خلاصة تاريخ العرب
وقد اختلفت آراء المحققين في مهد الجنس السامي وأوجهها رأيان:
رأي مفسِّري التوراة: وهو أن مهد الجنس السامي جزيرة العراق، ومنها تفرق في الجهات؛ فسكن البابليون والآشوريون العراق، والآراميون الشام، والفينيقيون سواحل سوريا، والعبرانيون فلسطين، والعرب جزيرة العرب، والإثيوبيون الحبشة.
وذهب آخرون وفي مقدمتهم العلَّامة روبرتسن سمث الإنكليزي أن مهد الجنس السامي جزيرة العرب، ومنها تفرق في الشرق قبل التاريخ كما تفرق العرب المسلمون في صدر الإسلام، ولهم على ذلك أدلة لغوية اجتماعية، ومن أدلتهم اللغوية أن اللغة العربية هي أقرب أخواتها — الكلدانية والسريانية أو الآرامية، والعبرانية، والحبشية — إلى اللغة السامية الأصلية، وأن في الآرامية والعبرانية آثار الحياة البدوية العربية.
ومهما يكن من أمر ذلك المهد فإننا نرى العرب قد أسسوا في جزيرتهم عدة ممالك اشتهرت في التاريخ قديمًا وحديثًا، وخرجوا من جزيرتهم للفتوحات غربًا إلى سيناء ومصر وأفريقيا الشمالية وشرقًا إلى العراق وتركستان وشمالًا إلى سوريا وآسيا الصغرى؛ فأسسوا فيها عدة ممالك قبل الإسلام وبعده، فكان مهد العرب ومسرحهم منذ القديم من المحيط الهندي إلى المحيط الأتلانتيكي شرقًا وغربًا، ومن أعالي الفرات ودجلة والبحر المتوسط إلى أقاصي السودان شمالًا وجنوبًا.
ذلك لأن جزيرة العرب واسعة الأطراف، كثيرة البوادي والقفار، قليلة النبت والمياه، وليس فيها على اتساعها نهر واحد حي يجمع الجمَّ الغفير من الناس في صعيد واحد، فعاش معظم أهلها عيشة البادية يتنقَّلون من مكان إلى مكان في انتجاع مواقع الكلأ والماء، وقد انقسموا فيها قبائل شتى دأبهم شن الغارة بعضهم على بعض، فكانوا بحكم الضرورة والطبع أهل حرب وفتوح.
وكان في جوارهم عن اليمين والشمال على الفرات ودجلة وبرَدَى والعاصي والأردن والنيل بلادٌ من أخصب بلاد الدنيا وأغناها، فكانوا ينتابونها للاتجار والارتزاق فيدهشهم خصبها وغناها ويطمحون بأبصارهم إليها، حتى إذا ما أنسوا من إحداها الضعف ورأوا أهلها قد انشقوا بعضهم على بعض وانغمسوا في الملاهي والملذات، واتفق أن كان لهم في باديتهم زعيم ذو عصبية قوية التفوا حوله، وأغاروا على تلك البلاد وامتلكوها وتحضروا فيها، وبقوا حتى تُذهب الحضارة منهم روح الغزو والفتوح، وينغمسون في الترف والملذات، ويتفق قيام زعيم قوي في البادية فيغير عليهم ويتملَّكهم وإلا تملكهم أجنبيٌّ، وهكذا على ممر العصور.
هذا وقد وجد العرب في بوادي أفريقيا الشمالية المتاخمة لهم مسرحًا واسعًا يشبه بلادهم كل الشبه في الهواء والماء والتربة، ولم يكن البحر الأحمر وهو الحاجز الضيق بين البلادين ليمنعهم عن الوصول إلى تلك البوادي، خصوصًا وأن لهم منفذًا طبيعيًّا من برزخ السويس في الشمال وبوغاز المندب في الجنوب، فكانوا كلما اضطروا إلى مهاجرة بلادهم بسبب ضيق الرزق أو الحروب الأهلية عبروا البحر الأحمر إلى أفريقيا الشمالية وسكنوا بواديها، ولم يجدوا من السود سكان البلاد الحضر خصمًا يردُّهم عن سكنى البوادي، بل لما كانوا أرقى عقلًا وأسمى إدراكًا وأقوى عدَّةً من السود، كانوا كلما كثروا في جهة من جهات السود وكان لهم زعيم ذو دهاءٍ وتدبير ونزعةٍ إلى الملك؛ أغاروا على تلك الجهة وملكوها مع ملوكها السود أو وحدهم كما بيَّنا تفصيلًا في كتابنا تاريخ السودان.
(١) ممالك العرب قبل الإسلام
- (١)
العرب العاربة أو البائدة، وهم أقوام شتى أشهرهم العمالقة.
- (٢)
والعرب المتعربة وهم القحطانيون.
- (٣)
والعرب المستعربة وهم العدنانيون.
(١-١) العرب العاربة
- عاد: سكنوا أحقاف الرمال بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشحر. قالوا: «وهم نسل عاد بن عوص بن آرام بن سام»، ولعلهم أقدم دول الجزيرة؛ لأن العرب يطلقون لفظ عادي على كل شيء قديم لم يعلم تاريخه.
- وثمود: قالوا: و«هم بنو ثمود بن جائر (أخو عوص) بن آرام»، وكانت ديارهم بالحجر ووادي القرى في ما بين الحجاز والشام، وكانوا ينحتون بيوتهم في الجبال.
- وطسم وجديس: قيل «وهما أيضًا من ولد جاثر»، وقد سكنتا اليمامة بين نجد واليمن.
- والنبط: في البتراء شرقي وادي العرَبة، وقد تقدم الكلام عليهم تفصيلًا.
- وتَدمر: في بادية الشام، وسيأتي الكلام عليها.
- والعمالقة: قيل «إنهم من ولد عماليق بن لود (لاوذ أخو آرام) بن
سام.» قال أبو الفداء: «لما تبلبلت الألسن نزلت العمالقة
بصنعاء من اليمن، ثم تحولوا إلى الحرم وأهلكوا من قاتلهم
من الأمم، وكان من العمالقة جماعة بالشام.»
وذكر ابن خلدون أن أهل البحرين وعمان طوائف منهم، وكذلك أهل الحجاز ونجد.
والظاهر أن اسم العمالقة أطلق على عدة طوائف من العرب البائدة، وخصوصًا أهل الشمال مما يلي الجزيرة، وقد ذُكروا في أخبار بني إسرائيل حين مرورهم ببرية سيناء كما مرَّ، وذُكروا بعد ذلك مرارًا في تاريخ بني إسرائيل، وقد أطلق البعض اسم العمالقة على جميع العرب البائدة.
- العرب البائدة والعراق: وأقدم ما وصلنا من أمر العمالقة أو العرب البائدة أنهم
كانوا يسكنون البادية بين العراق والعقبة، وقد انقسموا
فيها قبائل شتى، وكان ذوو العصبية منهم ينقلون التجارة بين
بابل ومصر.
قيل وما زالوا على هذه البداوة حتى قويت عصبيتهم وتغلبوا على بابل (وكان فيها السومريون والأكَّاديون من الجنس المغولي)، وقامت فيها دولة منهم في القرن الخامس والعشرين قبل المسيح، كان أول ملوكها «ساموابي» أي «ابن سام».
وما زالوا حتى ظهر منهم في القرن الثالث والعشرين ملك اسمه «حمُّورابي» فأسس مملكة قوية عرفت بدولة «حمُّورابي» بلغت أسمى ما وصلت إليه دولة في العهد القديم من الرقي الأدبي والمادي، وقد اشتهرت على الخصوص بسنِّ الشرائع والقوانين وبناء الهياكل والقصور، واستمرت حاكمة إلى أواخر القرن اﻟ ٢١ قبل المسيح.
- العرب البائدة ومصر: وذكر مؤرخو العرب أن العمالقة هم الرعاة الهكسوس الذين ملكوا مصر في مدة الدول الخامسة عشرة إلى السابعة عشرة، ويُظن الآن أن سكان مصر وإثيوبيا الأولين الذين سكنوا النيل قبل التاريخ هم عرب هاجروا إليه من جزيرة العرب عن طريق سيناء أو بوغاز باب المندب كما سيجيء.
- العرب البائدة وسوريا: هذا وسنرى في تاريخ سوريا أن معظم سكانها الأولين هاجروا إليها من جزيرة العرب، وأسسوا فيها دولًا شتَّى.
- بقايا العرب البائدة: ولقد باد سكان جزيرة العرب الأولون، ولم يبقَ منهم إلَّا بقايا ضعيفة اختلطت بالعرب المتعربة؛ لذلك سموا بالعرب البائدة، ولعل البدو المعروفين الآن بهتيم الذين يعيشون مع العرب بالخاوة وقد مرَّ ذكرهم هم بقية العرب البائدة، فإنهم أعرف بطرق البوادي ومياهها ومراعيها من القحطانيين والعدنانيين أسياد البلاد الآن.
(١-٢) العرب المتعربة أو القحطانيون
أما القحطانيون فقيل «هم أبناء قحطان أو يقطان بن عابر بن شالح بن أرفكشاد بن سام بن نوح.» (تك ١٠: ٢١)، ومنهم بنو جرهم، وقال ابن خلدون: «إن يعرب بن قحطان لما غلب عادًا على اليمن وملكه من أيديهم؛ ولَّى إخوته على الأقاليم، وولَّى جرهم على الحجاز»، ويقول العرب: إن قحطان أبو اليمن كلهم، وإنهم كانوا يتكلمون غير العربية، فلما نزلوا اليمن كان فيها العرب العاربة فتعلموا العربية منهم ولذلك سموا العرب المتعربة، وقد اشتهر للقحطانيين في اليمن ثلاث دول: وهي: الدولة المعينية، والدولة السبائية، والدولة الحميرية.
(أ) الدولة المعينية
أما الدولة المعينية، فكانت دولة قوية عاصمتها «مَعِين» في وادي الشارد شرقي اليمن وشمال حضرموت، ومن الغريب أن مؤرخي العرب لم تذكر لنا شيئًا عن هذه الدولة، ولكن علماء الآثار الإفرنج اكتشفوا آثارها منذ عهد قريب، وقرءوا كتاباتها فظهر أنه ملك في «معين» ٢٦ ملكًا مدُّوا نفوذهم إلى بلاد العرب كلها.
وكان لهم قلم يكتبون به يعرف الآن بالقلم المُسْند أو القلم الحِمْيَري. قالوا: لم تكن هذه الدولة دولة حرب وفتوح بل دولة تجارة وزراعة كدولة الفينيقيين، وكانوا ينقلون التجارة من الهند والحبشة وبلاد العرب إلى مصر والشام والعراق، وكانوا يقيمون السدود في الأودية ويفتحون الترع لتنظيم الري، وقد اختلف المحققون في بدءِ تاريخهم، فقال بعضهم: إنه يبدأ من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، وقال آخرون: من القرن السابع أو الثامن، ووقف الباحثون على نقوش معينية في العلاء قرب وادي القرى وفي حوران وغيرهما، وقد عدَّ بعضهم هذه الدولة من العرب البائدة. قالوا: انضم المعينيون إلى من بقي من دولة عاد الأولى وكوَّنوا دولة عاد الثانية حتى تغلب عليها القحطانيون وأنشئوا الدولة السبائية.
(ب) الدولة السبائية
أمَّا الدولة السبائية فقد كانت كالمعينية دولة تجارة وزراعة، وكانت في القرون الأخيرة قبل الميلاد أعظم واسطة للاتصال بين الأمم الشرقية.
والظاهر أن السبائيين قضوا زمانًا في جوار المعينين وهم من قبيل «الأذواء»، أي كان لكل قبيلة منهم رئيس له كفر أو مدينة أو قصر ينسب إليه بقولهم: ذو ريدان وذو صرواح أي صاحب ريدان وصاحب صرواح، وكان إذا قوي رئيس من هؤلاء الأذواء تغلَّب على البلاد التي في جواره وسمي مجموع الأذواء التي يملكها محفدًا وصاحبها قيلًا، وإذا اجتمعت له عدة محافد سُمِّي مجموعها مخلافًا وصاحبها ملكًا.
قالوا: وما زالوا على ذلك حتى نبغ سبأ صاحب قصر صرواح شرقي صنعاء، وكان قويًّا طامعًا فاستولى على جيرانه المعينيين وأصبحت صرواح قصبة مملكتهم، ثم صاروا إلى مأرب في وادي داما وكانت لهم فيها شهرة عظيمة.
وقد بلغ عدد ملوك سبأ بضعة وثلاثين ملكًا، ولا يعلم بالتأكيد مبدأ ملكهم، ولكنا نجد في التوراة أن ملكة سبأ جاءت إلى سليمان زائرة في القرن التاسع قبل الميلاد، فإذا صح أن سبأ هذه ملكة مأرب كان بدءُ دولة سبأ قبل عهد سليمان، وقد انتهت سنة ١١٥ق.م وبها تبتدئ دولة حمير.
-
سد مأرب: ومن أهم آثار السبائيين سد مأرب، قالوا: إن مياه
الأمطار التي تهطل على جبال اليمن تسيل في أودية شتى
إلى الشرق والغرب، فالسيول التي تنزل إلى الشرق تتجمع
في وادٍ عظيم يسمونه الميزاب شرقي مدينة مأرب، يرتفع
نحو ١١٠٠ متر عن سطح البحر، وهذا الوادي يضيق عند
مدينة مأرب وينحصر بين جبلين بينهما نحو ٤٠٠ متر،
وهناك يسمى وادي أذينة ثمَّ ينفرج هذا الوادي انفراجًا
عظيمًا وتضيع فيه السيول بلا فائدة، فأقام السبائيون
على مسافة قليلة من مضيق الوادي سدًّا من الحجر طوله
٨٠٠ ذراع وعرضه ١٥٠ ذراعًا، وجعل له عن جانبيه فتحتان
ببابين يوزَّع بهما الماء على قدر الحاجة عند
الاقتضاء.
قالوا: وأول من بنى هذا السد يثعمر ملك سبأ في القرن السادس قبل المسيح، وزاد فيه خلفاؤه ما زاد في فائدته، فحوَّلوا ذلك القفر البلقع حول السد إلى رياض وجنان، فيها من كل فاكهة زوجان، حتى كانوا يعبرون عن البلاد التي إلى يمناه بالجنة اليمنى والتي إلى يسراه بالجنة اليسرى، وكان الرومان يسمون هذه البلاد بالعربية السعيدة والعرب يسمونها باليمن الخضراء.
وما زال هذا السدُّ حتى تهدم فحصل منه خراب عظيم، وتشتت أهل سبأ في جزيرة العرب فنزلت خزاعة مكة، ونزلت الأوس والخزرج يثرب، ونزل الأزد عمان واليمامة، ونزل اللخميون إلى بادية العراق فكان منهم دولة المناذرة في الحيرة، ونزح الغساسنة إلى بادية الشام فكان منهم دولة الغساسنة الشهيرة، وعرب الصفا إلى جبل الصفا من جبل حوران، وكان لهم قلم خاص يتفرع من القلم المسندي السبائي، وقد ورد ذكر سبأ وخرابها في القرآن الكريم قال: لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ * ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ * وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ * فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ.وفي المثل: «تفرقوا أيدي سبأ.»
(ﺟ) الدولة الحميريَّة
أمَّا الدولة الحميرية فقد خلفت الدولة السبائية، فإنه لما انهدم بنيان دولة سبأ وتلاشت مدينة مأرب عاصمة ملكهم صارت السلطة ببلاد اليمن من قبيل الأذواء، وما زالت حتى قام «علهان لهفان» ذو ريدان في نهاية القرن الأول للمسيح، وتغلب على عدة محافد ومخاليف من مملكة سبأ فسُمِّي «ملك ريدان وسبأ».
-
التبابعة: ثم ما زالت هذه المملكة تكبر وتمتد في زمن خلفاء
علهان حتى دخل فيها حضرموت وما والاها من البلاد شرقًا
مدة حكم «شمر يرعش» في أواخر القرن الثالث للميلاد،
فسُمِّي ملك «ريدان وسبأ وحضرموت»، وعرفت دولة حمير
بعده بدولة «التبابعة»، واحدها تبَّع أي ملك
الملوك.
قالوا: وقد كانت حكومة التبابعة في غاية الرقي، وكانت حضارتهم لا تقل عن حضارة الآشوريين وغيرهم من الممالك التي كانت في شمال الجزيرة، وذلك لاتصالهم بالتجارة مع الهند والفرس والسوريين والمصريين، وقد رمموا سدَّ مأرب بعد هدمه وأعادوا الخصب والنماء إلى بلاد اليمن، وكانوا يتعهدون السد بالعمارة ويرممون ما تهدَّم منه حتى خرب قُبَيل الإسلام، فأهمل ولا تزال آثاره ظاهرة إلى اليوم.
وكانوا يستخرجون من جبالهم الذهب والفضة والحجارة الكريمة كالياقوت والزمرد والعقيق؛ ولذلك كان الحميريون والسبائيون من قبلهم من أغنى أهل الأرض وأكثرهم حضارة ورفاهية، وكانت لهم القصور الفاخرة والرياض الزاهرة والرياش الباهرة، قال الهمذاني في وصف قصر كوكبان: «كان مؤَزر الخارج بالفضة وما فوقها حجارة بيض، وداخله ممرد بالعرعر والفسيفساء والجزع وصنوف الجوهر.»
وقيل في وصف قصر بينون:
واسأل بينون وحيطانهاقد نطقت بالدر والجوهروقيل في وصف مأرب:
ومأرب قد نطقت بالرخاموفي سقفها الذهب الأحمر - كندة: وقد اشتهر للعرب في عهد التبابعة دولة «كندة» في ظاهر حضرموت، كان لها شأن مع الحميرين، وآخر ملوكها امرؤ القيس الشاعر المشهور. كان معاصرًا للحارث بن جبلة الغساني، وقد تُوفي سنة ٥٦٠م.
-
اليهود والنصارى في بلاد العرب: هذا وبعد خراب أورشليم أو قبله قصد كثير من اليهود
جزيرة العرب، وتشيَّع لهم عدة قبائل مثل حمير وكنانة
وبني الحارث بن كعب وكندة حتى قويت سطوتهم، وفي أوائل
القرن السادس للمسيح كان على اليمن ذو نواس فدان
باليهودية، وكان شديد الغيرة عليها حتى إنه اضطهد كل
من لم يتهوَّد.
وكانت النصرانية أيضًا في هذا العهد قد انتشرت في الجزيرة، ودان بها قبائل حمير وغسَّان وربيعة وتغلب وتنوخ وطي وقضاعة والحيران ونجران.
