في مدن سيناء وقراها وآثارها
- في بلاد الطور: مدينة الطور، وواحة عيون موسى، وقرية الشط، وفيها مركز جديد للبوليس، وقلعة النويبع وهي مركز للبوليس.
- وفي بلاد التيه: مدينة نخل، وثلاثة مراكز جديدة للبوليس في بئر الثمد، ومشاش الكُنْتِلَّة، وعين القُصَيِّمة.
- وفي بلاد العريش: مدينة العريش، وقرية الشيخ زويد، ومركز للبوليس في رفح، ولكن
أشهر ما في الجزيرة من بناء أو أثر «دير طور سيناء» في قلب بلاد
الطور، وقد أفردنا له فصلًا خاصًّا كما قدمنا، ومن المدن الخارجة
عن إدارة سيناء وقد كان لها قديمًا علاقة شديدة بسيناء ولا تزال
إلى الآن:
- مدينة القنطرة: على ترعة السويس في بر سيناء التابعة في الإدارة لبورسعيد.
- ومدينة العقبة: على رأس خليج العقبة، وقد دخلت حديثًا في حدِّ الحجاز.
فلنتقدم الآن إلى ذكر هذه المدن والقرى، وما فيها من الآثار مع ذكر سكانها ومراكز البوليس الجديدة، فنقول:
(١) مدن بلاد الطور
(١-١) مدينة الطور
أمَّا مدينة الطور فهي بندر بلاد الطور، وقد قامت على ساحل خليج السويس على ١٢٥ ميلًا من مدينة السويس منذ آلاف من السنين، وقيل إنها من عهد الفينيقيين، وبيوت المدينة نفسها لا تزيد عن الثلاثين بيتًا لاصقًا بعضها ببعض كأنها بناءٌ واحدٌ، وأهمها، في الجنوب مركز لرهبان دير سيناء يشمل كنيسة، ومدرسة للصبيان، ومنازل استراحة للرهبان وزوار الدير.
أمَّا الكنيسة فقد بُنيت على اسم «مار جرجس» سنة ١٨٧٥م، على أنقاض كنيسة قديمة ترجع في تاريخها إلى سنة ١٥٠٠م أو أبعد، وقد رأيت فيها أيقونة للقديسة كاترينا تاريخها سنة ١٧٧٩م، وأيقونة لمار جرجس تاريخها سنة١٧٨٠م.
وأمَّا المدرسة فقد أسست منذ سنة ١٨٩٧، وقامت بمال الدير، وفيها نحو ٤٠ تلميذًا من أبناء مدينة الطور وباديتها، يدرِّس فيها الآن أنيس أفندي الخوري من أدباء اللبنانيين وراهب من رهبان الدير، يدرسان مبادئ العربية والإنكليزية واليونانية والحساب والجغرافية.
وإلى جنوبي مركز الدير منازل لناظر الطور وكاتبها وبوليسها، ومنزل لمفتش الجزيرة بُني سنة ١٩١١ على تل صغير، وحفرت بجانبه بئر عمقها ١٢ مترًا.
وفي شمال المدينة جامع صغير بمنارة من عهد المغفور له توفيق باشا خديوي مصر السابق، وقد ضمَّ مقامًا قديمًا للشيخ الجيلاني.
وسميت المدينة بالطور نسبة إلى طور سيناء الذي هو أشهر جبالها كما مرَّ، وكانت تسمى قديمًا «رَيثو» وبقيت معروفة بهذا الاسم إلى القرن الخامس عشر للمسيح.
(أ) ميناء الطور
ولهذه المدينة ميناءٌ حسنٌ له جرف مرجاني يمتد عشرات من الأمتار تحت الماء، حتى لا يمكن للسفن البخارية الاقتراب من البرِّ بسببه، وهو ضيِّق جدًّا لا يسع إلَّا السفن الصغيرة، ولأهل المدينة فيه نحو ٣٠ مركبًا شراعيًّا تستخدم في نقل الحبوب والبضائع من السويس وجدَّة، ونقل حجارة البناء من برِّ أفريقيا، وفيه ورشة لبناء المراكب.
هذا والسفر في خليج السويس بهج نزيهٌ إلى الغاية، يرى المسافر فيه برَّي آسيا وأفريقيا عن جانبي الخليج، كما يرى المسافر في النيل جانبي واديه، ويُرى من مدينة الطور جبل جَمْسة يطلُّ عليه من الغرب من عبر البحر، وجبل أم شومر وجبل سربال يطلان عليه من الشرق والشمال الشرقي من وراء سهل القاع، فلا تطلع الشمس ولا تغيب إلَّا يرى من جمال الطبيعة وعظمتها ما يُنطق لسانه بحمد باريها.
(١-٢) ضواحي مدينة الطور
ولمدينة الطور من الضواحي العامرة: «محجر الطور، وقرية المنشية أو الكروم الجديدة، ومُسَيْعِط، وقرية الجُبَيل، وحمام موسى، ووادي الحمام.»
(أ) محجر الطور
أمَّا محجر الطور فقائم على شاطئ البحر على نحو ٦٤٠ مترًا جنوبي المدينة، ومساحته نحو ٤ كيلومترات مربعة، يحده من الغرب خليج السويس، ويحيط به من جهة البرِّ شبكة من الأسلاك مرفوعة على عمد خشبية متينة، علوها نحو أربعة أمتار، وهو محجر مصر العام والحجاج المصريين.
أسس منذ سنة ١٨٥٨م، ولكنه لم يبدأ بتنظيمه على الطرز الجديد، وتجهيزه بأحدث المعدات والأدوات الصحية إلَّا بعد صدور الأمر العالي بذلك سنة ١٨٩٣، ومن ذلك الحين أخذ ينمو ويتحسن بهمة وسعي العالم العامل الدكتور روفر «رئيس مجلس الصحة البحرية والكورنتينات بمصر»، ومعونة ناظر المحجر النشيط الحاذق الدكتور زكار يادس بك، حتى أصبح الآن من أكبر المحاجر الصحية وأكثرها إتقانًا في العالم أجمع.
وهو على شكل طائر عظيم جثم في البحر وبسط جناحيه في البرِّ.
- وله ثلاث أرجل: وهي ثلاث مباخر من أحدث طرز، مُدَّت منها جسور في البحر إلى آخر حدِّ الجرف المرجاني؛ ليتسنى للسفن الصغيرة الاقتراب من البرِّ.
- وفي رأسه: معزل الموبوئين أو مستشفى للأمراض «غير العادية».
- وفي عنقه: أربعة مستشفيات: مستشفى للجراحة وثلاثة للأمراض العادية، وصيدلية كبيرة، ومنازل للأطباء والممرضين والممرضات والعساكر، وبيت المال، ومخزن للكهرباء ينير المحجر كله، وجهاز للتليفون يربط مراكز المحجر الرئيسة بعضها ببعض.
- وفي جناحيه: صفان من «الحزاءات» أو المنازل للحجاج، في كل صف عشرة؛ فالتي إلى اليمين مبنية بالحجر، وقد خُصَّت بالحجاج القادمين من جدَّة، والتي إلى اليسار مجهزة بالخيام، وهي للحجاج القادمين من ينبع، وهي تأوي آلافًا من الحجاج في وقت واحد.
-
وفي بدنه: بئر عذبة الماء غزيرته تدعى «بئر مراد»، وقد رُكِّب
عليها وابور لرفع الماء، ومنها يشرب أهل المحجر ومدينة
الطور، وحديقة متسعة من النخيل وأشجار الفاكهة، ومنزل
لناظر المحجر، ومنزل للمأمور، ومخزن للخيام، ومكتب
للإدارة.
هذا وتخترقه سكة حديد ضيقة من رأسه إلى قدمه، تنشأ من البحر من آخر حد الجرف المرجاني، وتمر بالمباخر والحزاءات وجميع المراكز الرئيسة في المحجر إلى أن تنتهي بمعزل الموبوئين، وخارج المحجر منزل الرئيس وخزانات الماء.
وكانت السردارية المصرية قد مدَّت إلى مدينة الطور خط التلغراف من السويس سنة ١٨٩٧، وأسست مصلحة البريد فيها فرعًا سنة ١٩٠٠، فلما تمَّ نظام المحجر سنة ١٩٠٧ نقل التلغراف والبريد إليه، وجُعلا عند مدخله كما ترى في الرسم.
وكان البريد قديمًا يُحمل بالبر على الهجن، فلما انتظم المحجر وأسست مصلحة البريد فرعًا في مدينة الطور، صارت تمر بها مرة في كل أسبوع باخرة من بواخر الشركة الخديوية في السويس، وذلك في ذهابها إلى سواكن وجدة وفي رجوعها منهما، وفي موسم الحج يساعد على نقل البريد سفينة بخارية خاصة تمخر بين الطور والسويس مرتين في الأسبوع، وللمحجر في موسم الحج خفر داخلي من البوليس يأتيه من مصر، وخفر خارجي من البوليس وبدو الطورة، وفي نظارة الداخلية في القاهرة قلم للمحاجر المصرية يخص بالعناية محجر الطور، ورئيس هذا القلم الهمام النشيط حسن بك شوقي.
وأمَّا «مجلس الصحة البحرية والكورنتينات» فمركزه الإسكندرية، وسكرتيره العام النبيل المقدام جورج زنانيري باشا، وقد أصدر هذا المجلس في ١٩ فبراير سنة ١٩١٤ إحصاءً عن الحجاج الذين دخلوا محجر الطور من سنة ١٩٠٠ إلى سنة ١٩١٤، فكان عددهم ٣٥٨٣٤١ حاجًّا، وهم: ٧٦٠٧٦ عثمانيًّا، و١٥٢٦٨٣ مصريًّا، و١٨٧٨٧ جزائريًّا، و٧٦٧٧ تونسيًّا، و١١٧٠٩ مراكشيًّا، و٨٢٢ بوشناقيًّا، و٦٢٦٨ عجميًّا، و٧٨٧٨٨ روسيًّا، و٥٥٣١ من أمم مختلفة.
ويؤخذ من هذا الإحصاء: أنَّ الحج اعتُبر نظيفًا من كل داء في كل تلك المدة مرَّتين فقط؛ أي سنة ١٩٠١ وسنة ١٩٠٤، وأنه اعتُبر ملوثًا بالهواء الأصفر في سني ٢ و٨ و١١ و١٢ و١٩١٣، وبالطاعون في السنين الأخرى، وأنَّ الذين مرضوا داخل المحجر في تلك المدة بلغ عددهم ١١١٦٥ حاجًّا، منهم ١٠٩٩٤ أصيبوا بأمراض عادية، و١٦٤ بالهواء الأصفر، و٧ بالطاعون، شفيَ منهم ٨١١٧ وتوفي ٣٠٤٨، وأنَّ أقل عدد دخل المحجر من الحجاج كان في سنة ١٩٠٣، دخله فيها ١١٢٦٦ حاجًّا، وأكبره كان في سنة ١٩٠٧ دخله فيها ٤٣٢٧١ حاجًّا، ودخله هذه السنة ٢٦٤٢٦ حاجًّا.
(ب) الكروم الجديدة أو المنشية
هذا وقد شملت أرض المحجر بلدة قديمة تدعى «الكروم» من بناء عساكر قلعة الطور في الأرجح، سميت كذلك؛ لكثرة «كروم» النخيل فيها، وقد اشترتها الحكومة المصرية من أهلها سنة ١٩٠٥، ففي تلك السنة انتدبت ثلاثة من موظفيها: لينان بك مندوبًا عن المالية، والدكتور زكار يادس بك مندوبًا عن مجلس الصحة البحرية والكورنتينات، والمؤلف مندوبًا عن الحربية، وعهدت إليهم أن يقدِّروا أثمان الحدائق والمنازل في بلدة الكروم، فقدروها ﺑ ١١٣٫١٢٠ غرشًا أميريًّا عدا حديقة متسعة من النخيل وأشجار الفاكهة لرهبان دير سيناء، فقدروها بألف جنيه مصري، فصدقت الحكومة قرارهم ونقدت الأهلين أثمان حدائقهم ومنازلهم، وأعطتهم بدل أرضهم أرضًا شرقي بندر الطور على نحو نصف ميل منها، فبنوا فيها بلدة، وبنت الحكومة لهم فيها جامعًا فخمًا بمنارة، سمَّوها الكروم الجديدة، أو المنشية، أو «منشية عباس».
(ﺟ) مُسَيْعط
وإلى شمال المنشية، على نحو نصف ميل منها، ومثل ذلك شرقي مدينة الطور، حدائق من النخيل تدعى «مُسيعط»، اتخذ محافظ سيناء الأسبق منها أرضًا مساحتها فدانان، وغرسها بستانًا من النخيل وأشجار الفاكهة والخضرة، وحفر فيها بئرًا جعل عليها طلمبة تدار بالهواء.
(د) حمَّام موسى
وإلى شمالي مدينة الطور على نحو كيلومترين منها حمام موسى، وبقربه حدائق متسعة من النخيل، فيها مساكن للمواطرة المار ذكرهم، وفيها منزل لرهبان دير سيناء قائم وسط حديقة جميلة من النخيل وأشجار الفاكهة.
(ﻫ) وادي حمام موسى
وعلى نحو ميل من الحمام شمالًا «وادي الحمام»، وهو مشهور هناك «بالوادي»، وفيه نخل كثير لأهل الطور ومساكن للمواطرة وغيرهم من البدو.
وهناك خرائب دير قديم لم يبقَ ظاهرًا منه سوى قنطرة بالحجر المنحوت، وكنيسة صغيرة لا تزال جدرانها قائمة إلى الآن، قيل إنهما من بناء القرن الرابع أو قبله، وفي نخل هذا الوادي قبر يزار للشيخ الحُرَيزي من عرب المواطرة.
(١-٣) آبار مدينة الطور
وفي مدينة الطور وضواحيها آبار قديمة العهد، كان يستخدمها الأهلون للغسل، ويشربون من «بئر مراد» في الكروم، فلما ضُمَّت الكروم إلى المحجر جرَّت مصلحة المحاجر بعض ماء البئر إلى خارج النطاق الصحي، ثم إلى مدينة الطور ليستقي منها أهل المدينة والمنشية، وسمحت لرهبان دير سيناء فجرُّوا الماء منها إلى منزلهم.
