السعادة
يختلف معنى السعادة عند الناس باختلاف ذكائهم وثقافتهم؛ فالسعادة عند العامي هي أن يجد — على الدوام — الإشباعَ لعواطفه؛ أي: طمأنينة من الخوف والمرض وشبعًا من ناحيتي الطعام والجنس وما يتبع هذا من توافر المال والسلطة والوجاهة.
ولكن السعادة في لبابها هي الوجدان؛ أي: زيادة الفهم لأنفسنا ولغيرنا من البشر وللدنيا وللكون، وكلما ازددنا وجدانًا ازددنا سعادة، حتى ولو كان هذا الوجدان مؤلمًا؛ لأننا ننظر عندئذٍ بعقل حساس وقلب ذكي، نعقل لأننا نُحِسُّ، ونُحِسُّ لأننا نعقل، وفي كلتا الحالتين نستمتع بالفهم، وعندئذٍ يصير للحياة معنًى لا يجده ولا يقاربه مَنْ يقنع بإشباع عواطفه.
وفي الاعتبار السيكلوجي نقول: إن السعيد هو السوي الوجداني.
وفي الاعتبار السيكلوجي أيضًا نقول: إن الشقي هو النيوروزي العاطفي.
وفي مجتمعنا الحاضر نحتاج إلى العناية بالزواج (والعائلة) وبالمجتمع وبالحرفة، وأخيرًا بالفراغ، ومتى عُنينا بهذه الأشياء الأربعة وجدنا فيها جميعها الوسيلة إلى التوسع الثقافي، فتتسع بذلك آفاقنا ويزداد وجداننا.
والسعيد هو الذي يرتبط بالمجتمع بروابط كثيرة فيُحِس مسئوليات اجتماعية تَحْمِله على أن يكون مفيدًا للمجتمع، كما تحمله على تَقَبُّل الصعوبات، وعلى أن يدرس المجتمع، وعلى أن يمتاز بشجاعة اجتماعية، وهو لهذه الأسباب يجب أن يكون غيريًّا يُؤْثر مصالح الغير.
والشقي هو الذي يبتعد عن المجتمع ويَكْرَه خدمته لأنه أناني، وهو يَجْبُن عن تحمُّل المسئوليات، فيغدو عقيمًا انعزاليًّا لا ينفع أحدًا، وهو في انعزاله وكراهته للمجتمع لا يفكر في ترقية ذهنه بالثقافة؛ لأن الثقافة في لبابها اجتماعية فينقص عنده الوجدان وتزداد عاطفيته.
والسعيد ينمو؛ لأنه اجتماعي يحوي ما حوله بالذهن والعمل والدراسة والخدمة، ونظرته مستقبلية تطورية ينسى الهموم؛ لأنه يحلها أو يهملها.
والشقي لا ينمو؛ لأنه انعزالي قانع بعواطفه يجترها ويتغذى بها، وهو لا يدري ولا يعمل ولا يخدم، ونظرته إلى الماضي تقف عند حادثة في حياته، فيلصق بها ويجعل منها بؤرة للهم الدائم العقيم، يفتأ يذكرها ويعطل بها جميع مواهبه بذكرها، السعيد نشيط وجداني موطري متفائل، له هدف مستقبلي، دائم الحركة الذهنية والجسمية، والشقي راكد عاطفي ساكن متشائم، لا يتحرك إلى المستقبل؛ لأنه مُقَيَّد بالماضي، وهذا القول يصح عن الأمم كما يَصِحُّ عن الأفراد.
والسعيد صريح سافر مستقيم الأخلاق في ضوئه النفسي.
والشقي متَسَتِّر سِرِّيٌّ مُعْوَجٌّ ماكر، له وجهان أو ثلاثة وجوه.
والسعيد مجاهد يطلب ترقية ذهنه ونفسه وعائلته ومجتمعه، يؤمن بديانة ما قد استقر عليها بوجدانه.
والشقي جامد لا يُرَقِّي نفسه أو مجتمعه أو عائلته، ليس له دين، أو هو لا يعرف من الدين سوى الممارسات العقيدية اليومية المألوفة.
وقليل من التحليل للأخلاق ينير بصيرتنا؛ فإن الصراحة مثلًا تخدم الصحة النفسية؛ لأننا لا نتحمل مجهود الإخفاء الذي يتحمله المنافق الموارب، والرقي والتطور بالدراسة والخدمة يملآن النفس سرورًا، وهما يحركان النشاط ويصونان الصحة النفسية والجسمية؛ ولذلك فإن الكذاب والغشاش والمنافق والماكر، كل هؤلاء يتعبون؛ لأنهم يتحملون مجهودًا في ستر أشياء لا يحتاج إلى سترها الأمين المخلص، والجامد الذي لا يرتقي ولا يتطور يحس تشاؤمًا ملازمًا؛ لأنه لا يجد مغزًى لحياته.
والمتدين الذي سكن إلى ديانة حسنة وصل إليها بمجهوده — وليس بتقاليده — ينتقل في سلوكه وتصرفه من العاطفة إلى الوجدان، فهو يفكر أكثر مما ينفعل، في حين أن ذلك الآخر الذي لم يسكن إلى ديانة حسنة، قد وصل إليها بمجهوده، بل قنع بالممارسات المألوفة، يبقى على المستوى العاطفي، يكره أكثر مما يحب، ويتعصب ويغالي بلا روية.
