العقل يؤثر في الجسم
في سنوات الحرب الماضية كنا نجد في القاهرة وقت الغارة أن سيفونات المراحيض يتكرر شدها؛ لأن الخوف من قنابل الطائرات كان يؤثر في الأمعاء ويحركها على غير ميعاد، وكلنا سمعنا عن بعض الناس يُفْجَئُون بخبر مزعج فيبولون، وأكثر من ذلك، فقد يُؤَثِّر الخبر المزعج في أحد الناس فيموت بسكته القلب أو بنزف في المخ، وأحيانًا تؤدي الكارثة إلى مَرَض البول السكري، كالأم تسمع عن حادثة وَقَعَتْ لابنها، أو المالي يَبْلُغُه خَبَرُ السقوط العظيم في قراطيسه المالية بالبورصة، أو نحو ذلك، فتؤدي الصدمة إلى إصابة بالبول السكري، وأحيانًا نتأثر بحادثة فنُصَدُّ عن الطعام؛ فإذا زاد التأثر حدث التهاب في الأمعاء فنتبرز مخاطًا ودمًا مما يسميه عامتنا «التعنية»، وقد تحدث قرحة بالمعدة أو يلتهب الجلد بما يسمى «أورتيكاريا».
والهم هو في التعبير السيكلوجي «خوف متكرر» يتناوبنا من وقت لوقت، وهو يُحْدِث هذه الأعراض التي ذكرناها أو أحَدَها، وقد زادت وفيات السكتة في أيامنا، وليس لها من سبب في الأغلب إلا زيادة الهموم؛ لأن تكاليف الحياة المادية والمعنوية زادت إلى حد لا يُطاق، فنحن نفكر في مخاوفنا ونجترها ونَقْلَق فيؤثر كل هذا في أجسامنا، في القلب والشرايين والبنكرياس والأمعاء، وربما في أكثر من ذلك؛ أي إن العقل يؤثر في الجسم، وقد كان آباؤنا يعيشون قانعين، وكان طموحهم «قرويًّا» لا يكلفهم كثيرًا من الجهد فكانت همومهم معتدلة، أما نحن فنسرف في الطموح ونتعلق بالنجوم، فهمومنا كثيرةُ التكاليفِ والأعباءِ التي نعجز عن تحملها.
وليس منا من لم يعرف أن دقات القلب تُسْرِع وَقْت الغضب أو الإزعاج، أو أن العرق يتصبب وقت الخجل أو الخوف، والخطيب يُحِسُّ جفافًا في حلقه فيطلب الماء، ووَقْتَ الاضطراب يُسْرِع تنفسنا وتصْفَرُّ وجوهنا، وأحيانًا يغمى علينا من الخوف، بل أحيانًا نتجمد كما يحدث في الكابوس.
كل هذه الأعراض مألوفة واضحة، ولكن هناك أعراضًا أخرى لتأثير العقل في الجسم تخفى علينا، مثال ذلك: شاب يعمل كاتبًا في إحدى المصالح، وهو لا يكاد يقعد على كرسيه كي يَشْرَع في العمل حتى يُحِسَّ كأنه في إعياء قد فَقَدَ كل نشاطه ويود لو يضع رأسه على منضدته وينام، وقد يفعل ذلك، وليس جسمه متعبًا، وإنما كل ما فيه أنه يَكْرَه عمله ويحب لو يستبدل به عملًا آخر يهواه؛ ولذلك فإن إعياءه هو من إملاء عقله (= نفسه) وهو ليس إعياء، وإنما هو سخط وكراهة.
والهموم إذا كانت معتدلة صارت مفيدة؛ لأنها تحفزنا إلى العمل وتنشطنا، وهي عندئذٍ أَوْلَى بأن تُسَمَّى اهتماماتٍ بدلًا من هموم، والفرق بين الاهتمام والهم أن الأول يتناول موضوعًا نعالجه فننجح أو لا ننجح، أما الهم الثقيل فهو اجترار لموضوع نخشاه، فنعاوده دون علاج، ومن هنا تأثيره السيئ، بل من هنا الحكمة القائلة: «إذا كنت تشك في شيء فخاطِرْ فيه»؛ أي: انْتَهِ منه بصورة ما.
وقد قَلَّت الأمراض البكتيرية (المعدية) في الطبقة المتوسطة؛ لأن الغذاء تَحَسَّن وأساليب النظافة ارتقت، ولكن الأمراض العضوية زادت لازدحام الهموم وإرهاقها؛ لأن أفراد هذه الطبقة يعيشون في مباراة قاتلة، ويُكِنُّون في قلوبهم مطامِعَ تُرْهِقُهُمْ، فعقولهم تؤثر في أجسامهم أسوأ الأثر، وهم ليسوا في حاجة إلى عقاقير حسنة قَدْرَ حاجتهم إلى فلسفة حسنة يعيشون بها راضين؛ لأن التوتر النفسي من الهم يؤدي إلى توتر شرياني ثم إلى تصلب في الشرايين ثم إلى موت مبكر بالانفجار المخي.