-
حكم الحبشة على اليمن: قيل فطلب ذو نواس من نصارى نجران اعتناق اليهودية،
ولما لم يسمعوا له نقم عليهم وبالغ في نقمته حتى إنه
خدَّ أخدودًا وأضرم فيه النار، وجعل يرمي فيه كل من لم
يرجع عن النصرانية، فاستند أهل نجران بنجاشي الحبشة
وكان نصرانيًّا، فأرسل إلى اليمن جيشًا عليه «إرباط»
وكان من ضباطه أبرهة الأشرم، فقابلهم ذو نواس عند
البحر الأحمر وقاتلهم قتالًا شديدًا دارت الدائرة فيه
عليه وخاف من سقوطه في يد عدوه ونقمته فأغرق نفسه،
واستولى الأحباش على معظم بلاد اليمن، وكان ذلك سنة
٥٢٥ب.م، ومات إرباط بعد أن حكم اليمن نحو عشرين سنة،
فتولَّاها أبرهة وجعل عاصمته صنعاء، وبنى فيها قصرًا
جميلًا وغزا مكة قصد هدم الكعبة، وحمل الناس على الحج
إلى قصره بدل الكعبة، فعاد مقهورًا ومات بعد حكم نحو
٢٣ سنة، وكانت غزوته مكة سنة ٥٧١م وتُعرف بعام الفيل
لأنه جاءها غازيًا على فيل.
وتولى الملك بعد ابنه يكسوم فحكم ٢٠ سنة، ثم أخوه مسروق فحكم ١٢ سنة.
-
حكم الفرس على اليمن: وكان لما مات ذو نواس قام أمير من أهله اسمه ذو يزن،
واستولى على بعض البلاد فملك فيها نحو ٨ سنين، ثم تغلب
عليه الأحباش فانتحر، وفرَّ ابنه «سيف» إلى قيصر الروم
يستنصره، وأقام ببابه سبع سنين فلم ينجده، فسار إلى
كسرى أنوشروان ملك الفرس، وهو أشهر ملوك الدولة
الساسانية، وكانت عاصمة ملكه «المدائن» قرب بغداد،
وبها إيوانه العظيم، فوجَّه معه رجلًا اسمه وهرز في
جيش من المساجين، وقال: «إن هم فتحوا كانوا لنا وإن هم
هلكوا كانوا لنا»، فركب وهرز وجيشه البحر فالتقاهم جيش
الأحباش في ساحل اليمن، فهزموه وامتلكوا البلاد، وجلس
سيف بن ذي يزن على كرسيها تحت سيادة الفرس، وأتته وفود
العرب تهنئه بالملك، وكان في من أتاه من مكة عبد
المطلب جدُّ النبي محمد في نفرٍ من قومه فأكرم
وفادته.
وبعد أن حكم مدة قتله حُجَّابه وكانوا من الحبشة، وبه انتهى حكم التبابعة في اليمن، وصارت بعد ذلك تابعة لمملكة الفرس يولُّون عليها الولاة، حتى إذا كانت السنة التاسعة للهجرة أسلم أهل اليمن وأرسلوا وفدًا منهم إلى النبي محمد بالمدينة، فأرسل إليهم معاذ بن جبل وجعل له الإمارة عليهم، وكان العامل عليهم من قبل كسرى رجل اسمه بازان فدخل في الإسلام وبذلك صار حكم اليمن إلى العرب المسلمين، إلى أن استولى الترك على سواحلها في عهد السلطان سليمان الأول سنة ٩٢٦ﻫ/١٥٢٠م، ثم عليها كلها سنة ١٢٥٥ﻫ/١٨٣٩م في عهد السلطان عبد المجيد، ولكن سلطتهم عليها كانت على الدوام ضعيفة مهدَّدة بالثورات الداخلية إلى اليوم.
(١-٣) العرب المستعربة أو العدنانيون
أمَّا العدنانيون فهم أبناء إسماعيل بن إبراهيم الخليل من امرأته هاجر، جاء في سفر التكوين ص٢١، أن سارة زوجة إبراهيم الأولى غارت من زوجته هاجر، فصرف إبراهيم هاجر مع ابنها «فمضت وتاهت في برية بئر سبع … ونادى ملاك الله هاجر من السماء وقال لها … لا تخافي لأن الله سمع صوت الغلام حيث هو، قومي احملي الغلام وشدِّي يدك بي لأني سأجعله أمة عظيمة … وكان الله مع الغلام فكبر … وسكن في برية فاران …»
وقال مؤرخو العرب: أتى إسماعيل إلى مكة وكان فيها بقية من «جرهم» القحطاني، فتزوج من بناتهم وولد له اثنا عشر ولدًا، وما زال نسله يتكاثر حتى أنتج حفيده عدنان، فولد لعدنان مُعد وولد لمعد نزار، وولد لنزار «أنمار ومضر وقضاعة وربيعة وأياد» وبارك الله في نسلهم، فكان منهم العرب العدنانية، وقد تعربوا كلهم فسمُّوا بالعرب المستعربة، وكانت منازلهم في مبدأ أمرهم مكة وجوارها ثم تفرقوا في الجزيرة كلها طلبًا للرزق وسكنوها مع القحطانيين، ومن شعب قحطان وعدنان تتألف العرب الآن.
الحجر الأسود والكعبة
هذا وقد وُجد في مكة قبل التاريخ حجر أسود بنى العرب عليه بيتًا مربَّعًا سموه «الكعبة» وحجوا إليه، ويغلب على الظن أنه نيزك نزل في وادي مكة من السماء فأجلَّه العرب وبنوا عليه الكعبة، وجعلوا فيه أصنامهم وصاروا يحجون إليه، فكان لهم خير واسطة لجمع الشمل وتوحيد المجموع، ثم لما جاء الإسلام أقرَّ الحج إلى الكعبة لما في ذلك من الفائدة للعرب والمسلمين كافةً.
سوق عكاظ
هذا ومما ساعد على توحيد لغة العرب وتآلفهم أنه كان من عاداتهم إقامة الأسواق للتجارة وتناشد الأشعار وإلقاء الخطب والمباهاة بالنسب.
وأشهر هذه الأسواق «سوق عكاظ» بين نخلة والطائف على ثلاث ليال من مكة، كانت تقوم هلال ذي القعدة قبيل الحج إلى الكعبة، ولقد بلغ من كلف العرب بالشعر والمباراة فيه أن عمدوا إلى سبع قصائد من الشعر النفيس، وكتبوها بماءِ الذهب، وعلقوها بأستار الكعبة؛ لذلك قيل لها: مذهَّبات أو معلَّقات، وأشهرها معلقات امرئ القيس بن حجر الكندي المار ذكره، وزُهير بن أبي سُلمى المزني المتوفى سنة ٥٢ق.ﻫ وعمرو بن كلثوم التغلبي المتوفى سنة ٢٣ق.ﻫ وعنترة العبسي المتوفى سنة ٧ق.ﻫ ومنها:
قبيلة قريش
وقد آل أمر الكعبة في القرن الثاني قبل الإسلام إلى قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فِهر العدناني الملقب بقريش.
قال أبو الفداء: «قيل سُمِّي فهر قريشًا لشدَّته تشبيهًا له بدابة من دواب البحر يقال لها: القرش تأكل دواب البحر وتقهرها، وقيل إن قصي بن كلاب لما استولى على البيت وجمع أشتات بني فهر سُمُّوا قُريشًا؛ لأنه غرش بني فهر أي جمعهم حول الحرم.» ا.ﻫ.
وبطون قريش الذين تولُّوا حراسة الكعبة عشرة، وهم: هاشم، وأمية، وتَيم، وعَدي، ومخزوم، ونوف، وأسد، وجُمح، وسهم، وعبد الدار.
ولقد كان لقريش في مكة بسبب استيلائهم على الكعبة منزلة إجلال وإكرام لا تقل عن منزلة الملوك، ولكنه لم يقم منهم أو من غيرهم من القبائل العدنانية قبل الإسلام دول تستحق الذكر، بل كان ملوك حمير يعطون بعض ساداتهم لقب ملك ويولُّونه الزعامة على القبائل، وكانت قريش تتجر إلى الشام واليمن فكانت لهم رحلتان رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام.
(٢) ممالك العرب بعد الإسلام
(٢-١) النبي محمد صاحب الشريعة الإسلامية، سنة ٥٧١–٦٣٢م
وما زال العرب من قحطانيين وعدنانيين على ما بينَّا حتى ظهر في قريش من فرع هاشم النبي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب في أوائل القرن السابع للمسيح، ونادى بالإسلام فانتشرت دعوته في الجزيرة كلها ثم في الشرق كافة بسرعةٍ لا مثيل لها في تاريخ الأديان؛ نظرًا لتوافر الأسباب الملائمة لانتشارها:
كانت بلاد الشام ومصر في ذلك العهد في يد المملكة البيزنتيَّة التي عرفت عند العرب «بمملكة الروم»، وعليها ملك يُدعى هِرقل. وكان العراق واليمن في يد مملكة الفرس وعليها كسرى أنوشروان المار ذكره، وكانت المملكتان تتطاحنان في الحروب وتئنَّان من الثورات الداخلية وفراغ خزينتيهما من النقود، وقد افتتح جيش كسرى من بلاد الروم مدينة الرُّها سنة ٦١١م، واستولى على دمشق سنة ٦١٣م، وعلى أورشليم سنة ٦١٤م، وغنم من نفائس لا تثمَّن وفي جملتها خشبة الصليب، ثم زحف على مصر سنة ٦١٧م فافتتح الإسكندرية، وكان جيش آخر للفرس يجتاح آسيا الصغرى حتى بلغ خلقدونية فاحتلها، ولم يبقَ بينه وبين العاصمة سوى البوسفور، فهبَّ هرقل إذ ذاك من رقاده وضرب النفير في أقطار مملكته، وجرَّد جيوشه واستردَّ من الفرس هذه المدن كلها وخشبة الصليب، وقام الإسلام في جزيرة العرب والحرب دائرة بين المملكتين ولم تنتهِ إلَّا سنة ٦٢٨م.
وكانت المملكتان في الوقت نفسه تتنافسان في بسط نفوذهما على بلاد العرب لما كانت لهذه البلاد من الشأن بالنظر لحاصلاتها من الذهب والبخور وأنواع العطور والتوابل، ثم بالنظر إلى موقعها الجغرافي إذ كانت في ذلك العهد طريق الهند.
وكان الروم بعد إخفاق الحملة التي سيَّروها إلى بلاد العرب بقيادة أليوس غالوس سنة ١٨ق.م في عهد أغسطس قيصر — وقد تقدم ذكرها — قد عدلوا عن فتح البلاد عنوة وعوَّلوا على الفتح السلمي، واختاروا لمعاونتهم على ذلك ملوك غسان، فناطوا بهم مراقبة حدود بلاد العرب من جهة سوريا وفلسطين، والسعي في بسط نفوذهم في البلاد العربية.
واتبع الفرس من جانبهم مثل هذه السياسة واعتمدوا على المناذرة ملوك الحيرة، وناطوا بهم مقاومة نفوذ الروم ورفع شأن الفرس في بلاد العرب.
وكانت ديانة مملكة الروم النصرانية وديانة مملكة الفرس المجوسية أو عبادة النار لمؤسسها زردشت، وكان المجوس يناوئون النصارى ويعضدهم اليهود، وقد انقسم النصارى طوائف شتى يعاقبة ونساطرة وأريوسيين وأرثوذكس وغيرهم، وانقسم اليهود إلى ربانيين وقرَّائين وسامريين.
وكان العرب في جزيرتهم يتخبَّطون في عبادة الكواكب والأصنام، وقد دخل الجزيرة اليهودية والنصرانية من الشام والمجوسية من العراق، وكان من العرب من اعترف بالخالق وأنكر البعث، ومنهم من أنكر الخالق والبعث وقال بالطبع المحيي والدهر المُفني، وكلهم قالوا بالبخت والجن واشتغلوا بالتنجيم والسحر وتفسير الأحلام، وكان من عاداتهم الذميمة وأد البنات، وعدم الرفق بالرقيق، وشرب الخمر، ولعب الميسر، وبالإجمال فقد كانت الفوضى في السياسة والإدارة والدين سائدة في الشرق كله، وكان الشرق يتطلب الخروج من هذه الفوضى والراحة من شرِّها.
فلما ظهر النبي محمد نادى قومه بقوله: «لا إله إلَّا الله محمد رسول الله»، وعوَّضهم عن الأصنام والكواكب «القرآن الكريم»، فجاء آيةً في الفصاحة والبلاغة وحسن التنسيق، وقد ضُمِّن: الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وضُمِّن فوق ذلك آدابًا وحكمًا وشرائعَ وعلمًا وتاريخًا وسياسةً وخلقًا كريمًا.
وكان ظهور النبي محمد في جوار الكعبة والأسواق الشهيرة التي كانت تحجُّ إليها العرب من كل فج، وهو من قريش أسياد دين العرب وتجارهم إلى اليمن والشام والعراق.
وقد حضَّ قومه على نشر الإسلام والجهاد في سبيله، ووَعَدَ المجاهدين منهم الجنة.
لذلك كله، ولما كانت العرب تعجب بالفصاحة والبلاغة، وتتحرك بالمعاني الروحية لما في طبعهم الحرِّ من المروءة والنجدة والحماسة، وكانوا قد اعتادوا في باديتهم القتال وركوب الأخطار؛ استفزَّهم وعد نبيهم وبلاغته وسيرته فنصروه، ثم نصروا من بعده خلفاءه الذين ساروا سيرته، فتمكنوا في جيل أو أقل من نشر سلطانهم ودينهم ولغتهم من السند والهند إلى المحيط الأتلانتيكي شرقًا وغربًا، ومن بحر الخزر وآسيا الصغرى وبحر الروم وفرنسا إلى المحيط الهندي وأعالي السودان شمالًا وجنوبًا.
وهاك ما قاله مؤرخو الإسلام في سيرة النبي محمد ودعوته وكيفية انتشارها، ثم في سيرة خلفائه الراشدين وفتوحاتهم كما لخصتها عن أحدث كتبهم وأشهرها:
وُلد النبي محمد بمكة في ١٢ ربيع الأول على المشهور، و٨ منه على الصحيح، سنة ٥٤ق.م/٢٠ أبريل سنة ٥٧١م وهي عام الفيل، وتوفي أبوه قبل أن يولد، فكفله جدُّه عبد المطلب إلى أن بلغ الثامنة من عمره، ومات جدُّه فكفله عمه أبو طالب، وكانت قريش في ذلك العهد قائمة بالتجارة بين اليمن والشام والعراق، وكان أبو طالب يحترف ما احترفه قومه، فخرج بالفتى محمد إلى الشام وهو في الثالثة عشرة من عمره، وكان الفتى نجيبًا ذكيَّ الفؤاد، ودلائل النجابة والذكاء بادية على وجهه. قيل فلما نزل بُصرى مع عمه رآه راهب مشهور بالصلاح والتقوى يُدعى «بحيرا» فقال: «سيكون من هذا الفتى أمر عظيم ينتشر ذكره في مشارق الأرض ومغاربها.»
ولما بلغ الخامسة والعشرين خرج إلى الشام في تجارة للسيدة خديجة بنت خويلد مع غلامها ميسرة، وعاد إليها بربح عظيم، وقد أعجبها جدًّا مهارته وصدقه وأمانته فخطبته لنفسها، وكانت من أعظم نساء قريش فضلًا وأكثرهن مالًا وأوضحهن نسبًا، فكان له من شرف بيتها وثروتها وحسن عشرتها خيرَ معين قبل البعثة وبعدها.
وقد شبَّ النبي محمد على كرم الخلق وعزة النفس وشدة الغيرة على قومه، حتى كان لا يطيق أن يراهم على ضلال، وكان متين الاعتقاد بوجود الله ووحدانيته وبالبعث والخلود، وكان تقيًّا ورعًا محبًّا للزهد والنسك، وكثيرًا ما كان يذهب إلى غارِ حراء قرب مكة للصلاة والعبادة.
وبقي حتى ناهز الأربعين من عمره، ففي ذات ليلة ١ فبراير سنة ٦١٠م بينما كان في غار حراء رأى الملاك جبرائيل يدعوه إلى «الرسالة»، فلما أفاق قصَّ هذه الرؤية على زوجته خديجة فآمنت به، وآمن به ابن عمه عليُّ بن أبي طالب وهو صبي، ومولاه زيد بن حارثة، وصديقه الحميم أبو بكر، وكان أبو بكر رجلًا سهلًا محببًا لقومه، فجعل يدعو إلى الإسلام سرًّا من وثق منهم، فأسلم على يده عثمان بن عفَّان، والزبير بن العوَّام، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقَّاص، وطلحة بن عبيد الله، فكان هؤلاء هم المسلمين السابقين.
وظلَّ النبي يخفي الدعوة ثلاث سنين حتى بلغ أتباعه نحو الأربعين، وفيهم عمر بن الخطاب وعمه حمزة، ثم جهر بها وأنذر عشيرته الأقربين، فنبذوا دعوته وعملوا على إبطالها بكل قواهم؛ لأنهم كانوا رؤساء دين العرب وأهل البيت الحرام، وخافوا إذا أُتوا بدين جديد أن تنتقض عليهم العرب فتبور تجارتهم، وفوق ذلك فإنهم لم يطيقوا أن يستأثر النبي محمد بالسيادة عليهم على فقره وقلة جاهه؛ ولذلك كان أشد الناس معارضة له أشراف قريش وأغنياؤهم، ولكنه كان محميًّا منهم بعمومته وأصهاره، وقد اضطهدوا أصحابه، فمن كان بلا نصير أمره بالهجرة إلى الحبشة، فهاجر إليها جمع منهم وفيهم عثمان بن عفان والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف، فأكرم النجاشي مثواهم، وعاد بعضهم قبل الهجرة وأكثرهم في السابعة للهجرة، وماتت زوج النبي خديجة بعد ٢٥ سنة من زواجها منه، ثم مات عمه أبو طالب؛ فقلَّ بموتهما أنصاره، ولكنه لم ييأس ولا ضعفت عزيمته، بل كان يقصد الأسواق العامة ومواسم الحج ويدعو القبائل جهارًا إلى توحيد الله وترك عبادة الأصنام والكواكب، وقد حرَّم الخمرة والميسر ووأد البنات وكل ما كانت تدين به الجاهلية، فاستجاب له ستة نفر من أهل المدينة (يثرب) وكلهم من الخزرج فأسلموا وعادوا إلى قومهم فأسلم على أيديهم كثيرون.
