الشخصية السيكوبائية
حين نتحدث عن الانحرافات الجنسية أو عن الإجرام نيوروزًا أو سيكوزًا نجد أننا نتمحل وأننا نعجز عن أن نصوغ كثيرًا من الانحرافات الأخلاقية في قالِبَي النيوروز أو السيكوز.
ذلك أننا نلتقي بناس كثيرين يعيشون في المجتمع ويستمتعون بالكرامة والوجاهة أو الثراء والمركز، نحادثهم فنجد العقل المتزن والاهتمامات السياسية أو الاجتماعية، لهم عائلات يعولونها وأولاد يهتمون بمستقبلهم، وغير ذلك مما يدل على الحياة السوية الخالية من الشذوذ، ثم نفاجأ يومًا بأن هذا الوجيه الذي كنا نعرف فيه أخلاقًا سوية واتزانًا نفسيًّا، بل وروحًا كريمة قد ضُبِط في جريمة الشذوذ الجنسي مع صبي قاصر، ثم تُثْبِت التحقيقات أنه عريق في هذه الجريمة التي مارسها منذ عشرين أو ثلاثين سنة، وأن له عادات بشعة في الشذوذ الجنسي مع الصبيان، وقد استطاع طوال هذه السنين أن يخفي جرائمه؛ لأنه لا يزال متمتعًا باتزانه، يستطيع التفكير الحسن.
ثم نجد لغيره شذوذًا آخر مع البغايا، كأن يضربهن ويؤلمهن بما يسمى السادية، أو يطلب هو أن يضربنه ويؤلمنه بما يسمى المازوكية.
ونجد غيره يَنْهَم إلى الجنس الآخر، ويتكلف التكاليف الباهظة كي يصل إلى غايته، حتى ولو اقتضت هذه الغاية خيانة أصدقائه وتعرض عائلاتهم للتشتت عندما تنفضح علاقاته الجنسية، وهو يجري وراء غايته كأنه في حمى.
وأحيانًا نجد رجلًا ثريًّا ليس في حاجة إلى المال، ولكنه مع ذلك يَتْعَب ويعرق كي يَسْرِق أفراد عائلته: إخوته أو أقربائه الذين يشتركون معه في تجارة أو زراعة، وكي يصل إلى غايته يرتكب التزوير والنصب، وإلى هذه الأخلاق لا يتورع من الذهاب إلى المسجد أو الكنيسة للصلاة ولا يَعُدُّ نفسه مجرمًا.
وأحيانًا نجد سيدة وقورة لها زوج وأولاد، وهي تدير بيتها على خير ما يُطْلَب منها، ثم يَمُرُّ على مسكنها بائع الطماطم فتشتري منه رطلين، وقد لا يزيد ثمن الرطل على نصف قرش، ولكنها مع ذلك تغافل البائع وتسرق طماطمه، ثم قد تذهب إلى مخزن تجاري كبير وتشتري من الأقمشة ما تبلغ قيمته عشرين جنيهًا، ومع ذلك تمد يدها إلى منديل لا يزيد ثمنه على عشرة قروش فتسرقه، وهذا هو ما يسمى «كليبتومانيا».
وأحيانًا تجد رجلًا أنيسًا يحب الكتب ويقتنيها ويبحث موضوعاتها في ذكاء وخبرة، ولكنه مع ذلك مُتَعَطِّل، لا يثبت على عمل، ولا يثابر على إنجاز مهمة، وهو يتنقل في سهولة من عمل إلى آخر كأنه متشرد، ولا يبالي أن يكسب له غيره ويتعب، بينما هو يحصل على الثمرة، ويقضي وقته على القهوة ينفق ما حصل عليه؛ فإذا قصر هذا الذي يتعب له سبه، وقد يتعدى عليه بالضرب، كأن له حقًّا عليه في أن يعوله.
فهؤلاء جميعًا وأمثالهم، يسلكون سلوكًا عاديًّا ليس فيه ما يُلْفِت النظر، عواطفهم عادية ليس بها كرب أو ضيق، وتفكيرهم سليم ليس فيه خيالات جنونية، ولكنهم في ناحية معينة، يخفونها عنا أو لا يخفونها، يسلكون سلوكًا غير اجتماعي يؤذي الناس أذًى عظيمًا، ومن الإسراف أو التسامح أن نقول: إن بهم نيوروزًا أو سيكوزًا.
ولهذا السبب أُطْلِقَ على هؤلاء اسمُ السيكوبائيين؛ أي: أولئك الذين يتسمون بجنون أخلاقي، حتى لَيكاد أحدهم يحترف الكذب أو التزوير أو الوقيعة، فيكون بلاء علينا جميعًا، ولكنا لا نستطيع أن نَزُجَّه في مارستان أو سجن؛ لأنه — بذكائه — يحرص على ألا يقع في مخالفة خطيرة، وإذا وَقَعَ فيها حرص على أن يتستر، وقد روى الدكتور صبري جرجس في كتابه عن السيكوبائية أمثلة كثيرة من هؤلاء الشاذين.