وسنرى في فصلٍ قادم عن «الإيحاء» كيف يُؤَثِّر العقلُ الأثَرَ الحسن في الجسم، وأيضًا كيف يُؤَثِّر الأثرَ السيئ، ولكنا نقول هنا: إن عامتنا يعرفون الكثير من أثر النفس (= العقل) في الجسم؛ فإن الفلاحين يعزون بحق مرض الجلوكوما في العين إلى ما يسمى عندهم «نزول» عقب حزن أو كمد، والأكزيما التي تطفح على الجلد في تعود إلى توتر نفسي، بل أحيانًا يحدث الربو من مثل هذا التوتر، وقد كان الرومانيون يقولون: إن العقل السليم في الجسم السليم، ولكن عكس هذا القول صحيح أيضًا، بل أصح؛ لأن الحاقد والحاسد والخائف والمتشائم يؤدي توترهم النفسي إلى توتر شرياني أو إلى مرض آخر مُؤْذٍ لأجسامهم.
إن الجراح الذي مَرَّت به اختبارات كثيرة يَذْكُر — بلا شك — إحدى العمليات التي أتمها في نجاح كما استأصل فيها المرض تمامًا ولم يجد عقب العملية أية علامة تدل على مضاعفات، ولكن المريض بعد ما بدا عليه من التقدم نحو النقه فَقَدَ الاهتمامَ بما حوله وبنفسه، ثم تَدَرَّجَ — في غير ألم، وكأنه لا يهدف إلى غاية معينة — إلى الموت ولم يكشف التشريح عقب الوفاة عن إيضاحٍ مُقْنِعٍ.
وهذا المثل يدلنا على تأثير النفس في الجسم، وكلنا يذكر أمثلة أخرى تشبه ما رواه الجراح، كالأم المحتضرة تُكَافِح الموتَ وتَنْتَظِر ابنها الغائب؛ فإذا حَضَر ماتت، ففي المثل الأول تَضَعْضَعَ المريض وفَقَدَ إرادة الحياة ومات، وفي المثل الثاني تشبثت الأم بالحياة وأرادت البقاءَ حتى رأت ابنها.
وهناك أمراض كثيرة نَتَوَهَّم أنها عضوية؛ أي: في الجسم فقط، وأن النفس لا شأن لها فيها، ولكن قليلًا من التأمل يَدُلُّنا على أنها في الأصل أمراض نفسية، تتصل بالإرادة والاتجاه كالخوف والقلق والهم والتشاؤم.
اعْتَبِر رجلًا يخاف المستقبل ويَقْلَق على معاشه ويتشاءم؛ فإن هذه الحال النفسية تزيد ضغط الدم في شرايينه التي تتصلب بعد سنين من قوة هذا الضغط، ثم يتعب هذا القلب، فيكون المريض عُرْضة للسكتة في القلب أو «النقطة» بالانفجار في المخ؛ فالمرض هنا عضوي وقد انتهى بالوفاة، ولكنه كان في الأصل نفسيًّا؛ لأن المريض اتجه وجهة سيئة نحو الدنيا، وتحمل من الهموم أكثر مما كان يطيق فأرهق نفسه ثم أَمْرَضَ جِسْمَه.
في سنة ١٩٣٤ عمد الدكتور ف. دونيار إلى ١٣٠٠ مريض بمرض القلب ومرض الديابيطس؛ أي: البول السكري، وأيضًا — وهنا المفارقة — بكسر العظام؛ فإن من البعيد على أي إنسان أن يقول إلى ذراعه كسرت أو ضلوعه تهشمت أو قدمه رضت لأسباب نفسية، ولكن الدكتور ف. دونيار وجد هو ومعاونوه أن نحو ٨٠ في المائة من هذه الحالات؛ أي: ألف حالة تقريبًا من ١٣٠٠ حالة تعود في هذه الأمراض العضوية بما فيها الكسر العظمي إلى أسباب نفسية.
