النفس السليمة
في الاتجاه السيكلوجي الذي نتبعه هنا نعتقد أن النفس السليمة هي نفسها النفس السعيدة، وأن السعادة هي الوجدان، وما نذكره هنا إذن إنما هو إرشادات تفصيلية تُوَضِّح لنا كيف نتجنب المرض النفسي؛ أي: كيف نتجنب الشقاء.
أول شرط للسلامة النفسية أن نتجنب الهموم، وهذه هي السلامة السلبية، أما السلامة الإيجابية فتقتضي تَقَبُّل الاهتمامات، والفرق بين الهم والاهتمام أننا نجتر الأول اجترارًا؛ لأنه يتصل بعاطفة قد انفعلنا بها انفعالًا شديدًا، ونحن في هذا الاجترار لا نمل هذا الهم، بل نجد أنه قسري شأن العواطف الطاغية فلا نملك التخلص منه، وقد يكون لالتصاقنا بالهم هدف، كما يقول أدلر، هو أنه؛ أي: الهم يمنعنا من تحقيق الغايات الاجتماعية كالنجاح في الحرفة أو التفوق في المجتمع أو الدراسة أو نحو ذلك، وعند أدلر أن جميع الأمراض النفسية — والهم أولها وأخفها — تعود إلى أننا نبغي بها غايةً هي الهرب من الواجبات الاجتماعية ومن مواجهة الحقائق اليومية، كأننا نقول أمام المجتمع وأمام ضمائرنا: «كيف تطلبون مني النجاح وتأدية الأعمال الحرفية وأنا مثقل بهذا الهم؟ اعذروني.»
فنحن نلصق بالهموم وكأنها الدواء الذي نرفض تركه؛ ولذلك نجد أن هذه الهموم قسرية نتعلق بها على الرغم من إرادتنا الوجدانية، نفتأ نفكر فيها ونجترها كما يجتر البهيم طعامه يجره إلى فمه ثم يرده، بل نفكر فيها بالليل ولا ننام، ونبقى على هذه الحال الشهور والسنين لا نؤدي عملًا مفيدًا لنا أو للمجتمع، وعندما يتغلب علينا الهم يسودنا، بل يتسلط علينا فتور، بل جمود فكري وجسمي، فلا ننشط إلى دراسة أو عمل.
أما الاهتمام فليس كذلك؛ إذ هو يبعث النشاط والحركة، وقد يكون الاهتمام خاصًّا أو عامًّا، ولكن الميزة التي تفصله من الهم أنه وجداني إرادي وليس قسريًّا عاطفيًّا مثل الهم؛ ولذلك يجب أن نلجأ إلى الاهتمامات نعالج بها الهموم إذا كان هذا مستطاعًا، ويجب أن نذكر أن حركة العضو تؤدي إلى حركة العاطفة؛ فإذا وجدنا مثلًا أن الاهتمام بالدراسة والتفكير شاقٌّ؛ لأن عاطفة الهم طاغية قد ربطت العقل ومنعت حركته؛ فإننا نستطيع أن نحرك الجسم بالعمل الذي يُشْعِرُنا بالكرامة ويثير إحساساتنا الاجتماعية، كأن نتكلف أيَّ عمل نافع للمجتمع؛ فالمرأة المهمومة تمارس التمريض أو خدمة اليتامى أو التعليم في مدرسةٍ للفقراء أو جمع التبرعات لعمل خيري، والرجل المهموم يعالج مثل هذه الأعمال التي تتفق وقدرته ومكانته، وتحريك الجسم أسهل جدًّا عند الذين طغى عليهم الهم من تحريك العقل.
والشرط الثاني للسلامة النفسية أن نجد على الدوام فترات نستطيع أن نتخلص فيها من التوترات المختلفة، حتى ولو لم تكن هذه التوترات همومًا مرهقة، والنوم بالطبع يخلصنا إلى حد بعيد من هذه التوترات، ونعني بالتوتر هنا أن النفس تكون مشدودة يَقِظَة مُتَنَبِّهة قَلِقة، كما هي الحال عندما تَحْمِلنا واجباتنا على مواجهة المشاكل والصعوبات التي لا تخلو منها الحياة، والنوم بعد الظهر هو علاج حَسَن لمثل هذه التوترات.