ثم جاء منهم في الموسم التالي اثنا عشر رجلًا من الأوس والخزرج بايعوه على الإسلام، وبعث معهم مصعب بن عُمير فعلَّمهم القرآن وشعائر الإسلام، فانتشر بهم الإسلام في المدينة حتى قيل إنه لم تبقَ دارٌ إلَّا وفيها ذكرٌ للنبي.
وفي الموسم الثالث جاءه ٧٣ رجلًا وامرأتان بايعوه على الإيمان والدفاع عن دعوته بالسيف متى قدم عليهم، ثم عادوا إلى المدينة، وعزم النبي على اللحاق بهم هو وأصحابه، ولما علم قريش بذلك خافوا أن يؤلب عليهم أهل المدينة ويغزوهم في دارهم، فعزموا على قتله، فخرج مهاجرًا إلى المدينة سرًّا ومعه صديقه أبو بكر، وذلك في ٢٠ سبتمبر سنة ٦٢٢م، ثم تلاحق به أصحابه من مكة فسمَّاهم المهاجرين، وسمى أهل المدينة الأنصار، وقد آخى بين أفراد الفريقين، فجعل لكل واحد من المهاجرين أخًا من الأنصار.
- (١)
«غزوة بدر» (بئر بين مكة والمدينة): في ١٧ رمضان سنة ٢ﻫ. كان النبي لا يقاتل أحدًا على الدخول في الدين، بل كان أمره قاصرًا على التبشير والإنذار والإقناع بالحجة، حتى إذا فعلت قريش ما فعلت وناصبته العداء أذن بقتالها، وكان من عادة قريش أن ترسل تجارتها إلى الشام ولا بدَّ لقوافلها من المرور بالمدينة، فكان النبي يرسل السرايا لاعتراضها في سفرها ذهابًا وإيابًا، ثم خرج بنفسه لاعتراض قافلة لها عائدة من الشام إلى مكة، وكان عميد القافلة أبا سفيان بن حرب الأموي، وهو حامل «العقاب» راية حرب قريش، فاتبع طريق الساحل ونجا بالقافلة، وكان قد استنفر أهل مكة، فنفر منهم سراعًا ٩٥٠ مقاتلًا، وكان أصحاب النبي ٣١٣، فالتقى الفريقان عند بئر بدر فاقتتلا، وكان النصر لأصحاب النبي، وقد قتلوا من أهل النفير ٧٠ رجلًا.
- (٢)
«غزوة أُحُد» (جبل قرب المدينة) في ٧ شوال سنة ٣ﻫ: وفيها اجتمع ٣٠٠٠ رجل من قريش بقيادة زعيمهم أبي سفيان للأخذ بثأر قتلى بدر، وكان أصحاب النبي ٧٠٠ فقُتل من هؤلاء ٧٠ بينهم حمزة عمُّ النبي، وجُرح النبيُّ في وجهه.
- (٣)
«غزوة الخندق» (في ضواحي المدينة) سنة ٥ﻫ: وذلك أن قريشًا اجتمعت هي وكثير من قبائل نجد والحجاز واليهود، وقصدوا المدينة للقضاء على الإسلام وأهله، فحفر النبي حول المدينة خندقًا وجاء العرب وأحاطوا بالمدينة بضعًا وعشرين ليلة، ثم انصرفوا خائبين، وكان بين بني قُرَيظة من اليهود وبين النبي عهد فنقضوه وتابعوا الأحزاب، فلما انصرفوا لحقهم النبي في اليوم التالي وحاصرهم في حصونهم وأوقع بهم.
- (٤)
«غزوة الحديبية» (بئر قرب مكة) سنة ٦ﻫ: خرج النبي في جمع من الصحابة إلى مكة للعُمرة، فلما بلغ الحديبية علم أن قريشًا لا تسلِّم بدخوله مكة، فتردَّد السفراء بين الفريقين وعقدوا هدنة ١٠ سنين على شروط معيَّنة بها أمكن النبي وأصحابه أن يؤيدوا دعوتهم وهم آمنون.
- (٥)
«غزوة خيبر» (شمال المدينة) سنة ٧ﻫ: وكان فيها اليهود ففتحها حصنًا حصنًا.
وفي هذه السنة أرسل كُتب الإنذار إلى كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، والمقوقس عامل القيصر في مصر، والنجاشي ملك الحبشة، والحارث بن أبي شمَّر الغسَّاني في بادية الشام، وهَوْذة ملك اليمامة، والمنذر بن ساوى ملك البحرين كما مرَّ.
- (٦)
«غزوة الفتح»: فتح مكة ٢٠ رمضان سنة ٨ﻫ: وفيها نقض قُريش الهدنة، فخرج النبي إلى مكة في عشرة آلاف مقاتل فيهم خالد بن الوليد القرشي من فرع مخزوم، وكان قد أسلم هو وعمرو بن العاص قبيل ذلك، فلم تبد قريش إلَّا مقاومة ضعيفة، وجاء أبو سفيان كبير قريش مسلمًا، فأكرمه النبي وعفا عن أهل مكة فأسلموا جميعًا، ثم دخل الحرم فأزال الأصنام وكسَّرها، وكان ذلك ختام الوثنية في بلاد العرب.
- (٧)
«غزوة تبوك» سنة ٩ﻫ: وهي آخر غزواته، وذلك أنه لما رأى أكثر العرب قد دانوا له شرع في الفتوحات، فخرج إلى بلاد الروم ومعه ثلاثون ألفًا، وكانت الخيل عشرة آلاف، وضرب الجزية على أهل أيلة (العقبة) وأذرح (قرب تبوك) ودومة الجندل (الجوف) وهي إمارات نصرانية تابعة للروم، وفي هذه الغزوة أعطى أهل أيلة وأذرح عهده بالأمان، وقد تقدم لنا ذكره برمته.
وفي سنة ١٠ﻫ حجَّ إلى مكة ومعه من أصحابه أربعون ألفًا، وفي هذه الحجَّة تم نزول القرآن الكريم، وكان ينزل مفرَّقًا حسب الوقائع، وعاد إلى المدينة فمرض وقُبِض في يوم الإثنين ١٣ ربيع الأول سنة ١١ﻫ/٨ يونيو سنة ٦٣٢م وعمره ٦١ سنة م.
وقد رُزِق عدة أولاد ذكورًا وإناثًا، ولكنه لم يترك إلَّا بنتًا من زوجته خديجة، وهي السيدة فاطمة زوجة عليِّ بن أبي طالب، ودُفِن في حُجرة زوجته عائشة حيث قُبض، وبنى الخلفاء حول قبره مسجدًا فكان الحرم الثاني للمسلمين بعد مكة.
ومما يجدر ذكره في هذا المقام — مصحوبًا بالأسف الشديد — أن بلادنا الساميَّة التي هي مهد الأديان ومهبط الحكمة قد كانت أقل البلاد انتفاعًا من تلك الأديان وتلك الحكمة، فإن أهل الأديان فيها — على وحدتهم الجنسية — قد انشق بعضهم على بعض، بل انشق أهل كل دين إلى طوائف شتى، والخلاف قائم بين أهل طائفة وأخرى يكاد يكون أشد وأنكى من الخلاف بين أهل دين وآخر، وقلما كان في بلادنا شقاق أو شقاء إلَّا كان الخلاف الديني أساسه أو الداعي إليه.
فعلام هذا الخلاف وحتَّام هذا الشقاق وهذا الشقاء، فقد رأينا أننا كلنا من أصل واحد عربيٍّ أو ساميٍّ، وقد كنا عربًا أو ساميين قبل أن كنا يهودًا ونصارى ومسلمين، بل قبل أن كنَّا شاميين وحجازيين وعراقيين.
ثم إن مؤسسي أدياننا يرجعون بأنسابهم إلى جدٍّ واحد، وهو جدنا إبراهيم الخليل السامي الآرامي، العراقي المنبت السوري المحتد، وقد رموا كلهم إلى غرض واحد وهو دلالتنا على الله، وأيَّد التالي منهم السالف في شريعته: قام موسى بين اليهود فأتاهم بشريعة تناسب حالهم وزمانهم، ثم جاء المسيح فأقر شريعة موسى وأتمَّها برسالة جديدة، ثم قام محمد بين العرب فلقَّنهم رسالته وأقر شريعة موسى والمسيح، وأذن لليهود والنصارى في البقاء على دينهم مقابل جزية يكون لهم بها ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
ثم إن الكتب التي أتونا بها وهي: «التوراة والإنجيل والقرآن» تتفق في كثير من الأمور الجوهرية؛ أهمُّها أن الله روح غير منظور، أزلي غير محدود، واحد أحد، فرد صمد، خالق السماوات والأرض، وأن النفس وهي نسمة من روح الله خالدة تعود بعد الموت إلى خالقها، وهي وما كسبت في الأرض إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر.
ثم إن هذه الكتب الثلاثة تتفق في أمر جوهري آخر نعرفه كلنا ونسلِّم بصحته، ولكنا لا نعمل به وتركنا العمل به، إنما هو أصل شقاقنا وشقائنا، وذلك الأمر هو «أن الدين لله وحده، وليس لنا حتى ننازع فيه، وما جعل الله بعضنا أولياء بعض في دينه، وما تجزي نفس عن نفس شيئًا عند الله.» يورِّث الأب ابنه ماله وجاهه، وقد يورثه ملامحه وطباعه، ولكن هل له أن يورثه مثقال ذرة من نصيبه عند ربِّه في الآخرة؟ إذا كان أب تقيٌّ صالحٌ نصيبه الجنة وكان له ابن شرير طالح نصيبه جهنَّم، فهل يؤخذ الأب بجريرة الابن؟ أم يستطيع الأب أن يأتي بابنه إلى جنَّتِه ولو ساعة واحدة؟ أجيبوني من كتبكم أيها العرب اليهود والنصارى والمسلمون.
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ الآية.
إذن فاتركوا الدين لله، وأطلقوا الحرية الدينية للأفراد والمجموع ليعبد كل منَّا ربه بما يرتاح إليه ويرضاه، فليس بين الإنسان وربه إجبار أو إكراه، وليكن أساس التعامل بيننا «المصلحة العامة» ليس إلَّا، فإن «الدين المعاملة.»
وإن كان أحد منا يغار على ابن جنسه ووطنه الذي على غير دينه، فليس له إلَّا أن ينصحه برفق وتؤدة بما يظنُّه أصلح لآخرته ودنياه، ثم يتركه وشأنه مع الله الذي أنشأه.
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ … إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ الآية، ولنعد إلى موضوعنا.
(٢-٢) الخلفاء الراشدون في المدينة ثم في الكوفة
-
الخلافة في الإسلام: لما قُبِض النبي حدثت في الناس ضجة عظيمة، فمنهم المصدق
ومنهم المكذب، وكان صديقه الحميم أبو بكر غائبًا في أهله، فلما
أتاه منْعاه دخل عليه وكشف عن وجهه وقبَّله، وقال: «بأبي أنت
وأمي، لقد طبت حيًّا وطبت ميتًا، وخصَّ بك الرزءُ حتى تُنوسيت
معه الأرزاء، وعمَّ حتى كان الجميع فيه سواء.»
ثم خرج إلى الناس وقال: «أيها الناس من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌّ لا يموت»، ثم تلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ الآية، ولما كان النبي قد قُبض لغير وصية بالخلافة تنازع المسلمون في أمرها، فكانوا ثلاثة أحزاب كليَّة لا يزالون عليها إلى اليوم، وهي:
- (١) «الحزب الأنصاري»: وهو أن تكون الخلافة في الإسلام شوروية ينتخبون الأصلح منهم، وإليه مال الأنصار وأرادوا مبايعة سعد بن عبادة الأنصاري، وحجَّتهم سيف نصرتهم.
- (٢) «الحزب القرشي»: وقد عُرف أصحابه بأهل السنة والجماعة، وهو أن تكون الخلافة في بني قريش للأصلح بينهم أي شوروية مقيدة، وإليه مال المهاجرون وحجَّتهم حديث النبي «الأئمة من قريش» رواه لهم أبو بكر الصديق، وقال: «نحن أولياء النبي وعشيرته، وأحق الناس بأمره، وأنتم لكم حق السابقة والنصرة، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء»، وقال عمر بن الخطاب: «إن الرسول ﷺ أوصانا بكم كما تعلمون، ولو كنتم الأمراء لأوصاكم بنا.»
- (٣) «الحزب الهاشمي»: وهو أن تكون الخلافة خاصة في بني هاشم من قريش للأقرب بينهم إلى الرسول.
وبعد أخذٍ وردٍّ طويل بين هذه الأحزاب غلب الحزب الأوسط وفصل الأمر بشير بن سعد الخزرجي، فقال: «إن محمدًا من قريش، وقومه أحق وأولى، ونحن وإن كنا أولي فضل في الجهاد وسابقة في الدين، فما أردنا بذلك إلَّا رضا الله وطاعة نبيِّه، فلا نبتغي من الدنيا عوضًا ولا نستطيل به على الناس.»
(أ) أبو بكر الصديق سنة ١١–١٣ﻫ/٦٣٢–٦٣٤م
وكان لما مرض النبي أمر صديقه أبا بكر الصديق أن يصلي بالناس، فلما اختلف أصحابه في من يكون خليفته مال أكثرهم لانتخاب أبي بكر وقالوا: «رضيه رسول الله لديننا، أفلا نرضاه لدنيانا؟» ومدَّ عمر يده لمبايعته فأقبل الناس من كل جانب فبايعوه، وكان ذلك يوم الثلاثاء في ١٤ ربيع الأول سنة ١١ﻫ قبيل دفن النبي.
ولما انتهت بيعته صعد المنبر وقال: «أيها الناس، قد وُلِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فعاونوني وإن صدفت فقوِّموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه، والقويُّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع أحد منكم الجهاد، فإنه لا يدعه قوم إلَّا ضربهم الله بالذل، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله.»
وكان أبو بكر من قريش فرع تَيم، وقد استقرت الخلافة بعده في فروع قريش حتى انقطعت سنة ٩٢٢ﻫ بفتح السلطان سليم العثماني لمصر وأخذه منها آخر الخلفاء العباسيين إلى الآستانة كما سيجيء.
(أ) غزوة قضاعة
وأول عمل بدأ به أبو بكر تسيير جيش أسامة الذي جهزه النبي قبل وفاته إلى بلاد قضاعة في أطراف الشام، وأوصاه عند مسيره بهذه الوصية: «لا تخونوا ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا طفلًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعزقوا نخلًا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلَّا للأكل، وإذا مررتم بقوم فرَّغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وإذا لقيتم قومًا فحصوا أوساط رءوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاضربوا بالسيف ما فحصوا عنه، فإذا قُرِّب إليكم الطعام فاذكروا اسم الله، يا أُسامة اصنع ما أمرك نبيُّ الله ببلاد قضاعة، ثم أنت قافل ولا تقصر من أمر رسول الله ﷺ.»
(ب) قتال أهل الردَّة
وكان قد قام في اليمامة في زمن النبي رجل يدعى مُسَيلمة ادَّعى النبوة، ومال إليه بعض العرب، فعرض على النبي قسمة الأرض بينهما، فهزأ النبي به، فلما مات النبي قويت شوكة مسيلمة هذا، وظهر أنبياء كذبة آخرون، وارتد أكثر العرب عن الإسلام ومنعوا الزكاة إلَّا أهل المدينة ومكة والطائف، وكاد الإسلام يقتلع من أصوله لولا حزم أبي بكر ومضاء عزيمته، فإنه جهَّز ١١ جيشًا لمحاربة أهل الردَّة والأنبياء الكذبة أهمها جيش عدته ٤٠ ألفًا عقد لواءه لبطل الإسلام وقائدهم الأكبر خالد بن الوليد، ووجهه لقتال مسيلمة فانتصر خالد على مسيلمة وقتله، ولم يمض أقل من سنة حتى خضعت العرب كلها وعادت إلى الإسلام، فساقهم أبو بكر إلى ممالك كسرى وقيصر.
(ﺟ) غزو العراق
فسيَّر خالد بن الوليد لغزو بلاد الفرس وأمره أن يبدأ بالأبُلة، وهي ثغر من ثغور الفرس عند مصب دجلة، وكان صاحبه هرمز فكتب إليه خالد كتابًا يقول فيه: «أمَّا بعد فأسلم تسلم أو اعتقد لنفسك وقومك الذمة وأقرر الجزية، وإلَّا فلا تلومن إلَّا نفسك، فقد جئتكم اليوم بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة.»
فجيَّش هرمز جيشًا عظيمًا وسبق خالدًا على الماء، ثم تلاقيا وسط الصف فاحتضنه خالد وقتله وهزم جيشه، فجيَّش عليه كسرى جيشًا آخر فهزمه، ثم جيشًا آخر أكبر من الأولين، فرتَّب خالد جنوده على ثلاث فرق أحاطت به من كل جانب ومزَّقته كل ممزَّق.
ثم سار خالد إلى «الحيرة» عاصمة المناذرة غربي الفرات، وكان ملكها النعمان بن المنذر، فرأى أهلها ألَّا طاقة لهم بحرب خالد، فصالحوه على ١٩٠ ألف درهم، ثم سار شمالًا إلى الأنبار فصالحه صاحبها، ثم إلى عين النمر فدومة الجندل ففتحهما عنوة.
(د) غزو الشام
إني قد وليتك لأبلوك وأجربك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي يرى من ظاهرك، وأن أولى الناس بالله أشدهم توليًا له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقربًا إليه بعمله، وقد وليتك عمل خالد «بن سعيد» فإياك وعيبة الجاهلية، فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم وابدأهم بالخير وعدهم إياها، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصلِّ الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها، وإذا قدم عليكم رسل عدوك فأكرمهم وأقلل لبثهم حتى يخرجوا من عسكرك، وامنع من قِبَلك من محادثتهم، وكن أنت المتولِّي كلامهم، ولا تجعل سرك لعلانيتك فيخلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تُصدَق المشورة، ولا تخزن عن المشير خبرك فتؤتى من قِبل نفسك، واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار وتنكشف عندك الأستار، وأكثر حرسك وبددهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن حرسه فأحسن أدبه وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإنها أيسرها لقربها من النهار، ولا تخف من عقوبة المستحق ولا تلجن فيها ولا تسرع إليها ولا تخذلها مدافعًا، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم واكتف بعلانيتهم، ولا تجالس العبَّاثين وجالس أهل الصدق والوفاء، واصدق اللقاء ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر ويدفع النصر. ا.ﻫ.
