الأمراض النفسية الخفيفة
كلنا تقريبًا يصاب بالرشح أو الزكام في وقت ما، ولكنا لا نباليه، بل نعتمد على أننا سنتخلص منه بلا معالجة بعد بضعة أيام، ومثل هذا يحدث لنا بالأمراض النفسية الكثيرة التي تنتابنا من وقت لآخر، وكلنا بلا استثناء يَقَعُ في أحد هذه الأمراض التي لا نباليها؛ لأن الإصابة خفيفة لا تكاد تُلْحَظ، وهي تزول في أيام، ونحن نذكر قليلًا من هذه الأمراض.
الشك، النسيان، الاشمئزاز، الخوف من الظلام أو من الأمكنة المستشرفة العالية، غياب الذهن، الحياء، البكاء، الوجل، أخطاء الكلام، التلجلج، أحلام اليقظة، الكابوس، كثرة الأحلام، الإحجام عن المشروعات، العزلة، حب الخمر، الشره إلى الطعام، السأم، التشرد الحرفي، التشرد الجنسي، التعب، وفرة العرق، الخوف من الغرباء، الإجرام، إلخ.
وإذا وقع لنا بعض هذه الأمراض في فترات متباعدة مددًا قليلة فإننا لا نباليها، ولكنا نلتفت إليها إذا لازمتنا أو إذا تكررت، أو إذا لاحظها علينا صديق أو قريب، فكثير منا مثلًا يشرب الخمر مع صديق للمؤانسة، وقد يحتاج في توتر نفسي إلى أن يعمد إلى التفريج بكأس أو كأسين، ولكن إذا صار الشراب عادة لا يطاق الإقلاع عنها فإن المسألة تحتاج إلى علاج، ولن ينجح العلاج بمحض الأمر بالإقلاع؛ لأن الشراب هنا ليس داء وإنما هو نتيجة لداء: هو التوتر النفسي للكظم الذي أحدثته كراهة للعمل الذي يُرْتَزَق منه، أو للبيئة العائلية المنغصة، أو للهوان الاجتماعي الذي أدى إليه مُرَكَّب نقص قد استقر واستتر، أو لطموح بعيد لا يستطاع تحقيقه، ولكن الكامنة لا تزال تثيره وتحض عليه، فكل هذه الأشياء تُقْلِق النفس وتُحْدث لها توترًا تُخَفِّف عنه الخمر، والخمر هنا سبيل للهروب من المشكلة، ويجب أن يكون العلاج بالبحث عن العلة المستترة وتحليلها، ومطالبة المريض باستعمال عقله؛ أي إننا ننقله من العاطفة العمياء في الكامنة (العقل الكامن) إلى الوجدان، حتى يتعقل ويوازن الاعتبارات بالتفكير الموضوعي.
أما إذا كانت عادة الشراب قد استقرت ومَضَتْ عليها سنوات، فإننا نحتاج إلى معالجة العادة بتأليف جديد للشخصية أكثر مما نحتاج إلى معالَجة الأصل البعيد بالتحليل النفسي.
