الذكاء والعبقرية
- (١)
مخ كبير، وهذا القول نستنتجه من الموكب العام لتطور الحيوانات، باعتبار أنها اتجهت نحو أسمى حيوان وهو الإنسان الذي يمتاز بأكبر مخ، وكذلك نستنتجه من أن عامة البُلْه يَتَّسِمون برءوس صغيرة.
- (٢)
كثرة التلافيف في المخ، وهي تؤدي إلى أن تجد الخلايا الغبراء التي يتألف منها المخ مكانًا أَوْسَعَ تتوافر فيه، وهذه الخلايا تربط أجزاء المخ وتتيح لنا التفكير بأعلى أنواعه؛ أي: الوجدان، وهي أشبه الأشياء بلوفة الاستحمام في ارتباط خيوطها.
- (٣)
نظام هورموني حَسَن في الجسم؛ أي إن السوائل التي تفرزها الغدد الصماء — مثل الخصيتين والأدريناليتين والنخامية والدرقية — لا تكون أكثر ولا أقل مما يحتاج إليه الجسم.
- (٤)
أوعية دموية حسنة تَنْقِل إلى خلايا المخ الغذاء الوفير.
وهذه الأربعة موروثة يَحْصُل عليها كُلٌّ منا بحق الميلاد، ويختلف أحدنا من الآخر باختلاف أبويه وأسلافه، ثم باختلاف الجديد الذي يولد كل منا به زيادة على موروثنا؛ فإننا لسنا مُقَيَّدِين بالوراثة كما لو كانت قَوَالِبَ تصوغُنَا؛ إذ لو كانت الوراثة بهذا الجمود لَما ظَهَرَتْ أنواع جديدة بعقول جديدة في الدنيا.
وإذا تَرَكْنَا الأسسَ الماديةَ للذكاء جانبًا، وحاولنا أن نحدس بعض الأسباب التي تؤدي إلى زيادة الوجدان لقلنا: إنها اختلاف الأبوين بحيث يؤدي هذا الاختلاف إلى التناقض الداخلي، وإيجاد التقلقل والتوتر بين الغرائز والاتجاهات المختلفة، ولنضرب على ذلك مثلًا بالكلب يكون أبوه من سلالة وأمه من سلالة أخرى، لكل منهما خصائصها التي تثبت بالاستيلاد عدة قرون، فنتاج هاتين السلالتين لا يخرج خالصًا وليست له وجهة معينة، فهو مقلقل بين الأب الذي قد يكون من كلاب الرعاة والأم التي قد تكون من كلاب الطراد، وهذا التقلقل يحمله على التردد، فلا يندفع بغريزة خالصة نحو نشاط معين، بل يقف في تردُّد أو توتر، وهنا ينشأ الوجدان؛ أي: التفكير الذي يوازن بين عمل وآخر فيختار، وهو في اختياره يتأمل ويتدبر في روية قبل أن يعمل.
ولعل هذا المثل ينيرنا عن العبقرية الذهنية في الإنسان؛ إذ قد تكون هي أيضًا نتاج عناصر وراثية متناقضة أو مختلفة، بحيث يؤدي تناقضها واختلافها إلى وقفة التأمل والتردد والتفكير، وليس من الضروري أن نعرض سلالتين في الأبوين كمثال الكلب؛ لأن الاختلافات قد تكون دون هذا، ولكنها تمتاز بقيمة عالية لظروف اجتماعية خاصة في فترة تاريخية معينة.
وإذا شئنا أن نعرض بكلام عامٍّ، لا تدخل فيه الشذوذات لِأمارات الذكاء في الناس؛ فإننا نستطيع أن نقول: إن الشاب الموهوب أو الفتاة الموهوبة يبدوان جميلين إلى درجة تميزهما عن سائر الناس، ولعل هذا يرجع إلى أن سلوك الغدد الصماء حسن؛ لأننا نعرف أنه عندما يَقِلُّ إفراز هذه الغدد أو يزيد على السواء يحدث تشوه في الجسم والتقاسيم، وكثير من البله يبدو عليهم هذا التشوه في رأس صغير أو ملامح مغولية أو غير ذلك.
وأمارة أخرى للأذكياء أنهم فيما بين ١٥ و١٧ سنة من العمر تتنبه أذهانهم تنبهًا عظيمًا فيسرفون في القراءة والاستطلاع، ونحن نعرف أن هذه السن هي نهاية النمو تقريبًا في الذكاء، فنحن لا نزيد ذكاء بعد سن ١٦ أو ١٧ مهما طالت أعمارنا إلا مقدارًا قليلًا.
