صاحب العظمة السلطان حسين كامل سلطان مصر
لمَّا ثار المصريون تحت راية عرابي في عهد المغفور له توفيق باشا؛ تدخلت إنكلترا فأطفأت الثورة بمعركة التل الكبير في ١٢ سبتمبر سنة ١٨٨٢، واحتلت جنودها مصر على أن تخرج منها ريثما يعود إليها النظام ويستتب الأمن، ولكنها ما لبثت أن رأت أن مهدي السودان محمد أحمد كان أصعب مراسًا وأشدَّ خطرًا على الراحة في مصر والسودان معًا من عرابي، فلم ترَ بدًّا من البقاء في مصر ريثما تخمد ثورة المهدي ثم ثورة خليفته عبد الله التعايشي من بعده، فإنهما استوليا على السودان كله وهدَّدا مصر، فأخذ الإنكليز يناوئونهما ويسترجعون السودان بلدًا بلدًا حتى استرجعوا الخرطوم عاصمة السودان عن يد بطلها اللورد كتشنر بعد وقعة أم درمان في ٢ سبتمبر سنة ١٨٩٨.
ولكنهم لم ينتهوا من مهمتهم في السودان إلَّا بعد القضاء على التعايشي بيد «بطل جديد» الجنرال السر رجينولد ونجت باشا سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام الحالي في ٢٤ نوفمبر سنة ١٨٩٩ على ما بيَّنا بالتفصيل في كتابنا تاريخ السودان.
وكان الإنكليز قد فاوضوا الباب العالي سنة ٧-١٨٨٨ بشأن خروجهم من مصر، فما لقوا شروطًا يطمئنون إليها، فقرروا البقاء حتى ينالوا الشروط التي ترضيهم، فتولوا المراكز الرئيسية في البلاد وشرعوا في إصلاحها، فنظموا ماليتها وريها وجيشها وداخليتها وسائر مصالحها الحيوية.
وتوفي المغفور له توفيق باشا فخلفه ابنه الأكبر عباس باشا في ٨ يناير سنة ١٨٩٢، فلم يطل الوقت حتى ظهر «الحزب الوطني» ونادى بطلب جلاء الإنكليز عن مصر، وفي حادثة العقبة سنة ١٩٠٥ أحدثت جرائد هذا الحزب بعض الشغب في البلاد كما مرَّ.
ورأى الإنكليز أنهم إذا خرجوا من مصر وسلموها للترك في الآستانة، فبناءُ الإصلاح الذي شادوه يتهدَّم إلى الأرض بعد خروجهم منها بقليل، ويتطرق الخلل إلى جميع مصالحها وتضطرب ماليتها وتعود إليها الفوضى التي كانت قبل الثورة العرابية، فيضطرون أن يعودوا إليها للمحافظة على مصالحهم ومصالح أوروبا فيها، أو تحتلها دولة أوربية مكانهم.
لذلك قرروا استمرار الاحتلال إلى أجل غير معين.
هذا وكانوا عند استرجاع الخرطوم سنة ١٨٩٨ قد رفعوا الراية الإنكليزية بجانب الراية المصرية، وجعلوا السودان حكومة مشتركة بين مصر وإنكلترا بموجب اتفاق عقد بتاريخ ١٩ يناير سنة ١٨٩٩، ولكنهم لم يتعرضوا لسيادة تركيا على مصر، ولا للجزية السنوية التي تدفعها مصر إلى تركيا.
فلما كانت هذه الحرب وضارب الاتحاديون بالسيادة العثمانية على مصر بدخولهم الحرب في جانب الألمان ضد إنكلترا؛ رأى الإنكليز أنه لم يعد لهم بدٌّ من إزالة السيادة التركية عن مصر فأزالوها وبسطوا حمايتهم على البلاد.
