الغريزة الأصلية
ما هي الغريزة الأصلية التي تتحرك بها إلى النشاط والعمل والقتال والكفاح؟ أي: ما هي البؤرة الملتهبة التي يتشعع منها نشاطنا في مختلف نواحيه؟ أي: ما هي العاطفة أو العواطف التي تحمل ألمانيا على الحرب، كما تحمل حِزْب المحافظين في بريطانيا على كراهة الاشتراكيين، كما تحمل الرجعيين على كراهة الحرية في مصر، كما تحمل الكاتب الضعيف على البذاء والسباب، كما تحمل العُمَّال على الإضراب، كما تحمل كافة الناس على جمع المال، كما تحمل التلميذ على الدراسة؟ وأخيرًا: ما هي العاطفة التي تحمل المجنون على الدعوى بأنه ملك فيستقر مرتاحًا إلى هذه الدعوى؟
هل هناك غريزة واحدة أو جملة غرائز تحرك فينا عواطف تبعثنا على بذل المجهود الجسمي والذهني والنفسي الذي نعيش به؟
كان فرويد يعزو إلى الغريزة الجنسية جميع ألوان النشاط البشري، وكان يتوسع في معنى هذه الغريزة، حتى كان يراها في الطفل وهو يَرْضَع أمه بإيقاع، كما كان يراها في النشاط الفني الذي نتوخى به الجمال. ولا يستطيع أحد يعرف حقيقة التطور، أن يُنْكِرَ قيمة الغريزة الجنسية؛ وحسبك نظرة عاجلة إلى ذكرين من الحيوان يتقاتلان على أنثى كي ترى قوة العاطفة الجنسية. كما أن آلاف القصص الشائعة بشأن الحب تبين لنا مقدار المجهود الذي تتحيزه هذه العاطفة في النفس البشرية.
وكان فرويد يعتقد أن كظم العاطفة الجنسية هو الذي يؤدي إلى جميع حالات الجنون؛ لأن هذا الكظم يسد القناة الأصلية للعاطفة، فتحتال للبروز بأساليب شاذة، وتخرج من هنا متسللة ومن هناك متفجرة.
وكان أدلر يعتقد أن غريزة التسلط أو الرغبة في السيطرة بجميع ألوانها كالتفوق، أو البروز المالي أو الاجتماعي أو الجنسي، أو الرغبة في التقدير من الأقران ونحو ذلك، هذه الغريزة هي الأصل للنشاط النفسي كله، وأن صد هذه الغريزة أو عرْقَلَتَها هما السبب، لجميع الأمراض والشذوذات النفسية.
ونحن نعيش في مجتمع يغرس فينا عادات نفسية وذهنية تجعلنا نخطئ التفسير لكثير من دوافعنا (= عواطفنا) التي قد تكون أحيانًا اجتماعية، ولكنا — لأن لها حرمة كبيرة أو ممارسات مكررة — نَحْسَبُها طبيعية، ثم هناك أيضًا من النظم الاجتماعية ما يَحْرِمُنا ممارسة نشاط نفسي معين، أو يجعل هذه الممارسة شاقَّةً، فنجد أثر هذا الحرمان في صعوبات نفسية مختلفة، فتبرز قيمة هذا النشاط في وجداننا أكثر مما كان يجب، ففي عصر فرويد مثلًا، حين تمخض بنظريته عن الغريزة الجنسية، كان القحط الجنسي عامًّا في جميع الأمم تقريبًا، وكان كثيرٌ من الأمراض النفسية يُعْزَى إليه ويُعَالَج في ضوئه، ولكنا لا نجد هذا القحط الجنسي الآن في الولايات المتحدة الأمريكية مثلًا، ومع ذلك نجد الأمراض النفسية على أفشاها وأخطرها.
