الانعكاسات المعدولة
الرجع الانعكاسي هو أقدم الرجوع العصبية في الإنسان، وهو مثل العطاس وانطراف العين وسحب اليد من النار ونحو ذلك، وهو — لبدائيته — قد ظَهَرَ في فقار الحيوان قبل أن يظهر المخ؛ ولذلك نحن في أحيان كثيرة نُحِسُّ الرجوع الانعكاسية بأعصابنا التي لا تصل إلى المخ، وإنما تصل إلى النخاع الشوكي في صلب الظهر فقط، ونحن سواء في هذا الرجع مع الإسفنج والسمك والنمل والجنبري والكلب والفيل، وغيرها من أدنى الحيوانات إلى أعلاها، التي تمتاز بمخ أو ليس لها مخ، ونحتاج هنا إلى قليل من التوسع مع المخاطرة بالتكرار.
فقد يكون هذا الرجع الانعكاسي مباشرًا، كما يحدث عندما أكون جائعًا وأرى اللحم المشوي أو أشمه فيجري لعابي، وقد يكون معدولًا؛ أي: عُدِلَ به عن أصله إلى شيء آخر له علاقة به، كما يحدث عندما أكون جائعًا وأسير في الشارع فأرى كلمة «مطعم»، أو عندما أسمع حديثًا عن الطعام، أو عندما أرى مائدة عليها أطباق فارغة ليس عليها طعام، ففي هذه الحالات يجري لعابي أيضًا؛ لأني أقرن هذه الأشياء بالطعام، وقد استطاع بافلوف أن يجعل لعاب الكلاب يسيل عندما يدق جرسًا؛ لأنه عَوَّدَها أن ترى الطعام عقب دق الجرس، أو بكلمة أخرى: غرس في الكلاب عادة جديدة لم تكن تعرفها في فطرتها، هي اشتهاء الطعام والابتداء في عملية الهضم بالفم عند سماع الجرس دون رؤية الطعام، وواضح أن مثل هذه العادة لا تعرفها الكلاب التي لم تتعودها.
وإلى هنا نجد كلامًا حسنًا ومفهومًا، ولكن بافلوف يزيد على هذا بأن كل تصرفنا في الحياة وتفكيرنا وفلسفتنا ومثلياتنا وما عندنا من دستور للدولة وما نعرف من الكيمياء أو الفلك؛ إنما هو كله — وأكثر منه — رجوع انعكاسية معدولة لا نفطن إلى أصولها؛ لأنها تسللت إلينا رويدًا نقطة بعد أخرى، حتى صِرْنَا نسلك سلوكنا المدني أو الثقافي، وننبعث إلى هذا العمل أو هذا التفكير ونحن لا ندري أننا نندفع برجوع انعكاسية معدولة.
ومثل هذه الدعوى كبيرة جدًّا، وإن كانت لها قيمتها التي لا تنكر في تصرفاتنا السليمة والمريضة، فنحن مثلًا لا نستطيع أن نعزو نظرية النسبية التي قال بها أينشتين إلى الرجع الانعكاسي المعدول، بل كذلك لا نستطيع أن نعزو اهتداء الصبي — وهي في الثامنة من عمره — إلى العمليات الحسابية؛ كالضرب والقسمة والمبادئ الهندسية الأولى، إلى الرجع الانعكاسي المعدول.
ولكن في حياتنا المدنية الحاضرة نعيش ونسلك بكثير من المركبات التي هي في لبابها رجوع انعكاسية معدولة، فأخلاقنا مثلًا إنما هي عادات عملية، وعقائدنا إنما هي أيضًا عادات اتجاهية، وكلتاهما ترجع إلى رجوع انعكاسية معدولة؛ أي: مركبات، وهذه المركبات يبلغ من ثَبَاتها في النفس أنها تغير الوضع الأصلي للرجع الانعكاسي، كما نرى في الرذائل التي تؤذي صاحبها، ومع ذلك لا يستطيع التخلص منها، كما هي الحال في المتعلق بالخمر أو بالمخدرات أو بالشهوة الجنسية الشاذة، فنحن هنا إزاء رجع انعكاسي قد عَدَلَ به عن أصله إلى شيء آخر فصار مركبًا نفسيًّا؛ أي: عادة متأصلة تضر صاحبها وهو عاجز عن التخلص منها.
انظر إلى امرأة تشكو مرضًا نفسيًّا، هو أنها لا تطيق رائحة السمن، ولما كانت جميع أطعمتنا تقريبًا تُطْهَى بالسمن فإنها أصبحت تكره الطعام وتشمئز منه، وكأنها تنوي أن تموت جوعًا، والأصل لهذه الحال أن زوجها ضربها وأسرف في الضرب حين كان رأسها منكبًّا على إناء السمن، فحدث لها وَقْتَ الضرب هذا الرجع الانعكاسي المعدول، فصارت تَنْفِر من رائحة السمن الذي قرن بالضرب والألم، فهنا مركب نفسي مريض، كذلك المركب الذي أحدثه بافلوف في كلبه بإجراء لعابه عندما يسمع الجرس.
وكثير من التربية إنما يقوم بإيجاد مركبات؛ أي: رجوع انعكاسية معدولة، فنحن نُعَوِّد الصبي أن يضبط عواطفه أمام الغرباء، وأن يستحي من بعض أعضاء جسمه، وأن يوزع الشكولاتة بينه وبين إخوته بالسواء، ونحن بهذا نغرس فيه مركبات مدنية اجتماعية تخالف الرجوع الانعكاسية الأصلية، ومن مثل المرأة التي كانت تشمئز من رائحة السمن نستطيع أن نَكُفَّ السكير عن عادة السكر بأن نمزج الخمر بمقيئ ليس له طعم أو رائحة، ولكن بعد أن يشرب قليلًا أو كثيرًا يجد أنه يقيء، وعندئذٍ ينفر من الخمر، كما نفرت تلك السيدة من السمن.
إن نظرية بافلوف مفيدة جدًّا بشرط أن نقف بها عند حدودها، والقارئ لهذا الكتاب قد عَرَفَ مما قرأ إلى هنا أننا نُؤْمِن بأن سلوكنا في الحياة إنما هو في الأكثر سلوك العاطفة، والفرق بين الرجوع الانعكاسية والرجوع العاطفية ليس كبيرًا؛ لأن العاطفة في منتهاها مجموعة من الرجوع الانعكاسية الموروثة تسير في بطء وترَيُّث فتُتَاح الفرصة بهذا البطء والتريث للتفكير، ولكن التفكير الناجع يحتاج إلى أكثر من هذا، يحتاج إلى وجدان.