واتفق أنه عند نشوب الحرب الحاضرة كان سمو الخديوي عباس باشا في الآستانة، فطلب من الحكومة الإنكليزية مساعدته على العودة إلى مصر، ولم يكن في ماضيه معهم ما يشجعهم على إجابة الطلب، فإنهم كانوا قد مارسوه طويلًا من قبل، وبدَّلوا عليه ثلاثة من كبار ساستهم: اللورد كرومر ثم السر ألدن غورست ثم اللورد كتشنر، وكان لكل من هؤلاء الساسة أسلوب خاص، وكل منهم في أسلوبه بذل جهده للاتفاق معه فلم يفلحوا، فخاف الإنكليز أنه إذا عاد الخديوي إلى مصر في هذا الوقت العصيب — الذي كانت تشتغل فيه دسائس الألمان والاتحاديين بإفساد العقول وإذاعة الأراجيف ضد الحلفاء — زاد مركزهم في مصر حرجًا، فنصحوا له أن يقيم مؤقتًا في الآستانة، فاستاء من ذلك. قالوا: «ولم يمضِ على الحرب شهر حتى كان يبحث مع الوزراء وكبار القوَّاد في غزو مصر، فاقترح عليه سفير إنكلترا في الآستانة أن يقيم مدة في إيطاليا، فأبى، فكان إباؤه بمثابة إمضاء نفيه السياسي»، وقال اللورد كرومر عنه في كتابه: «إنه فضَّل الانضمام إلى أعداء بريطانيا العظمى ظنًّا منه على الأرجح أنه مع الفريق الذي يفوز أخيرًا في الحرب، وباختياره هذه الخطة ارتكب الانتحار السياسي.»
على أن الاتحاديين والألمان بعد أن تملقوه كل التملُّق وورَّطوه بالانضمام إليهم قلبوا له ظهر المجن، ولم تنقض على دخول الاتحاديين الحرب بضعة أسابيع حتى طلبوا إليه أن يتحمَّل ويغادر الآستانة فذهب إلى سويسرا وأقام فيها.
وكان الإنكليز قد أقرُّوا على خلعه واختيار خلف له من بيت محمد علي باشا بالنظر لما لهذا البيت الكريم من الفضل العظيم على مصر، فوقع اختيارهم على البرنس حسين كامل عمِّ الخديوي وأكبر أعضاء البيت المالك، وأحسن من يمثل هذا البيت، فلما عُرِض المركز عليه لم يبد الرغبة في قبوله؛ لأنه لم يشأ أن يظهر أمام أُمته كمن جلس في سرير ابن أخيه المخلوع، ولكنه في الوقت نفسه خشي إن هو رفض المركز بتاتًا أن يخرج الحكم من أسرته، أويتولى أمته وبلاده اللتين اشتهر بحبهما والغيرة عليهما من لا يحسن خدمتها أو يقصِّر بواجبهما، فتخلصًا من هذين المحذورين طلب إنشاء سرير في مصر غير سرير الخديوية، وأرفع منه، ليأتي أمته بشيءٍ جديد، وفي ذلك من الشهامة وعزة النفس وسمو المطلب والرغبة في رفعة شأن الوطن ما فيه.
فدارت المفاوضات بينه وبين نائب الحكومة البريطانية في القاهرة السر ملن شيتهام، يعاونه النبيل المستر ستورس السكرتير الشرقي لدار الحماية، فاستقر الرأي على أن يتبوأ البرنس حسين عرش مصر «بلقب سلطان»، وأن يتقدم هذا اللقب كلمتا «صاحب العظمة» تمييزًا له عن أمراء الأسرة المحمدية العلوية الذين يلقبون بأصحاب السمو، وأن تكون راية الأسرة العلوية المعروفة راية وطنية لمصر، وهي مؤلفة من ثلاثة أهلة بيضاء متجه محدبها نحو عصا الراية، وفي كل هلال نجمة بيضاء ذات خمسة أشعة، والكل ملقى على ديباجة حمراء.
