وسائل عملية للسعادة
كلمة السعادة من الكلمات المشتبهات التي يختلف كثيرون في معناها، فهي عند البعض ثراء يُغْني عن الكد، وعند آخرين قناعة تُغْني عن الثراء والكد معًا، وعند فريق ثالث شهوات لا تنطفئ، إلخ.
ولكن عندما نتأمل الأحوال الاجتماعية التي نعيش فيها، نجد أننا مرتبطون بتبعات يُلْقِيها علينا المجتمع من حيث لا يَأْمر بالتنفيذ ولا يعاقب عند الإهمال ولكنه؛ أي: المجتمع، يندس في قلوبنا ويعَيِّن لنا ميولًا واتجاهات، ويَخْلق في ضمائرنا رغبات وشهوات نُحِسُّ الابتئاس العظيم إذا نَحْن أهملناها أو عَجَزْنا عن تحقيقها.
ولكل مجتمع أهدافه التي يعَيِّن بها معاني الكرامة والضعة، والعظمة والخسة، والتفوق والتخلف.
فقد كان مجتمعنا — إلى وقت قريب — يجعلنا أو يجعل الكثيرين منا يبتئسون لأنهم لم يحصلوا على رتبة بك أو باشا، كما كان هناك كثيرون من أثرياء الأرض الذين كانوا يحسدون أثرياء آخرين غيرهم؛ لأنهم هؤلاء يملكون ألف فدان، أما هم فلا يملكون سوى ثمانمائة فدان.
وقد تغير مجتمعنا وتغيرت أهدافنا، فليس منا من يقول: إنه لن يكون سعيدًا إلا إذا حصل على ألف فدان؛ لأن قصارى ما يصبو إليه هو مائتا فدان.
ونعني بهذا المثل أن المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان يُعَيِّن له أهدافه ووسائله، بل يحَدِّدها، وهو بهذا التغيير أو التحديد، يعين أخلاقه ونوع السعادة التي ينشدها أيضًا، بل يعين رذائله وفضائله.
ولكن هناك مبادئ عامة لكل المجتمعات، تتطلب من الفرد أخلاقًا معينة وهي — كما قلنا — لا تفرض عقوبة للمخالفين، ولكنها — لقوة الجو الاجتماعي الذي نعيش فيه — تجعل هذه الأخلاق أو الاتجاهات حتمية، حتى لقد ينتحر أحدنا إذا أحس عجزًا عن تحقيقها.
وهذا التحقيق هو السعادة، وعلى قدر ما نحقق من هذه الأهداف والأخلاق يكون مقدار سعادتنا.
- (١)
مرتزق نعيش منه بما ننتج للمجتمع.
- (٢)
كرامة اجتماعية أو مقام اجتماعي نُحِسُّ به أننا محترمون.
- (٣)
حياة زوجية سليمة.
- (٤)
تَجَدُّد؛ أي: تطوُّر.
هذه هي الأهداف الأربعة التي يقول بها السيكلوجيون، وأيما نقص فيها قد يؤدي إلى انحرافات خطيرة أو خفيفة، وقد تكون هذه الانحرافات جريمة نقع فيها، أو شذوذًا نفسيًّا قد يصل بنا — أو لا يصل — إلى الجنون؛ فإن العاجز عن الارتزاق قد يسرق ويأثم، وأحيانًا نجد من ينتحرون لأن كرامتهم الاجتماعية قد أُهِينَتْ، وكذلك الحياة الزوجية إذا فسدت فإنها تؤدي إلى ضروب من الشقاء، من الطلاق إلى الهجران، إلى غير ذلك، وأخيرًا نجد أن الرجل الراكد الآسن الذي يرفض التطور يعاني سأمًا، ويجد كل شيء ماسخًا في الحياة.
وهذا كلام مُوجَز عامٌّ نحتاج إلى شرحه.
•••
فإما الارتزاق فيُعَدُّ في أول الشروط للسعادة، ونعني القدرة على الارتزاق بالإنتاج، وهذا يطالبنا بأن نكون على شيء من المهارة الفنية التي يحتاج إليها المجتمع.
ولكل مجتمع مهاراته المختلفة التي يحتاج إليها، فقَبْل نحو خمسين سنة حين كنت صبيًّا كنت أعرف أحد الأثرياء المحترمين الذين جمعوا ثراءهم لمهارة فذة هي ركوب الخيل والحمير وتعليمها، وقد تغير مجتمعنا فلم تعد تصلح هذه المهارة لضمان الكسب والثراء، وكذلك الشأن في مهارات مختلفة عبثت بها حكومتنا، أو هي دعت إليها وعلمت الشبان في الجامعات الأوروبية لتحقيقها، حتى إذا نجحوا في تحقيقها لم تجد فيم تستخدمهم، واضطرت لذلك إلى أن ترزقهم من حيث لا يمتازون بمهارة خاصة، فابتأسوا.
