سيكلوجية الدرس
نحتاج في عصرنا إلى الدرس، والإنسان الذي يجهل القراءة ولا يقتني الكتب ولا يعرف نحو عشرين ألف كلمة؛ أي: معنًى، هو إنسان بدائي يقف في نصف الطريق بيننا وبين القردة، بل لعله أقرب إليها منا.
نحن نتعلم في عصرنا لا لكي نحترف ونرتزق، كما هو الاعتقاد العام، بل لكي نقرأ الجريدة كل يوم، ونقرأ الكتب ونتصل بأصدقائنا بالرسائل، ونجادل بلغة الكتب التي تزوِّدنا بآلاف الكلمات للتعبير، فنحن نتعلم لكي نعيش، لا لكي نرتزق، ولكي ننمو، وأخيرًا لكي ننقل ما تعلمناه إلى الحياة بحيث ترتبط المعارف الجديدة بالنمو النفسي.
وهناك التعلم الآلي الذي نراه في الطفل القبطي يستظهر التراتيل القبطية في الكنيسة ولا يدري معناها، وفي الطفل الهندي المسلم يستظهر القرآن ولا يفهم كلماته، وهذا الدرس آلي، ويجب أن نحذر حتى لا تكون سائر معارفنا من هذا الطراز، والواقع أنه ليس قليل منها يُعَدُّ في هذا الطراز.
- (١)
اللجاة أو السلحفاة البحرية تبيض على الساحل.
- (٢)
السرطان الذي يتسلق نخيل الجوز يبيض في الماء.
- (٣)
للقيطس خمس أصابع.
- (٤)
لحشرة الخشب في جزيرة كريستماس ١٩ زوجًا من الأرجل.
فهنا أربع حقائق يقرأها القارئ فيقول: ما المغزى؟! ولماذا أهتم إذا كانت لهذه الحشرة ١٩ أو ١٨ زوجًا من الأرجل.
وهو صادق في هذا الاعتراض، وهذه المعارف لو كلفناه استظهارَها لكانت آلية لا ينتفع بها، ولكني أنا أهتم بها؛ لأني اهتممت بنظرية التطور منذ أربعين سنة، ولكل حقيقة من هذه الأربع مغزًى في هذه النظرية؛ لأن اللجاة كانت من حيوان اليابسة الذي نزل إلى البحر، ولا تزال أولادها تحتاج إلى اليابسة، والسرطان بحري الأصل، ولذلك لا يزال يبيض في الماء، والقيطس على الرغم من أنه يعيش في الماء إنما هو حيوان يابسة في الأصل، له خمسة أصابع مثل جميع حيوانات اليابسة؛ كالإنسان والبقرة والغزال. وأخيرًا هذه الحشرة التي تأكل الخشب في جزيرة كريستماس كانت في الأصل كالجنبري الذي لا تزال له ١٩ زوجًا من الأرجل، وجميع هذه الحقائق توضح نظرية التطور وتُبَيِّن الاشتراك العضوي بين الأحياء فلها قيمتها الكبرى عندي، ولكن ليست لها مثل هذه القيمة عند غيري.
وعلى هذا الأساس يجب أن تكون كل دراسة عضوية، وعلى هذا الأساس أيضًا يجب أن ننقد البرامج والكتب التعليمية في المدارس والجامعات والثقافة عامةً، فيجب أن نسأل: ما هي القيمة العضوية في مجتمعنا الحاضر لهذا الكتاب أو لهذه المادة الدراسية في المدارس الابتدائية الثانوية أو الابتدائية، أو لهذا الاتجاه الثقافي في إحدى الكليات؟
فالفائدة الأولى التي نتبعها في كل دراسة للفرد أو للمجتمع هي أن تتصل هذه الدراسة اتصالًا عضويًّا بهذا الفرد أو بهذا المجتمع.
- (١)
شاب في سن المراهقة يهتم بقراءة كل ما يتصل بالنمو الجنسي، ورجل في سن الأربعين أو الخمسين لا يهتم بهذا الموضوع.
- (٢)
شاب يخشى عدوى التدرن لضعف حقيقي أو وَهْمِيٍّ في رئتيه يقرأ كتابًا عن الدرن، وغيره السليم يرفض قراءته.
- (٣)
في مدة الحرب نتهافت كلنا على قراءة الصحف، وقد يقرأ بعضنا الكتب عن هتلر وتشرشل، وفي أيام السلم لا نجد مثل هذا التهافت.
- (٤)
في الأزمات السياسية الاقتصادية تكثر النظريات، ويعود كل منا اقتصاديًّا أو سياسيًّا، وفي غير الأزمات تؤدي الطمأنينة إلى ركود.