وأول ما نجد من الصفات عند هؤلاء الشاذين مما يفتح بصيرتنا إلى تَفَهُّم حالتهم؛ أنهم مارقون في ذاتية مسرفة، فشعارهم: أنا، أنا، أنا، يبغون النجاح وأحيانًا يتفوقون، وليس للغير أَيَّة مكانة في حسابهم، وهم على استعداد لأن يدسوه، وصفة أخرى تلازمهم هي الاندفاع وجَحْد العقل، وصفة ثالثة هي نقص الاتزان الأخلاقي الاجتماعي؛ فالقيم والأوزان الاجتماعية لا تحتل مكانها في نفوسهم، فلا يبالي الرئيس السيكوبائي أن يفصل الفراش من وظيفته؛ لأنه أهمل إهمالًا بسيطًا، وأولاد هذا الفراش وزوجته ليس لهم مكان في نفس هذا الرئيس، وصفة أخرى هي أن هؤلاء السيكوبائيين لا يعرفون هدفًا للحياة، فهم يعيشون جزافًا، وحاضرهم يغمر كل شيء، ليس للمستقبل عندهم قيمة كبيرة.
والآن اعْتَبِرْ أيها القارئ هذه الصفات كلها: ذاتية مسرفة تقول في كل شيء: أنا، واندفاع بلا تعقل، ونقص في الاتزان الأخلاقي الاجتماعي، وانعدام الهدف للحياة، وإيثار الحاضر على المستقبل.
اعتبر كل هذه الصفات ثم تأملها، ألست تجد أنها جميعًا صفات الطفل المدلل الذي نشأ على أن يقول: أنا، في كل شيء، ولا يعرف المسئولية ولا يبالي الغير ولا يفكر في المستقبل؟
ولكن الطفل المضطهد أيضًا، بل ربما أكثر، ينتهي إلى الشخصية السيكوبائية؛ لأنه في طفولته أُهِينَ وضُرِبَ وطُرِدَ وحُرِمَ، فاضْطُرَّ إلى اتخاذ أسلوب من المكر والخبث والسرقة والوقيعة والغش كي يحمي نفسه إزاء الاضطهاد، ثم بقي معه هذا الأسلوب ورَسَخَ فهو يُعَامِل المجتمع به ويعود مجرمًا يعامل هذا المجتمع بالإجرام الخفي كما كان يعامل زوجة أبيه.
هذا التعليل يفتح بصيرتنا للفهم في مشكلة الشخصية السيكوبائية، ولكنه لا يوضح لنا كل شيء فيها.
- (١)
الطفل المدلل قد تَعَوَّدَ الأنانية وكراهة التحمل للمسئوليات، والمجتمع يصدمه من وقت لآخر صدمات مؤلمة، فهو يثور عليه ويتخذ أساليب سرية في هذه الثورة عليه، والإجرام بعض هذه الثورة.
- (٢)
الطفل المضطهد أكثر ثورة من الطفل المدلل، وأكثر مكرًا أو ميلًا إلى الأساليب السرية، فقد اضطهدته زوجة أبيه مثلًا، فتَعَوَّدَ — كي يعيش في بيت يكرهه — أن يحتال ويسرق ويغش ويمشي بالوقيعة؛ فإذا كبر بقيت فيه هذه الأساليب ضد المجتمع كما كانت ضد زوجة أبيه، فهو ثائر على المجتمع يُقْدِم على الجريمة بلا مبالاة؛ لأنه — في أعماق كامنته — ينتقم من المجتمع الذي يمثل زوجة أبيه.
- (٣)
كأننا نقول في هذين المثالين السابقين: إن التدليل والاضطهاد يُحْدِثان ثمرة مُرَّة في النفس تشبه الثمرة التي يحدثها مركب النقص، فنحن هنا إزاء حِقْد محتقن على المجتمع زُرِعَتْ بذوره في الطفولة، ولكن مركب النقص يُحْدِث ضررًا فادحًا واتجاهًا سيئًا في أكثر من ٩٠ في المائة من الحالات، ويُحْدث أقل من ١٠ في المائة من الأثر الحسن، كذلك التدليل والاضطهاد يؤديان إلى الضرر والسوء في نحو ٩٠ في المائة من الحالات؛ أي: يؤديان إلى الشخصية السيكوبائية: شخصية الإجرام الخفي أو الجنون الخفي، ولكن في ١٠ في المائة قد يؤدي التدليل والاضطهاد إلى الشخصية العبقرية؛ لأن الذكاء قد يُسْعِفُه هنا فلا تكون الثورة على أوضاع المجتمع تنتقد في تعقل وتبرز عيوبها في إيضاح.