هذا ولما بلغ هرقل ملك الروم قدوم العرب إلى الشام هاله الأمر، فأسرع إلى أنطاكية وكانت عاصمة نواب الروم بالشرق، وجمع جيشًا عظيمًا وأرسله لقتال العرب، فالتقى الجيشان بصحراء أجنادين جنوبي دمشق واقتتلا قتالًا شديد كان النصر فيه للعرب، فاستنجد هرقل بجبلة بن الأيهم ملك الغساسنة، فسيَّرا جيشًا عرمرمًا عدته ٢٤٠ ألفًا، فزحف هذا الجيش حتى أتى وادي اليرموك في الجنوب الشرقي من الشام بجوار بصرى، فخاف العرب العاقبة واستمدوا أبا بكر فكتب إلى خالد بن الوليد بالعراق، فاستخلف على نصف جيشه وجاء مسرعًا إلى قومه بالشام بالنصف الآخر، وكتب أبو بكر إلى أبي عبيدة أمير جيش العرب يقول له: «إني قد وليت خالدًا قتال العدو بالشام، فلا تخالفه واسمع له وأطع قوله، فإنني ظننت أن له في الحرب خبرة ليست لك والسلام.»
فرتب خالد جيشه وكرَّ على جيش الروم، فاستمر القتال طول النهار ومعظم الليل، ودارت الدائرة على جيش الروم، فلما طار الخبر إلى هرقل وهو دون حمص ارتحل إلى القسطنطينية وقال: «سلام عليك يا سوريا، سلام لا لقاء بعده.»
ولما رأى الروم — ومن ناصرهم من الغساسنة — بأس العرب هادنوهم، وسار خالد إلى دمشق وحاصرها سنة ١٣ﻫ/٦٣٤م، وفي أثناء الحصار جاء البريد يحمل وفاة أبي بكر واستخلاف عمر بن الخطاب، وكانت وفاة أبي بكر بالمدينة سنة ١٣ﻫ وعمره ٦٣ سنة، ودفن بجانب ضريح النبي. قيل وفي أيامه بُوشر بجمع القرآن بإشارة عمر.
(ب) عمر بن الخطاب، سنة ١٣–٢٣ﻫ/٦٣٤–٦٤٤م
بويع عمر بن الخطاب بالخلافة في اليوم الذي توفي فيه أبو بكر بعهد منه، وسُمِّي أمير المؤمنين وهو من قريش فرع عدي، وهذا عهد أبي بكر له: «هذا ما عهد به أبو بكر خليفة محمد ﷺ عند آخر عهده بالدنيا وأول عهده بالآخرة في الحال التي يؤمن فيها الكافر ويتقي الفاجر. إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، ولم آلُكم خيرًا، فإن صبر وعدل فذاك علمي به، وإن جار وبدَّل فلا علم لي بالغيب، والخير أردت، ولكل امرئٍ ما اكتسب، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.»
ولما بويع عمر صعد المنبر وقال: «إنما مثل العرب مثل جمل آنف اتبع قائده، فلينظر قائده أين يقوده، أمَّا أنا فوربِّ الجعبة لأحملنَّكم على الطريق.»
وفي عهده تم فتح الشام والعراق وفتحت مصر.
-
فتح الشام: ومما قيل في فتح الشام: إن عمر عند توليه الخلافة
عزل خالدًا بن الوليد عن قيادة الجيش، وكان محاصرًا
دمشق الشام كما مرَّ، وأسندها إلى أبي عبيدة عامر بن
الجراح، وكتب إلى البلاد يقول: «إني لم أعزل خالدًا عن
سخط ولا عن خيانة، ولكن الناس عظَّموه وفُتِنوا به،
فخفت أن يُوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أن الله هو
الصانع وألَّا يكونوا بعرض فتنة»، ففتح أبو عبيدة دمشق
بعد سبعين ليلة من حصارها، ثم فتح حمص وحماة والمعرَّة
واللاذقية وحلب وقنَّسرين.
وفتح عمرو بن العاص بأمر عبيدة أجنادين، ثم سار إلى إيليا «القدس» وحاصرها، ولما رأى أهلها أنهم لا يستطيعون مقاومة العرب رغبوا في الصلح على شرط أن يكون المتولي لعقده أمير المؤمنين، فكتب إليه عمرو بذلك، فسار عمر إلى الشام وكتب لهم صلحًا سنة ١٥ﻫ/٦٣٦م، وقيل سنة ١٦ﻫ، ثم أمر ببناء مسجد على الصخرة التي كلم الله عليها يعقوب، ثم قسم الشام إلى ولايات وولى عليها ولاة وعاد إلى المدينة.
- فتح مصر: ثم كان فتح مصر سنة ١٨ﻫ على يد عمرو بن العاص كما مرَّ.
-
فتح العراق: ومما جاء في فتح العراق: إن عمر سيَّر إلى الفرس
جيشًا ضخمًا يقوده سعد بن أبي وقاص، وأوصاه بقوله: «يا
سعدُ لا يغرنَّك من الله أن يقال: خال رسول الله وصاحب
رسول الله، فإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكنه يمحو
السيئ بالحسن، وليس بين الله وبين أحد نسب إلَّا
بطاعته، فالناس في دين الله سواء، وهم عباده يتفاضلون
عنده بالعافية ويدركون ما عنده بالطاعة، فانظر الأمر
الذي رأيت فيه رسول الله يلزمه فالزمه.»
فسار سعد حتى أتى القادسية، وهي بقرب الكوفة، فأرسل جماعة من كبار الصحابة لهم شجاعة ومهابة إلى يزدجرد ملك الفرس يدعوه إلى اعتناق الإسلام أو دفع الجزية، فأبى وسيَّر جيشًا قدره نحو ١٠٠ ألف عقد لواءه لأكبر قواده «رستم» فتلاقى الجيشان ووقعت واقعة القادسية، فاستمر القتال ثلاثة أيام بلياليها وانتهى بهزيمة الفرس وقتل قائدهم وإبادة عسكرهم قتلًا وغرقًا، فسار سعد يفتح ما في طريقه من البلاد حتى وصل المدائن قاعدة ملك الفرس، ففتحها ونزل قصر كسرى وجعله قاعدة له.
وكان من رأي عمر أن قاعدة المسلمين لا ينبغي أن يفصلها عنه بحر، فأمر سعدًا فاختار موضع الكوفة قاعدة للمسلمين، فأسست سنة ١٧ﻫ، وفي هذا العام بنيت مدينة البصرة.
وبعد ذلك أرسل سعد السرايا شرقًا لفتح بلاد الفرس، ولكن لم يتم فتح هذه البلاد على يده؛ لأن عمر عزله وولَّى النعمان بن مقرَّن، ولم يمض زمن عمر حتى كانت فتوحات العرب قد امتدت شرقًا إلى نهر جيحون ونهر مران، فشملت بلاد فارس وخراسان والسند وغيرهما.
وقد اشتهر عمر بحزمه وعزمه وعدله وزهده، وكان أول من وضع التاريخ الإسلامي في السنة الثامنة عشرة للهجرة، فجعل مبدأه هجرة النبي إلى المدينة، أي ٢٠ سبتمبر سنة ٦٢٢م كما مرَّ، وهو أول من دوَّن الدواوين ومصَّر الأمصار، وبنيت في مدته الكوفة والبصرة في العراق والفسطاط في مصر، وقد قُتل غدرًا وهو قائم يصلي في جامع المدينة بطعنة خنجر من يد عبد يُدعى أبو لؤلؤة فيروز المجوسي، ودفن بجانب النبي وكان ذلك في سنة ٢٣ﻫ سنة ٦٤٤م، وعمره ٦٣ سنة.
(ﺟ) عثمان بن عفان، سنة ٢٤–٣٥ﻫ/٦٤٤–٦٥٦م
وعهد عمر بالخلافة إلى واحدٍ ينتخب من النفر الذين مات النبي وهو راضٍ عنهم، وهم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقَّاص، وجعل ابنه عبد الله شريكًا لهم في الرأي لا في الخلافة، فانتخب الناس عثمان بن عفان وهو من قريش فرع أمية، ففتح برقة وطرابلس الغرب والنوبة وجزيرة قبرص، وظفر جنده بيزدجرد ملك الفرس، وكان فارًّا بخراسان فقتلوه، وولَّى الممالك المفتوحة من يثق به من أهله وأخصائه، فنقم منه بعض العرب ورموه بمحاباة أهله والتغيير في سنَّة النبي، فحاصروه في داره بالمدينة وطالبوه بعدة أمور لم يرَها من حقِّهم، فتسوَّروا عليه وقتلوه سنة ٣٥ﻫ/٦٥٦م ودفن بالبقيع خارج المدينة، وله من العمر ٨٢ سنة.
(د) عليُّ بن أبي طالب، سنة ٣٥–٤٠ﻫ/٦٥٦–٦٦٠م
وبعد قتل عثمان تنازع الناس فيمن يتولَّى الخلافة، فبايع الأكثرون عليًّا، وهو من قريش فرع هاشم، وبقي نفر من الصحابة وبنو أميَّة ورأسهم معاوية بن أبي سفيان بن حرب وطلحة والزبير لم يبايعوه، واتهموه بأن قتل عثمان كان على رغبة منه، وكانت السيدة عائشة زوج النبي إذ ذاك في الحج، فخرج طلحة والزبير من المدينة إلى مكة وقابلا السيدة عائشة وحرَّضاها على محاربة عليَّ أخذًا بثأر عثمان، فخرجت معهما إلى البصرة، وكان عليٌّ قد خرج إلى الكوفة فأتى البصرة وقاتلهما فقُتلا وانهزم جيشهما، ووقعت السيدة عائشة في يد علي فأرسلها مكرَّمة إلى المدينة، وعرفت هذه الواقعة «بواقعة الجمل» لأن عائشة كانت فيها راكبة جملًا.
وبعد هذه الواقعة ازدادت العداوة بين معاوية وعلي، فجردا جيشين التقيا في صفين على الفرات في صفر سنة ٣٧ﻫ، ودام الحرب بينهما أربعين صباحًا.
ثم حكما بينهما حكمين: أبا موسى الأشعري من قبل علي، وعمرو بن العاص من قبل معاوية، فاتفق الحكمان على خلع الاثنين وإعادة انتخاب الخليفة من جديد.
وفي يوم إعلان الحكم اجتمع العرب، فحكم أبو موسى بخلع صاحبه ورجع عمرو عن اتفاقه وحكم بتثبيت معاوية، ففتَّ ذلك في عضد أصحاب علي وتقاعد عن نصرته كثيرون، وخيف من استفحال الشر وسفك الدماء فانتُدب ثلاثة من فتاك الخوارج لاغتيال علي ومعاوية وعمرو بن العاص، فنجح أمرهم في علي وخاب في معاوية وعمرو، وقد قُتل عليٌّ وهو ينادي لصلاة الصبح غلسًا بمسجد الكوفة، فدفنه ابنه الحسن خفية وستر قبره وقتل قاتله، وكانت وفاة علي في ١٧ رمضان سنة ٤٠ﻫ/٢٤ يناير ٦٦١م وعمره ٦٣ سنة، وكان عالمًا كريمًا، ومن مآثره أنه أمر أبا الأسود الدؤلي فوضع النحو.
(ﻫ) الحسن بن علي بن أبي طالب، سنة ٤١ﻫ/٦٦١م
وبعد قتل عليٍّ اجتمع أصحابه في الكوفة وبايعوا ابنه الحسن، وبايع أهل الشام معاوية، ولما رأى الحسن أن بقاءه في الخلافة يوجب بقاء الفتنة في المسلمين تنازل عنها لمعاوية في ٢٦ ربيع الثاني ٤١ﻫ/٢٩ أغسطس سنة ٦٦١م، ثم مات مسمومًا في المدينة.
(٢-٣) الدولة الأموية في الشام، سنة ٤١–١٣٢ﻫ/٦٦١–٧٥٠م
بعد تنازل الحسن لمعاوية عن الخلافة استولى معاوية على الممالك التي دخلت في طاعة علي، وأسس دولة بني أمية، وفي عهده فتحت بعض بلاد تركستان وبلاد أفغانستان وشمال الهند والجزائر ومراكش وجزيرة رودس.
وحمل معاوية الناس فبايعوا ابنه يزيد، وكانت الخلافة إلى عهده بالانتخاب، وخالف بعض الصحابة والعامة فلم يستطيعوا إخراج الخلافة من بني أمية بل بقيت ملكًا عضوضًا.
وكان ممن نازع يزيد في الخلافة أهل العراق، فإنهم استاءوا من الحسن لتنازل معاوية، فأرادوا مبايعة أخيه الحسين فساد الاضطراب بين المسلمين، وتمكن بعض دعاة يزيد من القبض على الحسين فاجتزُّوا رأسه في كربلاء يوم عاشوراء وبعثوا إلى يزيد، وكان ذلك في ١٠ محرم سنة ٦١ﻫ، فدفن جسمه في كربلاء، وفي المشهور أن الرأس نُقِل من مدفنه بالشام إلى القاهرة في عهد الفاطميين، وبُني فوقه جامع الحسين الحالي، ولكن العلويين يؤكدون أنه أعيد إلى الجسم ودُفِن معه في كربلاء.
ونازع يزيد في الخلافة أيضًا عبد الله بن الزبير فبايعه أهل المدينة ومكة، ثم بايعه أهل الحجاز واليمن والعراق وخراسان، وبقي يناوئ الأمويين في الخلافة إلى أن قام عبد الملك بن مروان (سنة ٦٥–٨٦ﻫ/٦٨٥–٧٠٥م) فاستخلص منه العراق والبصرة والجزيرة، وحاصره بمكة ٧ أشهر حتى ظفر به وقتله واستقل بالخلافة.
وخلفه الوليد بن عبد الملك سنة ٦٨ﻫ/٧٠٥م، وكان أشهر خلفاء بني أمية، ففتح أواسط أفريقية ونشر فيها الإسلام، وفتح الأندلس وسمرقند وحارب تركستان والفرس والهند والقسطنطينية وعاد ظافرًا، وكان مُولعًا بالبناء فجدَّد بناء الحرم المدني ووسعه وبنى قصورًا ومساجد كثيرة أشهرها الجامع الأموي في دمشق، وهو من أعظم مباني الإسلام وأفخمها. قيل أنفق في بنائه ٢١١٠٠٠ دينار.
ومات الوليد سنة ٩٦ﻫ/٧١٥م وسلطان العرب المسلمين يمتد من الصين والهند إلى المحيط الأتلانتيكي شرقًا وغربًا، ومن سهول سيبريا إلى السودان شمالًا وجنوبًا، وهي أكبر مساحة وصلت إليها المملكة العربية الإسلامية.
ومن ذلك الحين كثرت الفتن الداخلية في دولة بني أمية، وقويت الأحزاب المشايعة للعباسيين حتى غلبتها على أمرها، وكان انقراض دولة بني أمية سنة ١٣٢ﻫ/٧٥٠م، وكانت هذه الدولة عربية محضة حافظت على الشعار العربي في لبسها ومعيشتها وحكومتها، وكان السلطة في زمانها كله بيد العرب.
(٢-٤) الدولة العباسية في الأنبار ثم في بغداد (سنة ١٣٢–٦٥٦ﻫ/٧٥٠–١٢٥٨م)
(أ) العباسيون والعلويون
تقدم أن من الأحزاب التي قامت في أمر الخلافة بعد موت النبي «الحزب الهاشمي» القائل بحصر الخلافة في بني هاشم، وما لبث هذا الحزب حتى انقسم إلى حزبين عظيمين: «العباسيين» نسبة إلى العباس عمِّ الرسول، «والعلويين» نسبة إلى علي ابن عمه وصوره، ثم عرف أهل هذه الحزب بالشيعة أيضًا، وحجة العباسيين أن عم الرسول أقرب إليه من ابن عمه، وحجة العلويين أن النبي لما أظهر دعوته لأهله وعد بالخلافة لمن وازره في دعوته، فلم يلبِّ دعوته إذ ذاك غير علي.
والعلويُّون يرفضون الخلفاء الثلاثة الذين تقدموا عليًّا، ويعتبرونهم متعدين على حقوقه في الخلافة، ويعتقدون أن الإمام عليًّا وإن لم يكن الخليفة ظاهرًا فهو الخليفة باطنًا منذ وفاة النبي، ويعتبرون هذه الخلافة الباطنية في ذريته من بعده (راجع كتابنا في تاريخ السودان في الكلام على الإسلام).
وكان لما عجز العلويون عن جعل الخلافة فيهم عن طريق السياسة والقوة لقتل من خرج من أئمتهم ومشايعة أكثر المسلمين لبني أمية؛ أخذوا يسعون سرًّا لإعادة الخلافة إليهم، وقد كان لعلي كثير من الولد إلَّا أن الذين تطلعوا للخلافة وتعصبت لهم الشيعة ودعوا لهم في الجهات ثلاثة وهم: الحسن والحسين ابنا علي من فاطمة بنت الرسول، وأخوهما محمد بن الحنفية، وكان الشيعة قد سخطوا من الحسن لخلعه نفسه وتسليم الأمر لمعاوية، فكتبوا إلى الحسين بالدعاء فامتنع ووعدهم إلى موت معاوية، فغدر به بعض دعاة يزيد كما مرَّ، فمضى الشيعة إذ ذاك إلى أخيه محمد بن الحنفية وبايعوه، ومن هؤلاء فرقة الكيسانية نسبة إلى زعيمها كيسان، وأكثرهم في خراسان والعراق.
ويرى الكيسانيون أن الأمر بعد محمد بن الحنفية لابنه أبي هاشم عبد الله، فاتفق أن أبا هاشم مرَّ في بعض أسفاره بمنزل محمد بن علي بن عبد الله بن عباس «عم النبي» بالحميمة من أعمال البلقاء على يوم من الشوبك، فنزل عليه وأدركه المرض عنده فمات وأوصى له بالأمر، وكان قد أعلم حزبه بالعراق وخراسان أن الأمر صائر إلى محمد بن علي العبَّاسي، فلما مات قصد الشيعة محمد بن علي هذا فبايعوه سرًّا.
وتوفي محمد بن علي سنة ١٢٤ﻫ/٧٤٢م فعهد بالإمامة لابنه إبراهيم، فقبض عليه مروان الثاني آخر خلفاء بني أمية في الحميمة، وسجنه في حرَّان فمات هناك.
وكان قد أوصى بالإمامة إلى أخيه أبي العباس محمد الملقب بالسفَّاح، فبايعه أهل الكوفة في ١٢ ربيع الأول سنة ١٣٢ﻫ/١ يناير سنة ٧٥٠م، ونصره أبو مسلم الخراساني بجيش، فاستولى على بلاد خراسان وفارس باسمه، وأرسل السفَّاح عمه عبد الله بن علي لمحاربة مروان الثاني، فالتقى به على نهر الزاب أحد فروع دجلة، فانهزم مروان وتبعه جيوش العباسيين إلى الشام فمصر، فلحقوه بقرية أبي صير في مديرية بني سويف وقتلوه.