(١-٤) سكان الطور
أمَّا سكان مدينة الطور والكروم الجديدة فلا يزيد عددهم عن ٣٠٠ نفس، نصفهم نصارى على مذهب الروم الأرثوذكس، وهم سكان مدينة الطور نفسها، والنصف الآخر مسلمون وهم سكان «الكروم»، أمَّا المسلمون فيُظنُّ أنهم من متخلِّفي العساكر الذين كانوا يخفرون قلعتها والبحارة الذين جاءوها من السويس، وما زال أكثرهم يشتغلون في المراكب إلى الآن، ومن وجهائهم الشيخ أحمد موسى راضي والشيخ محمد عبد القادر، وأمَّا النصارى فهم من متخلِّفي زوار الدير وموظفيه، نصفهم أروام من جزائر الأرخبيل الرومي، والنصف الآخر سوريون من القدس الشريف وغيرها، وأكثرهم تجار بالحبوب والمأكولات والأقمشة مع البدو.
وأهمُّ أسر النصارى في الطور: أسرة عنصرة جاءوها من القدس، وكبيرهم الآن الخواجا ميخائيل عنصرة، وكان كبيرهم قبله المرحوم قسطنطين عنصرة، فكان وكيلًا لدير سيناء وللقنصلية الروسية في الطور، وأسرة براميلي وكبيرهم الخواجا واسيلي، وكيل قنصلية ألمانيا فيها، ومنها أسر أبو يني، وغرغوري، وأبو عطا، وطناشي، وبولس.
هذا، وكانت نظارة الداخلية المصرية قد جعلت مدينة الطور منفى للمتشردين المصريين، فكان فيها منهم سنة ١٩٠٥ خمسة شبان، ثم أبطل النفي إليها سنة ١٩٠٧.
(١-٥) قلعة الطور
وكان في جنوبي مدينة الطور قلعة قديمة فوق البحر من بناء السلطان سليم في المشهور، أدركها الخراب منذ عشرات السنين، فاستخدم الأهلون حجارتها لبناء منازلهم، وساعدهم حديثًا بعض موظفي الحكومة على محو آثارها، فاستخدموا ما بقي من حجارتها حتى حجارة أساسها في بناء منازل للحكومة في المدينة، ولم يبقَ ما يدلُّ عليها سوى أثر الحفر في أساسها، وشهادة أهل الطور الذين عاصروا خرائبها.
(أ) كتاب الأم
هذا، وكان في قلعة الطور سجلٌّ كتب فيه صور الدعاوي والحكم فيها، وصكوك المبايعات والرهونات في النخيل والأراضي الزراعية، في مدينة الطور وحديقة فيران وضواحيهما من أملاك الرهبان والطورة من بادية وحضر، وفيه صكوك الزواج والطلاق، وتحرير الأرقاء، وحصر تركات المتوفين ونحو ذلك.
وقد دلَّ هذا السجل أنه كان في القلعة: حامية من العساكر الطوبجية، عليها ضابط يرجع في أموره إلى القائد العام في السويس، ومدير مؤن العساكر، ومحافظ إداري على العربان، وقاضٍ على المذهب الحنفي يعينه قاضي السويس، وكاتب، وأنَّ السجل نفسه كان بيد القاضي وكاتبه، قال ثقات مدينة الطور: فلما خربت القلعة استولى على السجل راهب سوري من رهبان دير سيناء يدعى ملاتيوس، كان وكيلًا للدير في مدينة الطور، وكان العرب والرهبان يرجعون إلى هذا السجل كلما اختلفوا على ملكية أراضيهم وحدودها، لذلك سمي «كتاب الأم».
وتوفي الراهب ملاتيوس نحو سنة ١٨٦٠، فتولى وكالة الدير مكانه الخواجة قسطنطين عنصرة، وآلَ «كتاب الأم» إليه، وتوفي هذا سنة ١٨٩٨، فآل السجل إلى ابنه إلياس، ثم إلى حفيده ديمتري سنة ١٩٠٣، وقد اتصل بي خبر هذا الكتاب اتفاقًا من راهب في دير سيناء، فتطلبته حتى وجدته عند ديمتري عنصرة المذكور في مدينة الطور في أبريل سنة ١٩٠٧، واتفق وجود مدير خزينة دير سيناء هناك في ذلك الحين، فرغب إليه مشايخ الطورة كافة في حفظ هذا الكتاب، فحفظه في خزانة وكالة الدير بمدينة الطور للرجوع إليه عند الاقتضاء.
وفي هذا السجل ٥٦٧ ورقة بقطع هذا الكتاب، كلها ملأى بالكتابة حتى إنه لم يبقَ فيها موضع لكتابة سطر واحد، وهي نثار غير مجلدة، ولكنها محفوظة بغلاف متين من جلد. ولغة الكتاب العربية، وفيه بعض نصوص بالتركية واليونانية، وأقدم تاريخ فيه ٩ شوال سنة ١٠٠١ﻫ، وأحدث تاريخ غرة ربيع أول سنة ١٢٦٧ﻫ؛ أي من سنة ١٥٩٢م إلى ١٦ مارس سنة ١٨٥١م، فتكون مدة استعماله ٢٥٩ سنة، وعمره الآن ٣٢٢ سنة، ولكن يظهر أنَّ هذا السجل بقي معمولًا به في القلعة إلى سنة ١٢٤٢ﻫ/١٨٢٦م، وهو تاريخ خراب القلعة أو هجرها، واستمرَّ الراهب ملاتيوس والخواجة عنصرة من بعده على إحيائه، فكان آخر ما سُجِّل فيه بيع نخل في وادي فيران اشتراه شيخ العرب جمعة ابن نصار أبو منجد العارمي، من بايعه المكرَّم سالم بن حسن النمر العارمي في ١٣ جمادى الأولى سنة ١٢٧٦ﻫ/١٦ مارس سنة ١٨٥١م.
(١) حضر إلى مجلس الشرع الشريف أحمد بن محمد طبجي باشا، وأحضر الراهب زخريا والراهب مقارية الأقلوم، وادعى عليهم أنهم اشتكوا منه إلى مولانا القبطان «بالسويس»: «إني ظلمتهم وتعديت عليهم واشتكيتهم»، فسئل الرهبان المذكورون فأجابوا: ما اشتكينا منك ولا ظلمتنا، ولا لنا عليك حق، ولا سحق، ولا دعوى، ولا طلب. فبموجب اعترافهم هذا لم يثبت لهم على المذكور أحمد طبجي باشا حق ولا ظلم، ولا شيء قلَّ أو جلَّ. ثبت مضمون ذلك لدى الحاكم الشرعي المشار إليه أعلاه ثبوتًا شرعيًّا مستوفيًا شرائطه الشرعية وموجباته المحررة المرعية، تاريخ يوم الأربع تاسع شهر شوال سنة واحد بعد الألف. ا.ﻫ.
(٢) ادعى عبد الكريم وكالة عن أخيه صالح، على عيسى بن يعقوب القندلفت، أنه قال له: يا، يا سدس، يا ابن، وضرب أمي، فسئل مسئوله فأجاب بالإنكار، فطلب منه (من عبد الكريم) البيان، فجاء بشهود وهم عازر بن سقر وفهد بن عازر، فبموجب شهوده ثبت عليه (على عيسى بن يعقوب) التعزير، فعزره الحاكم الشرعي وثبت مضمونه لدى الحاكم، وحكم حكمًا صحيحًا شرعيًّا، تاريخ يوم الجمعة سابع عشر شهر شوال سنة واحد بعد الألف. ا.ﻫ.
بتاريخ أحد عشر شهر رجب الفرد، سنة أحد بعد الألف/١٣ أبريل سنة ١٥٩٣م.
مكتوب قدوة الأمراء الكرام، عمدة البلغاء الفخام، المختص بعناية الملك العلام، الأمير خضر بك قبطان بندر السويس ولواحقه إلى المقر الكريم العالي الآغا علي الدردار بقلعة الطور المبارك، ومن مضمونه أنه ورد علينا مثال عالٍ من الديوان العالي من حضرة مولانا أحمد باشا، جمع معه من الخيرات ما يشاء من مضمونها مسك شيخ العرب مرعي بن يحيي السليماني — من أولاد سليمان — شيخ الدرك ببندر الطور المعمور؛ لأنه من أهل الفساد وأهل الحرام، ووالس على قطع حبال مركب الوزير حسن المتولي باليمن وغيرها، وأن له سوابق ولواحق من مكاسر عباس ناصر ومن جميع المكاسر، واقتضى الحال مسكه وإرساله إلى مصر لمن له ولاية ذلك، قوبل ذلك بمزيد السمع والطاعة، وأمر الآغا علي المذكور رئيس طائفة العرب هو وجميع الطائفة بمسكه ويؤدونه الحصار الخنكاري … فمسكه وحبسه في الحصار، وخشبه بالخشب والحديد، وقفل عليه الباب من داخل الحصار وأقام الحرس عليه، إلى أن طلع النهار وغفله ساعة وحدة، وإذ فك الحديد والخشب، ونزل من السور، وفرَّ هاربًا وللنجاة طالبًا، فتكاثر العياط والزعاق، وخرج الآغا علي ماشيًا يجري خلفه هو وطائفته ولحقوا به، وإذا بعبده أدركهم واعترضهم بقوس النشاب والمزراق، ورمى بالنشاب على عسكر السلطان، فببركة الله تعالى لم يصبهم منه شيء، ونصر الله عسكر الإسلام، وأطلعوه من البحر وأتوا به إلى، المذكور، وأرسله إلى الأمير القبطان بالسويس، وأرسل صحبته من يوصله من طائفته إلى أن دخل، تاريخ ما كتبت هذه الواقعة يوم ثالث شهر محرم سنة اثنين بعد الألف. ا.ﻫ.
(٤) ورد مكتوب من مولانا القبطان ببندر السويس، وذكر أنَّ للشيخ العالم العلامة شيخ الإسلام زين العابدين في الطور ثلاث فرد فول مدشوش تأخرت عن المويلح، وتسلمها الآغا عابدين أمانة عنده، يدفعها لعيسى بن حرز الله بن نصر النصراني الصيرفي، فسلما الآغا عابدين إلى عيسى بن حرز الله بمعرفة الحاكم الشرعي، مما جرى ذلك في تاريخ يوم الجمعة رابع ربيع الأول سنة ثلاثة بعد الألف من الهجرة النبوية «ثلاثة شهود».
(٥) ويستفاد من نص في هذا السجل مؤرخ ٢ محرم سنة ١٠٠٤ﻫ/٧ سبتمبر سنة ١٥٩٥ أنه كان بالطور جامع، وأن قد جُمِع من أوقافه «مبلغ ذهب جديد ٥٤.»
(٦) سبب تحرير الكتاب، وموجب تسطير الخطاب، هو أنَّ سيدنا ومولانا القاضي الأكمل، مولانا أفندي داود — حفظه الله تعالى — أقام الجناب الكريم الأمير أحمد كتخدا، المعين على جماعة العرب ببندر الطور، أمينًا على بعض ما يتحصل من محصول مولانا قاضي العسكر بالديار المصرية لطف الله به آمين، وأنْ يحاسب القاضي علي بن جحي على معلوم شهر ربيع أول وربيع ثاني من حجج وسجلات، وعوائد الزعايم (المراكب) المتوجهة إلى المويلح وغيرها، وأنْ يقبض المتحصل مولانا أحمد كتخدا المشار إليه وجميع ما يتحصل يضبطه جهته، ويرسله إلينا سريعًا من غير تأخير، وألا يُعمل شيء إلَّا بمعرفته، يكون ذلك في شريف علمكم الكريم مما جرى ذلك وحرر تحريرًا في مستهل شهر جماد الثاني سنة خمس بعد الألف. ا.ﻫ.
(٧) يوم السبت المبارك حادي عشر رجب تاريخ خمسة بعد الألف، ورد مكاتبة إلى الجبار عابدين بن مصطفى — دردار قلعة بندر الطور، المحررة بمدينة مصر المحروسة — المورود من مولانا شيخ الإسلام قاضي بندر السويس والطور والمويلح، مولانا شعبان خادم الشريعة، بأن الفقير الراجي عفو ربه ينظر الأحكام الشرعية.
الداعي علي بن إسكندر الحنفي الطوري المعروف بطاشي، حرر في يوم تاريخه.
هذه المكاتبة من مجلس الشرع الشريف ببدر السويس المعمور: إلى كل واقف عليها وناظر إليها من الحكَّام والرعية، والخاص والعام من أهل بندر الطور المبارك، نوضح لعلمهم الكريم بعد التحية والتسليم أنَّا استخرنا الله — سبحانه وتعالى — وأقمنا القاضي علي بن إسكندر نائبًا بالبندر المذبور؛ لسماع الدعاوي الشرعية على قاعدة مذهبه الشريف ومعتقده الحنيف، نوصيه بالعمل في ذلك بتقوى الله — سبحانه وتعالى — في سره وعلانيته، فإن من سلك طريق الحق نجا، ومن يتقِ الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب، حرره بختمه وأمضاه مولانا مصطفى نايب بندر السويس مستهل شهر شعبان سنة ستة بعد الألف، وحسبنا الله.
جلوس أضعف العباد علي بن إسكندر الحنفي الطوري عفي عنه. ا.ﻫ.
(٨) بتاريخ مستهل صفر الخير سنة عشر بعد الألف سنة ١٠١٠، جلوس الفقير إلى الله تعالى علي حجي النايب الشرعي عن مولانا مصطفى يحيى الحنفي على الأحكام الشرعية، يفصل بين الرعية، ويمضي الوثايق، ويعقد الأنكحة، وينصب الأوصياء، ويضبط أموال الغايب، ويقبض الرسوم، وعليه بتقوى الله وطاعته في سره وعلانيته بتاريخ ثامن وعشرين محرم سنة عشر بعد الألف. ا.ﻫ.
(٩) يقبل الأرض وينهي بين يدي سيدنا ومولانا الوزير صاحب السعادة نصره الله تعالى ودام عزه آمين.
أنه رجل ذمي فقير الحال، وله أولاد عم سبعة أيتام قُصَّر عن الجواب الشرعي، وخلف لهم والدهم سفينة بعد وفاته، تشحن من بندر السويس إلى بندر المويلح، ومن يوم تُوفي والدهم ورجل ذمي يسمى إبراهيم الطعام وضع يده على السفينة مدة أربع سنوات، ولا يعطي الأيتام منها شيئًا ولا حسابًا، والمسئول من الصدقات العالية بروز أمركم الكريم بير لدى شريف بإحضاره إلى بندر الطور إلى بين يديكم، ويكون خلاص مال الأيتام على يديكم ولكم الأجر والثواب من الملك الوهاب، ويكون عمهم وكيلهم لخلاص الحق غرة ربيع الثاني ١٠٤٨.
ما قولكم رضي الله عنكم في رجل ذمي هلك عن أولاد ذكور وإناث قاصرين، وخلف سفينة وله ابن عم شقيق وصي، ثم إنَّ والد زوجة المتوفى وضع يده على السفينة بالتعدي، يسافر بها مدة ولم يدفع لأولاد المتوفى شيئًا، والحال أنَّ الأولاد بكنف ابن عم المتوفى لينفق عليهم، فهل له خلاص السفينة من يده، وهل يثاب ولي الأمر على منعه من يتعرَّض للأيتام، وخلاص حقهم ممن هو بيده أم كيف الحال، أفيدونا الجواب.