وقد حدثت في أيامنا حربان قُتِلَ فيها نحو ٣٠ مليون إنسان، وظهرت فيها آلاف الأمراض النفسية التي لا ترجع إلى أسباب جنسية، ثم ظهرت أيضًا ونمت وزكت هذه الأمة الروسية التي جَحَدَتْ مبدأ المباراة في العيش، واعتمدت على مبدأ التعاون، وكان من أعظم ما الْتَفَتَ إليه السيكلوجيون في هذا المجتمع الجديد خُلُوُّه تقريبًا من الأمراض النفسية، والنظام القائم في روسيا يحول دون السيطرة والتسلط أو البروز أو التفوق، وإذن أين أدلر الذي يقول: إن غريزة التسلط هي أقوى غرائزنا، وإنها بؤرة النشاط التي يتشعع منها سائر دوافعنا الحيوية؟
الحق أن كلًّا من فرويد وأدلر كان ضحية العصر الذي عاش فيه، هذا العصر الذي حفل بالمباراة القاتلة التي كانت تبعث كل إنسان على توخي الطمأنينة بالتفوق والتسلط كما كان حافلًا بالقحط الجنسي الذي حَرَمَ كثيرًا من الفتيات والشبان من الزواج.
وحسْبُنا أن نَرْجِع في تفسير البؤرة الأصلية للنشاط البشري إلى الطفل في أيامه وشهوره الأولى، فإننا نَجِدُ فيه غريزة لم يتعلمها؛ هي خوفه من السقوط؛ أي: رغبته في الاطمئنان على مهده، فَلِمَ لا تكون هذه الغريزة الأصلية لجميع ألوان نشاطنا مهما اختلفت هذه الألوان، بل إن الاعتماد على هذا التفسير يوضح لنا في بيان ناصع موقف فرويد وموقف أدلر.
فحيث يكون القلق والاضطراب والخوف والتوجس من المستقبل يكون البعد عن الطمأنينة، فيحس أحدنا كما لو كان طفلًا على وشك السقوط، وقد يَتَّخِذ هذا القلق صورًا مختلفة تتلون بألوان المجتمع الذي يعيش فيه كل منا.
ففي مجتمع تتأخر فيه سن الزواج وتكثر العوانس ويبدو المستقبل قاتمًا للكثير من الفتيات يَعُمُّ الخوفُ كيانهن، ويعود هذا الخوف كأنه كل شيء في حياتهن، وتبدو العاطفة الجنسية كأنها بؤرة النشاط النفسي، وتجب أن تكون كذلك في مثل هذا الوسط، وهنا تفسير السيكلوجية الفرويدية.
وفي مجتمع تعم فيه المباراة في الكسب كما يعم الفقر، ويحدث التعطل وما يجلبه من تعاسةٍ وحرمانٍ وفاقةٍ يتجه النشاط نحو التفوق والتسلط، والخوف من السقوط في هذه المباراة يكون همًّا لا ينقطع، وهنا تفسير السيكلوجية الأدلرية.
فبؤرة النشاط البشري كله هي الخوف، خوف الطفل من السقوط من المهد، ثم خوف كل إنسان بعد ذلك من الفقر والحرمان في المجتمع، وخوف الفتاة من أن تعيش عانسًا، وخوف الجندي من القتل أو الطيار من السقوط، وخوف التلميذ من الرسوب، وخوف الرجعي من الحرية التي تحرمه وسيلة العيش، وخوف ألمانيا من تألب الدول المحيطة بها عليها، وخوف المحافظين من الإنجليز من المبادئ الاشتراكية التي تحرمهم امتيازاتهم، وخوف الساسة الإنجليز من استقلال الهند التي يستغلونها.
فالخوف هو المحرك الأصلي، وهو الذي يبعث على الشجاعة والمخاطرة، بل والاقتصاد والتدبر والحكمة، ولكن إذا زاد هذا الخوف ولم نجد له علاجًا مَرِضْنَا، ولو بالكابوس في النوم، أو بانحرافات أخرى بسيطة أو خطيرة، وحيث يَقِلُّ الخوف وتَعُمُّ الطمأنينة تصبح الأمراض النفسية معدومة أو كالمعدومة، وهذا هو ما حدث في روسيا؛ حيث ألغيت المباراة، وصار جميع السكان كالمتساوين في الكسب والكرامة، ولم يَعُدْ هناك كظم للخوف من الفقر أو المرض أو السقوط الاجتماعي أو البقاء في عزوبة دائمة، بل لم يعد هناك خوف من ضياع الثروة؛ إذ ليس لأحد ثروة مكنوزة، وليست هناك بورصة للأوراق المالية التي ترتفع وتنخفض فيرتفع في إثرها ضغط الدم وينخفض، وتحدث الوفيات من النقطة والسكتة، كما تؤدي الصدمات إلى البول السكري.