والتدين كالغناء واللحن؛ إما عاطفة وإما وجدان؛ فالرجل الذي ربي نفسه وارتقى يحب الأغاني والألحان الوجدانية التي لا تكاد ترتبط بعاطفته، أو هو يرى على الأقل أن هذه العاطفة ليست جنسية؛ فالأغاني والألحان عنده ليست أغانيج، ونحن حين نستمع إلى باخ أو بيتوفن لا نُحِسُّ أية يقظة جنسية، ولكننا نحس هذه اليقظة عندما نستمع إلى العامة، أو بالأحرى الغوغاء من المغنين والموسيقيين في أوروبا، ونُحِسُّها في جميع المغَنِّين والموسيقيين في مصر تقريبًا، بل إني لأستمع أحيانًا إلى مُغَنٍّ مصري في المذياع فأجد أنه يغنج كالنساء، وهكذا الشأن في جميع الفنون؛ فإنها تخاطب العواطف عند العامة، وتخاطب الوجدان عند الخاصة المثقفة، وقد شرع الرسم يتجه نحو الوجدان في السنين الأربعين الأخيرة.
والمتدين كذلك قد يعتمد على العواطف؛ لأن له عقائد جامدة كثيرًا ما تؤدي إلى الفساد الروحي كالتعصب مثلًا، ولكن المتدين الذي يعتمد على الوجدان إنما ينمو بالمعارف والتفكير ولا ينقطع نموه طوال الحياة.
- (١)
نحن في طفولتنا يغمرنا عَجْز ونقص كلاهما يعين لنا طرازًا من السلوك يلازمنا طوال حياتنا، كما يُعَيِّن أهدافًا نتجه إليها بنشاطنا.
- (٢)
إذا كانت هذه الأهداف التي تكوَّنَتْ لنا في الطفولة بعيدةَ التحقيق، فإننا نشقى بها طوال حياتنا؛ لأننا لن نحققها.
- (٣)
وواضح أن الهدف وطراز السلوك يتكوَّنَان — مدة الطفولة على سبيل التعويض — من نقص الطفولة وعَجْزِها قبل اكتمال القوى العقلية الناقدة؛ ولذلك يرسخان ويشق التخلص منهما.
- (٤)
إذا كان هذا الهدف وهذا الطراز للسلوك مخالِفَيْن لقواعد المجتمع فإننا نشقى بهما.
- (٥)
يحدث أحيانًا أننا ننقح الهدف أو الطراز، ولكن من الشاقِّ جدًّا التخلص منهما؛ لأن جميع عواطفنا معبأة لخدمتهما.
- (٦)
مجموع الوسائل التي نتخذها في تحقيق الهدف والطراز يُكَوِّن شخصيتنا.
- (٧)
كل إنسان يَنْشد السعادة يحتاج إلى المجتمع، فيجب أن تكون حياته اجتماعية.
- (٨)
كي نأتلف مع المجتمع ونسعد به يجب أن نحل ثلاث مشكلات هي: المشكلة الجنسية بالحب والزواج والعائلة، والمشكلة الاجتماعية بالاتصال بالمجتمع والاهتمام بشئونه وخدمته وترقيته، والمشكلة الحِرَفية التي نكسب منها عَيْشنا «وقد زدنا نحن هنا مشكلة الفراغ».
- (٩)
السعادة هي أن يكون الإنسان كاملًا (وقد يصح التنقيح هنا بأن نقول: إن السعادة ليست الكمال، ولكنها محاولة الكمال).
وليس المعنى من كل ما ذَكَرْنا أننا لن نشقى إذا اتبعنا هذه القواعد، وإنما نعني أننا نكون أقربَ إلى السعادة إذا اتبعناها، وفي هذه الدنيا شقاء لا يستطاع استبعاده بأية قواعد، كالأم تفقد ابنها، أو أي إنسان تقع به حادثة تحرمه من أعضاء ثمينة، أو المعيشة في مجتمع فاسد يؤمن بعقائد سيئة أو يخضع لسلطان فاجر أو نحو ذلك، فنحن هنا نشقى، ولكن هذا الشقاء يَخِفُّ إذا تلقيناه بالوجدان، ويَثْقُل إذا تلقيناه بالعاطفة، وقد نستطيع معالَجته وإصلاحه في الحال الأولى، أما في الحال الثانية فلا علاج، ثم ماذا نقول في عامل يَعُول نفسه وزوجته وأولاده ثم تزدحم السوق بالبضائع فيقفل المصنع ويطرد عماله أو بعضهم؟ فيجد هذا العامل نفسه عاطلًا عاجزًا عن شراء القوت، هل نُوهِمُه بالسعادة وهو في أشقى الشقاء؟
وفي مثل هذه الحالات لا تتعلق السعادة بالفرد وإنما تتعلق بالمجتمع؛ ومن هنا صار أدلر السيكلوجي العظيم اشتراكيًّا يطلب توفير العمل والكسب لجميع الناس.
وأخيرًا نقول: إن السعادة تختلف عن السرور، الأولى فكرية والثاني مادي، فنحن نُسَرُّ بالطعام أو الشراب أو المسكن أو الأتومبيل أو المنصب العالي أو الأبهة، ولكن كل هذه الأشياء لا تسعدنا؛ لأننا إنما نسعد بالفكرة؛ أي حين نكافح من أجل تحقيق غاية نعتقد أنها سامية نافعة، أو حين نخدم شأنًا له قيمة تتجاوز ذواتنا كالأم تخدم طفلها وتنشد فيه رجلًا، وكالمؤمن بدين يحاول نَشْره على الرغم مما يعترضه من صعوبات، وكالداعية إلى إصلاح اجتماعي معيَّن، فكل هؤلاء سعداء يَرْضَون عن ألوان من الحرمان والبؤس لا يطيقها غيرهم؛ لأن سعادتهم في الفكرة التي يخدمونها.