صورة التبليغ الوارد إلى الحضرة السلطانية من قبل الحكومة
البريطانية
يا صاحب السمو
كلفني جناب ناظر الخارجية لدى جلالة ملك بريطانيا العظمى أن أخبر سموَّكم بالظروف التي سببت نشوب الحرب بين جلالته وبين سلطان تركيا، وبما نتج عن هذه الحرب من التغيير في مركز مصر.
كان في الوزارة العثمانية حزبان: أحدهما معتدل لم يبرح عن باله ما كانت بريطانيا العظمى تبذله من العطف والمساعدة لكل مجهود نحو الإصلاح في تركيا، ومقتنع بأن الحرب التي دخل فيها جلالته لا تمس مصالح تركيا في شيء، ومرتاح لما صرح به جلالته وحلفاؤه من أن هذه الحرب لن تكون وسلة للإضرار بتلك المصالح لا في مصر ولا في سواها، وأمَّا الحزب الآخر فشرذمة جنديين أفَّاكين لا ضمير لهم، أرادوا إثارة حرب عدوانية بالاتفاق مع أعداء جلالته معللين أنفسهم أنهم بذلك يتلافون ما جرُّوه على بلادهم من المصائب المالية والاقتصادية، أمَّا جلالته وحلفاؤه — فمع انتهاك حرمة حقوقهم — قد ظلوا إلى آخر لحظة وهم يأملون أن تتغلب النصائح الرشيدة على هذا الحزب؛ لذلك امتنعوا عن مقابلة العدوان بمثله حتى أُرغموا على ذلك بسبب اجتياز عصابات مسلحة للحدود المصرية، ومهاجمة الأسطول التركي بقيادة ضباط ألمانيين ثغورًا روسية غير محصنة.
ولدى حكومة جلالة الملك أدلة وافرة على أن سموَّ عبَّاس حلمي باشا خديوي مصر السابق قد انضم انضمامًا قطعيًّا إلى أعداء جلالته منذ أول نشوب الحرب مع ألمانيا.
وبذلك تكون الحقوق التي كانت لسلطان تركيا وللخديو السابق على بلاد مصر قد سقطت عنهما وآلت إلى جلالته.
ولما كان قد سبق لحكومة جلالته أنها أعلنت بلسان قائد جيوش جلالته في بلاد مصر أنها أخذت على عاتقها وحدها مسئولية الدفاع عن القطر المصري في الحرب الحاضرة، فقد أصبح من الضروري الآن وضع شكل للحكومة التي ستحكم البلاد تعد تحريرها كما ذكر من حقوق السيادة وجميع الحقوق الأخرى التي كانت تدَّعيها الحكومة العثمانية.
فحكومة جلالة الملك تعتبر وديعة تحت يدها لسكان القطر المصري جميع الحقوق التي آلت إليها بالصفة المذكورة، وكذلك جميع الحقوق التي استعملتها في البلاد مدة سني الإصلاح الثلاثين الماضية، ولذا رأت حكومة جلالته أن أفضل وسيلة لقيام بريطانيا العظمى بالمسئولية التي عليها نحو مصر أن تعلن الحماية البريطانية إعلانًا صريحًا، وأن تكون حكومة البلاد تحت هذه الحماية بيد أمير من أمراء العائلة الخديوية طبقًا لنظام وراثي يقرَّر فيما بعد.
بناءً عليه قد كلفتني حكومة جلالة الملك أن أبلغ سموكم أنه بالنظر لسنِّ سموكم وخبرتكم قد رُئي في سموكم أكثر الأمراء من سلالة محمد علي أهلية لتقلد منصب الخديوية مع لقب «سلطان مصر»، وأني مكلف بأن أؤكد لسموكم صراحةً — عند عرضي على سموكم قبول عبء هذا المنصب — أن بريطانيا العظمى أخذت على عاتقها وحدها كل المسئولية في دفع أي تعدٍّ على الأراضي التي تحت حكم سموكم مهما كان مصدره، وقد فوَّضَت إليَّ حكومة جلالته أن أصرح بأنه بعد إعلان الحماية البريطانية يكون لجميع الرعايا المصريين أينما كانوا الحق في أن يكونوا مشمولين بحماية حكومة جلالة الملك.
