النيوروز
النيوروز كلمة عامة للكرب العاطفي الذي نضيق به ونتألم منه، فنعجز عن أداء عملنا ونأرق في الليل، ونجتر الهموم في النهار، ونبقى في خوف أو شك، ولكن العقل في كل هذا سليم ليست به خيالات جنونية، وربما عندما تتقدم السيكلوجية تترك هذه الكلمة العامة أي: «نيوروز» وتعين التوترات النفسية كل منها باسم خاص.
- (١)
أن النيوروزي يجهل معنى الحياة ولا يعرف أية قيمة للتعاون الاجتماعي، فهو مثلًا مخاصم أكثر مما هو مصالح.
- (٢)
هو أناني لا يخدم غيره، ولكلمة «أنا» عنده الأولوية.
- (٣)
هو في خوف دائم أو متردد «والهم والقلق خوف متردد».
- (٤)
يحاول أن يحدث لنفسه إحساسًا ذاتيًّا «غير موضوعي» كي يشعر بالقوة، كأن يشرب الخمر أو أيَّ مخدِّر آخر، أو يستسلم لخواطر اليقظة.
- (٥)
يقول: «لا أقدر» وفي صميم قلبه يقول: «لا أريد.»
- (٦)
يعيش بهدف نيوروزي قد تكون له في الطفولة؛ لأنه كان مدللًا أو مضطهدًا، ففي الحالة الأولى يحاول استبقاء ما كان يتمتع به من التدليل، مع أن الظروف لا تؤاتيه، وفي الحال الثانية يحاول أن يعيش فيما اخترعه لنفسه من أهداف كي يزوغ من الاضطهاد.
- (٧)
يُعَلِّل فشله أو خيبته بأنه يُحَمِّل شخصًا آخر أو شيئًا آخر تَبِعَةَ هذا الفشل أو هذه الخيبة كأن يقول إنه مريض، أو إنه لم يتعلم، أو إنه لم يرث، إلخ.
- (٨)
يبذل مجهودًا زائفًا كي يبدو أمام الناس أنه غيرَ مسئول عن فشله.
- (٩)
تتسم حياته بأنها عقيمة، وأنه غير مفيد للمجتمع.
- (١٠)
يُؤْثِر الاعتزال على الاجتماع.
هذه هي العلامات التي نعرفها في النيوروزي، ونتيجتها أننا نجده عاجزًا عن ممارسة العمل الكاسب، وعن إيجاد علاقة اجتماعية حسنة، بل هو أحيانًا يعجز عن إيجاد علاقات جنسية حسنة.
ويتبسط أدلر في شرح النيوروز فيقول: إنه يرجع في بعض الأحيان إلى صدمة ما، فيستغل النيوروزي هذه الصدمة كي يفر من مسئوليات الحياة، فلا يعمل ولا يتعب، انظر إلى رجل أهانته زوجته ودأبت في الإهانات فيما يقارب الفضيحة، وعجز هو عن الانتقام، فبقيت التوترات، فهو يفتأ يَذْكُر هذه الإهانة يَقُصُّها عليك وعليَّ كأنها أَفْسَدَتْ حياته، وأنه لولاها، إلخ. إلخ، والنتيجة أنه يعيش عاطلًا عقيمًا.
وقد لا يعود النيوروز إلى صدمة معينة مذكورة، ولكن إلى أسلوب التدليل أو الاضطهاد الذي كابده الطفل في طفولته، ثم وجد بعد أن بلغ الشباب أن هذا الأسلوب قد بَاعَدَ — بل فَصَلَ — بينه وبين المجتمع.
ويقول أدلر: إن النيوروزي يكاد يتضرع إلينا: «اعذروني يا ناس، أنا وَقَعَتْ بي هذه المصيبة، أنا عاجز عن العمل لأني دميم الوجه (= مركب نقص) والناس يضحكون مني، كيف أتزوج بهذا الوجه؟»
ويرد أدلر في حكمة عالية: «لنفرض ذلك، وأنه قد وَقَعَتْ بك مصيبة كما يقع المرض بالإنسان، ولكن لسنا في حاجة لأن تَصِفَ لنا ما فَعَلَهُ بك المرض وأن تبكي على هذا، بل أَخْبِرْنَا ماذا فعلت أنت بالمرض؟»
أجل، لو شرع هذا النيوروزي في أن يفعل شيئًا بهذا المَرَض إِذَنْ لَشَرَعَ في علاج نفسه.