واتخذ السفاح مدينة الأنبار قرب الكوفة دارًا للخلافة، ومات فيها سنة ١٣٦ﻫ/٧٥٣م، فولي الخلافة بعهد منه أخوه «أبو جعفر المنصور».
وكان لما اختل أمر بني أمية اجتمع أهل البيت بالمدينة وبايعوا بالخلافة سرًّا لمحمد بن عبد الله بن حسن المثنى بن حسن السبط بن علي بن أبي طالب، وحضر مبايعته أبو جعفر المنصور هذا فكان من جملة المبايعين، فلما آل إليه أمر الخلافة بعد أخيه السفَّاح خرج عليه محمد بن عبد الله المذكور في المدينة وبعث عماله في الجهات، فكتب إليه المنصور يعرض عليه الأمان وينصحه بالرجوع عن الدعوة ويكون لديه معززًا مكَّرمًا هو وشيعته، فأجابه «وأنا أعرض عليك من الأمان مثل الذي أعطيتني، فقد تعلم أن أبانا عليًّا «عليه السلام» كان الوصي والإمام، فكيف ورثتموه دوننا ونحن أحياء …»
فردَّ عليه المنصور ردًّا جميلًا بيَّن فيه فضل بني العباس على الإسلام، وكرَّر له النصح بالرجوع عن الدعوة، ولما لم يمتثل أرسل له جيشًا فقتله سنة ١٤٥ﻫ.
والمنصور شيخ العباسيين وأعظم خلفائهم والمؤسس الحقيقي لدولتهم، وهو الذي اختط مدينة بغداد وجعلها عاصمة ملكه، وما زال أبناؤه بها حتى أضحت أزهى وأفخم مدينة في العالم، وكان المنصور أول خليفة أمر كتَّاب العرب بنقل الكتب الأجنبية إلى العربية ككتاب كليلة ودمنة لابن المقفَّع، وهو من أنفس الكتب العربية وأبلغها، ورسائل أرسططاليس في المنطق وأصول إقليدس في الفنون الرياضية وغيرها.
هذا وباتساع فتوحات العرب اتسعت تجارتهم، فامتدت بحرًا إلى الهند والجزائر الهندية: سيلان وسومطرة وجاوة إلى الصين، وطفق العرب يقطنون تلك النواحي، ودخل كثير من الهنود في دين الإسلام منذ القرن التاسع للمسيح.
وامتدت القوافل العربية برًّا إلى بلاد التتر وجنوب سيبيريا.
واتجهت سراياهم غربًا إلى بلاد السودان، فأخذت دولهم تتأسس منذ القرن العاشر للمسيح في سنَّار ودارفور ووداي وكانم وبرنو وغانه وغيرها.
ونزلوا من بوغاز المندب على سواحل أفريقيا الشرقية والسومال ونزجبار ومدكسكر وسكنوها وأسسوا فيها الممالك الإسلامية، ولا يزال بعضها قائمًا إلى اليوم.
وبلغ رُقي الدولة العباسية أقصاه في عصر هارون الرشيد (سنة ١٧٠–١٩٣ﻫ/٧٨٦–٨٠٩م) وعصر ابنه عبد الله المأمون (سنة ١٩٨–٢١٨ﻫ/٨١٣–٨٣٣م)؛ فإن في عهدهما بلغ العرب أقصى مبلغ من الحضارة وتمتعوا بأعظم أسباب النعيم والرفاه.
ثم أخذت الدولة العباسية تنحط رويدًا والنكبات تتوالى عليها حتى زالت.
(ب) القرامطة
وكان من أهمِّ نكباتها ظهور القرامطة، وذلك أنه في سنة ٢٧٨ﻫ/٨٩١م ظهر في ضواحي الكوفة داعية من الشيعة الباطنية الإسماعيلية يدعى قُرمُط، أصله من أنباط العراق، ادَّى أنه روحانية الأنبياء السابقين، واختار من أتباعه ١٢ رجلًا وأرسلهم لينذروا بشريعته، ولما شاع خبره أمر حاكم الكوفة بسجنه فشفقت عليه جارية الحارس وفتحت له باب السجن؛ فنجا ودخل البادية، فاجتمع عليه الأعراب ثم اختفى ولم يُعلَم مكانه، فقال تلاميذه: إنه عرَّج إلى السماء ومعه ثلاثة ملائكة وتفرَّقوا بين عرب البادية يعظمون بدين إمامهم ويحزِّبون العرب على العباسيين ويندِّدون عليهم لبذخهم وإسرافهم، فحاربوا جيوش الخليفة وانتصروا عليها.
ثم قطعوا طريق الحج إلى مكة، وفي سنة ٣٠٧ﻫ هاجموا مكة والحجاج فيها، فقتلوا نحو خمسين ألفًا ونهبوا الكعبة واقتلعوا منها الحجر الأسود، وأخذوه إلى الكوفة وملئوا بئر زمزم دمًا، وفي سنة ٣٣٩ﻫ أعادوا الحجر الأسود إلى مكان وأذنوا للمسلمين بالحج، ولما مات رؤساؤهم فترت غيرتهم الدينية وتفرقوا بتوالي الأيام بعد أن أقلقوا بغزواتهم مصر والعراق وجزيرة العرب والشام.
(٢-٥) الدولة الأموية في الأندلس (سنة ١٤١–٤٢٢ﻫ/٧٥٨–١٠٣١م)
هذا وكان السفاح قد تتبع بني أمية قتلًا وحبسًا، فهاموا على وجوههم في أنحاء البلاد، وهرب منهم عبد الرحمن بن معاوية بن الخليفة هشام، فسار إلى الأندلس حيث وجد كثيرًا من عسكر آبائه وشيعتهم، فتغلب على تلك البلاد سنة ١٤١ﻫ وأسس فيها دولة أموية وجعل عاصمتها «قُرطُبة» وقطع الخطبة عن العباسيين، وما زال بنوه عليها حتى إذا تربَّع ثامنهم عبد الرحمن الناصر في دست الإمارة سنة ٣٠٠ﻫ/٩١٢م لقب بأمير المؤمنين، وكانت دولة الأمويين في الأندلس تضارع الدولة العباسية في بغداد.
وما زالت الخلافة تنتقل في بنيه حتى تولَّاها الخليفة السادس عشر أمية بن عبد الرحمن سنة ٤٢٢ﻫ فورثهم في البلاد ملوك الطوائف من العلويين وغيرهم وكانوا أحزابًا، فأخذ الإسبان يقتطعون الأندلس من أطرافها بلدًا بلدًا، حتى استولوا عليها كلها سنة ٨٩٧ﻫ.
(٢-٦) الدولة الفاطمية في بلاد المغرب ومصر (سنة ٢٩٦–٥٦٧ﻫ/٩٠٨–١١٧١م)
وفي سنة ٢٨٠ﻫ/٨٩٣م ذهب أبو عبد الله اليمني من دعاة الشيعة الباطنية الإسماعيلية إلى بلا المغرب داعيًا لعُبَيد الله بن محمد المنتسب إلى إسماعيل بن جعفر الصادق، فنجح في دعوته وطرد الأمير الأغلبي حاكم تلكا لبلاد من قِبل الدولة العباسية سنة ٢٩٦ﻫ، وأعلن أن الخليفة الحقيقي للمسلمين ورئيس دينهم هو الإمام عبيد الله، وحضر عبيد الله فحكم بلاد المغرب ٢٤ سنة، ولُقِّب بالمهدي وعُرفت دولته بالعُبيديَّة نسبةً إليه وبالفاطمية نسبةً إلى فاطمة بنت النبي التي ينتسب إليها.
وتوالى أبناؤه الخلافة من بعده حتى تولى المعزُّ لدين الله الخليفة الرابع سنة ٣٤١ﻫ/٩٥٢م، فدانت له مراكش وجميع القبائل المغربية حتى سواحل الأتلانتيكي.
(أ) الدولة الطولونيَّة في مصر
ثم صرف همُّه لفتح مصر، وكانت مصر بيد العباسيين يولُّون عليها الولاة من العرب إلى سنة ٢٤٤ﻫ/٨٥٦م إذ قوي بأس مماليكهم الترك في بغداد كما سيجيء، فصاروا يولُّون عليها من هؤلاء المماليك حتى وليها منهم أحمد بن طولون سنة ٢٥٤ﻫ/٨٦٨م، فاستقل بها هو وذريته إلى سنة ٢٩٣ﻫ/٩٠٥م فعادت دولة عباسية يليها الولاة المماليك من بغداد مدة ٣٠ سنة كانت فيها بغاية الاضطراب؛ لأن القوة الحقيقية أصبحت بيد الجند من المماليك الترك الذين كانوا يرسلون من وقت إلى آخر لتوطيد النظام.
(ب) الدولة الإخشيدية في مصر
ثم صارت إلى الدولة الإخشيدية، وكان رأسها محمد بن طغج الإخشيد. قيل أصله من أصرة ملوك فرغانة ببلاد ما وراء النهر «جيحون»، أرسله الخليفة ببغداد واليًا على مصر فاستقلَّ بها.
وكان من ملوك هذه الدولة كافور الإخشيدي، وأصله خصيٌّ حبشيٌّ، اشتراه الإخشيد المذكور بثمن بخس، وكان شجاعًا مدبرًا حكيمًا، وساعدته الأقدار فملك مصر تحت سيادة العباسيين، وهو الذي وفد عليه المتنبي الكوفي المنبت الشامي المحتد فمدحه، وكان قد طمع أن يوليو منصبًا، فلما لم يحقق أمله هاجر مصر وهجاه.
ومما قاله في مدحه:
ومما قال في هجوه:
وخلفه أحمد بن علي بن محمد الإخشيد وكان عمره ١١ سنة، فاضطربت في عهده أحوال مصر، وكان الخليفة العباسي ببغداد مشغولًا بصد غارات القرامطة، فرأى المعز لدين الله الفاطمي الفرصة سانحة فأرسل قائده جوهر الرومي بجيش كبير فافتتح مصر سنة ٣٥٨ﻫ/٩٦٩م، ثم جاءها المعزُّ سنة ٣٦٢ﻫ/٩٧٣م ونقل إليها عاصمة ملكه، فأصبح في الإسلام في ذلك العهد ثلاثة خلفاء: الخلفاء العباسيون في بغداد، والخلفاء الأمويون في الأندلس، والخلفاء الفاطميون في مصر.
وفي أيام المعز ظهر شاعر الأندلس محمد بن هاني الأزدي، فمدحه بقصيدة مطلعها:
ومدحه بقصيدة عند فتح مصر عن يد جوهرها القائد مطلعها:
وانتهت دولة الفاطميين على مصر سنة ٥٦٧ﻫ/١١٧١م، وكانت من أعظم الدول ملكًا وأشدهم للعلم أزرًا وأرقاها حضارة وأدبًا، وهي الدولة العربية الوحيدة التي جعلت مصر مقرَّ الحكم، فأكسبت مصر صبغة لا تزال آثارها ظاهرة فيها إلى اليوم، ومن تلك الآثار مدينة القاهرة والجامع الأزهر من بناء جوهر القائد، وجامع الحاكم والجامع الأحمر بالنحاسين، وهي التي أحدثت في مصر كثيرًا من المواسم والأعياد والحفلات الوطنية كيوم عاشوراء ومولد النبي وقافلة الحج وفتح الخليج وغيرها.
وكان من أهم أسباب سقوطها استهانة خلفائها بحماتها الأوَّلين وأهل الدعوة والعصبية من العرب والبربر، والاستعاضة عنهم بمماليك الترك والديلم والسودان والأرمن والصقالبة؛ مما أوقع المنافسة بين هذه الطوائف وأثار بينها الحروب الداخلية التي خربت البلاد وأهلكت العباد، وأذلت الخلفاء في قصورهم، وهي الغلطة التي غلطها الخلفاء العباسيون من قبلهم، فقد كان السبب الأعظم في انحطاط هؤلاء وزوال ملكهم أنهم أبعدوا أهل العصبية من العرب واستعاضوا عنهم بالفرس ومماليك الترك.
(٢-٧) عودة إلى الدولة العباسية في بغداد
(أ) مماليك الترك في بغداد
أمَّا الترك فهم جيل من الجنس المغولي، قيل كانوا قديمًا يقطنون جبال ألاطاغ شمالي الصين، فارتحلوا منها غربًا وانتشروا في السهول والأنجاد الواقعة بين تلك الجبال وبحر الخزر، فسميت «تركستان» أي بلاد الترك، وأسسوا فيها إمارات شتى، وكانوا على الجاهلية حتى كانت الدولة العباسية ببغداد، فاعتنقوا الدين الإسلامي وأخذوا من ذلك العهد يفدون على العراق للانتظام في جيشها وحكومتها.
ومن المعلوم أنه منذ افتتح العرب سوريا ومصر من يد الروم كان الخلفاء مضطرين لحفظ جيش قويٍّ على الدوام ليوقفوا الروم عند حدهم في الشمال، وقد كان بينهم وبين ملوك الروم وقائع مشهورة، وكانت جيوش الخلفاء الراشدين ثم جيوش الأمويين بعدهم كلها من العرب، وأمَّا العباسيون فإنهم ما قاموا إلَّا بنصر خراسان لهم كما قدمنا، فكان جيشهم مؤلفًا من عنصرين عربي وعجمي، وكان العنصران متكافئين في القوة إلى أن توفي هارون الرشيد، وكان قد ولَّى عهده ولديه الأمين ثم المأمون على أن يكون المأمون في أثناء خلافة أخيه أمير خراسان، فأراد الأمين أن يخلع المأمون ويولِّي ابنه موسى العهد، فوقع النزاع بين الأخوين فنصر العرب الأمين والعجم المأمون وانتصر المأمون فاعتزَّ بالعجم.
وقد قدمنا أن العرب تقلَّدوا سيف الإسلام عن اقتناع داخلي بصحة تعاليمه، فكانوا يقتحمون الموت لا طمعًا بالربح أو المجد العالمي، بل لنيل الجزاء الموعود به، فلما طال اختلاطهم بالفرس وأهل الشام ومصر وذاقوا نعيم الدنيا؛ هجع فيهم ذلك التعطُّش لنعيم الآخرة، ففقدوا كثيرًا من البسالة التي أظهروها في صدر الإسلام، بخلاف الترك وغيرهم من سكان الشمال فإنهم أهل جرأةٍ ونشاط بالطبع، والقوى الحيوانية فيهم أشدُّ منها في سكان الجنوب، وغايتهم الأولى في الحروب الربح المادي، ومن كانت هذه صفاته تبقى شجاعته ما دام له أمل بالربح.
فلما تولى المعتصم أخو المأمون الخلافة سنة ٢١٨ﻫ/٨٣٣م رأى نفسه مضطرًّا لمحاربة الروم، وكان يتوهم أن لأهل العصبية من العرب الميل إلى العلويين؛ لذلك أبعد العرب، وبالغ في تقريب مماليك الترك، فألَّف منهم جيشًا كبيرًا وبنى لأجلهم مدينة سامرَّا شمالي بغداد، وجعلها مصيفًا له، وحارب الروم حربه الشهيرة في آسيا الصغرى، ففتح عمُّورية وكان فتحًا مبينًا، وكان في أيامه أبو تمام الشاعر الشامي المشهور، فمدحه بقصيدة ذكر فيها فتح عمورية ومنها:
وقد أبلى مماليك الترك بهذه الواقعة البلاء الحسن، فازداد المعتصم رغبة فيهم واستكثر منهم، حتى بلغ عنده ما يزيد عن خمسين ألفًا، واتخذ منهم حرَّاسًا لنفسه وولى كبارهم محافظة الثغور وحكم الولايات، واقتدى به الخلفاء بعده فأخذت شوكة الممالك تقوى شيئًا فشيئًا حتى تغلبوا على الدولة، وأصبح الخلفاء ألعوبة في أيديهم، يولون ويعزلون من يشاءون.
وقام في شرق العراق في عهد الدولة العباسية عدة دول إسلامية عجمية استقلت عن الخلافة، أهمها أربعة وهي: السامانية، والبويهية، والغزنوية، والسلجوقية، وكان للخلفاء العباسيين مع البويهية والسلجوقية شأن غريب، وذلك أن كلا من هاتين الدولتين استولت على بغداد واستبدت فيها بالسلطة الفعلية، وما كان الخلفاء إلَّا صورة مع أنها كانت تستمد سلطتها من الخلفاء، وهذا مما لا مثيل له في تاريخ الدول.
(ب) الدولة البويهية في بغداد
أمَّا الدولة البويهية، فهي دولة من الديلم (جيل من الفرس) أسسها ثلاثة إخوة: علي والحسن وأحمد أولاد شجاع بن بويه، فملكت العراقين والأهواز والفرس والجبال والريَّ، وكان ابتداء ظهورها بشيراز سنة ٣٢٢ﻫ/٩٣٤م.
وفي سنة ٣٣٤ﻫ/٩٤٥م سار أحمد بن بُوَيه إلى بغداد واستولى عليها، وكان فيها الخليفة المستكفى بالله، فأقرَّه وولَّاه الخراج وجباية الأموال، ولقَّبه معز الدولة، ولقَّب أخاه عليًّا عماد الدولة، وأخاه الحسن ركن الدولة، وأمر أن تضرب ألقابهم على الدنانير والدراهم.
(ﺟ) الدولة السلجوقية في بغداد
ولما كانت سنة ٤٤٧ﻫ/١٠٥٦م قدم بغداد طغرل بك محمد بن ميكائيل بن سلجوق من جهات تركستان بجيش كبير من قومه الترك، وكان الخليفة على بغداد القائم بأمر الله، والسلطة الفعلية بيد الملك الرحيم من أمراء بني بُوَيه، فقبض طغرل على الملك الرحيم واستبد هو وقومه بالدولة العباسية تحت رعاية خلفائها.
وفي سنة ٤٦٩ﻫ/١٠٧٦م زحف على سوريا تنش أخو ملك شاه ابن ألب أرسلان ابن جغري بك داود، أخو طغرل بك السلجوقي، وكانت سوريا إذ ذاك بيد العرب الفاطميين الحاكمين في مصر، فانتزع دمشق وبيت المقدس من يدهم، فانتقلت السلطة الفعلية من يد العرب أهل الضيافة والكرم إلى أيدي السلاجقة أهل القسوة والطمع، فاضطهدوا حجاج الإفرنج إلى بيت المقدس، وحمَّلوهم أشدُّ أنواع المغارم والإهانات.