فهنا ظروف أزمة جعلتنا نهتم، وأدى الاهتمام إلى الدرس؛ أي إنه وُجِدَتْ عندنا عاطفة الاستطلاع فأوجدت الرغبة في الدراسة.
ولكن ماذا نفعل إذا وجدنا شابًّا راكدًا لا ينبعث للدرس؟
يجب أن نثير إحدى عواطفه؛ أي: نبحث عن شيء مكظوم في نفسه ثم نرشده إلى دراسة تتصل اتصالًا عضويًّا بهذا الشيء، ولكل منا كظوم مختلفة تجد الحل أو التخفيف في الدراسة، القاعدة الثانية للدرس هي أن نهتم؛ أي: نجعل الدراسة تتصل بعواطفنا وكظومنا.
وكما أننا لا نأكل ونهضم تمامًا إلا إذا اشتهينا الطعام، كذلك يجب ألا ندرس إلا إذا اشتهينا الدراسة؛ لأن كل شيء ندرسه بلا اشتهاء سرعان ما ننساه فتكون دراستنا عقيمة، وليست النفس لوحة فتوغرافية يُكْتَب فيها كل ما يمر بها؛ إذ هي في الواقع اختيارية؛ فإني أستطيع أن أَذْكُر حادثًا مضى عليه ثلاثون سنة ولا أَذْكُر ما حدث أمس؛ لأن الحادث الأول قد أثار عاطفة قوية فثبت، بل أحيانًا يثبت أكثر مما نحب، كما يحدث في ذلك المريض النيوروزي الذي يفتأ يذكر مظلمة قديمة قد مر عليها ربع قرن، أما الحادث الثاني فلم ألتفت إليه لأنه لم يتصل بعاطفتي، والنسيان هو نشاط إيجابي يراد منه ألا تزدحم الذاكرة بأشياء ليس لها قيمة عضوية للنفس.
فالقاعدة الثالثة للدرس هي أن نشتهيه كما تشتهي المعدة الطعام.
وما دمنا قد ذكرنا المعدة والهضم، فيجب أن نذكر أن الذهن يتخم كما يتخم المعدة؛ ولذلك تحتاج صحتنا النفسية أن تكون الوجبة الذهنية خفيفة حتى نجد الوقت للهضم أو التمثيل. وكما أننا لا نستطيع أن نأكل في يوم ما يكفينا أسبوعًا، كذلك يجب ألا ندرس في يوم ما كان يجب أن ندرسه في أسبوع.
وعلى هذا المبدأ يكون من الأفضل؛ إذ أردنا مثلًا استظهار قصيدة تحتاج إلى ساعتين، أن نقسم هاتين الساعتين على يومين بدلًا من جمعها في يوم واحد؛ لأننا بهذه الطريقة نتيح للذهن الهضم والتمثيل.
فالقاعدة الرابعة للدرس هي أن نجعل الوجبة الذهنية خفيفة، وألا نجمع بين وجبتين حتى لا نتخم.
ويجب أن نعرف أنه ليست لنا ذاكرة واحدة بل ذاكرات عديدة، فلنا ذاكرة للأرقام وأخرى للوجوه، وأخرى للأسماء، وأخرى للغة العربية وأخرى للغة الفرنسية، إلخ، وهذه الذاكرات لا تتبادل؛ فإذا نبغنا في المرانة الحسابية فلن يكون لهذا أي أثر في المرانة اللغوية؛ ومن هنا لا نستطيع أن نُقَوِّيَ الذاكرة بمادة معينة كأن نقول: إن الرياضيات تعلمنا التفكير الحسن؛ لأننا عندما ننتقل منها إلى الطب أو الاجتماع أو الجغرافيا أو الكيمياء لن نجد لهذه المرانة أية فائدة، وقد يَحْدُث قليلٌ من التداخل في هذه الذاكرات، ولكنه قليل جدًّا لا يؤبه به.
وهذا حسن؛ لأنه إذا كان هناك تداخُل لما استطاع الشابُّ الذي تعلم الكتابة بالكتاب أن يعرف على البيان؛ لأن أصابعه التي تعلمت الدق على الآلة الأولى يجب أن ننساه عندما تدق على الآلة الثانية.
فالقاعدة الخامسة للدرس أن المرانة التي نحصل عليها في مادة ما لا تنتقل إلى مادة أخرى.
وعندما نتعلم لغة أجنبية أو حتى لغتنا نعرف أننا نقرأها بسهولة ولكنا نكتبها بصعوبة، فالقراءة هنا معرفة راكدة سلبية، والكتابة معرفة عاملة إيجابية.
