العائلة البشرية
إذا كان مجتمعنا هو ثمرة العوامل الاقتصادية التي جمعت أفراده برعاية الماشية أولًا، ثم بالزراعة والصناعة وبناء المدن والقرى ثانيًا؛ فإن العائلة تعود إلى أصل طبيعي؛ أي: لو لم نكن نعيش في مجتمع لعشنا في عائلة كما يفعل إلى الآن ذَكَر الغوريلا مع أنثاه وأولاده، ذلك أن العائلة تعود إلى الرغبة الجنسية أي: العلاقة الفسيولوجية التي تحمل أحد الجنسين على طلب الآخر، ثم وجود الأولاد والتصاقهم بأمهم، والمجتمع البشري هو في النهاية ثمرة هذا المجتمع العائلي؛ أي إن الأولاد الذين يرتبطون بالأم، أو الأم والأب معًا، يبقون على هذا الارتباط حتى بعد وفاة أبويهم، ولكن هنا نجد البذرة فقط، أما شجرة المجتمع فنمت بعد ذلك بالعوامل الاقتصادية حين احتاج الإنسان إلى الاجتماع للصيد، ثم إلى الاحتماء من الضواري التي كانت تفترس ماشيته مدة الرعاية، ثم احتاج بعد ذلك إلى الاحتماء من الغاصبين مدة الزراعة.
وفي مجتمعنا الحاضر تُعَدُّ العائلة أساس المجتمع؛ لأنها تغرس فينا عواطف وتُعَيِّن لنا اتجاهات مختلفة حين نكون في سن نتقبل فيها هذه العواطف والاتجاهات بلا معارضة؛ لأن العقل الوجداني لم يكن قد اكتمل نُمُوُّه، وللعائلة أَثَرٌ في الأولاد وفي الأم وفي الأب.
ولكن يجب أن نوضح هنا أن كلمة عائلة في مجتمعنا من الكلمات المُسَيَّبة المائعة.
فالرجل مع زوجته وأولاده يكونون عائلة.
والرجل مع زوجته وأولاده وأمه يكونون عائلة.
والرجل المطلق من زوجة سابقة مع زوجة أخرى وأولادها يكونون عائلة.
والمرأة المطلقة من زوج سابق مع رجل آخر وأولاده يكونون عائلة.
والأرملة مع أولادها تكون عائلة.
والأرملة التي تزوجت بعد وفاة زوجها مع أولادها منه تكون عائلة، إلخ، إلخ.
وهذا الاختلاف في تكوين العائلة يؤدي إلى اختلاف في عواطف الأطفال واتجاهاتهم في الحياة، ومن حَقِّ كل طفل أن يكون له أبوان يَجِدُ فيهما الطمأنينة قبل كل شيء.
فإذا وقع الطلاق أو إذا كان الزواج حافلًا بالشجار بين الزوجين تزعزعت هذه الطمأنينة عند الطفل وعاش سائر حياته بنفس مكوية، وقد يبرأ من هذا الكي أو لا يبرأ؛ لأن هذا المسكين الذي نشأ في الجو العائلي المُزَعْزَع المضطرب تمتلئ نفسه وساوس من المجتمع فيخافه، ثم يدفع عن نفسه هذا الخوف بالانعزال أو العدوان.
من حق كل طفل أن يكون له أبوان، ومن واجب كل زوج أن يرتبط بالزواج على ما فيه من مصاعب لأجل أولاده، أما الفُرْقة بالطلاق أو بلا طلاق فيجب أن تكون آخر ما يلجأ إليه أحد الزوجين.
وأثر العائلة السيكلوجي في الأولاد كبير جدًّا؛ لأن الطفل يأخذ أوزانَهُ وقِيَمَهُ الاجتماعية من عائلته؛ أي: أبويه وإخوته والضيوف، ومن اللغة التي تُسْتَعْمَل والسلوك الاجتماعي لكل فرد داخل البيت؛ فإذا وَجَدَ الطفل أباه مجرمًا فإن من أَشَقِّ المشقات ألا يكون هو مجرمًا.
