حياتنا الفراغية
في وسطنا المتمدن يَكْثُر الفراغ، حتى إن موظف الحكومة في القاهرة مثلًا يستطيع أن يجد كل يوم بعد طرح ساعات العمل والنوم والغذاء والرياضة نحو ثماني ساعات هو فارغ فيها لا يجد ما يشغله، وهناك بالطبع غير الموظفين ممن يعملون مستقلين في التجارة أو الصناعة، وقد يجدون مثل هذا الفراغ أو أقَلَّ أو أكثر.
ونحن ننظر إلى الفراغ هنا من الناحية السيكلوجية فقط؛ أي: من ناحية استعماله للتعويض من النقص في حيواتنا الثلاث: الجنسية والاجتماعية والفراغية، ذلك أننا — على الرغم مما نبذل من عناية وجهد كي ننتفع ونستمتع بهذه الثلاث — نجد فيها ألوانًا من النقص تُحْدِث لنا كظومًا ترهقنا وتؤذينا وتؤخرنا؛ فإذا استخدمنا فراغنا فيما نرتاح إليه من هواية نتعلق بها، كدراسة لموضوع مفيد، أو صناعة يدوية نُنَفِّس بها عن كظْم ونجد فيها فنًّا يَرْقَى بنا أو نحو ذلك؛ فإننا لن نَضِيق بما نجد من معاكسات وصدمات في الوظيفة التي نحترف، أو في متاعب البيت أو في المجتمع.
ولهذا يجب أن يكون لكل منا هواية تخفف عنه هذه الكظوم، وفي الوقت الحاضر كثيرًا ما نجد الزوج يهرب من بيته؛ لأنه يجد زوجة راكدة لا تماشيه في نشاطه ومثلياته، أو يهرب من المنزل لضوضاء الأطفال، بل أحيانًا يهرب لأن له جارًا لا يبالي أن يملأ الجو المحيط بصخب المذياع وأغانيجه ونهيقه، وواضح أن العلاج الأصلي هو العلاج المباشر بترقية الزوجة وتنشيط ذهنها واختيار منزل حسن في بقعة راقية يَعْرِف سكانُها قيمة السكينة، وتربية الأطفال وإيجاد السلويات والملاهي الحسنة لهم، ولكن إذا اتضح بعد مجهود مُعَيَّن أن هذه المحاولات لم تنجح النجاح الكامل، فإن الزوج يجب أن يخلو إلى نفسه من وقت لآخر؛ أي: مدة فراغه، وأن يمارس عملًا يهواه فتنفرج توتراته، هذه التوترات التي لا يصح أن تنفرج بالخمر أو بألعاب الحظ السخيفة في القهوة.
ولكن الخيبة في الحياة الزوجية يجب ألا تؤدي إلى الفرار منها إلا وقتيًّا، ويجب الاستمرار على معالجتها بإحالة البيت إلى مجتمع راقٍ يكثر فيه الضيوف من الأصدقاء والصديقات الذين يستطيعون أن يحركوا أعضاء البيت الراكدين إلى الرقي الثقافي والاجتماعي.
وكثيرًا ما يخيب أحدنا في حياته الحرفية؛ لأن الحرفة وَقَعَتْ له بالمصادفة فكانت كالشر اللازم يحترفها لما فيها من كَسْب فقط، وقد يجد من ممارستها مضضًا كما يجد ألمًا من غطرسة الرؤساء، وبَعيد أن يستطيع هو إصلاح هذه الحال، وهو إذا استخدم فراغَهُ في عمل يُحِبُّه، أي: هواية يتعلق بها، فإن توتراته التي تحدثها له الحرفة وما يجد من كظوم في نفسه لأنه يمارس عملًا يكرهه تنفرج؛ لأنه يمارس بهوايته عملًا يرغب فيه بنفسه وعقله، ومثل هذه الهواية ينتفع بها كثيرًا عندما يبلغ سن الستين ويحال على المعاش؛ لأنه لا يجد نفسه عندئذٍ عاطلًا، بل يجد في هذه الهواية عملًا يبعث نشاطه ويصون كرامته ويشغل كل وقته تقريبًا، بل تصير هذه الهواية عندئذٍ كأنها عمر جديد.
وما نجد من نقص في حياتنا الاجتماعية كذلك نستطيع أن نصححه بحياتنا الفراغية، كأن ننتمي إلى حزب سياسي، أو نتابع دراسة معينة، أو نتخير الأصدقاء ونحرص على صداقتهم ونمارس نوعًا من البر أو الكفاح نعرف قيمته ونرتاح إليه، وكثيرًا ما يكون مرجع النقص في الحياة الاجتماعية جهلنا للسياسة العامة وأُمِّيَّتنا الصحفية؛ حتى إننا نقرأ الجريدة ولا ندري مغزى الأخبار؛ ولذلك يجب أن يكون لقراءة الجرائد والكتب الشأن الأكبر في رُقِيِّنا الاجتماعي، كما يجب أن تكون بيوتنا بأثاثها متاحفَ يجد فيها الضيفُ الصورةَ الحسنة والآنية الجميلة الأثاث الفني، كما يجد الضيافةَ المستنيرة التي لا يُحْشد فيها الطعام والشراب، كأن البيت مطعم، بل يكثر فيها الفن والثقافة، وإذا لم يكن هذا مستطاعًا حتى مع المثابرة في إيجاده؛ فإن الهواية تستطيع أن تُعَوِّض هذا النقص.
والمهم أن نعرف أن حياتنا النفسية السليمة تقتضي منا العناية بالبيت؛ أي: الزوجة والأولاد والحياة الجنسية، كما تقتضي العناية بالمجتمع وبالحرفة، ثم العناية بالفراغ.