الحمد لله، لا يجوز لوالد الزوجة المذكورة وضع يده على سفينة الأولاد المذكورين، الآيلة لهم بالإرث بطريق التعدي، بل يحرم عليه ذلك، ويلزمه التعزير، وترفع يده عنها قهرًا، وأجرة مثلها مدة وضع يده عليها، ولابن العم المذكور الوصي على الأيتام رفع الأمر إلى مولانا ولي الأمر نصره الله تعالى؛ ليرفع يده عن السفينة، ويجبره على دفع الأجرة قهرًا عليه، ويثاب على ذلك، والله أعلم.
الحمد لله، نعم لابن العم الشقيق الوصي رفع أمرهم إلى ولي الأمر؛ ليخلص لهم ما كان من سفينة أو غيرها، ويثاب على ذلك الثواب الجزيل، والله تعالى أعلم.
الحمد لله، جوابي كذلك، والله أعلم. ا.ﻫ.
(١٠) سنة ١٠٥٠ لدى العبد الفقير علي جلال الدين — النائب بالطور المبارك — عفا الله عنه: الزوج شيخ العرب مضيف بن مطلق القراشي الصالحي، الزوجة نجوم المرأة الثيب البالغة، الصداق ثلاثمائة غرش معاملة، الموعود بقبضه قبل الدخول بها مايتان وخمسون غرشًا، وباقي الصداق وقدره خمسون غرشًا يخلى عليه بموت أو فراق، زوَّجها له على ذلك والدها المذكور بإذنها له في ١٥ ربيع الأول سنة تاريخه. ا.ﻫ.
(١١) لخيامة العرب الصوالحة أن لهم على كل حمل كان للتجار الذي يحصلوه في البندر قبل نزوله إلى البحر عشرة أنصاف، كما سبقت به عوائد آبائهم وأجدادهم والذي يجيء معهم، كذلك سنة ١٠٥٥، ولو كان الخيامة هاهنا، والذي يجيء بندر السلامة يحط الخفر.
(١٢) البايع: شيخ العرب المعروف بأبي صوير بن محمود بن مطر السعيدي. المشتري: الراهب موسى بن معوض الترابلسي. المبتاع: عيَّاد الشاب البالغ ابن عيسى الشهير بالطحيل النصراني «رأس رقيق». الثمن: أربعون غرشًا حالًا مقبوضًا بيد البايع باعترافه بذلك وشهادة شهوده، وكفَّل البايع على نفسه شيخ العرب منصور بن صيام العايدي كفالة بني عقبة المعلومة بين العرب، وكفل صبيح بن سلمي العليقي، وكفَّل جميع بني عقبة كفالة العرب للعرب كذلك، بحيث ألا يتعرض لعيَّاد المذكور أحد من إخوانه، ولا من بدنته، ولا من عربه، ويكون على الكفيلين المذكورين رده ومنعه عنه، ويرجعون على البايع بما يلزمه عندهم في قواعدهم وقوانينهم، ثم إنَّ موسى الراهب أعتق عيَّاد المبتاع المذكور احتسابًا لله تعالى عتقًا صحيحًا شرعيًّا مقبولًا، قبله منه لنفسه عيَّاد المذكور بعد اعترافه بالرق له، وثبت ذلك كله لدى الحاكم الشرعي، وجرى ذلك في غرة شهر الله المحرم سنة ١٠٥٨ﻫ.
شهوده:
الفقير علي بن جلال الدين الحنفي المولى ببندر الطور عفيَ عنه، عمر بن سليم العليقي، جبارة بن رشيد السعيدي، عطالله بن سويلم الصالحي، سعد بن سعد الله السليماني.
(١٣) حضر جماعة الرهبان إلى مجلس الشرع الشريف، وهم الأقلوم إسرافيل والراهب، القاطنين بالطور وصحبتهم عنصرة ومطيع وكلاء الدير، وأمروا مولانا الحاكم بإحضار طائفة المواطرة، وهم سليمان شهاب الدين «وتسعة آخرون»، وهم فلاحين كرم الراهب المتعاطين خدمته، وتخالص كل فريق من الآخر، حرر في صفر الخير سنة ١٠٩٦ﻫ. ا.ﻫ.
كتبه الفقير إبراهيم الأزهري قاضي الطور، محمد آغا دردار الطور «و١٢ شاهد غيرهما».
أن قد تمَّ الاتفاق ببندر الطور، بحضرة الإمام بين نكينورس أقلوم الدير، وكاتبه الخوري جرجس تلحمة من جهة، وبين جماع أبو هديب وموسى ولد علي وغيرهما من جهة أخرى، بشأن إنارة الجامع وتنظيفه.
(١٥) وفيه مكاتبة من قاضي القلعة بتاريخ سنة ١١٧٥ﻫ/١٧٦١م دلَّت على وجود النفيعات في الجزيرة في ذلك العهد.
(١٦) سبب تحرير الأحرف وموجب تسطيرها، هو أنه ببندر الطور المعمور، بين يد متوليها الحاكم الشرعي، من يضع اسمه وختمه أعلاه، أدامه الله تعالى وأعلاه، اشترى يني عنصرة من بايعه لحام الشيخ النصف في كرم أبو ترابية نايبه، بثمن قدره من الغروش العددية مائة وستة غروش، وتعدد مربوطه ثمنه غروش ثلاثين، وجميع الثمن مغلق بيد البايع من يد المشتري، ولم يتبقَّ عند المشتري شيء يقال له شيء، بيعًا صحيحًا شرعيًّا جائزًا لازمًا من غير إكراه ولا إجبار، ويكون جملة الثمن نصف الكرم أبو ترابية مائة وستة وثلاثين غرشًا، الجميع مغلق بيد البايع لحام الشيخ وكفيله سلامة أبو نحيلة كفالة بني عقبة الحي عن الميت، وعن الغايط والذي في المقايط، وكفالته مغلقة وجاره أعلاه كرم عنصرة وأسفله الوادي، في ٦ رمضان ١١٩٦ﻫ. ا.ﻫ.
(١-٦) عيون موسى
أمَّا عيون موسى فهي واحة صغيرة في سهل رملي فيَّاح، محيطها نحو ثلاثة أرباع الميل، وعلى نحو ثمانية أميال جنوبي السويس، وميلين ونصف ميل من شاطئ الخليج، وفيها عدة ينابيع وحدائق وحلة صغيرة ومنازل للمصيف.
أمَّا «الينابيع» فأكثرها فوَّارة، وماؤها حارٌّ ضارب إلى الملوحة، وتختلف حرارته بين ٧٠° و٨٠° فارنهيت، فإذا برد ساغ شربه، وأحلى ينابيعها أبعدها إلى الجنوب، وقد ظن بعضهم أنَّ النبع الذي «طرح فيه موسى الشجرة، فصار الماء عذبًا» (خروج ص١٥ عدد ٢٥)، وبعض هذه الينابيع مطويٌّ بالحجر منذ عهد بعيد.
وأمَّا «الحدائق» فأهمُّ أشجارها النخيل والطرفاء والأثل، وبعض أشجار الفاكهة، كالرمان والليمون والبرتقال، ويزرع فيها بعض أنواع الأزهار والخضر، وجميع الحدائق مسوَّرة بأسوار من الطين والخشب؛ لمنع ضرر الرياح كما مرَّ.
وأمَّا «حلة عيون موسى» فيسكنها جماعة من البدو والأروام المتسببين والنوتية، وأمَّا «منازل المصيف» فقد بناها بعض كبراء السويسيين في الحدائق؛ لقضاء الصيف فيها نظرًا لطلاقة هوائها واعتداله كما قدمنا ولكنها أهملت الآن أو كادت تهمل.
وقد تقدم أنَّ في ميناء عيون موسى محجرًا صحيًّا بُنيَ قديمًا للحجاج المصريين قبل بناء محجر الطور، وأمَّا الآن فهو محجر للبواخر الموبوءة.
وفي سنة ١٥٣٨م في زمن السلطان سليمان الثاني، اجتمعت مراكب البندقيين بمراكب العثمانيين في هذا الميناء، واتحدت على حرب البرتوغاليين، وكانت التجارة قد اتبعت طريق رأس الرجاء، فأنشأ البندقيون قناة جرُّوا بها ماء العيون إلى حوض على ساحل البحر لينتفع به مراكبهم، ولا زالت آثار القناة والحوض ظاهرة هناك إلى اليوم.
وأمَّا نسبة هذه العيون إلى موسى، فلأن موسى النبي اتخذها محلة له عند خروجه من مصر على المشهور.
(١-٧) قرية الشط
«الشطُّ» قرية صغيرة على شاطئ الترعة تجاه السويس، نشأت بعد فتح الترعة، فبنت فيها «مصلحة الصحة البحرية والكورنتينات» محجرًا لركاب البواخر الموبوءة التي تقف في السويس، ومدت إليها خط تليفون من السويس.
ثم بنى فيها الشيخ إبراهيم أبو الجدايل التاجر السويس المار ذكره مخزنًا لبيع الحبوب للطورة، وجعل الحاج إسماعيل من أهل السويس شريكًا له في المخزن، فبنى الحاج إسماعيل منزلًا بطبقتين قرب المخزن.
ثم تبعه علي أبو شاهين من تجار السويس، فبنى مخزنًا آخر لبيع الحبوب ومنزلًا له، وبعد ذلك بنى بعض الطورة وأهل السويس أكواخًا أقاموا فيها للصيد والتعيُّش، فكان هناك حلة جمعة ٣٠ بيتًا أو أكثر.
وفي سنة ١٩٠٦ بنى محافظ سيناء مركزًا للبوليس، ومنزلًا لاستراحة المسافرين من موظفي المحافظة، وربطه بتليفون مع نخل والسويس.
(١-٨) بئر الغرقدة
وعلى نحو ساعتين من الشط، وساعتين من عيون موسى، وثلاث ساعات من بئر مبعوق «بئر الغرقدة» وهي بئر عذبة الماء، ظلَّ أهل السويس يستقون منها إلى عهد المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، ثم مُدَّت إلى مدينتهم «الترعة الإسماعيلية» فأهملت البئر الآن وطمرتها الرمال.
(١-٩) قلعة النويبع
أمَّا قلعة النويبع وتعرف بطابية النويبع، فقد مرَّ أنها طابية صغيرة بنتها السردارية المصرية سنة ١٨٩٣، وذلك بعد خروج العساكر المصرية من العقبة، وجعلتها مركزًا للبوليس، وفيها الآن بضعة رجال من البوليس الهجانة؛ لحفظ الأمن في تلك الجهة، وهي تابعة في الإدارة لمركز نخل، وللقلعة سور ومزاغل وباب كبير، وفي داخل السور بئر ماؤها ضارب إلى الملوحة، وبجانبها بضعة أكواخ من الحجر يسكنها عائلات البوليس، وهي واقعة على نحو ميلين من مصب وادي العين شمالًا، و٥٠ ميلًا من العقبة جنوبًا، وتسمى الجهة القائمة فيها «نويبع الترابين»؛ تمييزًا لها عن «نويبع مُزَينة» على نحو ساعتين جنوبيها.
(٢) مدن بلاد التيه
(٢-١) مدينة نِخل
أمَّا مدينة نخل ففي قلب جزيرة سيناء، وهي الآن عاصمة بلاد التيه، ومركز محافظة سيناء كلها، وفيها: «قلعة قديمة، وبلدة صغيرة، ومحجر صحي، وجبانة، وآبار، وبُرَك، وحديقة، وبقربها في وادي العريش سد بقناطر.»
(أ) قلعة نخل
أمَّا قلعة نخل فهي إحدى القلاع الجميلة التي بناها السلطان قانصوه الغوري (١٥٠١ –١٥١٦م) في درب الحج المصري، وكانت تعرف قديمًا بالخان، وهي قائمة على هضبة عن يمين وادي أبو طريفية قرب مصبه بوادي العريش، على نحو ٨٠ ميلًا من السويس، و٧٠ ميلًا من العقبة، وتعلو نحو ١٧٥٠ قدمًا عن سطح البحر، وهي تشرف على سهل فسيح تحدُّه الجبال من كل الجهات إلَّا جهة الجنوب، كأنها نجمة في هلال، وهي مربعة الجوانب تقريبًا، طول الجانب منها من ٣٧ يردًا إلى ٣٩ يردًا، وعلوُّها من ٢١ قدمًا إلى ٢٥ قدمًا، وسمك حائطها ثلاث أقدام ونصف قدم في أسفله، وقدمان ونصف قدم في وسطه، وقدم في أعلاه، ولها خمسة أبراج في كل زاوية برج، والبرج الخامس في منتصف الضلع الشمالية، وبناؤها بالحجر المنحوت، وهو حجر كلسي كثير الوجود في تلك الجهات.
وللقلعة رتاج أو بوابة عظيمة مصفحة بالحديد، معقودة عتبتها بقنطرة تفتح للشرق، وتُقفل من الداخل بِمتْرَس من الخشب، يروح ويجيء في خرقين متقابلين عن جانبيها، ولها في وسطها خادعة على النمط الشرقي المعروف، تدخل من هذه البوابة في دهليز طوله خمسة أمتار، فتلقى عن شمالك بوابة عظيمة أخرى تفتح للشمال تؤدي إلى صحن القلعة، وفيه شجرة سدر قديمة ينذر لها النذور، ويحيط به طبقتان من الغرف الضيقة المسقوفة بالقصب الفارسي الكثير الوجود في أودية الجزيرة، وقد كان سقفها قليل الارتفاع جدًّا، يكاد الطويل في الرجال يمسه برأسه، فرممها محافظ سيناء الأسبق والذي قبله، فرفعا سقفها ووسعا غرفها وجعلا الطبقة العليا مسكنًا للمحافظ والناظر، والسفلى مكتبًا لهما ومخازن، وفي أعلى السور فوق سطح الطبقة العليا وفي جدران الأبراج مزاغل إلى الجهات الأربع.