ولكن العبرة أن نتعلم مهارة خاصة تكون وسيلتنا للعيش الشريف الذي لا نحتاج فيه إلى الرجاء أو التوسل، ثم هذه القدرة على أن ننتج عملًا يحتاج إلى مهارة، هي في النهاية وسيلتنا إلى الكرامة الاجتماعية التي نتوخاها، بل هي مقياسنا الذي نقيس به صلاحنا وسعادتنا.
والكرامة الاجتماعية هي شيء كبير جدًّا في سعادتنا، وهي بالطبع تختلف بين بيئة وبيئة وبين مجْتَمَع ومجْتَمَع؛ فهناك ما يملكه أحدنا من أَفْدِنَة، أو ما يحوزه من ألقاب علمية، أو ما يؤلفه من كُتُب، أو ما يَشْفي من مَرَض إذا كان طبيبًا، أو ما يكسب من قضايا إذا كان محاميًا، إلخ.
وأعظم رجل في مصر في أيامنا محمد نجيب، لا يملك قيراطًا من الأرض، ومع ذلك ترتفع كرامته إلى أعلى مستوى، وهو بذلك سعيد؛ إذ هو قد وجد ميدانًا آخر للكرامة لا يَمُتُّ إلى ثراء أو وجاهة أو لقب.
ولكن مع جميع اختلافاتنا، نحتاج إلى أن نُحِسَّ أن المجتمع يحترمنا وأننا غير محتقرين، وعندما نسمع عن أحد التجار أو أحد الطلبة أو أحد الموظفين أنه قد حاول الانتحار؛ فإن السبب الخفي لهذه المحاولات هو خوفه من الاحتقار؛ فإن التاجر يخشى الإفلاس، والطالب يخشى الرسوب، والموظف يخشى الفضيحة لأنه اختلس، وهذه الخشية هي في النهاية خشية الاحتقار الاجتماعي.
وإنما يكفل لنا الكرامة الاجتماعية مُرْتَزَق حَسَن نُبْدِي فيه مهارة تعود علينا بكسبٍ يكفل لنا العيش الكريم، بحيث لا نحتاج أو لا نُضْطَر إلى انحراف أو شذوذ يجلب علينا احتقار المجتمع.
وإحساسنا بالكرامة الاجتماعية هو أيضًا وقاؤنا من الانحلال والإسراف والشطط، بل من الشذوذ والإجرام.
وما زلت أذكر مع الضحك أحد المجرمين، وكان ذكيًّا، قَعَدَ إليَّ يحدثني عن جريمته، فكان ما قاله أن كل الناس يحبون أن يرتكبوا الجرائم لولا أنهم يخجلون، والخجل هنا هو الإحساس الاجتماعي بالاحتقار الذي يعود عليهم إذا شذوا أو سقطوا.
وهذا الإحساس بالكرامة يعم الناس في جميع الأعمار تقريبًا ويحسون ضرورته، فإن الصبي الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة قد يبتئس، ويحس أن الدنيا كلها حالكة إذا كانت أمه تهينه أو تحتقره أمام إخوته، وقد يُضَحِّي بكل شيء في سبيل استرداده لكرامته المجروحة، ومما يُؤسَف له أنه يفعل ذلك أحيانًا بأساليب طفلية، كأن يؤكد شخصيته وكرامته عن سبيل الإيذاء أو المغامرة.
والحياة الزوجية السليمة هي أحد الأركان الذي يدعم السعادة؛ لأنها تكفل لنا نفسًا سليمة من الكظم المؤذي، كما أنها — إلى حد بعيد — تجعلنا نحس الكرامة الاجتماعية التي تنقصنا ما دمنا في العزوبة، وهناك آلاف من الناس يتزوجون لتحقيق الكرامة الاجتماعية فقط.
وفي مجتمعنا الحاضر الذي يحفل بالطوارئ الاقتصادية والتفاوت الاجتماعي والأمراض المختلفة، يحتاج كل منا إلى هذا الحصن المأمون، وهو البيت الذي نجد في نظامه العائلي تضامنًا كما لو كان شركة تأمين عامة لجميع أعضائه، وهناك أرقام لا يتطرق الشك إليها، تدل على أن المنتحرين من العُزَّب أكثر جدًّا من المنتحرين من المتزوجين، ودلالة هذه الحقيقة تحملنا على الاعتقاد بأن الأعزب لا يستمتع بحياته، ولا يجد لها جذورًا تربطه بالدنيا كما يجد المتزوج؛ ولذلك يسهل عليه تركها بالموت.
وعائلة حسنة هي شيء كبير في السعادة.