فالغريزة الأصلية التي تحركنا نحن وجميع الحيوانات إلى النشاط هي الخوف، وما زلنا — بالمجاز — حيوانات مثل أسلافنا نعيش على الأشجار ونتعلق بالغصون ونخشى السقوط، وما زلنا نخشى الغول والعفريت في الغابة.
اعْتَبِرْ هذه الحادثة التالية الواقعية:
زوجة مصرية في نحو الخامسة والثلاثين تُحِبُّ زوجها، وهو صانع متيسر يكسب، ويقضي بعض أمسيته على القهوة، وهو ثرثار لا يتحفظ، وكانت هذه الزوجة نحيفة في مجتمع يُقَدِّر الجسامة والدسامة، وكان زوجها يتحدث من وقت لآخر عن هذه المرأة السمينة وهذه الأخرى الجميلة، فكانت تغار، والغيرة خوف متردد، وكانت هذه الغيرة تبعثها على التجمل وتحملها على اتباع الوصفات البلدية كي تسمن، ولكنها لم تسمن، فصارت الغيرة خوفًا وقلقًا، ولم تَرَ علاجًا، فكظمت، ففي ذات مساء دخل الزوج واقترب منها؛ فإذا بها تصرخ وتستغيث بالجيران، فلما اجتمعوا زَعَمَتْ أن هذا الزوج يطلب منها نجاسة ورجسًا، مع أن لها منه ثلاثة أولاد.
والتفسير: أن عجزها عن أن تَسْمَن، وَخَوْفها من أن يتزوج زوجها امرأة أخرى سمينة، وانسداد المستقبل في وجهها، حَمَلَ عقلها الكامن على أن تلجأ إلى أكذوبة ترتاح إليها وتطمئن إليها في الدنيا، وهي أنها «ولية» أي: قديسة، لا تحتاج إلى الأزواج (= العنب حصرم)، وأنها مستغنية عن زوجها الذي يطلب منها رجسًا، ولبست بعد ذلك ثياب الأولياء والقديسين، ثم انتهت إلى المستشفى؛ أي إن نفسها القلقة احتالت بأسطورة كي تصل إلى السلامة والطمأنينة اللتين لم تجدهما في الحقيقة الواقعة.
إذا كانت الغريزة الأصلية هي الخوف، فإن لها ناحية إيجابية في الإنسان، هي أننا في مجتمعنا الحافل بالمخاوف والقلاقل نَنْشُد القوة والوجاهة، فنجمع المال والرتب العالية، وأحيانًا نستميت في طلب القوة ونموت؛ لأننا ننسى — مثلًا — أن المال وسيلة للطمأنينة الاقتصادية فقط، فنجهد في جمعه حتى نمرض، أو نصل إلى الطمأنينة المنشودة منه ثم لا نكف عن جمعه، وأحيانًا نبذل هذا المال للحصول على وجاهة زائفة.
وأحيانًا تسيطر علينا عاطفة القوة أو الوجاهة أو الكرامة الاجتماعية؛ بحيث تنسينا حتى شهواتنا البدائية، انظر إلى الطفل حين نشتري له الشكولاتة؛ فإنه يحبس شهوته إليها ولعابه الجاري، ويحتفظ بها حتى يصل إلى البيت فيعرضها في كبرياء على إخوته ثم يأكلها، وكلنا تقريبًا هذا الطفل في مجتمعنا، نحب أن نقتني كي نفاخر ونباهي قبل أن نستهلك ما اقتنينا، أو قد لا نستهلكه بتاتًا؛ لأن لذة المفاخرة والمباهاة تُبْعِد عنا الخوف وتشعرنا بالقوة، وحسبنا هذا.