تربية الأطفال
عندما نجد في عائلة واحدة خمسة أو ستة أطفال يتفاوتون في الذكاء أو يختلفون في المزاج، نبدي استغرابنا لاختلافهم هذا، مع أنهم إخوة يعيشون في بيت واحد؛ أي: وسط واحد ولهم كفايات وراثية واحدة.
ولكنا عند التحقيق نجد أنهم أولًا يختلفون في كفاياتهم الوراثية كما يعرف أي إنسان قد درس قوانين مندل في الوراثة، ثم ليس الوسط واحدًا لا يختلف بينهم؛ فإن الطفل الأكبر؛ أي: البكر يجد من التدليل ما لا يجده الثاني أو الثالث؛ لأن الأول ينفرد بعناية الأبوين وحبهما، وهو يصادف قبل ميلاده شوقًا إليه من أبويه لا يصادِفُ مثله سائر إخوته، والأغلب أن تدليله يؤدي إلى فساده في المستقبل، حتى إن الأوروبيين يؤلفون الآن الكتب في الأصول التي يجب أن تُتَّبَع في تربية «الابن البكر» خاصة.
ثم يختلف الأطفال أيضًا من حيث إن أحدهم قد يكون وسيمًا والآخر دميمًا، فيُحَبُّ الأول ويُكْرَه الثاني، على الرغم من المحاولة النزيهة من الأبوين لمعاملتهما بالسواء، وقد تكون هناك طفلة وحيدة بين أربعة أطفال ذكور فتُحَبُّ أيضًا لأنها وحيدة، وقد يعامل الابن الأصغر بالتدليل الذي كان يُعَامَل به الابن الأكبر، ثم قد يموت الأب أو الأم فيعيش بعض الأطفال يتيمًا مع أمه فقط أو مع أبيه فقط، أو مع زوجة الأب أو زوج الأم، وفي كل هذه الحالات يتغير الوسط ويختلف، بين طفل وآخر من الإخوة، وتتغير الأخلاق وتختلف أيضًا، وخاصة في السنين الأربع أو الخمس الأولى من العمر.
وقد يُدَلَّل أحد الأطفال لأن أبويه يقصران عنايتهما عليه لأنه وحيد، ثم يأتي آخر أجمل منه أو مثله، فيتزحزح الأول عن مكانه بعد أن يكون قد اتخذ أسلوبًا قد تعين له بسابق تدليل أبويه له، وهو يُطَالَب عندئذٍ من أبويه بأن يتغير ولكنه لا يستطيع، وعندئذٍ يصطدم بأبويه وبأخيه الجديد، وهو يقاوم بأساليب الأطفال؛ أي: يعاند أو يشاغب أو يمرض، أو حتى يبول في فراشه كي يجذب أمه إليه بعد أن أهملته والتفتت إلى أخيه الآخر، ثم تُرَسَّخ هذه العادات فيه عندما يشب؛ لأنه يُحِسُّ أنه مظلوم، وأنه لا يجد العناية التي يستحقها من الدنيا، كما لم يجدها من أبويه؛ لأنه يعامل المجتمع كما كان يعامل أبويه.
وأحيانًا تكره الأم بعض أبنائها أو بناتها؛ لأن الطفل قد يأتي وهو غير مطلوب حين لا تجدي الموانع للحمل، أو حين تكون قد أهملت الأم في اتخاذها؛ فالطفل الجديد عبء اقتصادي مكروه، أو هو قد يكون دميمًا، أو هو قد يجد نفسه منذ السنة الأولى مع زوجة الأب الغريبة؛ لأن أمه ماتت أو طُلِّقَتْ، وفي هذه الحالات يُكْرَه الطفل — بدرجات مختلفة — ممن حوله، بل أحيانًا يُضْطَهَد، ويقاوم هو هذه الكراهة وهذا الاضطهاد بأساليب الأطفال أيضًا، فيعمد إلى المكر الصغير أو الإضراب عن الدرس أو الاحتجاز؛ لأنه يجد الانفراد أروح لنفسه من الاختلاط بوسط كله كراهة، ثم ترسخ هذه العادات فيه عندما يشب، وأحيانًا يؤدي الاضطهاد والقسوة إلى أن ينكسر الطفل ويرضى بالهزيمة والضعة، ويعيش على هذا الأسلوب.
وهناك شيء نستطيع أن نسميه الفراسة السيكلوجية، ذلك أننا بتأمل الرجل في الخمسين من عمره نعرف هل كان مدللًا أم مضطهدًا في طفولته، وهل عاش مع زوجة أب تكرهه أم مع أمٍّ تحبه وترعاه، كما أن من السهل أن تُعَلَّلَ الشكاسة أو الوقاحة، بل أحيانًا البراعة والتنبه والنشاط بمركب نقص، وكثير من الناس يسهل عليهم تعليل بعض الأخلاق بنوع التربية.
