الاتجاه الذاتي والاتجاه الموضوعي
كثيرًا ما نرى أن الاتجاه السلوكي يُعَيِّن لنا نوع الكفاءة الذهنية أو يكاد، ونحن نختلف في اتجاهنا باختلاف الحرفة التي تُمَارَس فتختلف بذلك أنواع الكفاءة الذهنية، ولا عبرة بأن يقال: إن ذكاءنا — مِثْل طُول قامتنا أو لَوْن بشرتنا — موروث محدود؛ فإن الحياة النفسية والفكرية للفلاح تختلف مما هي عند المحامي أو المهندس، كما تختلف عند هذين مما هي عند الكاهن المسيحي أو الفقيه المسلم.
وأحيانًا نجد عند أحد الناس اتجاهًا استبشاريًّا بالدنيا، أو اتجاهًا تشاؤميًّا أو اتجاهًا انبساطيًّا مزاجيًّا، أو اتجاهًا تسلطيًّا عدوانيًّا، وهذه الاتجاهات تُعَيِّن الحياة النفسية والفكرية لكل منهم، حتى التفكير يجدُ حدودًا أو أمدادًا تحده أو تمده.
ولكن هناك اتجاهين نفسيين لكل منهما قيمة كبيرة، بل كبيرة جدًّا في الحياة النفسية لكل منا؛ وهما الاتجاه الذاتي حين يكون بؤرة نشاطي ذاتيًّا «أنا»، والاتجاه الموضوعي حين يكون بؤرة نشاطي العمل الذي أعمله. وبالطبع ليس هناك إنسان ذاتي مائة في المائة إلا إذا كان في المارستان مجنونًا كاملًا لا غِشَّ فيه. وليس هناك إنسان موضوعيًّا مائة في المائة، إلا إذا كان أرسطوطاليس أو أفلاطون. ولكن هناك مَنْ تَغْلُبُ عليه الذاتية، وهناك من تغلب عليه الموضوعية.
الذاتي، إذا كان مهندسًا قد قام ببناء منزل حَسَنٍ، يقول: أنا نجحت، وإذا لم يكن البناء حسنًا فإنه يقول: أنا فشلت.
الموضوعي، إذا كان مهندسًا قد قام ببناء منزل حسن، يقول: هذا المنزل حَسَنٌ، وإذا لم يكن البناء حسنًا فإنه يقول: هذا البناء غيرُ حَسَنٍ.
الذاتي يحزن كثيرًا؛ لأنه يجعل الحُسْن والسوء في البناء حُسْنًا وسوءًا في ذاته؛ في نفسه. والموضوعي لا يحزن؛ لأن الحُسْن والسوء خارجان عنه؛ أي: في الشيء الذي صنعه، الذاتي ينظر نظرة نفسية، والموضوعي ينظر نظرة موضوعية.
عندما يسوء البناء يحزن الذاتي ويغتاظ، ويتذبذب من الغيظ؛ كالأتومبيل يدور موطره وهو واقف مكانه، ولكن الموضوعي يفكر في إصلاح الخطأ بلا حُزْن أو غيظ؛ لأنه لا يعالج عواطفه كالذاتي، بل يعالج الحجر والخشب والحديد.
لنفرض أن اثنين قصدا إلى محطة العاصمة للسفر إلى الإسكندرية، فلما بلغاها وجدا أن القطار قد قام؛ فالذاتي يغضب لأنه تَعَوَّد أن يجعل ذاته مصدرًا أو موردًا لكل ما يقع حوله، وغضبُه هنا عقيم، فقد يَسُبُّ أو يضرب الأرض بقدمه، ولكن القطار لن يعود. أما الموضوعي فيتأمل الساعة، ثم يبحث عن ميعاد القطار الثاني، ثم يهيئ نفسه لقضاء ثلاث ساعات قبل قيام القطار، وهو يقضيها في تَعَقُّل.
والفيلسوف، وهو أعلى طراز للشخصية الموضوعية، يبحث الشئون البشرية، وهو يحرص على ألا يكون لعواطفه — لذاتيته — أيُّ أثر في بحثه، والمجنون يصبغ كل حركة حوله بصبغة ذاتية؛ فالناس الذين يتحدثون على مسافة منه إنما يتكلمون عنه، وأنت حين تسأله سؤالًا ساذجًا إنما تحاول الوصول إلى سر معين يخفيه، وهو لهذا متعب معني بعواطفه.
وهذه الذاتية — وكلنا بلا استثناء تقريبًا ذاتيون إلى حد كبير — تنشأ فينا منذ الطفولة، إذ كانت الأم حين تؤدي عملًا حسنًا تقول: أنت أحسنْتَ، أو أنت أسأت، أو أنت ذكي، أو أنت بليد، وكان يجب أن تقول بدلًا من هذه الكلمات: هذا العمل حسن، هذا العمل سيئ يمكنك أن تصلحه من هنا ومن هنا.
ذلك أنها في الحال الأولى تُوَجِّه الطفل وجهة ذاتية في كل شيء يحدث في هذه الدنيا؛ إذ يقاس عنده بما يجلب له من سرور أو يحدث له من حزن، فهو عاطفي يحب ويكره، ولا يحاول فيحسن، أما في الحال الثانية فإنها توجهه وجهة موضوعية، بؤرة الاهتمام عنده ليست نفسه، بل هذا الشيء الذي يصنع.
الموضوعي يتكيف بسهولة ويجعل نفسه ملائمًا للوسط، ولكن الذاتي جامد لأنه عاطفي، الأول يتعقل ويجتهد ويحاول، والثاني عاطفي يجمد ولا يحاول، ولكنه يفرح أو يغضب.
ومركب النقص هو في النهاية أننا نعالج شئون الوسط المحيط بنا — بشريًّا أم ماديًّا — بالأسلوب الذاتي، كأن حوادث الدنيا إنما هي صدى لذاتيتنا لا أكثر، وكأننا نقيس واجباتنا الاجتماعية ليس بالعمل الذي نؤديه بل بقيمة شخصيتنا.
وهذه الذاتية تشقينا كثيرًا، لأنها تفتأ تنبه عواطفنا بدلًا من الموضوعية التي توقظ ذكاءنا، فنحن نسلك في الحياة بالعواطف الجامدة العمياء بدلًا من التعقل النير البصير.
ويجب علينا في كل مأزق يقابلنا أن نسأل: هل أنا هنا ذاتي أسيرُ العاطفةِ؟ أم موضوعي أُفَكِّر وأتعقل؟ كما يجب علينا أن نذكر أننا كلنا قد ساءت تربيتنا في الطفولة، وأننا نشأنا لذلك ذاتيين إلى حد كبير، والطفل المدلل أكثر ذاتية من الطفل الذي عومل بجد وعدل، وقد ينتهي الأول إلى أن يجعل كُلَّ همه واهتمامه في الدنيا أن يجذب إلى نفسه الأنظار؛ فإذا وجد اهتمامًا تعب، بل قد يعزو هذا الإهمال إلى مؤامرة، وأحيانًا، وهو يحاول جذب الأنظار إلى نفسه، يتورط في سلوك غير اجتماعي.