ونحن نسلم هذه الأيام بأن كثيرًا من حالات الديابيطس يعود إلى القلق والانزعاج، وأن الهموم تفتت القلب والشرايين، ولكن كيف تؤثر النفس في تكسير عظامنا؟
اعْتَبِر الخادمة الغاضبة التي تكسر الأطباق، وقد تنفث غضبها في كانون البترول فينفث هو غضبه فيها ويحرقها، واعْتَبِر سائق الأتومبيل يسير مغيظًا لسبب مالي أو عائلي، فيعمد إلى مصادمة المارة وكأنه يسبهم سبًّا عمليًّا، واعتبر العامل أمام الآلة التي تدور بعنايته فيهمل هذه العناية لأن قلقًا ثقيلًا يُرْبِك ذهنه فلا يكون بعد ذلك سوى تهشيم ذراعه أو قدمه.
ففي كل هذه الحالات نجد نفسًا مرهقة ضائقة بالدنيا قلقة لا تستقر على تفكير مُتَّزِن.
وأكاد أقول لهذا السبب: إن صداع الرأس يجب على الدوام أن يسبقه صداع القلب؛ أي إن هناك عواطف سيئة كالغضب أو الحسد أو الخوف أو الشك، تُحْدِث في أجسامنا أمراضًا سيئة.
وكثير من الأغنياء والمتوسطين لا ينقصهم المسكن الصحي أو الغذاء الحسن، ولكن تنقصهم الفلسفة الحسنة؛ لأنهم يتطوَّحون في أطماعهم، ويتورطون في مباريات اجتماعية أو ثرائية ترهقهم، وتجعلهم على الدوام عُرْضة للقلق والأرق، يجترون همومهم في الليل والنهار، ويتشاءمون بالمستقبل حتى تنتهي حالتهم النفسية هذه إلى أمراض جسمية حقيقية.
وأمراض الجسم التي تعود إلى أسباب نفسية تتحيز أولًا، أو أكثر ما تتحيز، الأمعاء والمعدة، فالقرحة المعدية سريعة الحدوث عقب القلق والخوف، والبراز المخاطي الدموي كذلك يسرع إلينا من الصدمة النفسية، والاضطراب المعوي — بين الإمساك والإسهال — يعود كذلك في أغلب الحالات إلى قلقٍ نفسي، ثم بعد ذلك ارتفاع الضغط الدموي، وكذلك لغط القلب، وجميع هذه الحالات تتناوبنا من وقتٍ لآخر، وقد تزول بعد أيام أو أسابيع؛ فإذا كان القلق دائمًا والخوف من المستقبل ماثلًا فإنها تدوم وتتفاقم، وقبل أن يعالج المريض جسمه بالعقاقير يجب أن يعالج نفسه، وهو — بمحض الوقوف على علته وإنها نفسية ناشئة من الخوف والقلق — قد يشفى؛ لأنه يتعقل العلة فيتسلط على عواطفه ويمنعها من السيطرة على جسمه.
ولأن العقل يؤثر في الجسم عن طريق العواطف، فَكَّرَ بعض السيكلوجيين في البحث عن الجريمة بإيجاد آلة تقيس النبض ودقات القلب من حيث انتظامه وكذلك التنفس وضغط الدم؛ فإن جميع هذه الأعراض تظهر وقت الخوف، مثلًا؛ فإذا قلنا لأحد المتهمين بسرقة ساعة ذهبية بسلسلة من الذهب كلمة ساعة؛ فإن هذه الكلمة تستدعي معاني أخرى كثيرة؛ لأنها تربط بعاطفة معينة ما؛ فالارتباط هنا عاطفي مثل الانعكاسات المكيفة.
فإذا كان هذا المتهم لم يسرق الساعة وطلبنا منه أن يذكر كلمات أخرى ترد إلى ذهنه، فإنه سيذكر الثمن أو الدكان أو أي شيء آخر، وخواطره ترد بلا توقف ويبقى نبضه وضغطه وقلبه في أحوالها الطبيعية.
ولكن إذا كان هذا المتهم هو السارق، فإنه ربما يقف فجأة عن الكلام ويطول وقوفه؛ لأنه يحب أن يتجنب الخواطر التي تثير الريبة، وهذا التجنب نفسه يدل على الريبة، ثم ما يخفيه هو بلسانه يدل عليه حينئذٍ نبضُهُ وضغطُه وقلبه؛ لأن الخوف قد أثارها جميعًا، وإذا استسلم لخواطره فإنها لارتباطها ستدل على الجريمة، كما لو كانت كل كلمة حلقة في سلسلة متصلة.
ولكن هذه الآلات لم تبلغ الكمال، وخاصة إذا عَرَفْنَا أننا ما زلنا عاجزين عن التمييز بين الانفعال أيًّا كان وبين الخوف، ثم بين الغضب وبين السرور، ولكن النبض والضغط وحركة القلب لا تميز بين هذه العواطف التمييزَ المضبوط، ولكن هذه السطور القليلة تدل على تأثير العقل في الجسم، وتومئ إلى احتمالات مستقبلة.