ولكن العائلة الحسنة هي تلك التي تنبني على الحب، وليس بعيدًا أن ينمو الحب بعد الزواج إذا لم يكن قد نما قبل الزواج، ولكن السعادة تكون مكفولة أكثر إذا كنا نجعل الحب أساس الزواج، ولا نتزوج إلا بعد تعارف طويل نَثِقُ منه أننا نحب هذا الشريك الآخر الذي ننوي أن نعيش معه ونعاشره طيلة العمر.
وقد أُعْجِبْتُ بقول الإمام ابن حزم في «طوق الحمامة» أنه لا يمكن إنسانًا أن يحب امرأتين، وإنما هو يشتهيهما فقط، وفرق عظيم بين الاشتهاء والحب؛ ولذلك يجب أن يُعنى الشاب أكبر العناية قبل الزواج بهذه الفتاة التي يخطبها، وأن يهدف من زواجه منها إلى العمر كله بلا حاجة إلى طلاق أو ضرار.
وليست عائلاتنا سعيدة لتفشي الضرار والطلاق فيها، بل إن هذا التفشي هو الأصل للأمراض النفسية التي تعانيها زوجاتنا أو كثيرات منهن، وهي الأمراض التي يُحَاوِلْن مُعَالَجتها بالزار.
ومما يُفْسد الزواج أن يحتوي البيت الحماة سواء أكانت أم الزوج أم الزوجة، وقد تكون هذه السيدة من فضليات النساء، ولكن موضعها العائلي — باعتبارها حماة لأحد الزوجين — يُحِيل البيت إلى جهنم.
•••
قلنا: إننا كي نسعد بحياتنا، نحتاج إلى مهارة فنية تتيح لنا الارتزاق بالإنتاج الشريف، ثم نحتاج إلى مركز اجتماعي يكفل كرامتنا، ثم إلى عائلة حسنة نعيش فيها آمنين، نلجأ إلى بيتنا كما لو كان حصنًا لا تستطيع الكوارث أن تدخله.
ولكن السعادة تحتاج إلى شرط رابع ربما كان أخطرَها جميعها، وهو أن نتطور ونتجدد بأية صورة، فقد تكون السياحة تجددًا من حيث إنها تَنْقِلُنا من وسط إلى آخر، فنُحِسُّ كما لو كنا نعيش عمرًا آخر، حتى ولو لم تَزِدْ مُدَّتُه على شهور نزور فيها باريس أو أسوان أو لبنان.
وقد تكون فنًّا جديدًا نتعلمه ولو كنا في آخر العمر؛ لأننا نحس ونحن نمارس هذا الفن الجديد أننا في ارتقاء، في صعود، وأننا نحيا الحياة الحيوية التي لا تعرف الركود.
وأولئك الذين جعلوا الثقافة عادتهم يحسون هذا الارتقاء المتوالي؛ لأنهم يجدون في تجدد الموضوعات التي يدرسونها تجددًا شخصيًّا لهم، بل هم يتطعمون الحياة التي تُمْسَخ عند غيرهم من الذين لا يدرسون، وإني لأعرف أحد هؤلاء المثقفين في الخامسة والستين من عمره، يدرس هذه الأيام الذرة بكل ما فيها من ارتباكات ومشكلات، وهو سعيد مُلْتَذٌّ بجهده هذا.
ولكن ربما كان أعظم ما يكفل السعادة أن يندغم الإنسان في كفاح إنساني للخير والبر والشرف؛ فإن هذا الكفاح يُكْسِبه الكرامة السرية التي يتحدث بها إليه ضميره، كرامة السيف في غمده، قد تنظر إليه أنت فلا تجد ما يؤهله للسعادة، ولكنه هو يعرف من نفسه، ومن قلبه، ومن هدفه، أنه سعيد، بل أعظم السعداء، وأن ما ينزل به من كوارث المرض أو الفقر أو الإهانة الشخصية ليس شيئًا في جانب الكرامة التي أضفاها عليه كفاحه الإنساني في خدمة البشر.
وهذا الكفاح هو ما نجد عند القديسين والأبطال والأحرار الذين قاوموا الطغاة؛ فإننا حين نقرأ سيرتهم نعتقد أنهم ضحوا بالكثير من سعادتهم كي يحققوا الغاية التي نصبوا أنفسهم لتحقيقها، ولكن الحقيقة أنهم كانوا سعداء بتعبهم وعرقهم وحرمانهم من أجل الكفاح الذي خدموا به الإنسانية.
وحبذا هذا الكفاح نملأ به حياتنا الفارغة، ونندغم به في التيار الإنساني للخير والشرف؛ فإننا حين نفعل ذلك لا نبالي أن نحيا على كسرة من الخبز في كوخ من الطين، بل لا نسأل عن معنى السعادة؛ لأننا لا نحتاج إلى هذا السؤال؛ إذ نحن فيها نؤدي رسالة ونقصد إلى هدف.