ثم اكتسح فريق من السلاجقة آسيا الصغرى، فملكوها من الروم سنة ٤٧٤ﻫ/١٠٨١م وجعلوا مدينة نيقية عاصمة لهم ثم نقلوها إلى قونية، وقد أمروا بهدم الكنائس النصرانية واستعباد أهلها، وهددوا ألكسيس قيصر الروم في عاصمته حتى استنجد بنصارى الغرب، ولما كانت آسيا الصغرى في طريق حجاج الإفرنج إلى القدس الشريف عظم الخطب على الحجاج واشتد الاضطهاد، وما زالت شرور السلجوقيين تتزايد من جهة والحماسة الدينية في أوروبا من الجهة الأخرى حتى طفح الكأس، وأعلن البابا أوروبانس الثاني الجهاد الديني سنة ١٠٩٥م، وثارت الحروب الصليبية التي دامت نحو ٢٠٠ سنة، وجلبت من المصائب والبلايا على الشرق والغرب ما يملأ ذكره المجلدات الضخمة، وذهب في سبيلها من النفوس البريئة ما يعدُّ بمئات الألوف.
هذا وكان الفاطميون قد استعادوا بيت المقدس من الأتراك السلجوقيين سنة ١٠٩٨م، فاستخلصها منهم الصليبيون في السنة التالية، وأسسوا فيها إمارة لاتينية عرفت بمملكة بيت المقدس.
(د) الدولة الأيوبية في مصر
ثم ظهر صلاح الدين الأيوبي المشهور، وهو من رجال نور الدين السلجوقي صاحب دمشق، أرسله هذا مع عمه أسد الدين شيركوه إلى مصر نجدة للعاضد الفاطمي ضد وزيره «شاور» والصليبيين، فعاد الصليبيون إلى فلسطين، وتمكن أسد الدين من قتل شاور وتولى وزارة العاضد مكانه، ثم مات فجأة سنة ١١٦٩م، فخلفه في الوزارة ابن أخيه صلاح الدين، فانتزع مصر من يد الفاطميين سنة ١١٧١م، ودمشق الشام وشمال سوريا من السلجوقيين سنة ١١٧٦م، والقدس من يد الصليبيين سنة ١١٨٧م.
ودامت الدولة الأيوبية على مصر وسوريا إلى سنة ٦٤٨ﻫ/١٢٥٠م فآلت إلى المماليك البحرية، إلَّا شمال سوريا فإنه بقي بيد خلفاء صلاح الدين مدة.
(ﻫ) دولة التتر في بغداد
هذا وفي أوائل القرن السابع للهجرة والثالث عشر للمسيح خرج التتر، وهم جنس آخر من المغول، من أطراف الصين بقيادة زعيمهم جنكز خان، واكتسحوا بلاد تركستان وأكثر الممالك الإسلامية التي كانت تتنازع الملك من حدود الصين إلى العراق، وأسسوا مملكة قوية في سمرقند في بلاد ما وراءَ النهر، وطمحوا بأبصارهم إلى بغداد وصاروا يترقبون الفرص للاستيلاء عليها.
فلما كانت سنة ٦٥٥ﻫ/١٢٥٧م في عهد المستعصم الخليفة اﻟ ٢٧ من الخلفاء العباسيين، زحف على بغداد جيش من التتر بقيادة هولاكو حفيد جنكز خان، وحصرها، وكان قد كتب إليه يستحثه على الحضور الخائن مؤيد الدين العلقمي الشيعي وزير المستعصم لخلاف حصل بينهما، فدخل هولاكو بغداد في ٢٦ محرم سنة ٦٥٦ﻫ/٣ فبراير سنة ١٢٥٨م، وقتل المستعصم وأولاده وكل من وجده من بني العباس، وقضى على الدولة العباسية، وتشتت من بقي من ذرية بني العباس في البلاد.
ثم إن هولاكو رتب الولاة ببغداد وزحف على آسيا الصغرى وسوريا، فافتتح حلب ودمشق من خلفاء صلاح الدين الأيوبي سنة ٦٥٨ﻫ/١٢٦٠م، ووجَّه جيشًا إلى فلسطين قصد الزحف منها على مصر.
(و) دولة المماليك البحرية في مصر
وكانت مصر وفلسطين إذ ذاك بيد الملك المظفَّر سيف الدين قُطُز من المماليك البحرية، فخرج لقتال التتر فأدركهم على عين جالوت قرب بيسان، فأوقع بهم وطردهم من سوريا، وأعاد للأيوبيين حمص وحماة، وأناب عنه في سائر المدن رجالًا يثق بهم، وعاد إلى مصر.
وكان بعض المفسدين قد أوغروا صدره على بيبرس أكبر قواده؛ فأضمر له السوء، وبلغت بيبرس الوشاية؛ فكمن لقُطُز في الطريق وقتله قبل أن يبلغ قاعدة سلطانه، وتولى مصر مكانه سنة ٦٥٨ﻫ/١٢٦٠م.
وأراد بيبرس أن يعزز زعامته للإسلام فدعا إلى مصر أحد أولاد الخلفاء العباسيين الذين فرُّوا من وجه التتر من بغداد، وبايعه الخلافة ولقبه بالمستنصر، وكان ذلك سنة ٦٥٩ﻫ/١٢٦١م، وضرب النقود باسمه واسم الخليفة، فثبَّته الخليفة لقاء ذلك في السلطنة وخلع عليه، فأصبح بيبرس من ذلك الحين زعيم الإسلام شرعًا وفعلًا. «وقد احتفظ بالسلطان التام، ولم يعطِ الخليفة غير السلطة الدينية ومظاهر السلطة السياسية»، وجهَّز بيبرس المستنصر بجيش ووجَّهه لقتال التتر طمعًا باسترجاع بغداد، ولكن التتر فتكوا به وفرَّقوا جيشه.
وفي ذي الحجة سنة ٦٦٠ﻫ/أكتوبر سنة ١٢٦٢م حضر إلى مصر عبَّاسي آخر يسمى أحمد بن الحسن، بن المستظهر، فأثبت نسبه وبايعه السلطان بيبرس والعلماء، ولقب الحاكم بأمر الله، وهو جد الخلفاء العباسيين في مصر.
هذا وكان هولاكو — قبل زحفه على سوريا — قد قصد قونية عاصمة السلجوقيين في آسيا الصغرى، وكان عليها إذ ذاك السلطان علاء الدين، فصدَّهم عن بلاده، وكان الفضل في ذلك للأتراك العثمانيين الذين كان لهم أكبر الشأن مع العرب، وإليك البيان.
(٢-٨) الترك العثمانيون والعرب، منذ سنة ٩٢٢ﻫ/١٥١٧م إلى اليوم
لما زحف جنكز خان بجيوشه من الشرق وغزا تركستان في أوائل القرن الثالث عشر كما قدمنا، جلت من وجهه قبيلة قابي خان بقيادة زعيمها سليمان شاه بن ألب أرسلان سنة ٦٢١ﻫ/١٢٢٤م، وسارت غربًا من شرق بحر الخزر تطلب مقامًا لها ومراعي لمواشيها حتى أتت الفرات، وفيما هم يعبرون النهر عند قلعة جَعبر غرق زعيمهم سليمان شاه، فدفنوه عند القلعة، قالوا: وتشاءَم بعضهم من غرق زعيمهم فعادوا إلى بلادهم، وبقي منهم نحو ٤٠٠ خيمة برئاسة أرطغرل بن سليمان شاه، فنزلوا في نواحي مدينة «أخلاط» غربي بحيرة «وان» وأقاموا هناك مدة، ثم ارتحلوا غربًا يخترقون آسيا الصغرى، واتفق أن كان ارتحالهم في العهد الذي زحف فيه هولاكو التتري من بغداد لفتح آساي الصغرى من الأتراك السلجوقيين كما مر.
فلما اقترب الأتراك العثمانيون من قونية شاهدوا من بعد غبارًا متصاعدًا وحربًا قائمة، فأقروا على الدخول في الحرب انتصارًا لأضعف الفئتين وانتصروا لها فعلًا، وهم لا يدرون لمن ينتصرون! ثم علموا أنهم انتصروا للسلجوقيين وقهروا التتر، فشكروا الله على ذلك، وسُرَّ علاء الدين صاحب قونية من فعلهم فأقطعهم بلاد فريجيا على حدود بلاده مما يلي مقاطعة بورصة التي كانت إذ ذاك بيد الروم، وكانت مدينة سكود أهم مدن فريجيا فاتخذها أرطغول مركزًا له، فُولِد فيها ولد سنة ٦٥٦ﻫ/١٢٥٨م سمَّاه عثمان، وهو جد سلاطين آل عثمان ومؤسس الدولة العثمانية.
-
عثمان الأول: وفي سنة ٦٨٠ﻫ/١٢٨١م توفي أرطغول، فخلفه ابنه عثمان،
فأغار على أعداء السلاجقة في قرة جه حصار وبلاد أخرى
واستولى عليها؛ فسُرَّ منه السلطان علاء الدين وأعلنه
أميرًا، وأهدى إليه الطبل والحربة علامة الإمارة ولقبه
بالغازي، وذلك سنة ٦٩٩ﻫ/١٢٩٩م.
وتوفي علاء الدين في تلك السنة بلا عقب، فاستقل الولاة السلجوقيون كل منهم في ولايته، وأعلن عثمان أيضًا استقلاله في ولايته، ونقل كرسَّيه إلى مدينة يني شهر، وذلك في ٢٧ يناير سنة ١٣٠٠م، وهو تاريخ تأسيس الدولة العثمانية.
وكانت بورصة إذ ذاك لا تزال بيد الروم، فزحف عليها وحصرها، وتوفي سنة ٧٢٦ﻫ/١٣٢٦م قبل أن يدخلها جيشه.
- أورخان: فخلفه ابنه أورخان، ففتح بورصة ونقل إليها كرسي ملكه، وألَّف جيشًا من ٦٠٠٠ أسير نصراني اعتنقوا الإسلام وسمُّوا «الإنكشارية»، وعبر بهم الدردنيل سنة ١٣٥٦م، وفتح مدينة غليبولي وهي أول مدينة استولى عليها العثمانيون في أوروبا.
- مراد الأول: وقام بعده ابنه مراد الأول سنة ٧٦١ﻫ/١٣٦٠م فاستولى على أكثر الإمارات السلجوقية في آسيا الصغرى، ثم اجتاز الدردنيل وافتتح مدينة أدرنة سنة ١٣٦١م، وجعلها كرسي ملكه.
-
بايزيد الأول: وخلفه ابنه بايزيد الأول سنة ٧٩٢ﻫ/١٣٨٩م، فأدخل سائر
بلاد السلاجقة في آسيا الصغرى في سلطته، ودوَّخ البلقان
كلها وبلاد اليونان، وحاصر القسطنطينية عشر سنوات، وكان
مصممًا على أخذها.
- تيمورلنك: وفي هذه الأثناء ظهر في بلاد التتر الجبار العظيم تيمور لنك، ولم يكن من الأسرة المالكة، بل كان متزوجًا بأميرة من أسرة جنكز خان، فزحف على بغداد وافتتحها سنة ١٣٩٣م، ثم تقدم إلى آسيا الصغرى للاستيلاء عليها، فلما بلغ خبره السلطان بايزيد رفع الحصار عن القسطنطينية، وسار بجيوشه فالتقى تيمور لنك بالقرب من مدينة أنقرة سنة ٨٠٥ﻫ/١٤٠٢م، وجرت هناك واقعة عظيمة قُتِل فيها خلق كثير من الفريقين، وكانت الغلبة لتيمور لنك، ووقع السلطان بايزيد أسيرًا في يده، قيل فسجنه في قفص من حديد فمات قهرًا سنة ١٤٠٣م، وكان تيمور لنك قد عزم على فتح القسطنطينية ولكنه لما لم يجد السفن لعبور البوغاز عدل عن عزمه، وزحف على دمشق الشام فخربها تخريبًا عظيمًا، ويقال: إنه قتل عددًا كبيرًا من أهله انتقامًا للحسين؛ لأنه كان شيعيًّا، ثم عاد إلى بغداد فمات فيها حفيده محمد فاغتمَّ لموته كثيرًا وعاد إلى بلاده.
- محمد الأول: وخلف بايزيد ابنه محمد الأول سنة ٨١٦ﻫ/١٤١٣م.
- مراد الثاني: ثم مراد الثاني بن محمد الأول ٨٢٤ﻫ/١٤٢١م، فوالى الفتوحات ووسَّع فرقه الإنكشارية حتى زادت على مائة ألف مقاتل، وأتم تدويخ اليونان.
- محمد الثاني: ملك بعده ابنه محمد الثاني سنة ٨٥٥ﻫ/١٥٤١م، ففتح القسطنطينية سنة ٨٥٧ﻫ/١٤٥٣م على عهد إمبراطورها قسطنطين الثاني عشر، ونقل إليها عاصمة السلطنة ولم تزل إلى اليوم.
- بايزيد الثاني: وخلفه ابنه بايزيد الثاني سنة ٨٨٦ﻫ/١٤٨١م، فسار إلى مصر لنزعها من يد المماليك الجراكسة فلم يفلح، وكانت سلطة الإنكشارية قد قويت في السلطنة، فلما كانت سنة ٩١٨ﻫ/١٥١٢م اضطروه أن يتنازل لابنه سليم.
-
سليم الأول: وفي سنة ٩٢٢ﻫ/١٥١٦م زحف السلطان سليم بجيش عظيم على
الشام ثم على مصر فافتتحهما كما مرَّ، وكانت الحجاز تابعة
لمصر فاستولى عليها، ثم نظم مصر وولى عليها الولاة وعاد
إلى الآستانة.
وكان في مصر عند افتتاحها المتوكل على الله الخليفة اﻟ ٥٥ من الخلفاء العباسيين، فصحبه إلى الآستانة ومات هناك، وبذلك انتهى أمر الخلافة العربية.
-
سليمان الأول: وخلف السلطان سليم ابنه سليمان الأول سنة ٩٢٦ﻫ/١٥٢٠م،
فسنَّ لبلاده القوانين الإدارية والعسكرية فلقب بالقانوني،
وكانت العراق في ذلك العهد بيد الفرس افتتحوها من التتر
سنة ١٥٠٢م، فلم يسع الترك بعد أن ملكوا سوريا ومصر والحجاز
أن تكون العراق شوكة في جنبهم، فسيَّر السلطان سليمان
جيشًا ففتح العراق سنة ١٥٣٥م.
ثم أرسل عمارته إلى بلاد المغرب فطرد الإسبان منها، واستولى على تونس والجزائر وطرابلس الغرب، فأصبح تحت سلطة ترك الآستانة أو تحت سيادتهم جميع الممالك العربية، وفيها بلاد الشام والعراق التي تعد سياج الحرمين والحرمان الشريفان، وبيت المقدس، والنجف، وكربلاء، وسامرَّا، وغيرها من الأماكن المقدسة.
- (١)
أن تكون أسمى إدراكًا وأوسع علمًا وأرقى حضارةً وأقوى عدةً وأتمُّ نظامًا من الأمم التي تحكمها.
- (٢)
أن يكون أساس حكمها العدل، وأن تحكم كل قوم بما يناسب حالهم وزمانهم من الشرائع والقوانين.
- (٣)
أن تعطي الأمم المحكومة من حق الحكم على قدر ما عند تلك الأمم من الاستعداد الطبيعي والاكتسابي لذلك.
- (٤)
أن تكون وطأة حكمها خفيفة ليِّنة حتى إن الأمم المحكومة لا تكاد تشعر أنها محكومة من غير أبنائها.
- (٥)
ألَّا تقدم على فتح بلاد جديدة حتى تكون قد نظَّمت البلاد التي في يدها، ووطَّدت فيها أسباب الأمن والراحة والرقي.
وهذه الشرائط وهذه الصفات لم تتوافر في خلفاء سليمان القانوني على الآستانة، وقد دلَّ التاريخ أن العربي على بداوته وأمِّيته أصلح جدًّا للاستعمار من ترك الآستانة.
انظر إلى العراق الذي كان في عهد حمُّورابي قديمًا والرشيد حديثًا جنة الله في أرضه كيف أصبح الآن وأكثر أراضيه قفار، وقد كانت جبايته في عهد المأمون نيفًا وعشرين مليون دينار، والآن لا يزيد عن مائتي ألف جنيه.
وهذه سوريا التي كانت في عهد الأمويين تسع ١٢ مليونًا من السكان، وجبايتها ١٧٣٠٠٠٠ دينار لا يكاد عدد سكانها يبلغ الآن مليونين ونصف مليون من النفوس، وجبايتها لا تتجاوز ٧٥٠ ألف جنيه، وقد أقفرت ديارها وعفت آثارها وتشتت أهلها في أقاصي المعمور يقاسون من ذلِّ الغربة وآلام البعاد ما يفتت الأكباد.
وماذا بمصر؟ نزلها الفراعنة قديمًا والفاطميون حديثًا فتركوا في واديها من الآثار ما لا يزال قائمًا إلى اليوم ناطقًا بفضل العرب وشاهدًا بمقدرتهم الطبيعية واستعدادهم الفطري للوصول إلى أعلى درجات التمدن والارتقاء، ولقد كانت جباية مصر في عهد عمرو بن العاص العربي البدوي ٢٠ مليون دينار، فأمست في آخر حكم ولاة الآستانة على مصر قبل أن تولاها محمد علي باشا ٦٥ ألف جنيه.
وقد بدأت الدولة العثمانية في الانحطاط منذ عهد السلطان سليمان القانوني، وانتقض عليها جميع الشعوب التي خضعت لسلطانها، ففازت الشعوب الأوربية كلها بالاستقلال التام، وفازت مصر باستقلالها الإداري عن يد الأسرة المحمدية العلوية كما قدمنا، ولم يبقَ للدولة إلَّا جزء صغير في أوروبا وآسيا الصغرى وسوريا والعراق وبعض جزيرة العرب، وكان الإنكشارية الذين بسواعدهم بنوا مجد الدولة هم السبب الأعظم في هدمه.