وفي واجهة القلعة فوق البوابة ثلاثة حجارة تاريخية في صف واحد بين الحجر والآخر نحو ذراع عليها كتابة بالعربية بحروف ناتئة، الحجر الأول عن يمين الداخل مستدير الشكل، قطره نحو قدم، لم يبقَ ظاهرًا من النقش عليه سوى هذه الكلمات: «مولانا السلطان، عزَّ نصره» ا.ﻫ. والثاني في الوسط في شكل الأول، وحجمه، وعليه هذه العبارة: «مولانا السلطان مراد خان عزَّ نصره سنة …» ا.ﻫ. والتاريخ غير ظاهر تمامًا، وقد يُوهِم هذا الحجر أنَّ السلطان مراد هو باني القلعة، والحال أنَّ بانيها هو السلطان قانصوه الغوري كما قدمنا، والظاهر أنَّ السلطان مراد رممها، فوُضِع هذا الحجر تذكارًا لذلك، والحجر الثالث عن اليسار مربع الشكل مستطيله، منقوش عليه هذه العبارة: «جدد هذا المكان المبارك مولانا السلطان أحمد ابن السلطان محمد خان، عزَّ نصره، مدة راجي محمد باشا سنة ١١١٧ﻫ/١٧٠٥م.»
وفي القلعة الآن مدفع جبلي من متخلفات حاميتها القديمة، يُطلق في أيام الأعياد إعلانًا لها، وهناك نفر من البوليس غير النظامي، وأكثرهم من أهل نخل، وعليهم ناظر من الجيش المصري، وثلة من العساكر النظامية مؤلفة من ٢٥ جنديًّا وضابط لخفارة المحجر.
(ب) بلدة نخل
أمَّا بلدة نخل فإلى جانب القلعة الجنوبي الشرقي، على نحو ٢٠ مترًا منها، وفيها نحو ستين بيتًا، ولها شارع واحد يقسمها إلى قسمين، شرقي وغربي، وهي مبنية بالطوب النيء، وقد جُدِّد فيها منذ سنة ١٩٠٦م إلى اليوم عدة منازل بنيت بالحجر على الطراز الجديد، بعضها من بناء المحافظة، وبعضها من بناء الأهالي، وكل منازلها طبقة واحدة أرضية إلَّا ثلاثة منازل أو أربعة، فإن لكل منها طبقة عالية بغرفة أو غرفتين، يصعد إليها بسلم ضيق، وأكثر منازلها القديمة لا منفذ لها إلَّا باب بمصراع واحد، ولبعضها كوًى ضيقة عارية أو مكسوة، وقد جُدِّد فيها سوق من بناء الأهالي جنوبي البلدة، مؤلفة من خمسة دكاكين تباع فيها الحبوب والملبوسات وغيرها.
وأمَّا الأبنية التي جددتها المحافظة فهي: أربعة منازل في صف واحد شرقي البلدة، بينها وبين البلدة شارع جديد فيها مستشفى، «ومَضْيَفة» للعربان، ومنزل للبوليس الهجانة من غير سكان البلدة، ومنزل لكاتبي المحافظة الأول والثاني.
ومن الأبنية التي أحدثتها المحافظة: نادٍ للموظفين شرقي هذه المنازل، بينه وبينها شارع جديد، «وثكنة» للعساكر النظامية شمالي البلدة وشرقي القلعة على نحو مائة متر من كل منهما، «ومحجر» صحي مجهز بالخيام، وعليه نطاق من السلك والأخشاب شرقي الثكنة، يأوي إليه الحجاج الذي يأتون بدرب الحج المصري القديم، فيقضون فيه الحجر الصحي بخفارة العساكر النظامية، ثم يستطردون السير إلى مصر.
وتجاه القلعة من الشرق على محاذاة البلدة جامع صغير بلا مئذنة، يجتمع إليه أولاد البلدة لتعلم القراءة والكتابة، يعلمهم الآن الشيخ زاهر أحمد عفيفي إمام الجامع ومأذون الشرع الشريف في نخل، وهذا الشيخ أقدم موظف مصري في سيناء، وقد كان قبلًا مأذون قلعة العقبة وإمامها، وقد باشرت المحافظة حديثًا بناء جامع فخم في شمال البلدة بقرب الجامع الحالي، وارتفع البناء نحو ذراع فوق الأرض.
وفي سنة ١٩٠٦ مُدَّ خط التليفون من نخل إلى السويس، فكان طوله إلى شط السويس الشرقي نحو ١٢٠ كيلومترًا، وفي هذه السنة (١٩١٤) تمت المواصلات التليفونية بين نخل والعريش بطريق القُصَيِّمة، ولنخل بريد أسبوعي يُحمَل على الإبل يربطها بالسويس ومصر كما سيجيء.
وقد اختلف الباحثون في أصل تسمية هذه المدينة بنخل، فقال بعضهم: إنها متخلِّفة عن «نخل مصرايم» الاسم الذي أطلقه العبرانيون على وادي العريش (أشعيا ص٢٣ عدد ١٢)، وظنَّ آخرون أنها تحريف نَخل، ولكن لم يسمع في تاريخها أنه كان فيها نخل قبل سنة ١٩٠٦ كما سيجيء، هذا وكانت قديمًا تدعى أيضًا نخر، ولكن هذا الاسم فارقها بتاتًا ولم يبقَ من يعرفها بهذا الاسم الآن.
(ﺟ) جبَّانة نخل
وأمَّا جبانة نخل، فإلى الشرق والشمال الشرقي من القلعة على نحو عشرين مترًا منها، وفيها قبران شهيران يزورهما أهل نخل والبادية، ويحلفون بصاحبيهما، وهما، قبر الشيخ النخلاوي وعليه قبة، وقبر الشيخ الحجاج، وهو مبني على شكل ظهر الثور.
(د) قبر الحجَّاج
أمَّا الشيخ الحجاج، فهو أحد أجداد السلَّاميين الشوَّافين اللحيوات كما مرَّ، توفي منذ ثمانية أجيال، وبدو التيه يعتقدون أنه كان صاحب «سر وولاية»، وهو معاصر للشيخ أبو جرير جد الجرَيرات السواركة المدفون في مدينة العريش، قيل كان لكل منهما حزب وأنصار، فاختلف الحزبان في أيِّ الشيخين أكثر ولاية من الآخر، فأتى أبو جُرَير بحزمة من الحطب وأوقد فيها النار، وأخذ يتقلب عليها فلم تمسه بضرر، ثم تقدم الحجاج وتربع في وسط النار، وأخذ سكينًا من جنبه وعصر مقبضه بيده فخرج منه ماءٌ وحليبٌ أطفآ النار، فاعترف له الجميع بالتفوُّق في الولاية!
(ﻫ) قبة النخلاوي
- ضريح النخلاوي: وعليه حجران تاريخيان: حجرٌ فوق رأسه منقوش عليه بأحرف بارزة: «هذا مقام العارف بالله تعالى الشيخ النخلاوي — رحمه الله»، وحجر فوق قدميه عليه هذه الآية: «لا إله إلَّا الله محمد رسول الله».
- وضريحان آخران: على كل ضريح منهما حجران، حجر فوق رأس الميت، وآخر
فوق قدميه، وقد كُتب على كل منهما فوق القدمين: «لا
إله إلَّا الله محمد رسول الله، كل من عليها فانٍ»،
وكُتب على حجر الرأس الأول: «الشيخ محمد ابن الحاج
محمد تلنبدجي إستانبولي، توفي في صفر سنة ١١٢٩ﻫ/يناير
١٧١٧م»، وعلى حجر الرأس الآخر: «هذا قبر المرحوم رشوان
جربجي هجان باشي تفكجيان ابن حسين أفندي باش اختيار
تفاكجيان، توفي سنة ١١٤٨ﻫ/١٧٣٥م.»
وقد نُقش على حجر مستطيل فوق عتبة القبة العليا العبارة الآتية بنصِّها وفصِّها:
لما شوهدة صداقة سعادة خورشيد بك مهدي تعين مأمور تعمير القلاع الحجازية من شعبان سنة ١٢٨١ لغاية القعدة سنة ١٢٨٢.
يا من أسراره فاقة في الملاونفحاته متهطلاإني بك أستجير من حرِّهافي غد يوم الحساب الأكبرا.ﻫ.
وهذا التاريخ الهجري يوافق يناير سنة ١٨٦٥ إلى ١٦ أبريل سنة ١٨٦٦م.
وفي كل عيد تخرج نساء المدينة إلى الجبَّانة، وينصبن الرايات على قبة النخلاوي وقبر الحجَّاج، ويوزعن الصدقات من فطير وكعك على فقراء البادية، وأهل نخل ينيرون القبرين ليلة الجمعة وليلة الإثنين من كل أسبوع على مدار السنة، وقد ينيرونها وفاءً لنذر، ويقول الناذر عند إنارتهما: «العارف لا يُعرَّف والنايم لا يتخرَّف»؛ أي لا يتكلم!
ويزور اللحيوات والتياها هذين القبرين كل سنة هم وجمالهم، ويذبحون لهما الغنم.
(و) قبر الشيخ عدس
وتجاه القلعة على جنب الوادي الأيسر «جبَّانة الحجاج» الذين توفوا بمحجر نخل قبل انقطاع درب الحج، وفي هذه الجبانة قبر الشيخ عدس، من أولياء أهل البادية، وقد جرف السيل قسمًا من هذه الجبانة، فكشف عن جمجمة رجل لا يزال شعره كأنه قد دفن بالأمس.
(ز) رجم إبراهيم النخلاوي
وعلى «مطلَّة نخل الغربية» على نحو ميلين من القلعة رجم من الحجارة، وضع تذكارًا لإبراهيم النخلاوي، قالوا: كان له زوجة يحبها جدًّا سافرت إلى السويس لغرض ما وطال غيابها، وكان رجلًا مسنًّا أقعده العجز عن السفر، فكان كل يوم يأخذ زاده وماءه ويأتي المطلَّة منتظرًا قدوم زوجته إلى ما بعد الغروب، ثم يعود إلى نخل، بقي على ذلك أيامًا حتى عادت زوجته فعادت روحه إليه.
(ﺣ) قبر زين الناس
وعلى «مطلة نخل الشرقية» على نحو خمسة أميال من القلعة قبر «زين الناس»، قيل إنها من نساء الصحابة، تسلَّقت المطلَّة في ١٧ مايو سنة ١٩٠٥، فرأيت على القبر رجمًا بيضي الشكل من الحجارة الغشيمة وبجانبه صخرة منقوشة.
(ط) حديقة نخل
أمَّا حديقة نخل فهي حديثة العهد من إنشاء المحافظ الأسبق والذي تقدمه؛ أي من سنة ١٩٠٦، وهي حديقة متسعة بلصق القلعة من الجنوب، تبلغ مساحتها خمسة أفدنة، وعليها سور من الطوب النيء، وفيها من الأشجار، النخيل وهذا أول عهد النخيل بنخل في التاريخ فيما نعلم، والطرفاء، والأثل، والسنط، والكينا، والفلفل، والزيتون، والرمان، والتفاح، واللوز، والموز، والتين، والصبر. أمَّا أشجار الزيتون والتفاح واللوز والتين، فقد أتي بها من دير سيناء ولم تثمر بعد، وكذلك النخيل لم يثمر بعد، ويزرع فيها من أنواع الخضرة: البامية، والقرع، والباذنجان، والسبانخ، والطماطم، والرجلة، والفجل، والفليفلة، والخيار، والبطيخ، والشمام، والبرسيم الحجازي، وفي آخر الحديقة مناخان مسقوفان للإبل.
(ي) آبار نخل
وفي نخل ثلاث آبار قديمة مطوية بالحجر: بئر داخل القلعة في زاويتها الشمالية الغربية، حفرها باني القلعة، وبئران خارج القلعة، إحداهما شماليها على نحو مائة متر منها تشرب منها العربان والسائمة، ويُظن أنها أقدم من القلعة، والأخرى جنوبيها على نحو عشرين مترًا منها، قيل احتفرها أحمد آغا الوكيل، أحد ضباط القلعة السابقين في أواخر القرن الغابر، وقد ضمَّها سور الحديقة الجديدة، وهي تسقي الحديقة، ومنها يشرب أهل المدينة، وقد ركب عليها حديثًا ساقية من حديد.
وفي سنة ١٩٠٦ احتفر المستر جننس براملي — أحد محافظي سيناء السابقين — بئرًا غربي القلعة على نحو ٤٠٠ متر منها وطواها بالحجر، وعمق هذه الآبار كلها من ١٠ أمتار إلى ١٢ مترًا، وفيها من الماء نحو قامتين، وهي تكفي ٣٠٠٠ جمل تشرب منها في وقت واحد، ولكن ماءها ملح غير صحي، ومع ذلك كان أهل المدينة وموظفو الحكومة يشربون منها إلَّا المحافظين، فإنهم كانوا يأتون بماء الشرب على نفقتهم من بئر الثمد المشهورة بعذوبة مائها، وفي أواسط سنة ١٩١٣ أرسلت المحافظة نموذجًا من مياه آبار نخل إلى المعمل الكيماوي في مصر، فحكم بعدم صلاحيتها للشرب مدة طويلة لكثرة الأملاح فيها، فصارت المحافظة من ذلك الوقت تأتي بماء الشرب لموظفيها من بئر الثمد.
(ك) بُرَك نخل
وإلى شمالي القلعة بينها وبين البئر الشمالية ثلاث برك واسعة مبنية بالحجر والأسمنت، سعة أكبرها ٢٧٫٤٠ مترًا طولًا، و١٤ مترًا عرضًا، و٤٫٦٠ مترًا عمقًا.
وهذه البرك في رواية درر الفرائد من بناء سلار، بُنيت لتسهيل تناول الماء على ركب الحج عند نزوله بنخل، وهي متصلة بقناة إلى بئر القلعة، وقد كان على هذه البئر «ساقية» من خشب، وكانت حكومة مصر ترسل نجَّارًا في كل سنة في موسم الحج إلى نخل، فيرمم الساقية ويملأ البرك قبيل وصول ركب الحج، فيشرب منه الحجاج، ويسقون بهائمهم ويتزودون الماء للمرحلة الثانية، وأمَّا الآن فلم يعد من فائدة لهذه البرك، وأمَّا بئر القلعة فلا تزال مستعملة، وقد ركبت عليها محافظة سيناء حديثًا ساقية من حديد.
(ل) السد
وأمَّا السد الذي في وادي العريش، فعلى نحو كيلومتر جنوبي القلعة، أقامه المستر براملي محافظ سيناء سنة ١٩٠٦؛ ليرفع ماء السيل في زمن الأمطار، ويُعد أرضًا واسعة عن جانبي الوادي للزراعة، ولكن هذا السد قصَّر عن رفع الماء إلى الحد المطلوب، فترك وشأنه مؤقتًا.