وبزوال السيادة العثمانية تزول أيضًا القيود التي كانت موضوعة بمقتضى الفرمانات العثمانية لعدد جيش سموكم، وللحق الذي لسموكم في الإنعام بالرتب والنياشين.
أمَّا فيما يختص بالعلاقات الخارجية فترى حكومة جلالته أن المسئولية الحديثة التي أخذتها بريطانيا العظمى على نفسها تستدعي أن تكون المخابرات منذ الآن بين حكومة سموكم وبين وكلاء الدول الأجنبية بواسطة وكيل جلالته في مصر.
وقد سبق لحكومة جلالته أنها صرَّحت مرارًا بأن المعاهدات الدولية المعروفة بالامتيازات الأجنبية المقيدة بها حكومة سموكم؛ لم تعد ملائمة لتقدم البلاد، ولكن من رأي حكومة جلالته أن يؤجل النظر في تعديل هذه المعاهدات إلى ما بعد انتهاء الحرب.
وفيما يختص بإدارة البلاد الداخلية عليَّ أن أذكِّر سموكم أن حكومة جلالته طبقًا لتقاليد السياسة البريطانية قد دأبت على الجدِّ بالاتحاد مع حكومة البلاد وبواسطتها في ضمان الحرية الشخصية، وترقية التعليم ونشره، وإنماء مصادر ثروة البلاد الطبيعية، والتدرج في إشراك المحكومين في الحكم بمقدار ما تسمح به حالة الأمة من الرقيِّ السياسي، وفي عزم حكومة جلالته المحافظة على هذه التقاليد بل إنها موقنة بأن تحديد مركز بريطانيا العظمى في هذه البلاد تحديدًا صريحًا يؤدي إلى سرعة التقدم في سبيل الحكم الذاتي.
وستُحترم عقائد المصريين الدينية احترامًا تامًّا كما تُحترم الآن عقائد نفس رعايا جلالته على اختلاف مذاهبهم، ولا أرى لزومًا لأن أؤكد لسموِّكم أن تحرير حكومة جلالته لمصر من ربقة أولئك الذين اغتصبوا السلطة السياسية في الآستانة لم يكن ناتجًا عن أي عداء للخلافة، فإن تاريخ مصر السابق يدلُّ في الواقع على أن إخلاص المسلمين المصريين للخلافة لا علاقة له البتة بالروابط السياسية التي بين مصر والآستانة.
وإن تأييد الهيئات النظامية الإسلامية في مصر والسير بها في سبيل التقدم هو بالطبع من الأمور التي تهتم بها حكومة جلالة الملك مزيد الاهتمام، وستلقى من جانب سموِّكم عناية خاصة، ولسموِّكم أن تعتمدوا في إجراء ما يلزم لذلك من الإصلاحات على كل انعطاف وتأييد من جانب الحكومة البريطانية، وعليَّ أن أزيد على ما تقدم أن حكومة جلالة الملك تعوِّل بكل اطمئنان على إخلاص المصريين ورويتهم واعتدالهم في تسهيل المهمة الموكولة إلى قائد جيوش جلالته المكلف بحفظ الأمن في داخل البلاد، ويمنع كل عون للعدوِّ.
وإني أنتهز هذه الفرصة فأقدم لسموكم أجلَّ تعظيماتي.
يعلن وزير خارجية بريطانيا العظمى أنه نظرًا إلى حالة الحرب الناشئة من عمل تركيا؛ وُضعت مصر تحت حماية جلالته، وستكون من الآن محمية إنكليزية، وبذلك انتهت سيادة تركيا في مصر، وستتخذ حكومة جلالة الملك جميع التدابير اللازمة للدفاع عن مصر، وتصون سكانها ومصالحها. ا.ﻫ.