والنوم هو استرخاء تامٌّ، ولكن إذا كانت أعمالنا تطالبنا بمجهود كبير نُحِسُّ أنه يُثْقِلُنا، فإننا يجب — من وقت لآخر — أن نلجأ إلى الاسترخاء الجسمي الذي يؤدي إلى استرخاء نفسي، ويمكن أن يكون هذا الاسترخاء بالقعود على كرسي في فترات قليلة متكررة، أو بالحديث مع صديق على قهوة، أو ملاعبة في أحد ألعاب الحظ، إلخ؛ فإن الاسترخاء هنا يُعِيد إلى البندول النفسي اتزانه.
ولكن يجب ألا ننسى أن التوتر الذي قد يُحِسُّه أحدنا قد لا يرجع إلى أن واجبات العمل ثقيلة في ذاتها؛ إذ ربما يرجع إلى كراهة العامل فيها لعمله.
وظني أن معظم السبب للأمراض النفسية عند الأمريكيين يعود إلى التوتر البليغ الذي تبعثه فيهم المباراة الاقتصادية وإيمانهم بإنجيل النجاح، وبالطبع نحن لا ننسى أن كثيرًا من التوتر عند الشبان يعود إلى الحرمان الجنسي، وهذا التوتر كثيرًا ما يحول بين التلميذ أو الطالب «بين ١٤ و١٩ سنة» وبين الدراسة، ولا نستطيع أن نَصِفَ علاجًا عامًّا لهذه الحالات، وإنما هي تحل حلًّا يتفق مع الظروف الخاصة لكل فرد.
والشرط الثالث للسلامة النفسية أن نكون طيبين قانعين؛ أي: لا نتهور في مَطَامِع بعيدة نتعب في تحقيقها ولا نحققها، وهذه المطامع تتكون أحيانًا في الطفولة وهي تسوقنا سوقًا، بعناصر تختفي في الكامنة (العقل الكامن) وهي ترهقنا بمجهود قد لا نتحمله، كما أنها تَحْمِلُنا على أن نكون أنانيين غير اجتماعيين، والأنانية أسوأ الرذائل السيكلوجية؛ لأننا لن ندرس ولن نصادق ولن نستمتع بتلك الاستمتاعات الاجتماعية العديدة ما دمنا أنانيين، بل إن الأنانية تضرم في أنفسنا غليلًا لا ينطفئ، يجعل التوتر عادة نفسية نصبح ونمسي بها ونحن في تعب وإرهاق.
وقد سبق أن عرفنا أن السعادة، وهي عندنا السلامة النفسية، تقتضي من كل منا أربعة أشياء هي: (١) التلاؤم العائلي بالزواج الذي يكفل البيت الحسن، وتجنُّب التوتر الجنسي بالحرمان، وأيضًا وجود العش الذي نأوي إليه. (٢) المقام الاجتماعي الذي نكسبه بالاختلاط النفسي «بالثقافة» والجسمي بالاختلاط والاشتراك في النشاط الاجتماعي المختلف. (٣) الكرامة الاجتماعية من الحرفة التي نكسب منها عيشنا. (٤) الفراغ الذي يجب أن نقضيه في نظام ونجد فيه الهواية نمارسها عن حب وتعلق؛ لأنها تعوضنا من النقص الذي لا نستطيع تجنُّبه في الزواج أو الحرفة أو المقام الاجتماعي.
وإلى جنب هذه الأشياء الأربعة يجب أن نتجنب الهموم والتوترات والمطامع البعيدة التي لا تتحقق.
والوجدان وحده يكفي للعلاج؛ أي إننا نلجأ إلى النظر أو التأمل المنطقي الموضوعي، ولكن المريض الذي تغلبت عليه الهموم كثيرًا ما يعجز عن هذه المعالجة الوجدانية الموضوعية، وهو يحتاج إلى من يحلِّله ويسبر أعماقه ويصف دواءه.
•••
هذه الشروط الأربعة للسعادة هي لأولئك العاديين من الناس، الذين يقنعون بالنثر دون الشعر، وبالسعي على القدمين دون الطيران بالجناحين.
أما العبقريون من الناس فيعرفون — دون أن نُعَرِّفَهم نحن — أن السعادة هي كفاح يلتهم العمر كله لخدمة البشر ومكافحة المستبدين والمستعمرين، ومحو الفقر والجهل والمرض، ورفع المرأة من الأنثوية إلى الإنسانية، وتعميم المعارف العلمية كي تمحو العقائد الخرافية، وهم سعداء على أعلى مستوًى من السعادة؛ لأنهم لا يعيشون سدًى، وإنما يعيشون عن قصد ويرمون إلى هدف.