(م) تاريخ نخل
وذكر صاحب درر الفرائد نخل، فقال: «وتسمى بطن نخر»، وذكرها أبو عبيد البكري فقال: «وبطن نخر منهل من مناهل الحاج، وهي قرية ليس بها نخيل ولا شجر، يسكنها نفر من الناس، ويقال: بطن نخل لسوافٍ تسفي على الناس فيه ترابًا دقيقًا كأنما نُخل بمنخل. وبها خان أنشأه السلطان قانصوه الغوري على يد الأمير الكبير خير بك المعمار أحد المقدمين في سنة (خمس عشرة وتسعمائة ﻫ/١٥٠٩م)، وبه حصار ونوباجية من الترك والقواصة، وكان الخان ضيِّقًا فعرض صاحبنا زين الدين خولي السواقي السلطانية أمره على كافل المملكة المصرية علي باشا (سنة تسع وخمسين وتسعمائة ﻫ/١٥٥٢م)، فأمر بتوسعته من مال السلطان، وأمر بصرف ما يحتاج إليه من الخزانة، فتوجه إليه بالمعمارية والمؤن الوافرة، واجتهد في توسعته، فزاد فيه زيادة عظيمة، وجاء في غاية من الحسن، وبنخل ثلاث برك، وكانت أربعًا من إنشاء سلار، فتعطلت واحدة، وبها بئران: إحداهما بساقية، والأخرى بسلم، وينصب بها سوق كبير يؤتى له من قطيا وغيرها، ومنهل نخل يميل ماؤه إلى العذوبة إلَّا أنه ثقيل في المعدة، وربما أورث الاستكثار منه أمراضًا باطنية كالاستسقاء.» ا.ﻫ.
(ن) سكان نخل
أمَّا سكان نخل فمن ذرية العساكر غير النظامية الذين وُلِّجوا حراسة القلعة من مصريين ومغاربة وحجازيين في سالف الأيام، والآن أكثر عساكر نخل والنويبع والطور والقُصَيِّمة هم منهم، وقد أحصيت سكان نخل في مايو سنة ١٩٠٥، فكانوا ٢٤٢ نفسًا من رجال ونساء وأولاد، ولكنهم زادوا من ذلك العهد حتى بلغوا ٣٠٨ أنفس في سنة ١٩٠٧، وهم الآن ينيفون على هذا العدد.
وهم يتجرون مع السويس وأهل البادية، يشترون من هؤلاء السمن والإبل والغنم ويبيعونهم الحبوب والبن والسكر، والبفتة السمراء يشترونها من السويس.
(س) زراعتهم
وفي أيام المطر يزرعون في «الخفجة» القمح والشعير والذرة والشمام والبطيخ والعجور أو القثاء كما مرَّ.
وعاداتهم خليط من عادات البدو والحضر، ومن عاداتهم في الأفراح: أنهم يزفون العروس ضمن «ناموسية» مرفوعة على أربع قوائم من خشب، فيخرجون بها العصر إلى الجبانة؛ لزيارة قبة النخلاوي وقبر الحجَّاج، ويصحب العروس داخل الناموسية إحدى قريباتها، وأمامها الرجال يرقصون ويطلقون البارود وهم يغنون هذه الأغنية:
وعند وصولهم إلى قبر النخلاوي وقبر الحجاج ينادون: «يا سادة نحن زرناكم»، ثم يأتون إلى بيت العريس، وفي السهرة يزفون العروس فيزورون النخلاوي والحجاج ثانية، ثم يدورون بها حول القلعة ويعودون إلى منزل العريس.
هذا، وفي مرور أقرباء العريس على أهل البلدة ليدعوهم لحضور الفرح يوزعون عليهم قطعًا من الصابون، لكل بيت قطعة، ومهر البنت عندهم ١٥ جنيهًا إنكليزيًّا، عشرة جنيهات تدفع مقدمًا لأهل العروس، وخمسة جنيهات تدفع مؤجلة للعروس إذا طُلِّقت، وهم يشترون جميع حاجات العروس من السويس، ولا بدَّ لكل عروس من «جلَّابية» من القطيفة الحمراء، تلبسها في الأيام الأولى من الفرح، وأكثر رجال نخل يتزوجون بامرأتين، بدوية لرعي الأنعام، وحضرية من بنات نخل أو السويس لتدبير المنزل.
وفي البلدة «مضيفة» يجتمع إليها رجال البلدة كل صباح، ومع كل منهم حفنة من البن وحزمة من الحطب، فيشربون القهوة سوية مع الضيوف، وكلما جاءهم ضيف من البدو وغيرهم أضافوه بالتناوب كل منزل وجبة واحدة حتى ينصرف، ويأتي غيره فيبدأ حيث انتهى الضيف السابق، وهم قلما يوقدون السرُج في منازلهم، فإنهم في الليالي المقمرة يكتفون بنور القمر، وفي غير الليالي المقمرة يكتفون بالنار التي يوقدونها للقهوة.
(ع) مركز البوليس في بئر الثمد
وقد بنى المحافظ الأسبق والذي قبله مركزًا للبوليس في كل من بئر الثمد، ومشاش الكُنْتِلَّة وعين القُصَيِّمة، أمَّا مركز بئر الثمد فقد بُني على التل المشرف على البئر شماليها، وفيه: مكتب للإدارة غرفتان وأمامها عرصة مسقوفة، ومنزل لجاويش البوليس فيه غرفتان وعرصة، وعنبر لعساكر البوليس الهجانة.
(ف) مركز البوليس في مشاش الكُنْتِلَّة
أمَّا مركز مشاش الكُنْتِلَّة، فقد بُنيَ على التلة المشرفة على المشاش جنوبيها، وهو مكتب للإدارة غرفتان وعرصة مسقوفة، ومنزل لوكيل الناظر، وثلاثة منازل للعساكر الهجانة، وقد قدَّمنا أنه حُفِرت بئر عذبة الماء غزيرته في وادي الجرافي بقرب المشاش، فكانت رحمة عظيمة لأهل البادية؛ لقلة الماء في تلك الجهات.
(ص) مركز البوليس في عين القُصَيِّمة
أمَّا مركز عين القُصَيِّمة، فقد بُنيَ على تل مرتفع شمالي العين، وهو مكتب مؤلف من خمس غرف وعرصة مسقوفة، ومنزل لوكيل الناظر والجاويش، ومنزل عشر غرف للعساكر الهجَّانة، محاطة بسور ضمَّ مناخًا للإبل، وقد بني على العين حوض لسقي الإبل، وآخر لسقي الأغنام، وهذه المراكز الثلاثة مربوطة بنخل بخط التليفون.
(٢-٢) آثار بلاد التيه
- النواطير: وهي ثلاثة عُمُد من الحجر بين ترعة السويس وشرفة وادي الحاج، بين كل عمود وآخر مسيرة ساعة، وقد نصبت هناك لهداية الحجاج في ذلك التيه.
- ونقب دبَّة البغلة: على نحو تسع ساعات شرقي نخل، وهناك ترى الدرب قد نقبت في
وسط تلَّة طباشيرية، ونقش على ثلاث صخرات من أصل التلة عن
يمين المسافر من نخل اسم السلطان الذي أمر بتمهيد درب الحج
في تلك الجهة وفي غيرها، وقد عبث الزمان والسكان بهذه
النقوش كلها أو بعضها، حتى إنه لم يعد من الممكن قراءة شيء
مما نقش على الصخرة الثالثة، وأمَّا الصخرة الأولى وهي
أهمها، فقد قرأت عليها ما يأتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ويتم نعمته عليك، ويهديك صراطًا مستقيمًا، وينصرك نصرًا عزيزًا، رسم بقطع هذا الجبل المسمى «عراقيب البغلة» ومهَّد طرق المسلمين الحجاج لبيت الله تعالى، وعمار مكة المكرمة والمدينة الشريفة والمناهل عجرود ونخل، وقطع الجبل عقبة أيلا وعمار القلعة والآبار، وقلعة الأزلم والموشحة، ومغارب، ونبط الفساقي، وطرق الحاج الشريفة، مولانا المقام الشريف والإمام الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين، الملك الأشرف أبو النصر «قانصوه الغوري» نصره الله تعالى نصرًا عزيزًا، ا.ﻫ.
وأمَّا الصخرة الثانية فقد نقش عليها بأحرف كبيرة:لمولانا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري عزَّ نصره.
- قلعة الباشا: قرب عين سدر (أو عين صدر) الآتي ذكرها، وما ذكرناه في الفصول السابقة من هرابات الماء قرب جبل الحلال والمغاور والنواويس في جبال العجمة، ووادي المويلح ووادي أم رجام، وغيرها.
(٣) مدن بلاد العريش
(٣-١) مدينة العريش
العريش مدينة شهيرة على ساحل البحر المتوسط عند فم وادي العريش، على نحو ميلين من الأول وميل من الثاني، وعلى نحو ٢٨ ميلًا من رفح، و٨٥ ميلًا من القنطرة، وهي تشمل، «قلعة قديمة، وبلدة صغيرة، وجبَّانة، وآبارًا، وبعض الضواحي.»
(أ) قلعة العريش
وأشهر ما فيها قلعتها، وهي سور مربع تقريبًا ارتفاعه نحو ٨ أمتار، وطول كل من ضلعيه الشرقية والغربية نحو ٧٥ مترًا، وطول كل من ضلعيه الشمالية والجنوبية نحو ٨٥ مترًا، وفي أعلى السور ستة مزاغل لضرب النار، وفي كل من أركانه الأربعة برج، وعلى كل برج مدفع من مدافع كروب، وفي أسفل كل برج قبو لخزن القنابل والجبخانة، وبناء القلعة بالحجر الرملي الصلب، وكان يحيط بها قديمًا خندق متسع قد رُدم الآن، ولم يبقَ إلَّا أثره.
والقلعة قائمة على تلة مرتفعة جنوبي البلدة تشرف عليها، وقد سفت الرياح الرمال من الجنوب، وأقامتها كثبانًا أعلى من القلعة، وهي قريبة جدًّا من البلدة، حتى إنَّ بابها يفتح إلى سوق البلدة، وهو باب عظيم بقنطرة مصفح بالحديد والصلب، علوه نحو خمسة أمتار، وعرضه ثلاثة أمتار ونصف متر.
وإلى جانبي الباب من داخل السور ثلاث غرف: غرفة إلى يمين الداخل، وفيها بوليس القلعة، وغرفتان إلى شماله، وفيهما خزنة المحافظة ودفاترها القديمة، وفي صحن القلعة بناءٌ واسع بطبقتين، الطبقة العليا منزل للناظر ومفتش المحافظة، والطبقة السفلى ديوان لكتَّاب المحافظة، وإلى الجانب الشرقي من السور مكتب الناظر والمحكمة الجزئية، ومكتب التلغراف والبريد، وإلى الجانب الجنوبي منازل للبوليس ومصلَّى عرف بالمُصلَّى العبَّاسي؛ لأنه أنشئ عند تشريف سمو الخديوي الحالي للعريش سنة ١٨٩٨م، وبين بناء الوسط وبناء الجنوب حديقة صغيرة، غرس فيها بعض الأشجار الظليلة، وبينها وبين بناء الشرق بئر مطوية بالحجر عمقها ثمانٍ وثمانون قدمًا، وقطرها أربع أقدام، وماؤها مَسوس يميل إلى الملوحة، ويستعمل للغسل وإرواء الحديقة.
وكان في صحن القلعة حوض أثري من الغرانيت الأحمر، له قاعدة هرمية الشكل، طوله متر وسبعة سنتيمترات، وعرضه ٨٠ سنتيمترًا، وارتفاعه ٦٠ سنتيمترًا، وقد نقش على جدرانه الأربعة كتابة بالهيروغليفية موضوعها «الإله شو»، قيل إنَّ هذا الحجر نقل إلى القلعة في عصر مجهول، ولسبب مجهول من مدينة جوشن القديمة المعروفة الآن بسفط الحنة قرب الزقازيق، فبقي في العريش إلى أن نقلته مصلحة الآثار المصرية إلى متحفها بمصر القاهرة سنة ١٩٠٧م.
وفوق باب القلعة ستة حجارة تاريخية من الرخام، جعلت بعضها فوق بعض في خط عمودي، وهذه صور ما نقش فيها مبتدأً من الأعلى:
الحجر الأول: «وما النصر إلَّا من عند الله.»
الحجر الثاني: الطغراء السلطانية، وفيها اسم «السلطان سليم سليمان»، وتحت الطغراء: «حرره سيد محمد أسعد، خليفة تاريخي سنة ١٢١٤ﻫ/سنة ١٧٩٩م.»
الحجر الثالث والرابع والخامس ثلاث أبيات شعر بالتركية، على كل حجر بيت، وهي:
في سنة أربعة وعشر ومائتين وألف ا.ﻫ.
وترجمتها حرفيًّا: «لما أتى بعون السلطان لفتح الحصن أمدَّته الملائكة كلها في هذا الفتح الأغر، قال وزيره الأعظم يوسف ضيا باشا تاريخًا في الحروف الحالية من المصراع الثاني الذي نقش في طاق الحصن الأعلى، حبذا الفاتح السلطان سليم خان الثالث الغازي، فإنه بفتحه العريش قد علَّق سيفه في العرش الأعلى سنة ١٢١٤ﻫ/١٧٩٩م.»
الحجر السادس: «أمر بإنشاء هذه القلعة مولانا السلطان سليمان بن السلطان سليم ابن السلطان بايزيد ابن السلطان عثمان، خلَّد الله ملكه، وقدَّس شوكته، وأعز دولته بمحمد وآله وسلم تاريخه في المصراع الأخير:
(ب) بلدة العريش
أمَّا بلدة العريش فهي بندر بلاد العريش، وفيها نحو ٦٠٠ بيت، وشوارعها متسعة نظيفة، وبناؤها بالطوب النيء والطين، ولكن طوبها متين كالحجر، ولكل بيت من بيوتها فناء مسور بباب عظيم لإيواء الإبل والخيل والغنم، وأسوارها مرتفعة جدًّا، حتى إنَّ راكب الهجين في شوارعها لا يرى ما في داخل أفنيتها.
وللبلدة سوق صغيرة بجانب القلعة، فيها نحو ٧٠ حانوتًا، تباع فيها الأقمشة، والحبوب، والزيت، والسمن، واللحم، والسكر، والصابون، والبن، وأصناف الفاكهة والخضر.
أنشئ هذا المسجد المبارك في عصر خديوي مصر عباس حلمي الثاني، أدام الله أيامه، سنة ١٣١٧ﻫ/١٨٩٩م.
ولها مدرستان: مدرسة وطنية يؤمها نحو ٩٠ تلميذًا، يعلم فيها القراءة والكتابة العربية والقرآن، ومدرسة لجمعية إنجيلية فرع من مدرسة المرسلين الإنكليز في غزة يؤمها نحو ٥٠ تلميذًا، تدرَّس فيها العربية والإنكليزية ومبادئ الحساب والجغرافية.
وللعريش محكمة جزئية تابعة لمحكمة الزقازيق الكلية، ومحكمة شرعية، ونفر من البوليس الوطني، وناظر مصري، ومفتش إنكليزي.