الأمر الكريم السلطاني الصادر لصاحب العطوفة حسين رشدي
باشا
عزيزي رشدي باشا
إن الحوادث السياسية التي وقعت في هذه الأيام أدت إلى بسط بريطانيا العظمى حمايتها على مصر، وإلى خلو الأريكة الخديوية.
وبهذه المناسبة أرسلت الحكومة البريطانية إلينا رسالة نبعث بصورتها إليكم لنشرها على الأمة المصرية، موجهة فيها نداءها إلى ما انطوى عليه فؤادنا من عواطف الإخلاص نحو بلادنا، لكي نرتقي عرش الخديوية المصرية بلقب «السلطان»، وستكون السلطنة وراثية في بيت محمد علي طبقًا لنظام يقرر فيما بعد.
وقد كان لنا بعد أن وقفنا حياتنا كلها إلى اليوم على خدمة بلادنا أن يكون الإخلاد إلى الراحة من عناء الأعمال مطمح أنظارنا، إلَّا أننا بالنظر إلى المركز الدقيق الذي صارت إليه البلاد بسبب الحوادث الحالية قد رأينا مع ذلك أنه يتحتم علينا القيام بهذا العبء الجسيم، وأن نستمر على خطتنا الماضية فنجعل كل ما فينا من حولٍ وقوةٍ وقفًا على خدمة الوطن العزيز.
هذا هو الواجب المفروض علينا لمصر ولجدِّنا المجيد محمد علي الكبير الذي نعمل على تخليد الملك في سلالته.
وبما فُطرنا عليه من الاهتمام بمصالح القطر سنوجِّه عنايتنا على الدوام إلى تأييد السعادة الحسية والمعنوية لجميع أهليه، مواصلين خطة الإصلاحات التي بُدِئ العمل فيها؛ لذلك ستكون همة حكومتنا منصرفة إلى تعميم العلم وإتقانه بجميع درجاته، وإلى نشر العلم وتنظيم القضاء بما يلائم أحوال القطر في هذا العصر، وسيكون من أكبر ما تُعنى به توطيد أركان الراحة والأمن العام بين جميع السكان وترقية الشئون الاقتصادية في البلاد.
أمَّا الهيئات النيابية في القطر، فسيكون من أقصى أمانينا أن نزيد اشتراك المحكومين في حكومة البلاد زيادة متوالية.
ونحن على ثقة بأننا في سبيل تحقيق هذا المنهاج سنجد لدى حكومة صاحب الجلالة البريطانية خير انعطاف في تأييدنا، وإننا لموقنون بأن تحديد مركز الحكومة البريطانية في مصر تحديدًا واضحًا بما يترتب عليه من إزالة كل سبب لسوء التفاهم يكون من شأنه تسهيل تعاون جميع العناصر السياسية بالقطر لتوجيه مساعيها معًا إلى غاية واحدة.
وإننا لنعتمد على إخلاص جميع رعايانا لتعضيدنا في العمل الذي أمامنا.
ولوثوقنا بكمال خبرتكم وبما تحليتم به من الصفات العالية، واعتمادًا على وطنيتكم؛ نطلب منكم مؤازرتنا في المهمة التي أخذناها على عاتقنا، وندعوكم بناءً على ذلك إلى تولي رياسة مجلس وزرائنا وإلى تأليف وزارة تختارون أعضاءها لمعاونتكم، وتعرضون أسماءهم على تصديقنا العالي.
ونسأل الحق جلَّت قدرته أن يبارك لنا جميعًا فيما نبتغيه من نفع الوطن وبنيه. ا.ﻫ.
تحريرًا بالقاهرة في ٢ صفر سنة ١٣٣٣.
مولاي
أقدم لسدة عظمتكم السلطانية مزيد الشكر على ما أوليتموني من الشرف السامي؛ إذ تفضلتم عليَّ بأمركم الكريم الذي فوضتم به إليَّ تأليف هيئة الوزارة.