فإذا قرأنا كتابًا فلن تكون معرفتنا بالقدر الذي نعرفه به إذا عمدنا إلى تلخيصه مثلًا، فلكي ندرس يجب أن نكتب الملخصات، وتفسير هذا سهل، فأنا حين أقرأ أستعمل عيني ولساني، ولكني حين أكتب أستعمل عيني ولساني ويدي، ثم حين أقرأ لا أبذل أيَّ مجهود للاستذكار، ولكني حين أكتب أستذكر.
فالقاعدة السادسة للدرس هي أن أزيد الكتابة على القراءة.
والتشتت الذهني في الدرس أو العجز عن حَصْر الانتباه في بؤرة يعود إلى أسباب مختلفة، منها:
أننا شرعنا في الدرس وبين يدينا موضوع لم يتم، كأن يحدث أننا نوينا كتابة خطاب ولم نكتبه أو نريد مقابلة لم نتمها، أو كنا نقرأ قصة ونشتاق إلى متابعة فصولها؛ أي إنَّ في النفس كظمًا يحتاج إلى التفريج، ولكن يجب ألا نخلط هذا التشتت بالصدود الذي نُحِسُّه أحيانًا في بداية الدرس؛ لأنه يكاد يكون عاديًّا في كل شخص، وعندما نشرع في الدرس يزول.
وأحيانًا نحس تقلقلًا على مقعدنا، وهو يدل على أننا نرغب في الحركة أو الرياضة؛ أي إنه قوة مدخَرة كالحصان الذي يتقلقل في مربطه يريد العَدْو والانطلاق، وهذا التقلقل كظم، وهو كثير عند الشبان.
فالقاعدة السابعة للدرس أن نتخلص من الكظم المانع.
وما هي أحسن الوسائل للدرس؟
-
(١)
أن نجعل الدرس عادة في أوقات معينة حتى لا نعتمد على مجهود الإرادة ولكن على ميعاد الساعة.
-
(٢)
أحسن الأوقات للدرس هو الصباح؛ لأن القوة متوافرة، ولأن أحلام الليل قد خففت الكظوم المانعة بالأحلام حتى حين لا نذكر هذه الأحلام.
-
(٣)
أحيانًا يكون الدرس مفيدًا في المساء؛ لأنه يجمع إيحاءات النهار، ولكن ليس هذا لكل الناس؛ لأن هذه الإيحاءات قد تكون مُثَبِّطة.
-
(٤)
نوم القيلولة يفيد في الدرس؛ لأننا نكسب به صباحًا آخَرَ توافر فيه القوة.
-
(٥)
أسوأ الأوقات للدرس هو بين الساعة الأولى والساعة الرابعة بعد الظهر؛ لأن النفس والجسم في استرخاء.
-
(٦)
يجب أن نَحْذَر النفس الأخير في الدرس؛ أي: يجب ألا نحمل أنفسنا على النشاط بعد التعب والإعياء؛ فإننا ننجح في تحقيق هذا النشاط ولكن العاقبة انهيار نفسي سيئ.
فالقاعدة الثامنة للدرس هي أن يكون عقب النوم صباحًا أو عصرًا، وأن نَجْعَلَه عادة مع تجنب التعب.
كل درس جدي مُتْعِب يحتاج إلى حضانة هي مدة الهضم والتمثيل، وإذا كانت المشكلة التي ندرسها شاقَّةً فقد تبلغ الحصانة أسبوعًا أو شهرًا، وفي هذه المدة الطويلة نستعين بالكامنة (العقل الكامن) الذي يستشير اختباراتنا الماضية فننتفع بها، وكأننا ننظر إلى المشكلة من نواحٍ مختلفة، أو كأن جملة أشخاص يعالجونها معنا.
فالقاعدة التاسعة للدرس ضرورة الحضانة لكل درس جدي.
من شأن المواد التي ندرسها أن تُتَحَيَّز مكانًا معينًا، فقد ندرس قواعد النحو مثلًا، ومع أننا جميعًا نسلم بأن الغاية منها هي الكتابة الصحيحة، فإننا لا ننتفع بها مهما أَتْقَنَّا أصولها ما لم ننقلها إلى المرانية الكتابية.
وهكذا الشأن في كل دراسة يجب أن ننقلها من حيزها التعليمي الضيق إلى الحياة، ويجب أن يكون هذا النقل الامتحان الحمضي لكل مادة تُدْرَس، هل هي تُنْقَل إلى الحياة؟ أم تبقى مَعارِفَ محنطة في رءوسنا، ويَصْدُق هذا على الفرد في تثقيفه الذاتي وعلى المدرسة والجامعة.
فالقاعدة العاشرة للدرس هي ضرورة الاتصال بين العقل والعمل؛ أي: بين الدرس والحياة، ولا قيمة لأي تَعَلُّم بغير هذا النشاط.