والسعادة العائلية للأطفال تَبْعَث الطمأنينة في نفوسهم بعد ذلك، حتى إذا مات أبواهم بَقِيَتْ هذه الطمأنينة، وقد وُجِدَ عند إجلاء الأطفال عن لندن مدة الغارات في الحرب الكوكبية الأخيرة أن الذين سبق أن سَعِدُوا منهم بوسط عائلي حَسَنٍ تحَمَّلوا الغربة أكثر مما تحمَّلَها الذين لم يَسْعَدوا بمِثْل هذا الوسط؛ وذلك لأن الوسط العائلي الحسن بعث الطمأنينة في الأطفال فواجَهُوا الغربة مطمئنين، ولكن الوسط العائلي القَلِقَ جعل الأطفال الذين نشئوا فيه يزدادون قَلَقًا بالغربة، وإذا أعطينا للطفل مدةَ الطفولة في العائلة الصداقةَ والحُبَّ والطمأنينة أعطى هو مثل ذلك للمجتمع، وإذا أعطيناه الشِّجَارَ من أبويه أو الاضطهاد من زوجة أبيه أو زَوْج أمه نشأ مُقَلْقَلًا يخاف المجتمع ويعاديه.
وقد يَفْسُد الطفل لأن أمه دَلَّلَتْه وحَمَتْه أكثر مما يجب، فينشأ وهو يُحِسُّ الحاجة إلى من يحميه ويجهل الاستقلال، ويُطَالب المجتمع بأن يُدللـه أيضًا، والمجتمع بالطبع يرفض هذا التدليل، فتكون النتيجة أنه يُحِسُّ أنه مظلوم، وقد يَحْمِله هذا الإحساس على الإجرام أو الاعتزال.
- (١)
أن يكون له أبوان صديقان.
- (٢)
وألا يجد بينهما شجارًا أو انفصالًا.
- (٣)
وأن يكون كل منهما شخصًا فاضلًا.
- (٤)
وألا يجد منهما أو من أحدهما تدليلًا أو اضطهادًا.
وهذه بالطبع هي الحال المثلى التي قَلَّما نبلغها، ولكن يجب أن نَنْشُدها حتى يهنأ الأطفال بطفولتهم، وحتى ينشئوا مطمئنين إلى المجتمع.
وهناك أثر سيكلوجي للعائلة في الزوج؛ أي: الأب، هو تكبير شخصيته بالمسئولية العائلية وحَمْله على اهتمامات اجتماعية وأخلاقية ما كان لِيَلِيَها لولا الارتباط العائلي؛ فإن مسئوليته لزوجته وأولاده تَحْمِله على الاستقامة والشرف والحذر والأمانة، وقَلَّ أن تَجِدَ زوجًا له أولاد يُفَكِّر في الانتحار، وقليل من الأزواج من يميل إلى الإجرام.
وكذلك هناك أثر سيكلوجي للعائلة في الزوجة؛ أي: الأم؛ لأنها تجد الكرامة الاجتماعية بالزواج، وتكبر شخصيتها بتربية الأولاد وتحمل المسئوليات لهم، وهم — قبل كل شيء — منفذ عاطفي لها، كثيرًا ما نَعْرِف قِيمته في أولئك العوانس اللاتي يَشْكون نيوروزًا لانسداد عاطفة الأمومة عندهن لأنهن لم يتزوجن.
والمجتمع الحسن هو ذلك الذي يُيَسِّر تكوين العائلات وتربية الأطفال في بيوت جميلة مُزَوَّدة بوسائل الراحة حتى لا يتشتت أعضاء البيت، ومناخنا في مصر بَحْره لا يجمع أعضاء العائلة كما يجمعهم الجو الأوروبي البارد حول المدفأة للاصطلاء؛ فإن هذه المدفأة وسيلة للاجتماع العائلي الذي لا نعرفه في مصر.
وفي أوروبا تُبْنى المنازل الحسنة الرخيصة للعائلات، كما يربى الأطفال بالمجان، ونظام الضرائب يتيح للعائلة المتوسطة أن تعيش في رفاهية، بل يتيح ذلك أيضًا لعائلات العمال، وكل ذلك تشجيعًا لتكوين العائلة التي تُعَدُّ نواة المجتمع، وليس الطلاق مباحًا للزوجين إلا بعد الاقتناع التام بأن اشتراكهما في المعيشة قد أصبح مُحالًا، وأن انفصالهما خير للأطفال من بقائهما، والطلاق في مصر هو الكارثة التي يجني الأطفال ثمرتها المُرَّة في فوضى حياتهم.
ومن أحسن ما قامت به روسيا لتوثيق الرباط الزوجي لمصلحة الأطفال؛ أنها جعلت كل ما يقتنيه أحد الزوجين بعد الزواج ملكًا لهما دون أحدهما، وهذا الاشتراك في الملك يثبطهما عن الانفصال والطلاق، وواضح أنه لا يجوز في روسيا امتلاك العقارات التي تحتاج لاستغلالها إلى عمال.