نعم إنني كنت وكيلًا عن وليِّ الأمر لسابق، ولكنني مصري قبل كل شيء، وبصفتي مصريًّا قد رأيت من المفروض عليَّ أن أجتهد تحت رعايتكم السلطانية في أن أكون نافعًا لبلادي، فتغلَّبت مصلحة الوطن السامية التي كانت رائدي في كل أعمالي على جميع ما عداها من الاعتبارات الشخصية.
لهذا فإني أقبل المهمة التي تفضَّلت عظمتكم السلطانية بتفويضها إليَّ، ولما كان زملائي بالأمس الموجودون الآن بمصر متشرِّبين بنفس هذه العواطف، وهم لذلك مستعدون للاستمرار على معاونتهم لي؛ فإني أتشرف بأن أعرض على تصديق عظمتكم السلطانية رفق هذا مشروع المرسوم السلطاني بتشكيل هيئة الوزارة الجديدة، وإنني بكل احترام وإجلال لعظمتكم السلطانية.
تحريرًا في ٢ صفر سنة ١٣٣٣.
ولقد أظهر صاحب الدولة رشدي باشا رئيس الوزراء في هذه الأزمة السياسية الحرجة من المقدرة النادرة المثال في السياسة، والإدارة، وحسن الأسلوب، مع الغيرة على مصلحة الوطن، والصراحة التامة في القول والعمل؛ ما خلَّد له أجمل الذكر في عهد مصر الجديد.
وبقي جميع الوزراء في مناصبهم ما عدا محب باشا وزير الأوقاف، فإنه أقيل وربما كان السبب في إقالته حسن انعطاف الخديوي إليه، فسافر إلى إيطاليا، وتولى مكانه الفريق السر إبراهيم باشا فتحي، وهو من الضباط الممتازين، ثم إن بسط الحماية البريطانية على مصر أوجب إلغاء وزارة الخارجية؛ لأن أعمالها تحولت إلى دار الحماية.
وفي ٢٠ ديسمبر سنة ١٩١٤ احتفل رسميًّا بجلوس السلطان حسين، فقصد عابدين من منزله قرب قصر النيل بموكب حافل، كانت الجماهير التي ملأت الطرقات وشرفات المنازل تحييه بالتصفيق على طول الطريق، وكان جمع غفير من أعيان البلاد ووجوهها وكبار موظفي الحكومة ينتظر الموكب في رحبة عابدين، فلما أقبل السلطان هتفوا له هتافًا عظيمًا، ثم استقبل عظمته الجماهير استقبالًا دام ست ساعات، ألقى عليهم فيه كثيرًا من درر نصائحه الغوالي في الزراعة والاقتصاد السياسي والأخلاق الراقية، وذم الخصومات المذهبية والعائلية، وحثَّ الجميع على الاتحاد وجمع الكلمة على ما فيه خير وطنهم ورقيه وسعادته.
وحقًّا إن حظ مصر كبير بسلطانها الجديد، إنه سلطان عرك الزمان وعرف كيف تساس البلدان، سلطان يتفانى في حب بلاده كما تتفانى بلاده في حبِّه، سلطان لا همَّ له إلَّا خير أُمته، ولا مطلب إلَّا راحتها ورقيها، سلطان يعرف قدر الرجال، فيقرِّب العامل النافع، وينبذ الفاسد الضار، سلطان يكره أن يرى الشقاق في عناصر أمته وطوائفها وأسراتها، وهو دائب على جمع كلمتهم إلى ما فيه مصلحتها وكرامتها، حقًّا إن الشرق ليغبط مصر على سلطانها الجديد؛ لأن الشرق لم ير مثله منذ عهد بعيد، أطال الله أيامه، وكلَّل بالنصر أعلامه ما كرَّ الجديدان وتعاقب النيران وقام في الشرق سلطان.
