إحدى الشخصيات السيكوبائية
هؤلاء المجرمون يعيشون بيننا ويقلقوننا، وجرائمهم خفية لا يُسْتَطاع الكشف عنها وفَضْحها، وهم في ظاهرهم عاديُّون سَوِيُّون لا يبدو عليهم أيُّ شذوذ، بل هم قد يحصلون على براعة فنية، يكْسِبون بها وينالون بها الاحترام؛ ومن هنا العجز؛ أي: عَجْز المجتمع عَنْ مَنْع شرورهم.
ولد منذ اثنتين وستين سنة في عائلة متوسطة من عائلات الصعيد، وجاء مولده بعد خمس بنات، وأبواه على شوق لأن يُنْجِبا بغلام، ثم عاملاه بتدليل مُسْرِف بحيث لم يكن يَطْلُب أيَّ شيء مهما كان باعِثُه من النزق إلا ويجده حاضرًا أمامه، وكان له خادم خاصٌّ يقضي به النهار كله، وهو يتنزه على حمار خاصٍّ.
وهو — أي هذا الغلام — كان مُزَوَّدًا بالنقود التي يبعثه نزقه على أن يشتري بها كل ما يرغب فيه، لا يجد معارِضًا أو مناقضًا، ومعنى هذا أنه عاش في السنين الخمس الأولى وهو يتمتع بسلطان مسْتَبِد، ثم نشأ بعد ذلك على أن يعامل كل الناس بسلطان مستبد يطلب الطاعة؛ فإذا لم يجدها بَطَشَ وضَرَبَ وعربد.
لم يعرف قَطُّ كيف يتعاون مع الناس، بل عرف فقط كيف يعاند ويبطش، ويُذْكَر عنه أنه حين كان في السابعة أو الثامنة من عمره كان يخرج إلى الشارع ثم يُعَاكِس المارة من نساء أو رجال، من الخلف، بأسلوب جنسي فاضح، ثم يسترضي أبواه ضَحِيَّتَه ويعتذران إليه، دون أن يعاقبا ابنهما حتى يَكُفَّ عن هذه العادة، وكان له كلب ضخم يُطْلِقه على المارة فيَعْقرهم أو يَنْبَحهم ويفزعهم، ثم يأتي أبواه فيسترضيان هذا الشخص، ونشأ بعد هذه التربية السيئة على ان يعتقد أو يُحِسَّ أن أفراد الجمهور إنما خُلِقُوا كي يكونوا مَوْضِع لَهْوه وضحكه، يضربهم ويضحك ويشتمهم ويضحك ويُطْلِق كَلْبه عليهم ويضحك، ثم يُحِسُّ أيضًا أن له الحق في أن يطلب كل ما يَدْفَعه النَّزَق إلى طلبه؛ وبذلك تَكَوَّن له أسلوب هو أسلوب حياته الذي لا يزال ملازمًا له إلى الآن في ١٩٤٧ وهو في الثانية والستين من عمره، فقد أدى هذا التدليل المُسْرِف إلى أنه كان يضرب أخاه الصغير، بل كان يضرب أمه بالعصا حتى كان يجرحها، ذلك أنه تعوَّد ألا يقول له أحد: لا، فلما بلغ السابعة عشرة أو الثامنة عشرة لم تَعُدْ أمه قادرة على أن تلبي كُلَّ طلباته فكان يضربها باستمرار، وكانت تلمذته في المدرسة هي التربية الوحيدة التي انتفع بها قليلًا؛ لأن زملاءه من التلاميذ أَجْبَرُوه على أن يسلك في معاملتهم بشيء من اللياقة المتمدنة، ولكن هذا السلوك لم يستطع أن يتغلب على أسلوب الطفولة الذي تعلَّمَه، فكان إذا خرج من المدرسة وعاد إلى البيت أثار حربًا على أمه وإخوته يشتم ويضرب ويؤذي ويحطم، ثم تزوج بعد ذلك فلم يَمْضِ شهرٌ على زواجه حتى كان يضرب زوجته بمثل ما كان يضرب أمه في استهتار عجيب، وهذا إلى تعاطي الخمور إلى حد الإدمان، واصطدم ذات مرة بوالد زوجته فضربه أيضًا، وبقي بعد ذلك نحو أربعين سنة وهو يذكر هذه القصة ويشرح تفاصيلها، سواء أكان في صحوه أم سكره، ويضحك مبتهجًا بأنه ظفر بخصمه وتغلب عليه.
وأغرى أخاه الأصغر على أن يكتب خطابات بذيئة إلى أقاربه، وهو يوهمه أنه يؤدي عملًا حسنًا بها، وكان أخوه دون السن التي يستطيع فيها التقدير فكتب هذه الخطابات، ثم عَرَفَ بعد ذلك أن ذلك الشقيق الذي أغراه بكتابتها بعث يعتذر في اليوم نفسه إلى جميع مَنْ كَتَبَ إليهم ويلعن أخاه لأنه كتبها، وكان في كل هذا يسلك في أسلوب سيكوبائي عجيب!
وحانت له فرصة فَسَرَقَ مصوغات والدته وباعها، ولم يستطع أحد من إخوته أن يحمله على رد هذه المصوغات أو أن يعرضه للعقوبة، ذلك أن إخوته كانوا حسني التربية اجتماعيين، يحب بعضهم بعضًا؛ لأنهم لم يعرفوا التدليل مثله.