وعندما يُضْرِب النيوروزي عن العمل والكسب والاجتماع والزواج يقول: «ماذا عندي من كفايات؟» ويقعد متعطلًا عقيمًا، يجب أن نقول له نحن: «ماذا فعلت بالقليل الذي عندك من الكفايات مهما قَلَّتْ ومهما صَغُرَتْ؟ ماذا فَعَلْتَ بها؟»
لأن النيوروزي عندما يشرع في عمل ما بأقل كفاياته، عندئذٍ يشرع في أن يكون سويًّا كسائر الناس.
وإذا أردت أن تعرف أيها القارئ هل أنت سويٌّ أم نيوروزي فاسأل نفسك: ما هو موقفي في العمل والحب والاجتماع والفراغ؟ وعلى قَدْرِ نجاحك في هذه الأربعة تكون سويًّا، وعلى فَشَلِكَ فيها أو في أحدهما تكون نيوروزيًّا.
وأخيرًا ينصح أدلر باتخاذ هذه الحكمة: كُنْ خدومًا، اخدم الناس، أَعْطِ بسخاء، ولا تَكُفَّ عن العطاء، أَعْط نقودك وذهنك وتعبك لخدمة غيرك، اكسب المال كي لا تكون عبئًا على غيرك، وأحبب وتزوج وعُلْ عائلة، آنِسِ الناس واجتمِعْ بهم وتعاوَنْ معهم، واملأ فراغك بما يفيدك ويفيد غيرك.
وكان أدلر اشتراكيًّا؛ لأنه وَجَدَ أن المباراة تُحْدِث التوترات النفسية التي يجب أن نتجنبها، وأن الاشتراكية تعاوُنٌ وخدمة وحُبٌّ.
يَحْدُث النيوروز — بل يَكْثُر — إذا كان الوسط يطالبنا بمجهود شاقٍّ ونحن — لسبب ما — نعجز عن القيام به، وهو أكثر حدوثًا من المتاعب الصغيرة المتكررة كل يوم من الصدمة العنيفة تقع مرة في حياتنا؛ ولذلك نحن نعجز عن تحمل التوبيخات والإهانات والتهديدات، كل يوم، من الرئيس أو الحماة، ولكنا نتحمل الإفلاس يَقَعُ مدة ويقضي على أموالنا ولكنه لا يتكرر كل يوم.
وكالطفل يكون مُتْعَبًا أو كارهًا للدرس ثم نَحْمِلُه على الدرس بدلًا من أن يلعب، وكالمراهق ترهقه الغريزة الجنسية ثم نحرمه ونطالبه بواجباته اليومية.
وكالجندي في المعركة يحيط به الخوف من كل جانب ونطالبه بالشجاعة.
وفي هذه الحالات الثلاث نجد كظمًا؛ أي: توترًا لا ينفرج؛ أي نَجِدُ صراعًا بين الوسط وبين الشخص انتهى بعجز الشخص.
وسلامة الشخصية تُقَاس بالانتصار في الجهات الأربع للحياة: العمل، والاجتماع، والحب، والفراغ، ونعني النجاح فيها كلها، أما إذا اقتصر النجاح على واحدة منها، والأغلب عندئذٍ أن يكون النجاح عظيمًا؛ فإن هذا الناجح نيوروزي، كذلك الذي يرصد كُلَّ قُوَّتِه للنجاح فينجح فيه، ثم يفشل في عائلته أو مجتمعه وفراغه.
وانظر إلى خاصة التشعع في النيوروز حين ينتقل من بؤرة محلية فيشمل الحياة كلها:
شاب اعتاد العادة السرية، أو أغواه آخر أن يفسق به فاشمأز؛ فالاشمئزاز هنا يتشعع، وعندئذ يشمئز من البصاق والمخاط والعرق ومصافحة الناس، بل يشمئز من الخبز؛ لأن بائعه يحمله بيده ويلامسه، ثم يشمئز من الطعام الذي طبخته الخادمة؛ لأنها تدخل الكنيف، ثم يشمئز من الماء لأنه يوضع في كوب قد شَرِبَ منه غيره، إلخ.
وانظر إلى الطيار قد استولى عليه الخوف وهو طائر، فهو يخاف أزيز موطرها، مع أنه على الأرض الراسخة بين أهله، ثم يفزع من إقفال الباب، ثم يخاف البلكون ويعتقد أنه سيقع به، ويخاف الظلام، ويخاف الفضاء، ويخاف المستقبل.
أو انظر إلى شاب يشك في أمانة خادِمِهِ ويخشى سَرِقَة أوراقه أو نقوده من دُرْج المكتب، فهو يعود كي يستوثق أنه أقفله، ثم يتشعع الشك فهو يشك في أمانة زوجته أو إخوانه، ويشك في النيات التي ينطوي عليها رئيسه نَحْوَه ويشك في المستقبل، إلخ.
