطبيعي للبول، وقِسْ على هذا كثيرًا من سلوكنا الاجتماعي الذي نعتقد أنه طبيعي.
وليس هناك ما يدل على أن الإنسان من الحيوانات الاجتماعية؛ أي: التي ترث غريزة الاجتماع بفطرتها كما هي الحال في الخرفان والغزلان والجاموس؛ لأن أبناء عمومتنا — القردة العليا — لا تزال إلى الآن انفرادية عائلية أو حتى غير عائلية، ولكن نشأتنا الاجتماعية تَحْمِلنا على الأخذ بالمقاييس والقيم الاجتماعية والتأثر بالإيحاء الاجتماعي، حتى إننا نتألم لمخالفة المجتمع كما نتألم لكظم عاطفة طبيعية.
والآن يصح أن نسأل: ما هو المجتمع الحسن؟
-
(١)
هو ذلك المجتمع الذي يحاول أن يجعل الوجدان (بالنظر الموضوعي والمنطق) فوق العاطفة في إيجاد الأنظمة، ولكنه لا يهمل قيمة العواطف.
-
(٢)
وهو الذي يجعل الأنظمة الاجتماعية بحيث يَقِلُّ الكظم في الأفراد إلى أقل مقدار، ولكن مع ذلك لا يصح أن يزول الكظم تمامًا؛ لأنه إذا كان خفيفًا فإنه يُعَدُّ قوة محركة.
-
(٣)
وهو الذي يلغي الأقليات بأن يعاملها بالسواء كالأكثرية بلا أدنى فرق.
-
(٤)
وهو الذي ينتظم بحيث تكون «للذات العليا» الوجدانية القيادة في التفكير للذات الاجتماعية والذات البيولوجية (الحيوانية) عند الأفراد.
-
(٥)
وهو الذي يحاول جهد المستطاع أن يعالج الأخلاق والاقتصاد والسياسة بالروح العلمي الموضوعي (الوجداني) الذي نعالج به الإنتاج الصناعي أو الزراعي أو المخترعات في القطر المتمدن، وكما أن الاختراع لا يرتقي بالتزام التقاليد، كذلك الأخلاق والاجتماع لا يرتقيان بالتزام التقاليد.
-
(٦)
وهو الذي يجعل التعاون يأخذ مكان المباراة في أسلوب الكسب والعيش، حتى يقل الكظم من التحاسد والغيرة والمطامع.
-
(٧)
ولكنه — مع أنه يجعل مصلحة المجتمع هي العليا — لا ينسى أن غاية المجتمع الأمثل في النهاية هي إيجاد الشخصية المثلى للفرد.
-
(٨)
وبكلمة عامة نقول: إن المجتمع الأمثل هو الذي يجعل الذكاء الوجداني الموضوعي التعقلي فوق العواطف الذاتية؛ لأن الذكاء ارتقائي يطلب التغيير، أما العاطفة فراسخة جامدة.