ولقد بلغ الظلم والخراب حدَّهما في عهد السلطان اﻟ ٣٤ عبد الحميد السابق، فألف الاتحاديون جمعية سرية استمالوا إليها نخبة شبان الجيش فدكُّوا عرش عبد الحميد، وبنوا على أنقاضه حكومتهم الدستورية، وكان ذلك سنة ١٩٠٨، وقد حبذت الأمة كلها عملهم ونصرتهم على اختلاف الأجناس والأديان، ولكنهم ما لبثوا أن استأثروا بالسلطة وأرادوا أن يكون لهم الأمر والسيادة، وللعرب — ولسائر الأمم العثمانية — الخضوع والطاعة، وقد عملوا على تعميم اللغة التركية وطمس اللغة العربية حتى في المحاكم، فقام عقلاء الترك والعرب وبيَّنوا لهم خطأ هذه الخطة وطالبوا بالإصلاح على مبدأ اللامركزية، وقالوا: إنه بهذا المبدأ وبه وحده يحفظ كيان الدولة ونظامها، فما صغوا لهذا القول ولم يكن لطلَّاب الإصلاح أمة مستجمعة القوى متوحدة المقاصد تشد أزرهم، ففشلوا.
والآن فإن الاتحاديين على رغم عقلاء الترك والعرب من رعايا الدولة والنصحاء المخلصين من غير رعاياها قد زجُّوا بأنفسهم وبالدولة في هذه الحرب الجهنمية في جانب الألمان لغير ما سبب، فأضاعوا إلى الآن عشرات بل مئات الألوف من نخبة شبان البلاد وكهولها، وعطلوا المتاجر وأوقفوا الصنائع وجلبوا على أنفسهم وعلى أمتهم من الويلات والأحزان ما لا يعبر عنه بقلم أو لسان، وماذا جنوا؟
أمَّا الألمان فإنهم جنوا نفعًا كبيرًا ظاهرًا لأمتهم ولبلادهم، فقد أشغلوا بجيوش الترك والعرب قسمًا كبيرًا من جيوش أعدائهم، وأمَّا الاتحاديون فإنه لم يكن لديهم المال للإنفاق على الحرب فاستمدوه من الألمان، فوضع الألمان أيديهم على مرافق البلاد الحيوية ومراكزها الرئيسية تأمينا على أموالهم، بل وضعوا أيديهم على الجيش زهرة شبان البلاد ليديروه بما يوافق مصلحتهم، فأصبحت البلاد العثمانية برمتها من ملكية وعسكرية، عربية وتركية، مسلمة ومسيحية؛ مستعمرة ألمانية، والحلفاء الآن باذلون الجهد لانتزاعها من يد الألمان، وهناك أدلة كثيرة على أنه لا بد من فوز الحلفاء عاجلًا أو آجلًا، وفي الحالين فإن الاتحاديين قد أضاعوا ملكهم بسوء سياستهم.
إن جلالة الملك جورج الخامس ملك الإنكليز قد أعلن أنه لا يتخذ إجراءات حربية برية أو بحرية في بلاد العرب أو في موانيها، ما لم تمس الحاجة إلى ذلك قصد حماية مصالح العرب من اعتداء الترك وغيرهم، أو إنجاد من ينهض من العرب للخلاص من ربقة الترك.
(٣) صفة جزيرة العرب وأقسامها الطبيعية والإدارية ومدنها وموانيها وقبائلها الشهيرة وأمراؤها الحاليون
- حدودها: يراد بجزيرة العرب البلاد التي يحدُّها من الشمال بلاد الشام والفرات، ومن الشرق الفرات وخليج العجم وبحر عمان، ومن الجنوب المحيط الهندي، ومن الغرب الأحمر.
-
صحاريها: ومعظم أراضي هذه البلاد صحارى رملية، وخصوصًا ما في وسطها ما بين
اليمن وحضرموت وعمان ونجد فإن فيها الصحراء الكبرى التي تعرف
«بالربع الخالي» وهي قفر مرمل، لا نبات فيه ولا ماء، ولا تزال
الرياح تثير رمالها الناعمة وتكيِّف سطحها على أشكال شتى حسب
مهابَّها، فتجعل السير فيها خطرًا، وإذا ما خاطرت قافلة بالسير على
جانبها في زمن الرياح التهمتها الرمال ودفنتها في جوفها.
ويمتد من شمال هذه الصحراء لسان يعرف «بالدهناء» يفصل بين الحسا ونجد، ثم يميل نحو الغرب ويتسع حتى يتصل «بالجوف الشمالي» المعروف «بدومة الجندل» فيسمى هناك «نفود الجوف»، وإلى الغرب من نفود الجوف بادية «الحِسمة»، وقد عرَّفنا هذا الجوف الشمالي تمييزًا له عن «الجوف الجنوبي» المعروف «بجوف عمر» في منتصف الطريق بين بُرَيدة والعقبة، وهناك جوف آخر بين الربع الخالي واليمن.
ويخترق الدهناء طرق شتى من نجد إلى عمان والأحساء والعراق، وفي القاموس الدهناء الفلاة، وأرض في نجد لبني تميم وتُقصر قال الشاعر:
يمرُّون بالدهنا خفافًا عيابهمويرجعن من دارين بُجرَ الحقائبِوإلى شمال الجوف الشمالي بين جبال حوران والفرات «بادية الشام الكبرى»، ويفصل بينها وبين نفود الجوف «وادي السرحان» العظيم الآتي من جبال حوران.
-
جبالها وسهولها: ويخترق الجانب الغربي من جزيرة العرب من الجنوب إلى الشمال «جبل
الحجاز»، وهو أكبر جبالها وأشهرها، ويعلو بعض قممه نحو ٣٠٠٠ متر عن
سطح البحر، وفيه ينابيع غزيرة وغابات وبساتين ومزارع وقرى عامرة
بالسكان.
وبين هذا الجبل والبحر الأحمر سهل منخفض ضيق يسمى «تهامة»، أرضه مرملة وبعضه صالح للزراعة، وعرضه يتراوح بين ٤٠ و٨٠ كيلومترًا، وإلى شرق هذا الجبل بلاد مرتفعة واسعة جيدة الهواء تسمى «نجد»، وقد سُمِّي الجبل بالحجاز؛ لأنه حاجز بين تهامة ونجد، ويسمى القسم الجنوبي منه بالسُّراة، ويسمَّى القسم الشمالي من نجد «شمَّر»، وأشهر جبال نجد: العارض وطُوَيق، وأشهر جبال شمر: أجا وسَلمى.
- أوديتها: ويسيل من جبالها ومرتفعاتها في زمن الأمطار أودية شتى شهيرة تصب في البحر الأحمر والمحيط الهندي، أو تغور في الرمال قبل أن تصل البحر، فإذا ارتفعت الأمطار جفت الأودية كأن لم يكن فيها ماء، وليس في الجزيرة كلها نهر واحد حي كما قدمنا، ولكن في كثير من أوديتها ينابيع حيَّة تكسبها الخصب والنماء.
- أقسامها: وتقسم جزيرة العرب الآن إداريًّا إلى عشرة أقسام، وهي: «الحجاز، وعسير، واليمن، وحضرموت، وعُمان، وقطَر، والبحرين، والكويت، ونجد ويتبعها الأحسا، وشمَّر»، وأمَّا «بادية الشام الكبرى» فمفصولة عنها إداريًّا.
(٣-١) الحجاز
أمَّا الحجاز فهي القسم الشمالي الغربي من الجزيرة، ما بين الشام وعسير اليمن، وهي قسمان تهامة وجبل، وأشهر مدن تهامة: «مكة» وهي عاصمة الحجاز، «والمدينة» وهي على عشر مراحل شمالي مكة، وفيهما الحرمان الشريفان.
وأشهر مدن الجبل: الطائف، وهي مصيف مكة على ثلاث مراحل منها جنوبًا.
وأشهر مواني الحجاز من الشمال: المويلح، وضبا، والوجه، وينبع وهي ميناء المدينة، ورابغ، والقضيمة، وجدَّة وهي ميناء مكة بينهما ٨٠ كيلومترًا، والليث.
وأشهر قبائل الحجاز: «الأشراف» في مكة وضواحيها. هم نسل الشريف أبي نمي القرشي الذي تولَّى إمارة مكة سنة ٩٣٢ﻫ/١٥٢٥م، وحفظت الإمارة في نسله إلى اليوم، وقد أنجب ثلاثة أولاد صاروا رءوس ثلاث قبائل لكل منهم فروع، وهم: الشريف حسن جد الشريف حسين أمير مكة الحالي، والشريف بركات، والشريف أحمد.
«وقُريش» «وهُذيل» حول مكة. «وابن الحارث» «والبقوم» «وسُبيع» شرقيها. «وبنو مالك» «والجحادلة» «وفهم» جنوبيها.
«وحرب» قبيلة جسيمة بين مكة والمدينة، وهي فرعان كبيران: بنو سالم وبنو مسروح، وبنو سالم فرعان: بنو ميمون والمراوحة المشهورون بالحوازم، وبنو ميمون فروع أشهرها صُبح والمحاميد والأحامدة، ومن هؤلاء فرع يقال لهم: الشواربية القاطنين بقليوب مصر، وبنو مسروح فرعان: زبيد وبنو عمرو، وبنو عمرو فروع أشهرها بشر والحمران.
«وعُتَيبة» «وسُلَيم» «ومُطَير» بين الحجاز ونجد. «وثُقَيف» حول الطائف.
«وجُهينة» بين ينبع والوجه وهي فرعان كبيران: بنو مالك وبنو موسى، وبنو مالك فروع أشهرها رفاعة والحمدة، وبنو موسى فروع أشهرها العلاوين والعوامرة، ومن بني موسى فرع بمصر بقرية لهم تابعة لشبين القناطر.
«وبِلي» بين الوجه والعقبة، وقد عرفت بلادهم قديمًا ببلاد «مديان».
«والحويطات» «وبنو عطية» في الحِسمة شمالي بلي، ويتفرع من الحويطات: الجوازي والعمران والدبور والترابين وغيرهم. «والشرارات» شرق الحِسمة.
«وعنزة» في نفوذ الجوف الشمالي، ومن القبائل الشهيرة: «لحيان»، «وخزاعة».
وجميع ما ذكرنا من قبائل الحجاز ترجع بأنسابها إلى عدنان.
والحجاز الآن بيد أميرها الشريف حسين بن علي بن محمد أمير مكة، تولى الإمارة في القعدة سنة ١٣٢٨ﻫ بعد ابن عمه الشريف علي بن عبد الله بن محمد نزيل مصر حالًا، وكان الشريف علي قد تولاها في ١٤ جمادى الأولى سنة ١٣٢٣ﻫ بعد وفاة عمه الشريف عون الرفيق، وفي الحجاز الآن حاميات من الترك في مكة والمدينة وجدَّة والطائف.
(٣-٢) عسير
أمَّا عسير، فبين الحجاز واليمن، وهي قسمان: تهامة وجبل، أمَّا جبل عسير فيعرف بالسراة، وأشهر مدنه: أبها وهي عاصمته، ومحايل، ورغدان، والنماص.
وأمَّا تهامة عسير فأشهر مدنها «صبيا» وهي عاصمتها، «وأبو عريش» على نحو ٣٠ كيلومترًا جنوب صبيا.
وأشهر مواني عسير من الشمال: «القنفدة وهي ميناء أبها، والوَسْم، والشُّقَيق، وجيزان وهي ميناء صبيا على نحو ٣٠ كيلومترًا منها غربًا، ومَيدِي، وحَبْل.»
وأشهر قبائل جبل عسير: «غامد، وزهران، وشمران، وخثعم، والمحلف، وأكلب، ومعاوية، وبنو سلول، وبالأسمر، وبنو شهر، وبنو عمرو، وبالقرن، وبالحارث، وزُبيد، وقحطان، وشهران، وبالأحمر، وربيعة، ورجال الخميسين، وبنو أسلم، ومسروح.»
وأشهر قبائل تهامة عسير: «كنانة، والمرازيق، ورجال المع، والرايش، وبنو قيس، والجعافرة، والعرايشة أو رجال أبو عريش، والمسارحة، وبنو مروان، وبنو حسن، وبنو عباس، وبنو زيد، وبنو نَشَر أو النواشرة، وبنو شهاب.»
وجميع من ذكرنا من قبائل عسير ينتسبون إلى قحطان إلَّا أكلب، ومعاوية، وبنو سلول، وكنانة، وبنو قيس، وبنو عبس؛ فإنهم ينتسبون إلى عدنان.
(أ) السيد محمد علي الإدريسي
وعسير الآن بيد أميرها العربي الأبي الكبير السيد محمد علي الإدريسي حفيد السيد أحمد بن إدريس، العالم المتصوف الكبير.
وُلِد السيد أحمد بن إدريس في بلدة ميسور، من أعمال فاس ببلاد المغرب في ٢١ رجب سنة ١١٧٣ﻫ، وهو من قبيلة من الأشراف تدعى «العرايش»، ويتصل نسبه بمولاي إدريس فاتح المغرب، المدفون بفاس المنتسب إلى الحسن بن علي بن أبي طالب.
-
السيد محمد عثمان المرغني: صاحب الطريق المرغنية في السودان ومصر والنوبة.
-
والسيد محمد علي السنوسي: صاحب الطريق السنوسية في صحراء طرابلس الغرب.
-
والشيخ محمد حسن الظافر المدني: صاحب الطريق المدنية في طرابلس الغرب وغيرها.
-
والشيخ محمد المجذوب «السواكني»: صاحب طريقة المجاذيب في السودان الشرقي.
-
والشيخ إبراهيم الرشيد الدنقلاوي الشايقي: صاحب الطريقة الرشيدية بمكة والسومال والسودان وصعيد مصر.
وقد ترك عدة أولاد أشهرهم: السيد محمد وهو الأكبر، والسيد عبد العال.
أمَّا السيد عبد العال فإنه بعد وفاة والده ارتحل إلى صعيد مصر، وسكن الزينية فأقام فيها نحو ١٨ سنة، ثم توجَّه إلى دنقلة فتوفي فيها سنة ١٢٩٥ﻫ، وله هناك قبر يزار، وقد ترك تسعة أولاد أكبرهم السيد محمد شريف، وأوسطهم السيد مصطفى.
أمَّا السيد محمد بن السيد أحمد إدريس فإنه انتقل بعد وفاة والده إلى الحديِّدة، وأقام هناك بخلوته نحو ٥٠ سنة لم يخرج منها، ثم أمر أن يُحمل إلى صبيا فمكث فيها ٤ أيام ومات، ودُفِن بجوار والده، وكان معدودًا من كبار الأولياء، وقد ترك ولدًا وحيدًا وهو السيد علي، أقام وتوفي بصبيا سنة ١٣٢٤ﻫ، وكان كأبيه معدودًا من كبار الأولياء، وقد ترك أربعة أولاد أكبرهم السيد محمد علي الذي نحن بصدده.
ولد محمد علي بصبيا سنة ١٢٩٣ﻫ، وتلقى العلوم الدينية في مسجد جده هنا، ثم أتى مصر سنة ١٣١٤ﻫ، وأخذ العلوم الدينية في الأزهر الشريف، وفي سنة ١٣١٧ﻫ زار السيد محمد المهدي السنوسي في الكفرة عن طريق الجغبوب، ثم عاد إلى الأزهر فبقي إلى أواخر سنة ١٣٢١ﻫ، ثم توجه إلى دنقلة وزار قبر عمه السيد عبد العال وبقي هناك مدة ثم عاد إلى صبيا بطريق بربر، وسواكن فوصلها سنة ١٣٢٣ﻫ/١٩٠٥م.
وهو طويل القامة، بدين الجسم، عظيم المنكبين، واسع العينين، أسمر اللون، مهوبًا وقورًا.
وقد نشأ على حبِّ العلم والأدب وكره الظلم والاستبداد، عالي الهمَّة شديد الذكاء، كريم الطبع عزيز النفس، غيور على قومه ودينه وبلاده مع الميل إلى الزهد والتقوى، فلما عاد إلى صبيا وجد أهلها يئنُّون من ظلم الحكام الترك واستبداد الجباة، فنصحهم بترك الظلم والسير في قومه بسنة الله ورسوله، وكرر النصح لهم مرارًا فما صغوا له، ونصرته قبائل تهامة فأعلن استقلاله في صبيا سنة ١٣٢٧ﻫ وحارب الترك وانتصر عليهم في عدة مواقع، وأخذ منهم جيزان عنوة، وهو الآن يناوئهم في جبل عسير وتهامة واليمن.
(ب) السيد مصطفى عبد العال الإدريسي
وأكبر صفي له من أولاد عمه السيد مصطفى بن السيد عبد العال الإدريسي في الزينية، وهو الآن في الثانية والأربعين من عمره، طويل القامة، بهيُّ الطلعة، كريم الخلُق، رقيق الطبع، ذكي الفؤاد، طيب النفس، حسن العشرة. ما مازجه أحد إلا أحبه وصافاه، والسيد محمد علي الإدريسي يحبه حبًّا جمًّا، ويعتمد عليه في جميع أموره في السياسة الخارجية، وقد استدعاه مرارًا إلى صبيا مركز حكومته، ووسَّطه في نهو بعض المهام السياسية نظرًا لما يعهده فيه من الفطنة والذكاء وسداد الرأي واتساع الصدر مع الغيرة الحسنة لمصلحة أهله والعرب كافة.
(٣-٣) اليمن
واليمن في جنوب عسير، وتمتد إلى سلطنة لحج، وهي أيضًا قسمان: تهامة وجبل.
وأشهر مدن الجبل: «صنعاء» وهي عاصمة اليمن، «ومناخة» وهي في منتصف الطريق بين صنعاء والحديدة على ١٠٠ كيلومتر من صنعاء و١٥٠ كيلومترًا من الحديدة.
«وعمران» إلى الشمال من صنعاء. «وحَجَّة» إلى الغرب من عمران.
«وحُجور» إلى الشمال من حجة، وإلى شمال يعمران وحجة جبل شهارة الشهير بحصانته، وفيما بين حجة وعمران جبل كوكبان المشهور بارتفاعه.
«وذِمار» إلى الجنوب من صنعاء، «ويريم» إلى الجنوب من ذمار.
«ورَداع» شرقي يريم، «وقَعْطبَه»، «وإب» جنوبي يَريم في سفح الضالع الغربي، ويمتد هذا الجبل جنوبًا إلى لحَج.
وأشهر مدن تهامة: «بيت الفقيه» على مرحلة ونصف من الحديدة جنوبًا بشرق.
«وزَبيد» على نحو مرحلتين جنوبي بيت الفقيه، «وتِعِزُّ» على نحو ثلاث مراحل جنوبي زبيد، «وباجل» على طريق صنعاء بين الحديدة ومناخة.
«والحج جيله» على طريق صنعاء بين باجل ومناخة، «والزيدية» بين الحديِّدة وباجل بانحراف إلى الشمال. «والمراوعة» على ست ساعات شرق الحديدة.
وأشهر مواني اليمن: «اللحية» وبقربها جزيرة قمران، وهي محجر اليمن.
