الجسم يؤثر في العقل
السيكلوجية هي علم السلوك البشري؛ أي: كيف يسلك الإنسان في مجتمعاته المختلفة؟ وكيف ينبعث إلى النشاط؟ وماذا يجعله يفتر في عمله؟ ولماذا يحب أو يكره؟ وكيف يكون إنسانًا سويًّا؟ ولماذا يشذ أحيانًا؟ وما هي بواعث الإجرام أو الجنون؟ ثم ما هو الذكاء والعبقرية أو البلاهة والغفلة؟ وكيف يتصرف التصرف الحسن أو التصرف السيئ؟ وكيف يتكون عقله وينضج؟ وكيف تتكون نفسه وتنضج؟ وكيف تتكون شخصيته وتنضج؟
وشخصية الإنسان ونفسه وعقله هي ثمرة وراثته البيولوجية؛ أي: ما وَرِثَه منذ ملايين السنين، كما هي ثمرة بيئته الاجتماعية التي نشأ وتعلم وتعود فيها عاداته واتخذ قِيَمَها المختلفة.
وهذا الموروث البيولوجي قَلَّمَا نستطيع تغييره؛ فالمخ الصغير الذي تَقِلُّ تلافيفه لا نستطيع تغييره إلى مخ كبير كثير التلافيف، والشخصية الانطوائية نعجز عن إحالتها إلى شخصية انبساطية، وبنية الجسمية بأعضائها الداخلية تؤثر في المخ وتؤدي إلى ميزات أو مساوئ نفسية، فمن المعروف — مثلًا — أن كلًا منا يحمل عناصر نسوية، يدل على هذا الثديان في صدره ووجود رحم صغير في أسفل بطنه، وليس هذا ضرر، ولكن ماذا يحدث إذا زادت هذه العناصر على المألوف؟ وكذلك الشأن في كل امرأة؛ إذ هي تحمل عناصر رجلية إذا زادت فيها اختلت شخصيتها، وعندما ينقطع الحيض نهائيًّا حوالي سن ٤٨ أو ٤٩ تبدو هذه العناصر وتزداد وضوحًا بمرور السنين، حتى إن بعض النساء يحتجن في سنة السبعين أو الثمانين إلى حلق شواربهن كالرجال.
وتأثير الجسم في العقل يعود إلى هورمونات الغدد الصماء؛ أي: إفرازات تلك الأجسام الصغيرة التي تفرز سوائلها في الدم مباشرة، وليست لها قنوات تحمل هذه السوائل، وأهم هذه الغدد التي تقرر للرجل رجولته هي الخصيتان؛ فإنه إلى جنب إفرازهما القنوي (أي: المني للتناسل) نجد إفرازًا آخر يدخل الدم مباشرة، وهو الذي يُكَوِّن مظاهر رجولتنا؛ مثل اللحية والشوارب وغِلَظ الصوت ونحافة الأليتين، ثم مع هذا حيوية الرجل وخفته وإقدامه، ومثل هذا يقال بشأن المبيضين في المرأة في إكسابها صفات النساء العضوية والمزاجية، واذكر كيف أن الخِصْيَان الذين تُقْطَع خصاهم يتخذون هيئة النساء، وكيف أن المرأة عقب قطع الحيض بعد الخمسين تعود فتتخذ شيئًا من هيئة الرجال ومزاجهم، وهناك غدد أخرى مثل الغدة الدرقية في العنق، وهما اثنتان إلى يمين قصبة العنق ويسارها، ونقص الإفراز منهما يؤدي إلى تَعَطُّل النمو أو وقفه وإلى خمول الذهن أو الغفلة، وهما يزودان الجسم بقوة المثابرة على الجهد.
