التأليف أهم من التحليل
شخصية فرويد هي أضخم شخصية في السيكلوجية العصرية؛ إذ هو كولمبس الذي كشف الأرض المجهولة وخَطَّطها ورَسَمَ معالمها، وهناك عشرات من الكلمات التي تجري على ألسنة السيكلوجيين تعزى إليه في معانيها ومبانيها، ولكن؛ لأن هذه الشخصية ضخمة؛ فإنها تلقي ظِلَّها على كثير من حقائق هذا العلم الجديد وتحول دون النور الذي يزيد الفهم والمعرفة، ذلك أن كثيرًا من الباحثين في هذا العلم يُحِسُّون رهبة عند مجرد ذِكْر اسم فرويد، ويسلمون بكل ما قال، كما لو كانوا يُسَلِّمون بعقيدة موروثة وليس برأي يُبْحَث ويُنَاقَش، فمن ذلك عقيدة مركب أوديب، ومن ذلك أيضًا هذا الاهتمام الكلي بالتحليل النفسي دون التأليف النفسي.
وليس هناك من يشك في قيمة التحليل وضرورته كي نعرف الكظوم والتوترات والمخاوف المختبئة في النفس حين تلتوي وتتسلل في طرق مموجة إلى الخروج والبروز فتشوه الشخصية وتؤذيها، والفضل في كل ذلك لفرويد، ولكن فرويد في تأكيده للضرر الفادح الذي يحدث من الكظم قد حملنا على أن نُكْبِرَ من شأن الحرية والانطلاق بالاستسلام للرغبات والشهوات والنزوات، وهذا الاتجاه يؤدي في النهاية إلى إيثار الفوضى على النظام، والنزوة الطارئة على التعقل البصير، والاستهتار على التحفظ. وبدهي أن فرويد لم يقصد إلى هذا، ولكن تأكيده لضرر الكظم كثيرًا ما يحمل قارئه على هذا الاستنتاج.
ولكن الكظم، في حدود معقولة، مفيد؛ لأنه بخار محبوس إذا أحسن صاحبه التصرف به استطاع توجيهه للعمل النافع على أنه عاطفة تُحَرَّك وتُدْفَع وتَنْشط، وليست المطامع والآمال سوى كظوم يبعثها فينا الوسط الذي لا نرتضيه.
وعندما نتأمل التحليل النفسي نجد أن قيمته كبيرة للباحث الذي يقوم بالتحليل؛ ذلك لأنه يزداد توسعًا وفهمًا كلما تَعَمَّق في التحليل، ولكن قيمته للمريض؛ أي: للكاظم المتوتر الملتوي الشاذِّ، ليست كبيرة، إلا إذا كان هو أيضًا قد استحال إلى هاوٍ للسيكلوجية مشغوف بالبحث، ذلك أن المريض يحتاج إلى التأليف أكثر مما يحتاج إلى التحليل، بل تستطيع أحيانًا أن نُهْمِل التحليل ونعمد مباشرة إلى التأليف.
اعْتَبِر رجلًا يُدْمن التدخين أو الشراب، أو هو قد انحرف في سلوكه الجنسي، أو قد وقع في أسطورة اخترعتها كامنته كي يكافح بها الواقع ويلغيه، ففي كل هذه الأحوال نُحْسِن كثيرًا إذا أخذنا من التحليل بأقله ومن التأليف بأكثره؛ أي: بدلًا من أن ننظر للعواطف باعتبارها مريضة مُعْوَجَّة لحادث سابق إذا نحن كشفنا عنه للمريض تَنَبَّهَ إلى وجدان جديد وتخلص من اعوجاجه، وبدلًا من هذا التحليل المضني، نعمد مباشرة إلى هذه العاطفة المعوجة نقومها؛ أي: إننا ننظر إلى الاعوجاج النفسي باعتباره عادة عاطفية سيئة أو اتجاه نفسي غير سليم، ونقنع بأن نغير العادة السيئة بعادة حسنة؛ أي: نطلب من المريض الشاذِّ؛ أي: المعوج أن يتغير في أسلوبه النفسي.