وهي واقعة في الطريق التجارية الشهيرة المنسوبة إليها التي تربط مصر بسوريا، ويربطها بمصر خط التلغراف، وبنخل ورفح والقُصَيِّمة خط التليفون، ولها بريد أسبوعي يُحمل على الإبل، يربطها بالقنطرة ومصر كما سيجيء.
(ﺟ) جبَّانة المدينة
- قبة الشيخ جبارة: في جبانة العريش القديمة، قيل هو من أولياء البادية،
ويدعي الملالحة أنه من أجدادهم، وقد رمَّم هذه القبة
عثمان بك فريد أيام كان محافظًا للعريش، وبنى بجانبها
سبيل ماء، وكتب على حجر رخامي فوق باب القبة هذه
العبارة: «هذا مقام الشيخ جبارة، جدَّده عثمان بك فريد
محافظ العريش سنة ١٣١٧ﻫ/سنة ١٨٩٩م.»
وبنى بجانب القبة سبيل ماء وقف له نصف ريال في الشهر لإحيائه، وقد وجدت في هذا السبيل حجرًا تاريخيًّا من الرخام، كان منصوبًا فوق قبر نجلين لجدٍّ من أجداد العرايشية، وهذه صورة المنقوش على الحجر: «لا إله إلَّا الله محمد رسول الله صدقًا، المرحومين نجلي محمود آغا، جعل الله الجنة لهما المأوى سنة ٩٨٧ﻫ/ ١٥٧٩م.»
- وقبة الشيخ نصار أبو جرير: في جبَّانة البلدة الحالية غربي القلعة، وهو جدُّ الجرارات السواركة، وقد مرَّ ذكره.
- وقبة الشيخ عبد الله: في شرق المدينة، وهي قبة حديثة العهد، قيل «إنَّ أحد محافظي العريش رأى في الحلم أنَّ هذا الشيخ وليٌّ تجب زيارته، فبنى على قبره قبةً ومزارًا.»
(د) آبار المدينة
- بئر عطوان: في الجهة الشمالية الغربية من القلعة، على نحو نصف كيلومتر منها، وهي بئر قديمة العهد مطوية بالحجر، عمقها ٢٠ قدمًا، وقطرها ٨ أقدام، وهي أعذب آبار العريش ماءً ويشرب منها سكان المدينة، وقد ركبت عليها محافظة سيناء حديثًا طلمبة لسهولة رفع الماء منها.
- وبئر الجامع، وبئر القلعة: وماؤهما يميل إلى الملوحة.
- وبئر الشرفا: على نحو مائة متر من بئر عطوان شمالًا، عمقها ١٦ قدمًا ونصف قدم، وقطرها ست أقدام ونصف قدم، ويُستخدم ماؤها لسقي السائمة والبناء.
(ﻫ) مستشفى ومحجر صحي
وكان في شرق البلدة جمرك ومحجر صحي للإبل والخيل التي ترد من سوريا، فأُلغيا بعيد الثورة العرابية ونُقلا إلى القنطرة.
وفي سنة ١٩٠٦ حولت المحافظة المحجر إلى مستشفى، وأنشأت فيه حديقة متسعة من أشجار الفاكهة والخضر، وفي الحديقة بئر غزيرة عذبة الماء تسقي الحديقة، عمقها ٧٩ قدمًا، وقطرها ٦ أقدام، وعليها ساقية من حديد، وعلى المستشفى طبيب من ضباط الجيش المصري، وطبيبه الحالي الملازم أول «الدكتور شكري أفندي مشرق» من أبرع الأطباء السوريين وأنجبهم، وأنشأت المحافظة محجرًا مؤقتًا، وهو نطاق متسع من السلك والأخشاب على شاطئ البحر المتوسط عند قبة النبي ياسر، وعند الاقتضاء يتولَّى المحجر طبيب العريش وتخفره عساكرها.
(٣-٢) ضواحي مدينة العريش
أمَّا ضواحي مدينة العريش فأهمها: نخل أبو صقل، وقبة النبي ياسر، وحلة المساعيد.
(أ) نخل أبو صقل
أمَّا نخل أبو صقل فهو شرقي المدينة عند فم وادي العريش، وهناك نخيل كثير وأراضٍ زراعية متسعة يزرع فيها العنب والتين، وفيها آبار ماء قريبة الغور، قد رُكِبَت عليها الشواديف، وزُرع عليها أنواع الخضر، كالملوخية والبامية والطماطم وغيرها، وأكثر أصحاب نخل أبو صقل يسكنون قرية صغيرة هناك تدعى «المخَوزقة».
(ب) قبة النبي ياسر
أمَّا قبة النبي ياسر فقائمة على تل مرتفع فوق شاطئ البحر في مكان يدعى «اليزَك»، ذكره الشيخ عبد الغني النابلسي (١١٤٣ﻫ) في رحلته عند ذكر مدينة العريش، قال: «في تلك البلاد مكان مبارك يقال له اليزَك … ويقال: إنه متصل بالغار الذي في بلاد الخليل» ا.ﻫ. وقد جدَّد بناء هذه القبة عثمان بك فريد المار ذكره، ونقش على رخامى فوق باب القبة هذه العبارة: «هذا مقام نبي الله ياسر صاحب الفضل والمآثر — عليه السلام — جدَّده عثمان بك فريد محافظ العريش سنة ١٣١٧ﻫ/١٨٩٩م.» وفي سنة ١٣١٨ﻫ نُكب عثمان بك فريد بابنٍ عزيز له في العريش فدفنه عند القبة. وهناك بئر قديمة العهد تعرف ببئر اليزَك، جدِّدت بأمر الجناب العالي الخديوي عند زيارته الحدود سنة ١٨٩٨، وقد بُني لها حوض لسقي السابلة، وماؤها أعذب من آبار المدينة، وعند هذه البئر المحجر الجديد المار ذكره.
وبجانب القبة إلى جهة البحر قبران: قبر عليه شاهدتان من الرخام، ارتفاع كل منهما نحو متر، وقد حفر على الشاهدة الشرقية شجرة ورد جميلة الصنع، وعلى الغربية كتابة بالتركية هذا نصها: «هو الحي الباقي، دركاه عالي يكنجر يلري أغاسي أولوب عريش محافظي أيكن رحلت دار بقاء أيدن مير ميران مرحوم، ومغفور لهُ أمين سنة ١١٩٧ﻫ»، وترجمته: «انتقل إلى دار البقاء المغفور لهُ المير ميران آغا الإنكشارية الهمايونيو الذي كان محافظًا للعريش سنة ١١٩٧ﻫ/١٧٨٣م.» وقبر آخر فوقه حجر منقوش عليه بالعربية: «قل هو الله أحد، هذا قبر المغازي في سبيل الله الحاج حسن بن طلحة.»
(ﺟ) حلة المساعيد
أمَّا حلة المساعيد فهي حلة صغيرة في وسط حديقة متسعة من النخيل وأشجار الفاكهة والخضر، على نحو أربعة أميال غربي العريش، وفيها «بئر المساعيد» على السكة السلطانية قرب شاطئ البحر، وبئر أخرى في وسطها على نحو مائة متر من الأولى، وهي بئر عذبة الماء قريبة القعر، وقد كان محافظو العريش السابقون لعثمان بك فريد يأتون بماء الشرب من القنطرة، فلما جاء عثمان بك محافظًا استعذب ماء هذه البئر، فحصرها في برميل أنزله في الحفرة، ومنع العامة عنها، واستغنى عن ماء القنطرة، وجرى مجراه المحافظون الذين جاءوا بعده، وبنى المحافظ محمد إسلام بك على البئر كوخًا من الخشب، وجعل لها قفلًا لأجل حمايتها، وما زالت محمية، وموظفو المحافظة يشربون منها إلى اليوم.
(٣-٣) سكان مدينة العريش
وأمَّا سكان مدينة العريش وضواحيها، فقد بلغ عددهم في تعداد المحافظة سنة ١٩٠٧ مع سكان حلة الشيخ زويد ٥٨٥١ نفسًا كما مرَّ، أمَّا سكان الشيخ زويد فلا يزيدون على مائة نفس، فيكون عدد سكان مدينة العريش نحو ٥٧٥٠ نفسًا، أو ٢٩٠٠ ذكر و٢٨٥٠ أنثى، وكلهم مسلمون على المذهب الحنفي بينهم ١١ مسيحيًّا و٣ يهود، وقد كانوا في أيام عبد الغني النابلسي (١٧٣٠م) نحو ألفي نفس، غالبهم دائم الأسفار إلى مصر والشام على الإبل؛ لضرورة المعاش.
وهم فريقان كبيران: «العرايشية، والفواخرية».
أمَّا «العرايشية» فجُلُّهم من متخلفي العساكر التركية الذين أُرسلوا لحماية قلاع العريش، وقَطْيَة، والطينة في مدات مختلفة منذ تأسيس تلك القلاع إلى أن ألغى محمد علي باشا قلعة العريش بعد سنة ١٨٤٠م في الأرجح، وهم عدة فرق أهمها:
«أولاد سليمان، والآغاوات، والمماليك، والكشاف، والشرابجة، والشرفا، والحجاجوة»، ويقال: إنَّ الفرق الثلاثة الأولى هم متخلفو حامية العريش، وأقواها فرقة أولاد سليمان، حتى لقد ينسب العرايشية كلهم إليهم، وإنَّ الكشاف هم متخلفو حامية قَطْيَة، والشرابجة متخلفو حامية الطينة.
وأمَّا «الفواخرية» فأكثرهم من مهاجري جنوبي سوريا، جاءوها بعد تأسيس القلعة للاتجار مع حاميتها وبادية العريش، قيل لقبوا بالفواخرية؛ لأن أكثرهم كانوا يتجرون بالفخار يأتون به من غزة، وفي غزة إلى الآن معمل فخار لصنع آنية الماء من تربة سوداء هناك، وأهل العريش يشترون منه الجرار السود التي يستخدمونها لنقل الماء، أمَّا الفواخرية أنفسهم، فيقولون إنَّ أصلهم «عرب من الشرق». وهم فرقتان:
«الغوَلة، والقلعجية، والسلايمة، والفيران، والعطاوين» وعليهم شيخ.
«والعبادين، وأولاد أحمد، والصبايحة، والسحايقة» وعليهم شيخ آخر.
أمَّا العطاوين فقيل إنهم من سكان المدينة الأصليين، وهم عائلتان فقط، لا يزيدون عن عشرين نفسًا، وأمَّا السلايمة فمن مهاجري الخليج، والفيران من مهاجري غزة.
هذا، وفي سنة ١٨٤٠ كان غطاس آغا من فرقة الآغاوات حاكمًا في العريش، فوقع خلاف بينه وبين قومه العرايشية، فشكوه إلى الحكومة بمصر فعزل، فانفصل الآغاوات والمماليك منذ ذلك العهد عن العرايشية، وانضموا إلى الفواخرية وألفوا معهم حزبًا واحدًا، فأصبح سكان العريش حزبين متقاربين عددًا وثراءً.
وبعض أهل العريش يتجرون مع البدو في البادية، وبعضهم يتجرون في سوق المدينة، وبعضهم يشتغلون بالزراعة، وآخرون في خدمة الحكومة: عساكر بوليس، وكتَّابًا، ووكلاء نظار. ولكن أكثرهم يقتنون الإبل ويشتغلون جمَّالة. ولهم مهارة خاصَّة في تربية الإبل وسياستها ونقل الأحمال عليها، بل هم في ذلك أمهر أهل الجزيرة، ويأتي بعدهم الطورة ثم أهل التيه، ولهم في ضواحي بلدتهم نخيل كثير يُعنون به كما مرَّ، وهم يتبعون في معائشهم نظامًا معينًا اعتادوه منذ عهد بعيد، وذلك أنه عند انتهاء موسم النخيل في أواخر أكتوبر يذهب قسم كبير منهم إلى مصر بإبلهم، فيؤجرون الإبل لنقل القطن والحبوب ويرعونها البرسيم، وفي يناير يبدءون بالعودة إلى أوطانهم لتلقيح نخيلهم والاعتناء بزراعتهم، وأهم زراعتهم: البطيخ والشعير والقمح، يزرعونها على المطر؛ الشعير بعد أول مطرة، والقمح بعد زرع الشعير بنحو شهر، ثم يزرعون البطيخ، يزرعون منه حقولا متسعة، وبه يتجرون ويعلفون خيلهم وإبلهم كما مرَّ، وبعد حصد الزرع في أواخر مايو أو أوائل يونيو يجعلون حبوبهم في مطامير، ويرحلون إلى غزة بجمالهم ونسائهم؛ لمساعدة أهلها في الحصاد وتأجير إبلهم لنقل الحبوب، ثم يرجعون إلى وطنهم عند انتهاء الحصاد في أوائل سبتمبر، ومعهم ما جنوه من الحبوب، فيضيفونه إلى مطاميرهم، ويبقون إلى انتهاء موسم البلح في أواخر أكتوبر، فيذهبون إلى مصر كما مرَّ، وهكذا.
وهم في بلدتهم يقتسمون الغُنم، والغُرم، وأجر الجمال، على نسبة معلومة اتفقوا عليها منذ قديم الزمان وأقرَّتها الحكومة، وهذه حصص كل فريق منهم كما أقرَّتها نظارة الداخلية سنة ٤–١٨٩٩ مع أسماء مشايخهم الحاليين الرسميين:
العرايشية: الفروع | اسم الشيخ | الحصة بالقيراط |
---|---|---|
الجملة قيراط | ٢٤ | |
أولاد سليمان وشركاؤهم | الحاج عبد الحليم عبد الله | ٧ |
الشرابجة | حسين أبو نجيلة | ٣ |
الكشاف، والشرفا، والحجاجوة | رفاعي محمد كاشف | ٣ |
الفواخرية | ||
الفواخرية فريق أول | إبراهيم عبيد | ٤ |
الفواخرية فريق ثانٍ | محمد سميري | ٤ |
الغطايسة أو الآغاوات، والمماليك، والجغانوة | أحمد بدوي | ٣ |
ولكل من الفريقين مقعد أو مقاعد يجلس فيه رجاله، يشربون القهوة ويتحدثون في شئونهم الخاصَّة والعامة على نحو ما يفعل مشايخ البدو في باديتهم.
- طولسن بك عبد الشافي: من أولاد سليمان، خدم معاونًا لثلاثة محافظين في العريش، فكان لهم المرشد الأمين الخبير الناصح، فرُقي إلى وظيفة في القطر المصري، وهو الآن مأمور مركز كوم حمادة بمديرية البحيرة.