وقد قلنا: إن الذكاء يقاس، ومتوسطه ١٠٠ فما زاد على ذلك يتجه نحو العبقرية وما نقص يتجه نحو الغفلة ثم البلاهة، وقد وُجِدَ أنه في كل ألف تلميذ في الولايات المتحدة يوجد ٤ أو ٥ يزيد ذكاؤهم على ١٤٠ و١٠ يزيد ذكاؤهم على ١٣٠ و٣٠ يزيد ذكاؤهم على ١٢٥، وإذا نقصت الدرجة عن ٧٠ كانت برهانًا على البلاهة.
والذكاء في الرجل لا يختلف عن الذكاء في المرأة، ولكن المرأة تميل إلى المتوسط، فليس فيها تطرف نحو العبقرية أو نحو البلاهة بقدر ما نرى في الرجال.
وامتحان الذكاء أدق الامتحانات، ذلك لأننا يجب أن نقيس القدرة العامة وليس المهارات الخاصة؛ فالصبي الذي نشأ في الريف مثلًا يَفْهَم أشياء كثيرة عن الحيوان والنبات لا يفهمها الصبي الذي نشأ في المدينة، وهذه مهارات خاصة عنده، ولكنه إذا دخل دارًا سينمائيًّا اختلطت عليه جميع الأشياء التي يدركها ابن المدينة بأول لمحة، والصبي الذي عاش في فاقة يفتقر إلى الذوق الفني الذي يمتاز به صبي عاش في عائلة ثرية، وبدهي أيضًا أن المعارف التي يتلقاها التلميذ في المدرسة يجب ألا تدخل في امتحانات للذكاء يشترك فيه صبي أُمِّيٌّ.
ولذلك يجب أن يكون الامتحان في أشياء عامة لا تتوقف على معارف خاصة ببيئة معينة؛ ومن هنا الصعوبة في تعيين الأسئلة.
ويجب ألا ننسى أن قوة الذكاء وَحْدَها لا تؤدي إلى عبقرية، وكذلك ضعف الذكاء وحده لا يؤدي إلى الجنون، وإنما العبقرية والجنون كلاهما يحتاج إلى الإرادة (= العاطفة) التي تحرك الذكاء إلى السواء أو إلى العبقرية أو إلى الانحراف، فلا بد من عاطفة قوية.
والمجنون خلاف الأبله؛ لأن الأول قد يكون ذكيًّا، ولكن عاطفة معينة قد حملته إلى الصخرة فحطمت ذهنه، أما الأبله الذي تنقص درجة ذكائه عن ٧٠ فهو شخص في العادة هادئ ليس به جنون.
- (١)
طراز التمثيل: وهو أعم طراز بين الناس في تفكيرهم وأبسطه، وهو أن نفرض أنه ما دام شيئان يتماثلان في بعض الخصائص فإن الأرجح أنهما يتماثلان في الخصائص الأخرى؛ فإذا قلت: إن الفرس يرفس ويؤلم، فإن الحمار أيضًا يرفس ويؤلم، ولكن خطأ التمثيل يتضح عندما نقارن بين صقر وحمامة أو بين دودة ويرقة.
- (٢)
والطراز الثاني هو القياس: وهو أن نأخذ من التعميم فننزل إلى التخصيص، فنقول: إن للطيور جناحين، وعلى هذا تُعَدُّ الدجاجة طائرًا، ولكن خطأ القياس يتضح عندما أقول: إن الوطواط طائر؛ إذ هو حيوان لبون مثل الفيل والفأر، على الرغم من جناحيه.
- (٣)
والطراز الثالث للتفكير هو الاستقراء: وهو أن نأخذ من التخصيص إلى التعميم، وهو أن أقول: إن البرتقالة تسقط من الشجرة إلى الأرض، والحجر يسقط ثانيًا على الأرض إذا قذفت به إلى أعلى، ونحن نسقط إذا وثبنا، وإذن لا بد أن هناك قانونًا للجاذبية؛ أي إن الأرض تجذب الأجسام إليها، وهذا الطراز من التفكير هو أعلى الطرز، ولا يقوم به إلا عبقري يُجَدِّد في المعارف البشرية مثل نيوطن.
وكلنا — مع التفاوت — نستعمل هذه الطرز الثلاثة في تفكيرنا؛ فإذا كنا عبقريين قد احترفنا الفلسفة أو العلم استعملنا الطراز الثالث، فنكشف عن قوانين الطبيعة المستورة، وإذا كنا دون ذلك استعملنا الطراز الثاني، ولكن كثرتنا تستعمل الطراز الأول على ما فيه من أخطاء كثيرة.
والاكتشاف تحليلي يجري على طراز القياس: من التعميم إلى التخصيص. والاختراع تأليفي يجري على طراز الاستقراء: من التخصيص إلى التعميم.
(أُحِيلُ القارئ هنا إلى فصل «الشخصية السيكوبائية».)