ونحن في سلوكنا العاطفي نتعود عادات معينة، وكما أن هناك رجلًا يسوق أتومبيله سياقة حسنة بعادات رسخت فيه وآخر يسيء في سياقته بعادات سيئة رسخت فيه، كذلك هناك من يسلك في الدنيا بعواطف اعتادت عادات حسنة أو سيئة، والتربية الحسنة هي في النهاية غرس العادات العاطفية الحسنة.
-
السكينة وقت الاضطراب وضد هذا التهيج وقت الاضطراب.
-
التمالك عند الغضب وضد هذا الاندفاع عند الغضب.
-
الشجاعة في المواقف الخطرة وضد هذا الجبن في المواقف الخطرة.
-
التعاون والحب في المعاملة وضد هذا المباراة والتحاسد في المعاملة.
-
الجَلَد على التعب والسأم وضد هذا الفرار من التعب والسأم.
-
البشاشة عند الحديث وضد هذا التجهم عند الحديث.
-
حب الترتيب والنظام وضد هذا الميل إلى الفوضى.
-
الاستبشار بالدنيا وضد هذا التشاؤم بالدنيا.
وصحيح أننا حين نربي عواطفنا نحتاج إلى الكظم، ولكنه كظم غير مرهق؛ لأنه يقيد حريتنا بعض الشيء، ونحن نعتاده ونرتاح إليه؛ لأن المجتمع لا يطيق منا أن نعامله بمطلق حريتنا؛ أي: بعواطفنا الحرة، ونحن نكسب بهذه القيود الصغيرة اتزانًا عاطفيًّا يُيَسِّر لنا العمل في مجتمع متمدِّن كثير القيود؛ أي: مجتمع غير فطري؛ إذ أننا لا نعيش في الغابة ولا نستطيع أن نستسلم لعواطفنا الحرة.
ولذلك يجب أن نجعل التأليف النفسي في المقام الأول نهدف منه إلى إيجاد عادات عاطفية جديدة لا تصطدم بالمجتمع، والهدف الأخير من التربية هو تكوين الشخصية التي تتألف من عادات عاطفية اجتماعية حسنة، وخير لنا أن نقول للمريض أو الشاذ أو المعوج: إن حالته السيئة هذه ترجع إلى عادات عاطفية سيئة تحتاج إلى التغيير، من أن نقول له: إنها ترجع إلى مركبات سيئة تحتاج إلى التحليل المتعب الذي يتطلب وقتًا طويلًا وبحثًا في الأعماق، ولنضرب على ذلك مثلًا.
رجل قد اعتاد الشراب في المساء حتى كاد أن يتلف صحته ويفقر أهله، وعند التحليل نجد أن الذي أوقعه في هذه العادة زوجة منافرة لجوج قد جعلت البيت حافلًا بألوان العذاب المادية والمعنوية لهذا الزوج، بحيث صار عندما تحين عودته في المساء إلى البيت يُحِسُّ ضيقًا وكراهة واغتمامًا منشؤها بالطبع تلك الكظوم التي بعثتها فيه هذه الزوجة، وهو يجد في طريقه الدواء، أي: الخمر، التي يفرج بها عن هذه الكظوم، فينهض من الكأس وهو مرتاح ويدخل بيته مسرورًا.
فإذا عمدنا إلى التحليل النفسي اضْطُرِرْنا إلى أن نوضح لهذا الزوج مقدار التعاسة النفسية التي أحدثتها زوجته له، وقد يكون لهذا الإيضاح عاقبة سيئة في العلاقات الزوجية بينهما، ولكن إذا تركنا التحليل وعمدنا إلى التأليف فإننا نُعَجِّل له الشفاء دون أن نغرس فيه مركبات سيئة ضد زوجته، كأن نبحث له عن عمل أو نشاط في المساء يصح أن يكون، أو يقارب، هواية يشغف بها وتشغله عن الخمر، كالانضمام إلى أحد الأندية، أو تنشيط الضيافة في منزله حتى يجد من الزائرين المحبوبين ما يربطه بالبيت، أو نحمله على أن يتناول غداءه في الساعة الخامسة من المساء، حتى إذا شبع كانت معدته ممتلئة في ميعاد الشراب فتغنيه عنه، ونحن هنا نُعَوِّدُه عادات جديدة تبعث فيه عواطف جديدة يرتاح إليها دون الحاجة إلى الخمر، وهذا بالطبع لا يَمْنَع النصح للزوجة وتبصرتها على انفراد بعواقب سلوكها.