ثم هناك الغدتان الأدريناليتان فوق الكليتين، وهما لتزويد الجسم بالانبعاث الفجائي وقت الغضب أو الخوف؛ ولذلك تصل هذه الغدة إلى أكبر حجم في الأسد وسائر عائلته من الببرة والنمور والقطط؛ لأنها كلها تحتاج إلى حشد قوتها للوثوب، وكذلك تكبر في الحيوانات التي تحتاج إلى الفرار السريع كالغزلان والفئران، فغدتنا الدرقية أكبر من غدة الأسد، ولكن الغدة الأدرينالية عنده أكبر مما عندنا، والنتيجة أن الأسد حيوان الوثوب الانفجاري والحرب الخاطفة، أما الإنسان فحيوان المثابرة والصبر على المشاق.
وانظر إلى الفأر والفيل، فكلاهما حيوان لبون، ولكن حياة الفيل هادئة مستقرة، ولذلك فإن الغدة الدرقية عنده تكاد تساوي الغدة الأدرينالية، أما الفأر فيعيش في حرب خاطفة يَثِبُ ويفر؛ ولذلك فإن الغدة الأدرينالية عنده تزيد بمقدار تسعة أضعاف الغدة الدرقية، ويتضح هذا في دقات القلب في كل منهما، فهي في الدقيقة ٢٧ عند الفيل و٣٠٠ عند الفأر، ونحن نذكر هذه الحيوانات كي نقول: إنه إذا زاد إفراز الغدة الأدرينالية في الإنسان زادت دقات قلبه فكان سريع الغضب متفززًا سريع الأجفال.
ثم هناك الغدة النخامية، وهي في أسفل المخ، وتأثيرها كبير جدًّا في تكوين الشخصية، حتى إن بعضهم سماها «رئيسة الجوقة الغددية» لأنها تؤثر في سائر الغدد، وتعين اللحن العام للسلوك.
وهناك أنواع من النقص الذهني الذي ينشأ من نقص في الغدد، وأحيانًا تمكن معالجته بأن يُحْقَن الجسم بالمفرزات التي تُحْضَر من أجسامِ — أي غدد — الحيوانات، وكلنا يعرف أنه تَمُرُّ بنا فترة في حياتنا «حوالي سن ١٥» نُحِسُّ فيها بفورة جنسية تقارب الجنون، وهي ترجع في الأغلب إلى وفرة الإفراز الخصوي، ولكن هذا الميدان لا يزال إلى الآن بكرًا ومستقبله أكبر من حاضره.
ونستطيع أن نرتب الناس بحسب أمزجتهم، فنقول: المزاج الأدرينالي للشخص الانفجاري المتفزز الذي يمتاز بالنزوة والاندفاع، ونقول: المزاج الدرقي للشخص الصبور المتجلد المثابر، ونقول: المزاج النخامي — على قلة معرفتنا هنا — للشخص الذكي المتزن.
ومن هنا يرى القارئ أننا لا نتصرف في هذه الدنيا بالعقل فقط، بل بكل الجسم؛ فإن حالة الدم ودرجة الحرارة ومعدل الفيتامينات وهورمونات (= إفرازات) الغدد الصماء وسلامة الحواس والمخ، كل هذا يؤثر في تفكيرنا وسلوكنا، والسيكلوجية هي لهذا السبب «علم النفس»؛ أي إنه يدخل في اعتبارها كل هذه الأشياء وليس العقل وحده، وفي مصر العظيمة المسكينة — حيث يعيش أحد الناس بألف أو مائة جنيه في اليوم ويعيش آخر بثلاثة قروش — يتفشى بين الفقراء مرض البلاجرا الذي ينشأ من نقص غذائي فيتاميني، ويؤدي إلى بلاهة تُرَى في كثير من الفلاحين الفقراء.
وسنرى في فصلٍ قادم أن شكل الجسم يؤثر في الاتجاه الذهني؛ فالشخص النحيف، طويل الوجه (= الانطوائي) يختلف من الشخص السمين المتكتل القصير الذي يستدير وجهه (= الانبساطي) من حيث المزاج والتصرف والاتجاهات الذهنية.