والنفس البشرية بطبيعتها انبعاثية موطرية لا تَقِفُ الموقف السلبي ولا تركد، وما هو أن تجد الحافز حتى تتحرك؛ ولذلك فإن الشك أو الخوف أو الاشمئزاز يبدأ في جزء منها ثم يتفشى في أنحائها.
ومُحَالٌ على مثل هذا النيوروزي أن يؤدي عمله كما ينبغي، وهو في أغلب الحالات يُحِيلُ ويَتَبَرَّم ويرضى بالخيبة والفشل؛ لأنهما أروح إلى نفسه، وهو يبررهما بالحال التي هو فيها، والنجاح يحتاج إلى جُهْد ليس في مستطاعه.
انظر إلى نيوروزي آخر: رجل فشل في كل ما يعمل.
ابحث أحلام اليقظة وأحلام النوم عنده تَجِدُ أنه يحلم بالانتحار، ويمارس الانتحار في لذة وليس في خوف في هذه الأحلام، وقد يرغب في الفشل لأنه يكره زوجته أو عائلته كلها، وفي أعماق كامنته (عقله الكامن) أن فشله يعود عليهم بالضرر، فهو ينتقم منه به، كما ينتقم الصبي من أبويه حين يرفض مذاكرة دروسه؛ لأنه يرى منهما غيرة عليه ورغبة في أن ينجح، وهما يفرحان بنجاحه وهو لا يريد لهما فرحًا.
وعندما تتحدث إلى هذا الفاشل يقول لك: إن عنده رغبةً في النجاح ولكن الظروف معاكسة، ولكن الرغبة لا تكفي، وكلنا نرغب بعواطفنا في أن نكون أثرياء، ولكنا لا نحيل رغبة العاطفة إلى إرادة الوجدان، ولو صارت الرغبة إرادةً لجهدنا وعملنا على تحقيق النجاح وتَخَلَّصْنا من جميع العقبات القائمة، وعندئذٍ نربط الأمنية بالواقع ونشرع في التنفيذ.
والنيوروز أي: جنون العاطفة، نبسطها على الشخصية، هو الطريق إلى السيكوز؛ أي: جنون العقل بإيجاد خيالات واختراع قصص ترتاح إليها الشخصية، ولكن يجب ألا ننسى أنه لا يصل إلى السيكوز سوى واحد في الألف أو أقل وإننا كلنا؛ أي: المائة، نُصاب في وقتٍ ما بالنيوروز، وهو يزول عنا دون أن نبالي به كالرشح أو غيره من الوعكات الخفيفة في الجسم.
النيوروزي عاطفي انفعالي، وكي نعالجه يجب أن ننقله إلى الوجدان بالنظر الموضوعي؛ أي: يجب أن نقول له: لا تنفعل، تَعَقَّل، ونحلل شخصيته ونفلسف له، ونُشْعِرُه أنه إنسان متمدن، ونغير القيم الأخلاقية التي يعتمد عليها — وهي في الأغلب زائفة — إلى قيم صحيحة يرتاح إليها الرجل الحكيم، أجل. يجب أن نُحِيلَه حكيمًا.
وإذا تفاقم النيوروز انقلب أحيانًا إلى هستيريا؛ أي إن عاطفة الخوف مثلًا عند الطيار «اختمرت» في الكامنة ثم انبجست عن شلل في ذراعه، أو عاطفة الكراهة للزوجة قد اختمرت في الكامنة ثم انبجست في الزوج عن عمى فلا يرى الدنيا.
الشلل والعمى كاذبان، وهما مجهودا النفس كي تتخلص في الحالة الأولى من خطر الطيران وفي الحال الثانية من رؤية الزوجة، وليس هنا سيكوز؛ لأن العقل لا يزال سليمًا، ولكنا نفهم من هذه الهستيريا أن النيوروز قد تَفَاقَمَ؛ أي إن الشهوات والرغبات والعواطف الكامنة قد ثارت وانفجرت لأنها لم تُطِق الاحتباس.
والنيوروزي يُعَالَج بالصبر والفطنة والحب؛ أي إننا نحلل نفسه ونضيف إلى التحليل شيئًا من الإيحاء — بل الهبنوتية إذا كانت حاله متفاقمة — ونحاول أن نسبر أعماقه ونَحْمِله على الثقة حتى نرده إلى الوجدان، ثم نرسم له — في ضوء ظروفه — خطة بنائية تملأ نفسه استبشارًا وتشغل فراغه وتؤلف شخصيته المزعومة من جديد.