ونعني بالتربية هنا جماع ما يحصل عليه الطفل من قدوة في الأبوين ومن إرشاد بالإغراء أو الزجر، ومن تدريب على اتخاذ سلوك معيَّن، ونعني السلوك النفسي قبل السلوك الاجتماعي؛ لأن الأول أثبت؛ إذ هو يُحْدِث للنفس ما يضارِع أو يقارِب الغرائز الطبيعية كالتفاؤل أو التشاؤم، والشجاعة أو الجبن، وكراهة بعض الأطعمة، والعقائد الدينية، فقد وُجِدَ مثلًا بالتدريب أن الفأر الذي يُعَوَّد الانتصار على خصمه في القتال تثبت فيه عادة الشجاعة فيجابِه خصومه من الفئران مهما كانت قوتها، وكذلك العكس؛ أي إن الفأر الذي يُدَرَّب على الهزيمة تثبت فيه عادة الجبن فلا يقوى على مجابهة خصومه حتى ولو كانت دونه جرمًا وقوة، فللتدريب؛ أي: تمرين الطفل على عادات معينة، عادات الطاقة بالاتجاه، وعادات الحركة بالعمل، قيمة لا تُنْكَر في تكوين أخلاقه، بل سلوكه النفسي؛ لذلك يجب في التربية ألا ننسى أن نعوده النجاح في الشئون الصغيرة.
وهنا نذكر العقوبة وقيمتها للطفل، فهل يجوز لنا أن نضرب وننهر؟
الصحيح الذي تثبته السيكلوجية أن الطفل ينزجر إذا عوقب؛ أي إننا نستطيع أن نكفه ونمنعه عن عمل شيء بالعقوبة، ولكنا لا نستطيع أن نغريه بالعقوبة على أن يؤدي عملًا؛ ومن هنا تُجْدِي العقوبة في منع الطفل من ضَرْب إخوته، أو من اللعب في التراب مثلًا، ولكنها لا تُجْدي في حمله على المذاكرة.
ثم اذْكُر مركب النقص في الأطفال؛ فإنه إذا كان في الطفل بارزًا كحدبة الظهر أو العور في العين أو الساق القصيرة أو الشوه الفاضح، احتاج إلى عناية كبيرة، ومن الحسن أن يستشار خبير سيكلوجي في هذا النقص، أما إذا كان دون ذلك فلا يستحق الالتفات.
ومن الحُسْن أن تتعدد الاهتمامات عند الطفل، وأن تكون له هواية أو هوايات يتعلق بها ويُنْفِق عليها من فراغه ويرضى أبوه بأن ينفق عليها أيضًا من ماله؛ فإن في هذا تفتيقًا لكفاياته وتوسيعًا لآفاقه النفسية والذهنية، وهو عندما يبلغ المُرَاهَقَة ويواجه الضغط الجنسي، مع الحرمان الذي يطالبه به المجتمع، يستطيع أن يجد في هذه الهوايات والاهتمامات ما يخفف عنه هذا الضغط، فيجتاز هذه الفترة الخطرة بسلام.
ويجب أن يَذْكُر الآباء أن التربية تُكْتَسَب من البيت؛ لأنها عادات نفسية ومرانات اجتماعية، فلا يمكن المدرسة أن تُعَوِّد الصبي أو الشاب الشجاعة أو الكياسة، ولكن الآباء يمكنهم هذا بالقدوة والتدريب، وقد ينتظر القارئ أن نقول: إن المدرسة للتعليم، وهي كذلك إلى حد ما، ولكن التعليم أكبر من المدرسة والجامعة، فكلتاهما تعطي المواد والمعارف، ولكنها لا تغرس عادة التعليم بالذهن الحر المفتوح، ولا تبسط الآفاق التي يجب أن يأخذ أحدها مكان الآخر عند الإنسان المتطور في مجتمع متطور؛ لأننا يجب أن نتعلم طوال حياتنا وأن نتخرج كل عام تخرجًا جديدًا من جامعة الحياة إلى أن نموت، والآباء هم خير من يغرس هذه العادة.
وليس هنا مقام النقد للمواد في المدارس أو الجامعات؛ فإن هذا الموضوع يستحق كتابًا مستقلًّا، ويستطيع القارئ أن يقرأ كتابي «التثقيف الذاتي أو كيف نربي أنفسنا» إذ يجد هناك الإسهاب الذي يحتاج إليه هذا الموضوع.
وأخيرًا، لو قيل لي: ما هي الجملة التي يمكن أن تعد شعارًا للتربية الحسنة؟ لأجبت: أعط أطفالك أقصى ما تستطيع من حريةٍ مع أقصى ما تستطيع من رعاية الحب الوجداني، ولكن تَجَنَّبِ التدليل كما تتجنب الاضطهاد؛ لأن كليهما يؤدي إلى الفساد، بل إلى الإجرام، وتجنب القسوة لأنها تمنع الطفل من الابتكار والاختراع وتغرس فيه الجبن، ثم تحيله في المستقبل قاسيًا مع أبنائه.