أو انظر إلى الكابوس فإنه قَلَّ منا من لم يُصَبْ به، ولكنه إذا تَكَرَّرَ وأزعج دل على مخاوف مستترة قد حاولنا كَظْمها، وهي تنفرج في النوم حين يخمَد وجداننا، وقد ترجع هذه المخاوف إلى الماضي؛ لأن حادثة معينة قد وقعت لنا؛ فالصبي الذي أُجْرِيَت له عملية جراحية كان يخافها، وقد عومل بغلظة ولم يَتَلَطَّف معه الأطباء، يهبُّ بعد هذه العملية بأسابيع أو أشهر صارخًا، ونحن نعالجه هنا بأن نشرح له الشرح المقنع بأن العملية قد تمت بنجاح، وأنه ليس له حق في هذا الخوف، وقد يكفي الإيحاء الخفيف قُبَيْل نَوْمِه؛ أي: وقت النعاس لشفائه، ولكن هذه المخاوف قد ترجع إلى هَمٍّ يتملكنا بشأن الحاضر والمستقبل، كالموظف الذي يخشى رئيسًا سافلًا معاكسًا يتصيد أغلاطه وينوي إيذاءه، والمعالجة هنا أشق؛ لأن الهم لا يبرحه، وكل ما نستطيعه أن نُطَالِبَه بمحاولة هذا الرئيس حتى يعامله بالحسنى، وكما سبق أن قلنا: إن المشكلة التي تَبْعَث على الحلم «والكابوس» قد تكون عصرية، ولكنها تتخذ أسلوبًا بدائيًّا في النوم؛ أي إن الخوف من الرئيس الذي يريد قَطْع رِزْقنا يتخذ لنا صورة الخوف الذي يتمثله الطفل في وَحْش يبغي افتراسه أو قَتْل إخوته أو نحو ذلك، وأستطيع أن أؤكد أن في مصر كثيرًا من الموظفين يعانون الكابوس من سفالات رؤسائهم، وقد يفدح الهم والخوف فينتقل من الحلم في النوم إلى فترات الانزعاج الخاطفة تَمُرُّ بالرأس وَقْت اليقظة، فيدق القلب ويسيل العرق ويغيب الوجدان لحظات، ولا يدري المريض أنها تعود إلى المشكلة القائمة بينه وبين رئيسه، وهذه هي النورستينيا.
أو انظر إلى الخوف من الظلام أو الخوف من الأمكنة المستشرفة مثل البلكونات، أو الخوف من الصعود في اللفت فهنا نجد خوفًا بدائيًّا؛ أي: لا يصح أن يُحِسَّه رجل متمدن يعرف بوجدانه أنه ليس هناك عفاريت أو ثعابين أو وحوش في الظلام، ويعرف أنه ليس قاعدًا على شجرة تترنح غصونها في الريح ويخشى السقوط منها، ولكن هذه الإحساسات تتملكه لأنها تُعَبِّر عن خوفه من المستقبل المالي المظلم، أو توقعه لكارثة مقدرة، أو خوفه من الفشل، أو نحو ذلك من المشكلات العصرية التي تُتَّخَذ صورة نفسية طفلية أو بدائية كما يحدث في الكابوس، والفرق أن الخوف هنا قد انتقل من اليقظة، وهذا يدل على أنه قد فَدَحَ وتفاقم، وقد سبق أن قلنا: إن الطفل لا يخاف سوى شيئين في الشهور الأولى من عمره هما السقوط والصوت الصاخب؛ فالخوف هو أعظم الأشياء استقرارًا في نفوسنا، وعندما يضعف وجداننا أو يزول بالنوم أو التعب نعود إلى طراز الخوف الأول الطفلي البدائي، فنخاف الظلام والسقوط من البلكون، ونحلم بالوحوش المفترسة واللصوص القتلة.
أو انظر إلى السمن يصيب كثيرًا من النساء، وأحيانًا من الرجال عندنا؛ فإن الإنسان السليم الذي ينشط ويعمل يجب ألا يسمن إلا إذا كان به اختلال غددي، وهذا لا يحدث لواحد في الألف، ولكن السمن كله تقريبًا يعود إلى سأم النفس الذي يؤدي إلى كسل الجسم وفتوره؛ لأن النفس لا تجد من الاهتمامات ما يشغلها ويبعث نشاطها، وفي مثل هذه الأحوال يعمد الكسول السئم المتثائب إلى أن يرفه عن سأمه بالطعام، فلا ينقطع فكاه عن مضغ اللب أو الفول طوال النهار، وهو حين يقعد إلى المائدة يحب ألا يتركها؛ لأن لذة المضغ تخفف عنه السأم، وأحيانًا يؤدي القلق إلى مثل هذا النهم للطعام؛ لأن الملذات الصغيرة من الألوان المختلفة على المائدة تبعث سرورًا للنفس التي تتعب من السأم أو الهم.
فالطعام هنا كالشراب سواء؛ أي إنه فرار من الواقع، وعلينا ألا ننسى أن التلميذ الذي يجد مشقة في الدروس ويرسب كثيرًا يعمد إلى العادة السرية فيرفِّه بها عن نفسه أَلَمَ الهم والرسوب؛ لما يجد فيها من سرور وقتي، فهو هنا يهرب من صعوبات الحياة بهذه العادة.