أو اعتبر شابًّا مراهقًا قد وَقَعَ في العادة السرية وانْغَمَس فيها إلى حد الضرر. فإن التحليل هنا يكاد يكون عقيمًا، ولكن التأليف مفيد؛ فإننا مثلًا نهيئ له جوًّا اجتماعيًّا يَحْرِمه الانفراد الذي يتيح فرصة الممارسة لهذه العادة، وأيضًا نساعده في دروسه حتى يُسَرَّ بالنجاح؛ فإن العادة السرية كثيرًا ما تنشأ من الاغتمام للتخلف أو الفشل في الدروس، والشاب يلجأ إليها كي يُرَفِّهَ عن نفسه ويُسَرِّي عنها هذا الاغتمام. فإذا أتحنا له النجاح بمعلم خاصٍّ فإن إلحاح هذه العادة عليه يخف، أو نحمله على الرياضة في نادٍ يجد فيه الأقران والحديث والمباراة والتعاون؛ أي إننا نوجهه وجهة اجتماعية بدلًا من الوجهة الانفرادية الانعزالية التي انغمس فيها وأصبحت جوًّا مهيئًا للعادة السرية، بل كذلك الرقص يؤلف شخصيته من جديد ويحمله على التفكير الاجتماعي الحسن، ونحن بهذا كله نُرَبِّي عواطفه ونُكْسِبه أسلوبًا جديدًا للسلوك ينتقل به من الانفرادية إلى الاجتماعية ومن المرض الجنسي إلى الصحة النفسية، وهذا هو ما نعني به من عبارة التأليف النفسي الذي يجب أن يأخذ في كثير من الأحوال، مكان التحليل النفسي.
وأرجو القارئ ألا يفهم أني أستصغر قيمة التحليل النفسي، ولكني أجد من ناحية أنه شاقٌّ جدًّا، إلا في حالات تكاد تكون استثنائيةً حين يهبط المحلِّلُ مصادفةً على حلم في النوم أو اليقظة يكشف فجأة عن العقدة؛ أي: المركب الذي أدى إلى المرض أو الشذوذ أو القلق، وكثيرًا ما يسأم المريض من طول المدة التي يحتاج إليها التحليل، وقد يبعثه السأم على تركه، ومن ناحية أخرى أجد أن هناك اقتناعًا بأن التحليل هو الألف والياء مع أنه ليس كذلك؛ لأن المريض في كثير من الحالات بعد أن يعرف العقدة السيئة التي انتهت به إلى حالته لا يستطيع أن يبرأ من هذه الحالة؛ لأنه قد تعَوَّد منها عادات عاطفية نفسية يجد هو نفسه فيها قسرًا لا فكاك منه؛ لأن للعادة قوة كبيرة، ثم هناك شيء آخر يجعل فائدة التحليل مقصورة، هو أن المريض الذي ينتفع من التحليل يجب أن يكون مستنيرًا قادرًا على التعمق، بل قادرًا على أن يُفَلْسِف، وهذا المريض نادر بالطبع.
وكثيرًا ما أُحِسُّ عندما أجد هوة العمق التي يحاول أن يتعمقها المحللون أني أحب أن أقول تلك الكلمة التي قالها إسحق الموصلي — على ما أظن. فقد وَجَدَ شاعرًا يتعمق المعاني ويُعَقِّدها ويشدها كأنه يصنع منها شبكة أو تيهًا فقال له: «الشعر أيسر من هذا.»
أجل، إن النفس البشرية أَيْسَر من هذا ولا تحتاج إلى كل هذا التعمق، وحسبنا منها أن نوجه ونؤلف ونُعَيِّن الخطط لبناء الشخصية المفككة، ونحن بهذا نجد السرعة التي تحتاج إليها كما نجد الاستبشار والحماسة من المريض.