«والحديِّدة» وهي ميناء صنعاء، «ومخا» وهي ميناء تعز.
«وعدن» وهي بيد الإنكليز منذ سنة ١٨٣٩م، ومركز تجاري مهم بين الشرق والغرب.
وأشهر قبائل اليمن: «الزيدية» وهم فرع من العلويين، ويلقب أميرهم بأمير المؤمنين وينتسبون إلى الإمام زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وأشهر قبائل الزيدية: «حاشد وبكير» في جنوب جبل لشهارة. «وخولان» إلى الشمال الغربي من جبل شهارة، «والعَود، والشَّعِر، وعمَّار» في بلاد قعطبة.
وأشهر قبائل تهامة اليمن: «بنو الأهدل، وهم أشراف تهامة، وأهم مراكزهم المراوعة، وكبيرهم السيد عبد الباري، والوعظات، وصُليل، والجرابح، والقُحرة، والزرانيق.»
وجميع قبائل اليمن ينتسبون إلى قحطان إلَّا بنو الأهدل، فإنهم ينتسبون إلى عدنان.
واليمن الآن بيد الإمام يحيي أمير الزيدية، تولى بعد وفاة أبيه الإمام محمد حميد الدين سنة ١٣٢٠ﻫ/١٩٠٢م، ومركزه «قَفْلة عُذَر» على أكمة غربي جبل شهارة، على مرحلتين منه، ومعقله ومصيفه جبل شهارة، وأول إمام ذكره التاريخ الحديث للزيدية هو الإمام الهادي يحيي بن الحسين، وفي أخباره أنه حارب القرامطة وقهرهم، وكان مركزه صعدة، وقد دخلت اليمن في حكم العثمانيين سنة ١٨٣٩م كما قدمنا، وفيها الآن حاميات صغيرة من الترك في صنعاء والحديدة واللحية وغيرها.
-
إمارة صعدة: شمالي جبل شهارة، وأميرها السيد محمد أبو نيبة وأهلها زيدية.
-
وإمارة نجران: شمالي صعدة على حدود نجد الجنوبية، وأهلها يام أو مكارمة.
-
وإمارة مأرب سبا: في جنوب الجوف اليمني، وبينها وبين الجوف آثار «مَعين».
-
وسلطنة لَحج: شمالي عدن.
-
وسلطنة يافع: إلى الشمال الشرقي من لحج.
-
وسلطة البيضا: بين يافع ومأرب.
-
وسلطنة العوالق: شرقي يافع ومركزها النصاب.
(٣-٤) حضرموت
أمَّا حضرموت، فعلى المحيط الهندي في جنوب الربع الخالي وهي قسمان: حضرموت البحر وحضرموت البر.
أمَّا «حضرموت البحر» فأشهر موانيها: المكلَّة وهي عاصمة البلاد، والشِّحر.
وأهم قبائلها: آل أبو وزير، وآل أبو رشيد، وسلطانها «غالب القُعَيطي.»
وأمَّا «حضرموت البر» ففي الشمال وعاصمتها «سيوون» على ثماني مراحل من المكلة.
ومن مدنها: تَريم، وشبام، والسيبان، وبنو شيبان.
وأهم قبائلها: آل كثيري ومنها سلطانهم منصور الكثيري، وآل مرعي، وآل عموري.
وفي حضرموت البر عدة قبائل مستقلة عن الكثيري أهمها: كِندة، ويقال لها: الصاعر أيضًا، والمناهيل، والحموم، والعوامر، والعوابثة، ونهد، وبنو تميم، وآل جابر، والجعدة.
ويحادُّ حضرموت البر من الشمال «الأحقاف» وهي داخلة في الربع الخالي.
(٣-٥) عُمان
أمَّا عُمان فهي الزاوية الجنوبية الشرقية من الجزيرة شرقي الربع الخالي.
وعاصمتها وميناؤها مسقط، وسلطانها تيمور بن فيصل بن تركي، وأكثر أهلها على مذهب الإباضية نسبة إلى عبد الله بن إباض المرِّي، من المرِّية من أعمال طرابلس الغرب الذي استولى على أفريقيا الشمالية سنة ١٥٢ﻫ/٧٦٩م وادعى فيها الخلافة.
(٣-٦) القطر
وأمَّا القَطَر فهو شبه جزيرة بين عمان والبحرين، وأميرها عبد الله بن قاسم آل ثاني.
(٣-٧) البحرين
وهي جزائر في خليج العجم تجاه القطر غربيها، وأميرها الشيخ عيسى آل خليفة.
(٣-٨) الكويت
وهي ميناء بحري وإمارة مستقلة، وأميرها الحالي الشيخ جابر بن الشيخ مبارك الصبَّاح المشهور، المتوفى في ديسمبر سنة ١٩١٥.
(٣-٩) نجد
- (١)
القَصِيم: في الشمال، وأشهر مدنها بُرَيدة وعُنيزة.
- (٢)
والرياض: في الجنوب، وهي خمسة أقاليم: «الرياض» في الوسط وأشهر مدنه «الرياض» وهي عاصمة نجد، وفيه خرائب «عُيينة» على مرحلة شمالي الرياض، وهي المدينة التي ظهر فيها محمد عبد الوهاب صاحب مذهب الوهابية المشهور، وخرائب «درعية» بين عيينة والرياض على نحو أربع ساعات من كل منهما، وهي بلدة محمد بن سعود جدِّ آل سعود. «والسُّدير» في الشمال، ومن مدنه المجمعة والزلفي، «والوشم» في الغرب ومن مدنه شقرا، والحريملة، والسدوس، والقراين، «والحريق» في الجنوب، ومن مدنه الحوطة. «واليمامة» المشهورة في أقصى الجنوب.
- (٣)
ووادي الدواسر: ينشأ هذا الوادي من جبل السراة، ويسير شمالًا بشرق مسافة طويلة، ثم يغور في الرمال وهو وادٍ خصب، وفيه ينابيع غزيرة ونخيل كثير وقرى آهلة بالسكان، وأشهر قراه: «لَيلى، والسلتيل، والأفلاج، والفرعة، واللدام، والبُديَّع.»
- (٤)
والأحسا: وهو ساحل نجد على خليج العجم، ولها ميناءان العُقير والقَطيف.
وأشهر قبائل نجد: «برَيه» في القصيم، «وسُبيع، والسهول» في الرياض، «وبنو تميم» في الحوطة والدهنا، «وقحطان» بين الحوطة وشهران عسير.
«والعجمان» بين الرياض والأحسا، «ومُطير» ومركز سلطانهم المجمعة، «وآل مرة، وبنو هاجر» بين الأحسا وقطر، «والدواسر» بوادي الدواسر.
ونجد الآن بيد أميرها الحر الكبير عبد العزيز بن عبد الرحمن بن فيصل بن تركي بن عبد الله بن سعود بن عبد العزيز بن محمد بن سعود، وسنأتي على ذكره بعد.
(٣-١٠) شمر
أمَّا شمر ففي شمال نجد، وعاصمتها حائل، وقبائلها ثلاثة فروع: عبدا، وسنجارة، والأسلم، وأميرها «سعود بن عبد العزيز بن متعب بن عبد الله بن الرشيد.»
هذا وأمراء تهامة: عسير، ولحج، وحضرموت البحر، وعمان، والقطر، والبحرين، والكويت، ونجد كلهم موالون للإنكليز.
(٤) بادية الشام الكبرى
أمَّا بادية الشام الكبرى — وتعرف أيضًا ببادية الشام والعراق — فيسكنها قبائل شتى بعضها تابع في الإدارة للشام والبعض للعراق.
- الرولا: وهي قبيلة جسيمة تسكن في الصيف نقرة الشام، أي سهول حوران، وتمتد شمالًا إلى حمص وحماة وفي الشتاء تسكن الجوف، وشيخها الأكبر نوري الشعلان.
- والمحَلف: وهي ثلاث أفخاذ: الأشاجعة والسوالمة وعبد الله، وهم من أصل واحد مع الرولا، ولكنهم مستقلون عن نوري الشعلان.
- وأولاد علي: ويسكنون مع الرولا صيفًا وشتاءً، ولكنهم في الشتاء لا يبعدون
كثيرًا عن الشام، وشيخهم الأكبر رُشَيد بن سُمَير.
ومن أولاد علي: «الأيدا والفقير»، وهم يسكنون أرض ثيماء على سكة حديد الحجاز.
- وعنزة: وهي فرعان كبيران: «العمارات» ينزلون في الصيف في نواحي كربلاء وفي الشتاء في البادية بين بغداد والشام وبين بغداد ونجد، وهم تابعون للعراق، وكبير مشايخهم فهد بن عبد المحسن آل هذَّال. «وبشر» وهم ثلاثة فروع: السباعة في بادية حمص وحماة، والفدعان في بادية حلب، وولد سليمان في تيماء.
وفي بوادي البلقاء والزرقاء والغور جنوبي حوران قبائل شتى، أشهرها «بنو صخر».
وأمَّا قبائل البادية التابعة للعراق فأشهرها في ولاية الموصل: طي، وشمَّر، والجبُور، وفي متصرفية الزور: العُبيد، وفي ولاية بغداد: عنزة العمارات المار ذكرهم، والديلم، وشمَّر طوقة، وزُبيد، والإمارة، وربيعة، وفي ولاية البصرة: بنو لام، وآل أبو محمد، والمنتفك وكبيرهم عجيمي آل سعدون، والظَّفير ومركزهم الزُّبير غرب البصرة وشيخهم حُمُود بن صُوَيت.
وبدو العراق كلهم، ما عدا عنزة والظفير، متحضرون يسكنون الخيام في جهات معينة يفلحون فيها ويزرعون، ولا يبرحونها إلى البادية، فهم وسط بين الحضر والبادية.
(٥) سكان جزيرة العرب
أمَّا سكان جزيرة العرب فهم الآن كما كانوا في كل آن: حضر وبادية، وأكثرهم بادية، وأكثر الحضر في اليمن ونجد ومدن الساحل.
(٥-١) عددهم
وأمَّا عدد سكان الجزيرة فلا يمكن القطع فيه؛ لعدم وجود إحصاء رسمي، وقد قدَّره بعضهم بنحو عشرين مليون نسمة، وقدره الأكثرون بنحو اثني عشر مليون نسمة، أي نحو مليونين ونصف في كل من الحجاز واليمن، ومليون ونصف في كلٍّ من عسير وعمان، ومليونين في بادية الشام الكبرى التابعة إداريًّا للشام والعراق، ومليونين في سائر الجهات.
(٥-٢) مذاهبهم
ثم إن سكان الجزيرة كلهم يدينون بالإسلام، وهم مذاهب مختلفة، وقد تغلب مذهب الشافعية في السواحل، والمالكية في الحجاز، والحنبلية في نجد، والزيدية في اليمن، والإباضية في عمان، والمكارمة في نجران، والوهابية في نجد وعسير.
(٥-٣) الوهابية
الصلاة خمس مرات في اليوم، والصوم في رمضان، والحج مرة على الأقل، ومنع المسكر والدخان والبغاء والميسر والسحر والربا والزينة، وتوزيع جزء من مائة من الأموال زكاة على الفقراء، وهدم المزارات وقبب الأولياء. قال: لأنها من مظاهر الوثنية وتشغل الناس عن مخاطبة الله رأسًا.
وقد أنحى باللائمة على قومه لإهمالهم جوهر الدين وتعلقهم بالقشور، وبالغ في تعنيفهم؛ فاضطهدوه ففر منهم، ولجأ إلى محمد بن سعود «كبير آل سعود» أمير الدرعيَّة.
وكانت بلاد نجد في ذلك العهد إمارات شتَّى مستقلة بعضها عن بعض، فأكرم ابن سعود وفادته ووعد بحمايته وأذن له بنشر تعاليمه، فأخذ ينشرها بالإقناع والموعظة، وابن سعود ينشر معها نفوذه وسلطانه في نجد، فعارضه بعض أمراء نجد وحملوا عليه، فقهرهم وردَّهم خائبين، فتشدد ابن سعود وشيخه ابن عبد الوهاب وتمكنا من الثبات في الدعوة.
وتزوج محمد بن سعود ابنة محمد بن عبد الوهاب، فوُلِد له عبد العزيز فخلف أباه عند موته سنة ١٧٦٥، وكان عبد العزيز شجاعًا حازمًا شديد البطش مع تقوى وورع، وكان الوهابيون قد تكاثروا وصاروا جندًا كبيرًا، فحمل بهم على أطراف البلاد ووسَّع سلطانه، وغدر به رجل من فارس فطعنه بخنجر وهو يصلي فقتله سنة ١٣٠٣، فخلفه ابنه سعود وكان قد تعوَّد الحرب من صغره، فقاد جند أبيه وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره، وتمكن من ضم بلاد نجد كلها إلى سلطانه حتى هدد الدولة العثمانية في الشام والعراق، وحمل على كربلاء فهدم قبر الحسين وجميع المزارات فيها، واستولى على ما كان هناك من التحف والأموال، واستعان بها على أموره، وقام في اعتقاد العرب أنه لا يلبث أن ينشر مذهبه في العالم أجمع فحاموا حوله، فزحف بهم على مكة ففتحها ودخل الكعبة واستولى على ما فيها من التحف، وكتب إلى السلطان سليم الثالث كتابًا معناه إني دخلت مكة في ٤ محرم سنة ١٢١٨ﻫ/٢٦ أبريل سنة ١٨٠٣م، وأمَّنت أهلها على أرواحهم وأموالهم بعد أن هدمت ما هناك من أشباه الوثنية، وألغيت الضرائب إلَّا ما كان منها حقًّا، وثبَّتُ القاضي الذي وليته أنت طبقًا للشرع الإسلامي، فعليك أن تمنع والي دمشق ووالي القاهرة من المجيء إلى هذا البلد المقدس بالمحمل والطبول والزمور، فإن ذلك ليس من الدين في شيء.
ولم تمضِ تلك السنة حتى دخلت «المدينة» أيضًا في حوزته، وأخذ في نشر سيادته على جزيرة العرب، فلم تأتِ سنة ١٨٠٩ حتى أصبحت حدود مملكته شمالًا صحراء الشام، وجنوبًا بحر العرب، وشرقًا خليج العجم، وغربًا البحر الأحمر.
ولما استفحل أمره لم يرَ الباب العالي بدًّا من تكليف بطل مصر محمد علي باشا لقهره، فأرسل عليه الجيوش بقيادة ابنه طوسون ثم بقيادة ابنه إبراهيم، فقهر الوهابيين وخرَّب بلدتهم درعية، وكان سعود قائد الوهابية قد مات في ٢٦ ربيع آخر سنة ١٢٢٩ﻫ/١٧ أبريل سنة ١٨١٤م، وخلفه ابنه عبد الله فأخذه إبراهيم باشا أسيرًا وشتت شمل الوهابيين كما قدمنا.
ثم بعد ذلك بسنين عاد تركي بن عبد الله إلى الرياض وأعاد دولة آبائه.
وتُوفي فخلفه ابنه فيصل فسمى عبد الله بن الرشيد أميرًا على بلاده شمَّر.
ثم تُوفي فيصل وخلفه ابنه عبد الله، فانتقض عليه أخوه سعود وتقاتلا حتى فنيت قواتهما، فظهر محمد بن عبد الله بن الرشيد عليهما واستولى على نجد، وبقي حتى ظهر عبد العزيز والي نجد الحالي، فاسترد ملك آبائه في نجد من آل الرشيد بمعونة الشيخ مبارك شيخ الكويت السابق، وكان الأتراك قد استولوا على الأحسا أيام كان مدحت باشا واليًا على بغداد سنة ١٨٧١، فاستردَّها عبد العزيز منهم سنة ١٣٣٢ﻫ/١٩١٣م.
هذا وفي داخلية اليمن وسواحلها طوائف من اليهود أكثرهم في صنعاء وذمار ويريم ورذاع وإب وقعطبة، وهم يتعاطون التجارة والصناعة، وأكثرهم صاغة.
وهناك طوائف من النصارى والهنود في ساحل الجزيرة في مواني الحجاز واليمن وحضرموت وغيرها وكلهم تجار، وسنأتي على تجارة الجزيرة مع مصر فيما بعد.
(٥-٤) أنساب العرب
ثم إن جميع قبائل العرب تنتسب إمَّا لقحطان وإمَّا إلى عدنان، ومن لا يصل نسبهم بأحد هذين الأصلين يطلق عليهم اسم هتَيم، والعرب لا يزوجونهم ولا يتزوجون منهم كما قدمنا، فما زال العرب إلى اليوم يفاخرون بالنسب حتى إن كثيرين منهم يسجلون أنسابهم رسميًّا في المحاكم، ومن هؤلاء أشراف مكة فإنهم أقدم أسرات العالم أجمع، وهذا نسب الشريف حسين أمير مكة الحالي:
(أ) نسب الشريف حسين أمير مكة الحالي إلى النبي محمد فإبراهيم فنوح
الشريف حسين بن علي بن محمد بن عبد المعين بن عون بن محسن بن عبد الله بن حسين بن عبد الله بن حسن بن أبي نمي محمد الذي توَّلى إمارة مكة سنة ٩٣٢ﻫ، وقد تولاها ستين سنة، ابن بركات الأمير بن محمد الأمير بن بركات بن حسن بن عجلان بن رمية أبو عرارة أسد الدين ابن محمد أبي نمي نجم الدين أبو مهدي الذي تولى إمارة مكة خمسين سنة وتوفي سنة ٧٠١ﻫ بن أبي سعيد الحسن بن علي بن قتادة الذي تولى إمارة مكة سنة ٥٩٨ﻫ بن إدريس بن مطاعن بن عبد الكريم بن عيسى بن الحسين بن سليمان بن علي بن عبد الله بن محمد الثائر بن موسى بن عبد الله، بن موسى الجون بن عبد الله المحض بن الحسن المثنَّى بن الإمام الحسن السبط بن الإمام علي بن أبي طالب من زوجته السيدة فاطمة الزهراء بنت النبي محمد ﷺ، وهذا نسب النبي: «أبو القاسم محمد بن عبد الله، بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قُصَيِّ بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر (قريش) بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان»، وهذ نسب عدنان إلى إبراهيم على المشهور:
«عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن نبت بن حمل بن قيذار بن إسماعيل بن إبراهيم»، وهذا نسب إبراهيم كما في تك ص١٠:
«إبراهيم بن تارح بن ناحور بن سروج بن رعو بن فالج بن عابر (أبو قحطان) بن شالح بن أرفكشاد (أخو لود وآرام) بن سام بن نوح.»