تجنب التدليل لأن الطفل المدلل كثيرًا ما ينتهي إلى الانتحار؛ لأنه لم يُدَرَّب على مواجهة الصعوبات؛ ولذلك سرعان ما تخور عزيمته أمام المجهود الشاق، وتجنب ضرب الطفل؛ لأن الضرب يحيله جبانًا ذليلًا ينشأ في إحجام وتردُّد وخجَل، وهو يعرف فيك أنت الأب الرجل الأول، وسوف يقيس الرجال على ما لقيه منك؛ فإذا كُنْتَ قد أَخَفْتَه فإنه سيخاف الرجال ويخجل ويتراجع، ولا يجرؤ ولا يقتحم، ولا تَخْشَ عناد الطفل، فقد يرجع إلى التدليل، ولكن اذكر أن العناد برهان على الإرادة القوية، فلا تقتل هذه الإرادة التي ربما تكون في المستقبل سَبَبَ نجاحه. وقد يكون في عناد الطفل بذرة المثابرة عندما يبلغ الشباب.
وأخطاء الأمهات في تربية الأطفال كثيرة:
فإن الأم — بطبيعتها — تُحِبُّ أن تربط أطفالها بها، فتبالغ في حمايتهم وهي لا تدري أنها بهذه المبالغة تؤذيهم؛ لأنهم يتعلقون بها أكثر مما يجب، ويكرهون الخروج والاقتحام، ويخشون الغرباء، ويَنْشَئون على عادة الاتكال على غيرهم بدلًا من الاستقلال.
ومن المألوف كثيرًا أن يعيش الطفل مع أمه نحو خمس أو ست سنوات وهو يأخذ دون أن يعطي، وينشأ على هذه العادة كأن من حقه في المجتمع أن يأخذ فقط، والمجتمع يصده ويصدمه؛ لأنه يطالبه بأن يعطي، وهو يبتئس ويَعُدُّ نفسه مظلومًا بهذه الحال؛ ولذلك يحتاج الأطفال جميعهم إلى أن يُكَلَّفُوا عملًا أو خدمة لِقَاءَ ما يُعْطَوْنه، حتى ينشئوا على الأخذ والعطاء معًا، وليس على الأخذ فقط.
والأم عادةً تُطْرِي طِفْلها عندما يؤدي عملًا حسنًا وتوجهه بذلك وجهة ذاتية، فيزداد أنانيةً ويقيس الأشياء والاعتبارات والقيم بما لها من سرور أو أَلَمٍ في نفسه، ويجب على الأم لذلك أن تُطْرِيَ العمل أو تذمَّه بدلًا من أن تطري الطفل نفسه؛ لأنه بذلك يَتَّجه وجهة موضوعية سديدة.
«أسلوب الحياة». من العبارات التي يجب أن نَذْكُرها دائمًا في تربية الأطفال؛ فإن لكل منا أسلوبًا يَتَّبعه حين يكون في الخمسين أو الستين من العمر، هو في الأغلب امتداد لذلك الأسلوب الذي تَعَلَّمه من أبويه أو زوجة أبيه في السنوات الأربع الأولى من العمر؛ فإذا رأيت مثلًا زوجة كثيرة الغيرة تلتهب وتحتدم عندما تَجِدُ زوجها يخاطب سيدة أخرى، فثِقْ أن هذا الأسلوب قد تَعَلَّمَتْه وهي طفلة قبل أن تتم الرابعة من عمرها، تعلمت أن تلتهب وتحتدم عندما كانت تجد أمها تلتفت إلى أخيها وتُعنى به بدلًا من أن تُعنى بها هي، وكانت أمها تستطيع أن تعالجها من هذه الغيرة لو أنها مثلًا كانت تعطيها الرياسة وتوزيع الحلوى، وتكسبها بذلك كرامة تغنيها عن الأنانية والاستئثار.
والطفل المدلل الذي تعود العدوان بلا خوف سيبقى على هذا الأسلوب وهو في الستين من عمره، يمارس العدوان والخطف ولا يبالي مصلحة الغير.
والطفل المضطهد الذي ضُرِبَ وحُرِمَ في طفولته، من زوجة أبيه، سينشأ وهو يعامِلُ كل فرد من أفراد المجتمع كما لو كانوا جميعهم يمثلون زوجة أبيه، يعاملهم باللؤم والخبث والوقيعة والدس والكراهة، أو هو قد ينكسر ويرضى بالهوان وينفصل من المجتمع.
وقِسْ على هذا، أسلوب الحياة الذي سِرْنا عليه في السنوات الأربع الأولى من أعمارنا يبقى سائر حياتنا، ولا نستطيع أن نُغَيِّرَه إلا بمشقة كبيرة جدًّا.