(١) حديث لعظمة السلطان عن مصر ومستقبلها
قال المراسل: استقبلني السلطان حسين كامل حفيد محمد علي وصافحني بيد مبسوطة على الطريقة الأميركية، ثم قال عظمته: «لم أذهب إلى أميركا ولكني أعرف الشعب الأميركي إذ قابلت الأميركيين في كل مكان في أوروبا، ورأيت كثيرين منهم في مصر، وأني لأحب أساليبهم الحرة الطليقة من القيود والتكلف وامتدح النشاط والدأب الأميركيين، وهي صفات نريدها لمصر، وأنت كلما أطلت وجودك في بلادنا ازددت حبًّا لها، فهي ساحرتك بطلاقتها وجمالها، وستتحمس أشد التحمس لمسائلها الاقتصادية، ولقد خُصَّت مصر بأربع مزايا جعلتها بلد الله المبارك: نيلها الجوَّاد الفياض، وشمسها الدائمة الإشراق، وأرضها الغنية المخصاب، وفلاحها العامل الكدود، وإن الفلاح المصري لعون للطبيعة على استدرار الثروة لنا، ولهذا كنت دائمًا كلفًا بالفلاحين، وخصصتهم بأوقاتي وعنايتي لتحسين حالهم، ولما كنت الأمير حسينًا كانوا يسمونني أبا الفلَّاح، وإني لأفضل أن أكون الأمير حسينًا، فإذا كنت الآن السلطان، فلأن الواجب كان يدعوني ألَّا أرفض الدعوة التي كانت تستفزني لأن أوسِّع نطاق عملي ولا أقصره على أملاكي الخاصة، لينال فلاحو مصر نصيبهم من العناية والاهتمام، فأنا لم أكن قط ذا مطامع شخصية، بل كنت مؤثرًا مصلحة بلادي على مصالحي الخاصة.»
وهنا نهض السلطان وأومأ إيماءة دلَّ بها على أن ترف عابدين لا قيمة له عنده، وكنا نتمشى بهدوء، وكانت جوقة عسكرية تعزف خارج القصر والحراس على صهوات خيولهم كتماثيل ثابتة في مدخل الأبواب، وتابع عظمته الكلام فقال: «هذه مظاهر لا تهمني، ولقد كنت أكثر حرية وهناء لما كنت الأمير حسينًا، ولم تكن عليَّ هذه المشاغل والعمل المستمر الذي يستنفد كل وقتي، ولكن لما دخلت تركيا الحرب هل كان لي أن أرفض؟ أكان في مقدوري أنا أحد أمراء بيت محمد علي أن أتنحى عن الواجب الذي يحول دون هدم العمل المجيد الذي بدأ به جدي الخالد الذكر لترقية المصريين وإسعادهم؟
لقد كان الحكم التركي مصيبة على مصر حتى جاء محمد علي إليها، وكذلك كان حكم الأتراك في كل أرض نزلوها وحكموها حينًا من الدهر، ويكفيك برهانًا أن تقابل بين رومانيا واليونان وبلغاريا وبلاد الأتراك، ويكفي أهل العواطف الذين يقولون ببقاء السلطنة العثمانية إقناعًا وتخطئةً لآرائهم أن يركبوا القطار من فيينا إلى الآستانة، فإنهم يمرون بهنغاريا والسرب وبلغاريا هذه البلاد التي أنقذت من حكم الأتراك فيرون المدن الجميلة والمزارع الخصبة والشعوب الرغيدة العيشة، ثم تعالَ إلى تركيا وتغلغل فيها بعد حدودها القديمة وعرج يمينًا عند مصطفى باشا، فإنك لا ترى إلَّا الانحطاط والقذارة، والأرض البوار المهملة، والبيوت المشيدة من صفائح البترول الفارغة، خذ طريقك من إسكندرية إلى أزمير، وقابل بين المينائين والبلدين، فإذا كان الألمان يعتقدون أننا مغتبطون بفكرة الرجوع إلى حكم الأتراك وأننا نرحب بهم إذا أقبلوا علينا كمحررينا لنا برجالهم الرحل المختلفي الأزياء، إذن لشدَّ ما أضاع الألمان قواهم العقلة، ولشدَّ ما فقدوا مزية النظر إلى الأمور كما هي.