بل الحق أن من يتأمل هذا الشخص يَجِدْ أنه ارتكب السرقة أكثر من عشرين مرة، فسرق أمه وسرق إخوته، بل كان يسرق المزارعين، ثم مع ذلك كان يفخر بهذه السرقات، وكانت له أخت فقيرة لم يتورع من أن يسرق منها نحو ثلاثين جنيهًا مما يشبه خيانة الأمانة، وهذا في الوقت الذي كان أحد إخوته الآخرين يتبرع لها من ماله الخاص بنحو ستين أو سبعين جنيهًا.
وكان يمارس شذوذًا جنسيًّا خطرًا، ولكنه — مثل جميع السيكوبائيين — كان قادرًا على ستر جرائمه فلم يفتضح، وكان بعد ذلك بسنوات يقص جرائمه هذه وهو يضحك ثم يضحك ثم يضحك. ذلك أن أسلوب الطفولة الذي تعلمه حين كان يدللـه أبواه في السنين الأربع الأولى من عمره قد لازمه وما زال يلازمه إلى الآن.
ولكن مع هذا الذي ذكرنا، هناك أفظع وأبشع، ففي ذات مساء كانت أم زوجته في بيته تزور ابنتها، وباتت ليلتها في بيته فرأى الفرصة سانحة لأن يضحك أضخم ضحكة في حياته، فشرب حتى سكر — كما يفعل المجرمون العتاة كي يخفوا جرائمهم — ثم فسق بحماته اغتصابًا، وهو إلى الآن يقص هذه القصة ثم يضحك ويضحك ويضحك، ولا يبالي أن يشرح كيف كانت زوجته المسكينة تقاوم وتحاول حماية أمها، بل إن هذا الأسلوب نفسه، أسلوب النزق إلى حد الإجرام قد عامل أولاده به، فقد كان له أربعة صبيان حاول أن يمنعهم من أن يتعلموا؛ وذلك لأنه وقف منهم موقف العناد كما لو كان طفلًا يعاند أطفالًا، فقد اضْطُرَّ أحدهم إلى الانقطاع عن الجامعة؛ لأنه رفض أن يجدد له تذكرة الاشتراك في الأتوبوس، أو يعطيه نفقات الانتقال اليومي من البيت للجامعة، وبَلَغَ من استهتاره أن حَرَمَ ابنًا آخر له من نفقات تَعَلُّمه في إيطاليا، حتى اضْطَرَّه أن يجوع ويقطع خمسين كيلو مترًا على قدميه لأنه لا يجد أجرة القطار.
وكان شقيقه يُبْصِر بحالته ويَفْطِن إلى حَدٍّ ما للبواعث التي حَمَلَتْه على هذا السلوك، أي: هذه الجرائم، وكان هذا الشقيق يرفق به ويستصلحه ويُبْدِي له العطف، ومع ذلك جاء آخر أيامه يحاول أن يسرقه ويدبر له المعاكسات في الخفاء.
عاش اثنتين وستين سنة وهو سلسلة متصلة من الجرائم البشعة، ولكن يد القانون لم تَمْتَدَّ إليه قط؛ لأنه بما وصل إليه من تعليم — إذ كان مهندسًا — استطاع أن يُخْفِيَ جميع جرائمه، وصحيح أن أفراد عائلته — بل أقاربه — قد قاطَعُوه حتى بات منعزلًا في أواخر أيامه، ولكن هل هذا الجزاء يكفي مثل هذه الحياة الإجرامية؟
ومع كل هذا الذي ارتكبه هو معذور؛ لأنه دُلِّلَ، وأَسْرَفَ أبواه في تدليله، حتى أصبح سيكوبائيًّا لا يُحِسُّ أية مسئولية اجتماعية، ولا يبالي أيَّ أذًى ينزله بالناس. لا، بل حتى بأمه وإخوته وزوجته وأولاده، فضلًا عن الغرباء، ولا يعرف معنًى للبر أو الشرف، فالمسئولية على أبويه وليست عليه.
ونحن مضطرون إلى أن نعيش مع هؤلاء السيكوبائيين عاجزين عن أن نُعَيِّنَ جريمتهم أو جنونهم، ومرجع هذا تدليلٌ وَجَدَهُ هؤلاء المساكين في الطفولة عَيَّنَ أسلوبًا في التصرف ثم تَحَجَّرَ هذا الأسلوب حتى بقي إلى شيخوختهم لا يعرفون كيف يغيرونه.
وليس في هذا الشخص ما يدعو إلى الشبهة في نقص أو خلل وراثي، أولًا: لأنه أثبت أن كفايته الذهنية غير ناقصة؛ إذ حصل على دبلوم الهندسة العليا، وثانيًا: أنه ليس بين إخوته واحد يُشْبِهُه في هذه الأخلاق؛ إذ كلهم سويون اجتماعيون، ولكن مما يستحق الذكر هنا، أنه على الرغم من حصوله على شهادة الهندسة العليا لم يشتغل قط بالهندسة؛ إذ قَنَعَ بإيراده من أرضه الموروثة، وهذا يَدُلُّنا على أنه لو لم يكن وارثًا يعيش بتراث من أبيه لارتكب جرائم أخرى في سبيل العيش.