- وأسعد أفندي عَرَفات: من الكشَّاف، مأمور ترحيلات الحربية بالقنطرة، وهو يلتهب غيرةً على قومه وبلاده، ودائم التفكُّر فيما يعود عليهم بالخير والإسعاد، وقد اشتهر في حادثة الحدود سنة ١٩٠٦ كما سيجيء.
- وخالد أفندي حسني: من مهاجري غزة، صراف نظارة العريش، وهو من الشبان الأدباء النجباء، ومن ذوي اليسار.
هذا، وعند إنشاء الجمعية العمومية المصرية في أول مايو سنة ١٨٨٣، أعطي للعريش حق النيابة، فكان لها مع الإسماعيلية عضو واحد في الجمعية العمومية، وكان لها مع سائر محافظات القطر عضو واحد في مجلس الشورى، وفي ٦ يناير سنة ١٩٠٨ في آخر انتخاب للجمعية العمومية مثَّل العريش والإسماعيلية الشيخ عبد الوهاب سليمان — من أولاد سليمان العرايشية — ولكن قانون الجمعية التشريعية الجديد الصادر في أول يوليو سنة ١٩١٣، أسقط العريش من المجلس، وألحق الإسماعيلية ببورسعيد، وكانت بورسعيد ملحقة بالسويس، فتفردت السويس بالعضوية وحدها.
(٣-٤) تاريخ العريش القديم
والعريش مدينة قديمة قائمة على أنقاض مدينة للمصريين القدماء تدعى «رينوكلورا»؛ أي مجذوم الأنف، قيل سميت كذلك؛ لأنها كانت منفى الذين حُكم عليهم بالإعداد واستُبدل الحكم بجذم الأنف، وأمَّا العريش فإنه الاسم الذي أطلقه عليها العرب، والظاهر أنَّ أهلها في القديم كانوا يسكنون في مظالَّ من القش اليابس كما يفعل أهل البادية اليوم في الصيف، فسميت محلتهم العريش، وهذا الاسم لا يزال يطلق هناك على مظالِّ القش إلى الآن. وذكر المقريزي في خططه مدينة العريش، قال: «العريش مدينة فيما بين أرض فلسطين وإقليم مصر، وهي مدينة قديمة من جملة المدائن التي اختُطَّت بعد الطوفان.» قال الأستاذ إبراهيم بن وصيف شاه: «إنَّ مصرايم بن بيصر بن حام بن نوح — عليه السلام — كان غلامًا مرفَّهًا، فلما قرب من مصر بنى له عريشًا من أغصان الشجر، وستره بحشيش الأرض، ثم بنى له بعد ذلك في هذا الموضع مدينة وسماها درسان؛ أي باب الجنة، فزرعوا وغرسوا الأشجار والجنان من درسان إلى البحر، فكانت كلها زروعًا وجنانًا وعمارةً.»
وقال آخر: «إنما سميت بذلك؛ لأن بيصر بن حام بن نوح تحمل في ولده وهم أربعة ومعهم أولادهم، فكانوا ثلاثين ما بين ذكر وأنثى، وقدم ابنه مصر بن بيصر أمامه نحو أرض مصر حتى خرج من حد الشام، فتاهوا وسقط مصر في موضع العريش، وقد اشتد تعبه ونام، فرأى قائلًا يبشره بحصوله في أرض ذات خير ودر وملك وفخر، فانتبه فزعًا، فإذا عليه عريش من أطراف الشجر وحوله عيون ماء، فحمد الله وسأله أن يجمعه بأبيه وإخوته، وأنْ يبارك له في أرضه، فاستجيب له، وقادهم الله إليه، فنزلوا في العريش وأقاموا به، فأخرج الله لهم من البحر دواب ما بين خيل وحمر وبقر وغنم وإبل، فساقوها حتى أتوا موضع مدينة منف، فنزلوه وبنوا فيه قرية سميت بالقبطية «مافة» يعني قرية ثلاثين، فنمت ذرية بيصر حتى عمَّروا الأرض وزرعوا وكثرت مواشيهم، وظهرت لهم المعادن، فكان الرجل منهم يستخرج القطعة من الزبرجد يعمل منها مائدة كبيرة، ويخرج من الذهب ما تكون القطعة منه مثل الأسطوانة وكالبعير الرابض.»
وقال ابن سعيد عن البيهقي: «كان دخول إخوة يوسف وأبويه — عليهم السلام — عليه بمدينة العريش، وهي أول أرض مصر؛ لأنه خرج إلى تلقيهم حتى نزل المدينة بطرف سلطانه، وكان له هناك عرش، وهو سرير السلطنة، فأجلس أبويه عليه، وكانت تلك المدينة تسمى في القديم بمدينة العرش لذلك، ثم سمتها العامة مدينة العريش. فغلب ذلك عليها، ويقال: إنه كان ليوسف — عليه السلام — حرس في أطراف مصر من جميع جوانبها، فلما أصاب الشام القحط وسارت إخوة يوسف لتمتار من مصر؛ أقاموا بالعريش، وكتب صاحب الحرس إلى يوسف أنَّ أولاد يعقوب الكنعاني يريدون البلد؛ لقحط نزل بهم، فعمل إخوة يوسف عند ذلك عرشًا يستظلون به من الشمس حتى يعود الجواب، فسُمِّي الموضع العريش، وكتب يوسف بالإذن لهم، وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة طرق عبد الله بن إدريس الجعفري العريش بمعاونة بني الجرَّاح وأحرقها، وأخذ جميع من فيها. وقال القاضي الفاضل: وفي جمادى الآخرة سنة سبع وسبعين وخمسمائة ورد الخبر بأن نخل العريش قطع الفرنج أكثره، وحملوا جذوعه إلى بلادهم، وملئت منه، ولم يجدوا مخاطبًا على ذلك. ونُقل عن ابن عبد الحكم أنَّ الجفار بأجمعه كان أيام فرعون موسى في غاية العمارة بالمياه والقرى والسكان، وأنَّ قول الله تعالى: وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ عن هذه المواضع، وأنَّ العمارة كانت متصلة منه إلى اليمن؛ ولذلك سميت العريش عريشًا، وقيل إنها نهاية التخوم من الشام، وإنَّ إليها كان ينتهي رعاة إبراهيم الخليل — عليه السلام — بمواشيه، وأنه — عليه السلام — اتخذ به عريشًا كان يجلس فيه حتى تُحلب مواشيه بين يديه، فسمي العريش من أجل ذلك. وقيل إنَّ مالك بن زعر بن حجر بن جديلة بن لخم كان له أربعة وعشرون ولدًا منهم العريش بن مالك، وبه سميت العريش؛ لأنه نزل بها وبناها مدينة، وعن كعب الأحبار أنَّ بالعريش قبور عشرة من الأنبياء.» ا.ﻫ.
وفي رحلة النابلسي: «إنَّ العريش أول حدود مصر وآخر حدود الشام، وفيها جوامع عامرة، بداخل أحدها قبر الشيخ محمد الدمياطي صاحب الولاية والتقريب، تلميذ الشيخ نور الدين الدمياطي صاحب الدمياطية. وقد وصفها السيد محمد كبريت في رحلته بقوله:
ا.ﻫ.
ثم بعد دخول مصر في حوزة الأتراك بنى السلطان سليمان الثاني القلعة الباقية إلى هذا العهد، وفتحها نابليون الأول في ١٨ فبراير سنة ١٨٩٩ عند قدومه لمصر، فاسترجعها منه السلطان سليم الثالث في ١٧ نوفمبر من السنة نفسها، ثم لما دخلت مصر في حكم محمد علي باشا — جد العائلة الخديوية الكريمة — سنة ١٨٠٥م دخلت العريش وسيناء كلها في حكمه أيضًا كما سيجيء مفصَّلًا في باب التاريخ.
(٣-٥) قرية الشيخ زُوَيَّد
أمَّا قرية الشيخ زويد فهي ثلة من المنازل في طريق العريش، على نحو ١٨ ميلًا من مدينة العريش وعشرة أميال من رفح، ونحو ميلين من شاطئ البحر، وأهلها أخلاط من خان يونس والعريش، جاءوها منذ نحو خمسين سنة، فأسسوها على أنقاض بلدة قديمة العهد، تدل خرائبها على أنها كانت على جانب عظيم من المدنية والعمران.
وأول من بنى فيها في هذا العهد الحاج أحمد — من أولاد سلوس — أتاها من خان يونس، وبنى فيها منزلًا ودكانًا للبيع والشراء على البدو وعابري السبيل، ثم أتى «الزعران» من العريش، ثم أولاد سلوس أيوب والسيد من خان يونس، وكلهم يتجرون بالبضائع التي تروج عند البدو وعابري السبيل، وكانوا أولًا يأتون بجميع بضائعهم من غزة، وأمَّا الآن فيأتون بالأقمشة والأعبئة من العريش، وبالزيت والسيرج والصابون من غزة.
وأمَّا المدينة القديمة التي بنيت عليها هذه القرية، فمعظم خرائبها وقبورها على ثلة إلى الغرب والجنوب الغربي من القرية الحالية.
(أ) قبة الشيخ زويد
وإلى شمالي البلدة على مقربة منها جبانة قديمة، فيها «قبة الشيخ زويد» الذي به سميت البلدة، ويدَّعي السواركة أنه من أجدادهم، ولكن سائر القبائل تنكر عليهم هذه الدعوى، ويقولون: إنه من الصحابة، يزور القبة عابرو السبيل والسواركة وغيرهم من بدو الجزيرة في كل سنة بعد الحصاد، فيقيمون عندها الأفراح ثلاثة أيام، ويذبحون الذبائح، ويولمون الولائم، ويتسابقون على الخيل والهجن، قيل وقد اجتمع عندها في ٢٥ مايو سنة ١٩٠٦ نحو ٥٠٠٠ نسمة، وهم يزورونها الخميس صباحًا، فيقضون نهار الخميس كله وليلة الجمعة، ثم يبدءون بالرحيل.
بسم الله الرحمن الرحيم، أنشأ هذه القبة المباركة إنْ شاء الله تعالى أمير اللوا الأمير محمد بك باش الخزين، الواقف عليه حضرة علي أحمد آغا، وذلك في شهر صفر سنة ١٠٦٣ﻫ/يناير سنة ١٦٥٣م.
وفي هذه الجبَّانة بجانب القبة قبر زايد، ومزيد، وأربعة قبور أخرى قديمة، قيل إنها قبور إخوة الشيخ زويد، وعلى هذه القبور حجارة رخامية، وحجارة عادية منحوتة مأخوذة من الخرائب القديمة. وللقبة شيخ يحافظ عليها وينيرها كل ليلة جمعة، ورأيت عليها سنة ١٩٠٦ محمد بن سليمان سلامة، وهو في عشرة التسعين من عمره، فسألته عن القبة، فقال: تهدمت بمرور الأيام، فرممها جدي سلامة، وأصله من العريش، ثم تهدمت فرممها أبي، ونحن نعيش على الصدقات التي يتصدق بها زوار الشيخ.
- قبر صبح أبو لقيتة: وبين قبة الشيخ زويد والقرية جبَّانة حديثة، فيها حجرة مبيضة حديثة العهد، لصبح أبو لقيتة من عرب العائد بمصر، قيل ارتكب جريمة في أهله فهجرهم وسكن بين السواركة، ومات عن بنت وحيدة ومال كثير، وقد بنوا له هذه الحجرة قيامًا بوصيته.
- قبر عمير: وعلى نحو ميلين من هذا القبر شمالًا «قبر عُمَير»، وهو قبر يزار.
(ب) آبارها
وفي قرية الشيخ زويد بئر قديمة، مبنية بالحجر الغشيم، ماؤها ملح، وكانت القرية في أيام المغفور له محمد علي باشا محطة للبريد إلى سوريا كما سيجيء.
- بئر حنظلة: وفي ساحل الشيخ زويد على البحر بئر تدعى بئر حنظلة، حفرها السواركة، وماؤها غزير وأعذب من بئر الشيخ زويد.
(ﺟ) مطلة الشيخ زويد
وإلى جانب هذه البئر شماليها أكمة عظيمة، تدعى مطلة الشيخ زويد، عليها خرائب مدينة قديمة، وقد وُجدت بين تلك الخرائب قطع من العملة النحاسية، وقطع أساور زجاجية وغيرها من عهد اليونان والرومان والعرب.
أخبرني الحاج أحمد من أهالي الشيخ زويد: أنه كان على تلك الأكمة آثار نفيسة جدًّا؛ من ذلك معبد جميل فيه تمثال امرأة من الرخام الأبيض الجميل، يشبه أن يكون تمثال مريم العذراء، بقي إلى أيام الثورة العرابية، فحطمه العرب تحطيمًا، وقد وجد أحدهم في بعض القبور حلًى ذهبية، فنبشوا كل القبور وعاثوا بها، وطمرت الكنيسة الرمال. وكانت هناك غرف مبلطة بالفسيفساء، فلم يبقَ ما يدل على تلك الغرف إلَّا حجارة الفسيفساء المكعبة الصغيرة.
(٣-٦) قَطْيَة
«قَطْيَة» ومن بلاد العريش الشهيرة في طريق العريش، على نحو ٢٦ ميلًا من القنطرة بلاد قَطْيَة، وهي حدائق متسعة من النخيل، عندها خرائب بلدة قديمة وقلعة، وبئر مطوية بالحجر المنحوت، وقد رمم البئر إبراهيم باشا في أثناء حملته على سوريا، ثم رممها عباس باشا الخديوي الحالي عند زيارته العريش.
وكانت قَطْيَة قبل فتح ترعة السويس تابعة لمديرية الشرقية، فلما فُتحت الترعة أُلحقت بالعريش، ولا تزال، ويسكنها الآن عربان متبدُّون، يقيمون فيها بخيامهم وأكواخ من سعف النخل في موسم البلح، وبعد انتهاء هذا الموسم يرحلون بخيامهم وإبلهم وعيالهم إلى مصر وسوريا؛ للتعيش فيها كأهل العريش.
وفي تقويم البلدان: «إنها على بعد يوم من الفرما.»
إنَّ قَطْيَة ليست من الأقاليم، وإنما هي بمفردها، وهي مزمُّ الدرب، حتى لا يمكن التوصل إلى الديار المصرية إلَّا منها، وبها حرسية ونخيل كثيرة، ولها ميناء، وهي الطينة على شط البحر المحيط، وعمر هناك الملك الأشرف — تغمده الله برحمته — برجين، ويصب من هناك فرقة من بحر النيل. ا.ﻫ.