- (١)
أرملة تربي أولادها الذين ينشئون معها، فلا يعرفون الضيافة وواجباتها؛ لأن الزائرين (دون الزائرات) قليلون أو معدومون؛ فالأولاد ينشئون انفراديِّين منعزلين، يخْشَون المجتمعات ولا يحسنون الكياسة الاجتماعية.
- (٢)
زوج أتوقراطي يَعْتَقِد أنه لا يحق للزوجة أن يكون لها رأيٌ، فينشأ الأولاد نشأةً غير ديمقراطية، وهذا كثير في مصر معدوم في أوروبا؛ حيث الزوجان زميلان ليس أحدهما رئيسًا على الآخر.
- (٣)
الأم المحجبة التي تخشى الغرباء وتتجنب فتح الباب، فينشأ أبناؤها بالقدوة وهم يخافون الغرباء.
- (٤)
الزوجة التي عَمِلَتْ وكَسَبَتْ قبل الزواج، وأدى مراسها للعمل والكسب إلى زيادة وجدانها بالمجتمع وحِرْصها على مصلحة زوجها في عمله، وأثر هذا في تربية الأولاد.
- (٥)
الزوجة التي لم تتعلم شيئًا لا من أبويها ولا من زوجها، فلما مات الزوج انهارت، وأصبحت كالمعدومة، فصار الأولاد يتامى من الأب والأم معًا.
- (١)
ذلك أن الفرد، حين ينتقل من العزوبة إلى الزواج يحقق ارتقاء وانحطاطًا اجتماعيين، فأما الارتقاء فلأن «وَاحِدِيَّتَه» وأنانيته تنبسطان إلى «ثنائية» وغَيْرية، فهو يُعنى بزوجته وأولاده، وقد كان قبلًا يُعنى بنفسه فقط، وتبعاته العائلية تحمله على ترقية نفسه وانتظامه في الحياة.
- (٢)
ولكن العائلة تُعَارِض المجتمع من حيث إن أعضاءها يتجمعون كتلة تكاد تكون منفصلة عن المجتمع لها أنانية خاصة، والزوج يجد أنه عَقِبَ الزواج قد نقصت اتصالاته الاجتماعية؛ أي إن الإحساس الاجتماعي يتعارض مع الإحساس العائلي، وكثيرًا ما نجد لهذا السبب أزواجًا لا يعرفون العواطف الاجتماعية السخية كالوطنية وحقوق الجمهور ونشر التعليم وتعميم الصحة؛ لأنهم محدودون بالعواطف العائلية الضنينة؛ أي: «أنا وعائلتي فقط».
- (٣)
التوسع الاجتماعي في نشاط الزوجة يؤدي إلى تفكك عائلي، كما أن التماسك العائلي يؤدي إلى تفكك اجتماعي.
- (٤)
عندما عَمِلَت المرأة الأمريكية وكَسَبَتْ وارتزقت تقهقرَت العائلة، كما يتضح من كثرة الطلاق وتأخر السن للزواج، ولكن هذا التفكك العائلي قد رافقه تماسك اجتماعي أو وجدانٌ اجتماعي جديد.
- (٥)
بما أن أعمال البيت قد صارت آليةً؛ أي: تقوم بها الآلات في البيوت الأمريكية وبعض الأوروبية، قَلَّت الروابط التي تربط الزوجة بالبيت، وزادت الروابط التي تربطها بالمجتمع.
- (٦)
الطوالع السيكلوجية الحاضرة تدل على أننا نسير نحو التوسع الاجتماعي والتضَيُّق العائلي؛ ذلك لأن المرأة تتعلم كالرجل وتتكسب مثله وتحترف، وقد صارت لها كرامة اجتماعية تُعنى بها وترعاها إلى جنب كرامتها العائلية، بل هي أحيانًا — مثل الرجل — تُضَحِّي بمركزها العائلي لأجل مركزها الاجتماعي، فلا ترضى مثلًا بأن تترك حرفتها كي تتزوج، ثم هي إذا تزوجت كان اتجاهها خارجيًّا اجتماعيًّا وليس منزليًّا داخليًّا.
وهذا الاتجاه يزيد بزيادة الحضارة الصناعية، ونحن هنا نقرر الحقائق فقط كما نرى أماراتها.