وإنها لفرصة طيبة لنا إذا جازف الألمان والأتراك وعملوا على تحقيق هذه الفكرة، ففي تحقيقها ولا شك تعجيل بسقوطهم، أمَّا وأنت ستنشر كتاباتك بين الأميركيين البعيدي النظر والذكاء؛ فإني أقول بملء الصراحة: إننا نحن المصريين ننظر إلى الإنكليز كأصدقاء لنا ومحامين عنا، وإننا لموقنون بأن بلادنا كانت ولا شك ضائعة في العام الفائت لو لم يخفَّ الإنكليز لمساعدتنا، والإنكليز بركة لمصر الآن وكذلك كانوا من قبل، وإني لمعجب بالأساليب والوسائط التي اتخذت للدفاع عن بلادي وشعبي، وهذه الأساليب هي كافية كل الكفاية، ثق أن بريطانيا العظمى ستبذل أكبر الجهد لتحمي قناة السويس وتدافع عن مصر لأجل سلامة إمبراطوريتنا، فهي لا تضن بالتضحيات في هذا السبيل من الرجال والمال إذا كان الأمر حيويًّا خطيرًا، ولهذا فإني لا يخامرني أقل تصور في غزوة خارجية أو اضطراب داخلي.»
قال المراسل: وما هي آمال عظمتكم في مستقبل مصر؟
فابتسم عظمته وقال: «إن سؤالك لمتطلب أجوبة كثيرة، ولكني مجيبك صراحة وبدون تعجل، ولك أن تنظر إلى الجيوش الإنكليزية في مصر، وتتعرَّف البلاد التي أقبلت منها، فتتيقن أن هذه الحرب برهنت على متانة الإمبراطورية الإنكليزية وعظمتها، أمَّا وقد برهنت إنكلترا بتضحيتها التي لا عداد لها، هذه التضحيات التي اشتركت فيها أملاكها، فلا يمكن أن تكون قناة السويس بعد الحرب أقل منها نفعًا وأهمية لها هي قبل الحرب.
وما كنت لأقبل سلطنة مصر في ظل الحماية البريطانية لو لم أكن مواليًا منعطفًا على الدولة الحرة العظيمة الذي سأتساند معها في إنجاح شعبي اقتصاديًّا وأدبيًّا، ولقد علمني الاختبار الشخصي الطويل بأن الإنكليز هم أصدقاء شعبي وعائلتي الخلص، وهذا العام الذي مرَّ عليَّ وأنا سلطان على مصر، وفيه عاشرت كبار رجال الحكومة الإنكليزية ونوَّابها، واشتركت معهم في العمل يومًا بعد يوم جعلني أوقن تمامًا أنهم أشدُّ ولاءً لي ولمصر، وأنا متابع للعمل معهم ما داموا على ثقة من ولائي وإخلاصي، ولولا هذه الثقة والولاء لاعتزلت منصبي بدون تردد، وإن في طبعي ولاءً وإخلاصًا، ولهذا فإني مستطيع العمل مع هؤلاء الخلص الأوفياء، وأنا الآن وقد أوفيت على الرابعة والستين وخبرت الإنكليز الخبرة الطويلة، فإني ارتضيت العمل معهم على إنهاض بلادي، وتحقيق آمال مصر وشعبها، هذه الآمال التي انتهت إليَّ من جدِّ الخالد العظيم مؤسس عائلتي في مصر.
ولا تنسَ أن ذكر الفرح العظيم الذي يهزني للعمل لأجل المصريين، فهم شعب حقيق بأن يسعى الإنسان لأجله.
نعم إن في مصر أناسًا أخيارًا، وكذلك عرف محمد علي من قبلي، وهم خلقاء أن يُحَبُّوا وأن يعطف الإنسان عليهم، وإلَّا فأي شعب آخر أحق منهم بالمحبة والعطف.» ا.ﻫ.