وأحلام اليقظة؛ أي: الأماني المسرفة، قد تكون أيضًا مهربًا من صعوبات الحياة مثل الخمر، ومعظم مَنْ يقع فيها أولئك الشبان الذين يجدون الواقع شاقًّا تَصْعب مجابَهَتُه وحَلُّ مشكلاته من دروس ثقيلة إلى العجز عن الاهتداء إلى عمل للكسب؛ فإن أحدهم يستسلم للخواطر اللذيذة ويقضي فيها الساعات وهو يستمتع بلذتها، والعادة أنه يقع أيضًا في العادة السرية، وليست إحداهما سببًا للأخرى، ولكن الشاب يلجأ إليها لأنه يتناولها بسهولة، وقد تفدح هذه الحال، وخاصة إذا كان هذا الشاب انطوائيًّا، فيقع في الشيزوفرينيا؛ أي: مقاطعة المجتمع نفسًا وجسمًا، فيستسلم لخيالاته ولا يغادر غرفته، بل هو أحيانًا ينسى طعامه وشرابه، وهذا بالطبع نادر.
أو اعتبر مثلًا شخصًا قد استغرق في نفسه مركب نقص، كأنه يكون قد أُوهِمَ منذ طفولته بأنه ضعيف أو أنه دميم، وربما يكبر هذا الوهم عندما يبلغ سن العشرين، بل لعله يجد ما يؤيد هذا الوهم في نفسه من ظروف سابقة، فيعمد إلى نشاط جنسي شاذ، أو يعمد إلى التشرد الجنسي بين النساء كثيرًا كي يؤكد رجولته التي شك فيها مثلًا، وأمثال هؤلاء لا يفتئون يتحدثون عن اختباراتهم الجنسية التي قد تكون كاذبة أو صحيحة، وهذه الأحاديث هي ستائر يستترون بها نقصًا مستقرًّا في نفوسهم.
أو اعتبر الشك؛ فإننا كلنا نشك إلى حد ما، ولكن قد يزداد أحيانًا الشك إلى أن يصير عادة نفسية مرهقة، بحيث يترك أحدُنا مكتبه ويخرج إلى الشارع ثم يعود إلى المكتب كي يستوثق من أنه قد أقفل هذا الدرج أو تلك الخزانة، ثم يرتقي الشك إلى الظن السيئ بالناس حين يتحدثون بالقرب منا أو نحو ذلك، والشك عند التحليل يعود أيضًا إلى الخوف؛ لأن النفس غير مطمئنة لا تجد الثقة فهي في تقلقل وتبلبل.
ففي كل هذه الحالات وأشباهها نجد أمراضًا نفسية خفيفة تكاد تصيب كُلَّ إنسان بدرجة منخفضة حتى إنه لا يأبه بها، ولكنها تفدح في بعض الناس وتعود خَطِرة، والعلاج الصحيح هو اليقظة الوجدانية؛ أي إننا لا نستسلم لعواطفنا وننساق فيها قسرًا وغصبًا، بل نَقِفُ ونتعقل ونبحث المشكلة بحثًا موضوعيًّا، كما أننا يجب ألا نبالغ ونسرف في كظم عواطفنا.
وللكظم النفسي لغة رمزية بكلمات الجسم؛ فالدوار الذي يُحِسُّه أحد الشبان إنما يدل على أنه «تائه» لا يدري ماذا يفعل؛ فالدوار يرمز إلى العجز عن تَبَيُّن الطريق، والزوجة قد تَكْرَه التعارف الجنسي مع زوجها، كما تكره الطعام «مشمئزة»، ونحن نُعَبِّر أحيانًا عن توتر النفس بقبضة اليد، وفي تعبيرنا ما يدل على الجمع بين لغة النفس ولغة الجسم: فأنا لا أستطيع أن «أهضم» هذا الرجل، و«ماهوش قادر يبلعني»، إلخ.