وفي رحلة النابلسي: «قَطْيَة بفتح القاف بعدها طاء مهملة ساكنة، هي مكان أخذ المكوس من كل من يمر من ذلك الطريق، فيأخذ الكاشف من جهة الأجناد المصرية خفارة الأموال والخيل والدواب التي للتجار، وغيرهم ممن يمر في تلك البرية، قال السيد محمد كبريت:
(٣-٧) مركز البوليس في رفح
وبنى محافظ سيناء سنة ١٩٠٧ مركزًا للبوليس في رفح قرب عمودي الحدود، وهو مؤلف من مكتب فيه أربع غرف ودار مسقوفة، وله سور ضلعه الشرقية على خط الحد الشرقي، وبنى بقربه مساكن للبوليس الهجَّانة فيها عشر غرف، ومنزل لوكيل الناظر، ومناخ للإبل، ومدَّ إليه خط التليفون من العريش، وكل هذه الأبنية شرقي طريق العريش إلى غزة، وأنشأ غربي الطريق حديقة للخضر وأشجار الفاكهة كاللوز والمشمش، وحفر فيها بئرًا.
(أ) الجمعية الصهيونية في رفح
وحضر حديثًا بعض رجال الجمعية الصهيونية إلى رفح، واشتروا من أهلها بعض الأراضي بقصد تأسيس مستعمرة لهم هناك، وكان بعض تلك الأراضي للحكومة، وبعضها منازع على ملكيته، فلم يثبت لرجال الجمعية من الأرض ما يكفي لإنشاء مستعمرة، فوقف عملهم.
(ب) آثار رفح القديمة
ومركز رفح هذا قائم على أنقاض مدينة رفح القديمة، على ٢٨ ميلًا من مدينة العريش، و٥ أميال عن خان يونس، و١٨ ميلًا من غزة، وهي مدينة «رافيا» التي ذكرها المؤرخ يوسيفوس، أنها أول محطة سورية استراح فيها تيتوس في طريقه لمحاصرة القدس سنة ٧٠ب.م، وقد تقدم أنَّ رفح هذه كانت في أكثر العصور التاريخية الحد بين مصر وسوريا، وأنَّ فيها انتصر بطليموس الرابع ملك مصر على أنطيوخوس الكبير ملك سوريا في واقعة كبيرة سنة ٢١٧ق.م، وانتصر سرجون ملك آشور على سباقون ملك مصر في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد، وسنأتي على ذلك تفصيلًا في باب التاريخ.
وقال المهلبي سنة ٥٧٥ﻫ/١١٧٩م: «رفح مدينة عامرة، فيها سوق وجامع ومنبر وفنادق، وأهلها من لخم وجذام، وفيهم لصوصية وإغارة على أمتعة الناس، حتى إنَّ كلابهم أضر كلاب الأرض بسرقة ما يسرق مثله الكلاب، ولها والي معونة برسمه عدة من الجند، ومن رفح إلى مدينة غزة شجر جميز مصطف على جانبي الطريق عن اليمين والشمال، نحو ألف شجرة متصلة أغصان بعضها ببعض مسيرة نحو ميلين، وهناك منقطع رمال الجفار، ويقع المسافرون في الجلد، وكان فتحها فيما فتح من مدن الشام على يد عمرو بن العاص في خلافة عمر بن الخطاب، ولها ذكر في أخبار الصليبية.»
وقال ياقوت الحموي الذي تُوفي سنة ٦٢٦ﻫ/١٢٢٩م: «رفح منزل في طريق مصر بعد الدارم، بينه وبين عسقلان يومان لقاصد مصر، وهو أول الرمل، خرب الآن تنسب إليه الكلاب وله ذكر في الأخبار.» ا.ﻫ.
- بئر رفح: وهي بئر قديمة العهد، مطوية بالحجر المنحوت، قطرها
نحو عشر أقدام، وعمقها نحو عشر قامات، وماؤها غزير
صالح للشرب، لكنه مائل إلى الملوحة، وفيه علق صغير،
وكانت البئر قد ردمت، فطهَّرها أهل خان يونس منذ نحو
٣٠ سنة، وزرعوا الأرض التي تجاورها شعيرًا، وقد جعلوا
على البئر عمودين من عمد رفح القديمة؛ لتضييق فمها،
وتقليل خطر السقوط فيها، وقد دخلت هذه البئر في حدِّ
الدولة العلية.
وبين بئر رفح والبحر المتوسط كثبان عظيمة من الرمال، تسفي رياح البحر منها إلى الأرض الزراعية، فتبتلعها تدريجًا، وأهلها لا يبدون أقلَّ حركة لإيقافها عند حدِّها، ويتخلل تلك الكثبان خرائب أبنية قديمة، وكسر فخار وزجاج، مما دلَّ على أنَّ عمرانها كان يمتد إلى شاطئ البحر المتوسط.
- وبئر رُفَيح: وهي بئر حديثة العهد، احتفرها الرميلات في وسط الكثبان المشار إليها، على نحو ميلين إلى الجنوب الغربي من بئر رفح، وقد دخلت في حدِّ مصر، ورممها محافظ سيناء سنة ١٩٠٧.
- عمودا الحدود والسدرة: وعلى نحو ٣٦٠ مترًا إلى الجنوب الغربي من بئر رفح
سدرة كبيرة، كان عن جانبيها عمودان من الغرانيت
الأسمر، عُرفا بعمودي الحدود، طول كل منهما سبع أقدام،
ومحيطه نحو ثلاث أقدام، الواحد إلى جهة الشام، والآخر
إلى جهة مصر، وقد كوَّنا مع أصل السدرة مثلثًا متساوي
الأضلاع، طول كل ضلع منها نحو خمسة أمتار (انظر ١-٤)، ولما زار سمو الخديوي الحالي رفح
سنة ١٨٩٨ نقش تاريخ زيارته على العمود الذي إلى جهة مصر، فلما كانت حادثة الحدود سنة
١٩٠٦ أزال
الجنود التركية العمودين من مكانهما، وطمروهما في
الرمال بعد أن حطموا أحدهما تحطيمًا، فلما جاءت اللجنة
لتعيين الحدود أبقت على هذا الحدِّ، ونصبت في مكان
العمودين المذكورين عمودين غرانيتيين آخرين من عمد رفح
القديمة، أحدهما كامل والآخر قطعة من عمود كما سيجيء
مفصَّلًا في باب التاريخ.
قال محمد إبراهيم صاحب السدرة: «إنه كان تحت السدرة قديمًا عدة عمد، بينها عمود عليه كتابة أعجمية، فنقله بعض النصارى بحرًا حوالي سنة ١٨٤٥م»، وعلى نحو مائة متر غربي البئر والسدرة تل رملي مسطح، يدعى تل رفح، عليه خرائب أبنية قديمة، وقد أخبرني ثقة من بدو رفح أنه كان عليه تمثال من الرخام، وبلاطة كبيرة عليها كتابة أعجمية وغيرها من الآثار النفيسة، فنُقلت إلى الآستانة منذ عهد غير بعيد.
- كوخ التلغراف: وعلى نحو ٦٠٠ متر جنوبي السدرة، عند ملتقى طريق العريش إلى غزة، وطريق الرميلات إلى بئر رُفَيح، غرفتان صغيرتان من الطوب النيء، بنتهما مصلحة التلغراف المصرية لمفتشي الخط على الحدود، وأُطلق عليهما «كوخ التلغراف».
- قبر الشيخ سليمان الرفحي: وبين عمودي الحدود وبئر رفح ضريح الشيخ سليمان الرفحي المشهور بكراماته وعجائبه، قال محمد إبراهيم صاحب السدرة: «كان الناس يزورون هذا الضريح وينيرونه بالشموع إلى سنة ١٨٩٩ إذ قدم ضابط تركي وهدم الضريح إلى الأرض؛ ليمنع الناس من زيارته، فمرض الضابط على الأثر، فظن البدو أنَّ صاحب القبر يميته، ولما لم يمته ذهب اعتباره من قلوبهم، وعدلوا عن زيارته من ذلك الحين، أمَّا الضابط فإنه بعد شفائه أعاد بناء الضريح وذبح له، وهذا الشيخ هو حارس البئر يحمي الناس من السقوط فيها، وإذا سقطوا حماهم من الموت غرقًا!»
- هرابة رفح: وعلى نحو ميل من بئر رفح إلى الجنوب الشرقي منها
هرابة قديمة مبنية بالحجر والكلس على شكل الجرَّة؛ أي
أنها ضيقة الفم منفوخة البطن، ولها قناة تتصل إليها من
أعلى التلة المحفورة فيها، مما دلَّ على أنها مصنوعة
لخزن مياه الأمطار.
ومن الآثار التي عثرت عليها في رفح: قطعة من تمثال صغير من الرخام الأبيض الناصع، وهو تمثال فارس بيده رمح، ولعله مار جرجس يطعن التنين كما في الصورة التي نراها في كنائس النصارى الشرقية، وقطعة تمثال آخر صغير من الرخام، يشبه أن يكون تمثال مريم العذراء، وقطعة من حجر طباشيري عليه كتابة باليوناني القديم كما في العوجاء، وأنواع كثيرة من النقود النحاسية القديمة.
(٣-٨) ضواحي رفح
- الفقيرة: وعلى نحو ميل ونصف ميل جنوبي بئر رفح شجرتا سدر قديمتا العهد جدًّا، يقال لكل منهما الفقيرة، تزورهما نساء البادية، وينذرن لهما النذور، وهما قائمتان على تل مرتفع يُرى منه جبل الحلال في الجنوب، وجبل الخليل في الشرق البحت.
- أم عَمَد: وعلى نحو ميل ونصف ميل جنوبي الفقيرة خرائب «أم عمد»، سميت كذلك؛ لكثرة العُمد في خرائبها، وأهمُّ ما هو ظاهر منها الآن، عمودان كبيران من الغرانيت الرمادي، أحدهما مكسور، وعمود من الرخام الأبيض، ومطمارة لخزن الغلال مبنية بالحجر والكلس، وهرَّابة للماء كهرابة رفح، وعلى نحو ٩ أميال جنوبي أم عمد «خربة الرطيل» في شمال الجورة المار ذكرها.
- قبر الغُبَي: وعلى نحو ميلين إلى الجنوب الشرقي من بئر رفح قبر الغُبَي، وهو ضريح قديم مدرَّج، وحول الضريح شجر شائك، عُلِّق فيه سرُج الزيت لإنارة الضريح، وأهل البلاد ينذرون له النذور ويذبحون له الذبائح.
- قبر القبة: على نحو ساعة من قبر الغُبَي جنوبًا، وهو قبر يزار.
- وقبر الشيخ حسن: على نحو خمسة أميال إلى الجنوب الشرقي من بئر رفح، بجوار كرم مصلح، وهو قبر قديم مدرج كقبر الغُبَي.
(٣-٩) بقية آثار بلاد العريش
(أ) على طريق الفرما
تبدأ الطريق المعروفة الآن «بطريق الفرما» من القنطرة شرقي ترعة السويس، فتتبع فرع النيل البليوسي الذي جف شمالًا بشرق إلى قرب مصبه بالبحر المتوسط عند رأس بحيرة بردويل الغربي، ثم تدخل شرقًا في ذراع مرتفعة من البرِّ بين بحيرة بردويل والبحر المتوسط إلى أن تخرج من البحيرة، فتتبع شاطئ البحر إلى ميناء رفح، وهذه أقدم طرق مصر إلى سوريا، وقد كانت قديمًا عامرة بالمدن والحصون والأبراج، فلما جف الفرع البليوسي خربت المدن والحصون خرابًا تامًّا، وفُتِحت طريق البر المعروفة «بطريق العريش»، وقل استعمال طريق الفرما، ثم بتقدم الملاحة قلَّ استعمال طريق العريش أيضًا كما سيجيء، وأشهر الخرائب الباقية إلى الآن على طريق الفرما أو التي تنحرف عنها قليلًا: «التل الأحمر، تل حَبوَة، تل هُرُبَّة، تل الحير، تل الفضة، تل الذهب، المحمدية، قلعة الطينة، قلعة مفرَّج، الفرما، تل القلس، الفلوسيات، الخوَينات، اليزَك، عسلوج.»
التلُّ الأحمر
أمَّا التل الأحمر، فعلى نحو ميلين شرقي القنطرة على يمين المسافر، سُمِّي كذلك؛ لأن عليه خرائب متسعة من القرميد الأحمر، وعليه كثير من الحجارة الأثرية والعمد، قيل وفيه خرائب هيكل من بناء ستي الأول ورعمسيس للإله «هورس»، وبقايا معسكر روماني، وجد فيه بعض البحَّاثين كتابة باللاتينية للإمبراطورين ديوقليشيان ومكسيميان.
مررتُ بهذا التل سنة ١٩٠٧، فرأيت عليه حجرًا هيروغليفيًّا مطمورًا بالرمال، وحجر طحن كبير من الغرانيت الأسود، ورأيت في شرق القنطرة على نحو ميل من الترعة حجرًا كبيرًا من الصوان الأحمر، له أربعة أوجه ملأى بالكتابة الهيروغليفية، قيل نقله إليها الموسيو ده لسبس فاتح الترعة في زمن المغفور له سعيد باشا بقصد أخذه إلى فرنسا، وقد دفعت الحكومة الفرنساوية ستة آلاف جنيه ثمنًا له، فرفضت الحكومة المصرية بيعه، فبقي في القنطرة إلى أن نقلته شركة الترعة إلى حديقتها بالإسماعيلية في أكتوبر سنة ١٩٠٩، وفي يونيو سنة ١٩١١ كان إسماعيل أفندي المفتي مهندس المحافظة سابقًا يفتش في جوار التل الأحمر عن حجارة للبناء، فعثر على جبَّانة قديمة دلَّ عليها مصلحة الآثار المصرية، فوجدت فيها توابيت من الحجر عليها كتابة بالهيروغليفية، وقد نقلت بعضها إلى المتحف المصري بالقاهرة.
تل حَبْوَة
أمَّا تل حبوَة ففي طريق العريش على يمين المسافر بطريق الفرما، وعلى نحو ساعة ونصف ساعة شرقي القنطرة، وعليه خرائب برج حديث بالطوب الأحمر.
تل هُرُبَّة
في طريف الفرما على نحو ساعة ونصف ساعة من التل الأحمر، وعليه خرائب قلعة قديمة بالحجر المقصوب، لم يبقَ ظاهرًا منها إلَّا أساسها.
تل الحِيْر
على طريق الفرما، على نحو ساعة وربع ساعة من تل هُرُبَّة، وهناك خرائب قلعة عظيمة ومنازل بالطوب الأحمر من الأجيال الوسطى.
تل الفضة
على طريق الفرما، على نحو ساعة ونصف ساعة من تل الحير، وفي جواره «تل الذهب»، وعلى كل منهما خرائب برج وأبنية قديمة.
المحمدية
وهي خرائب مدينة فخمة قديمة العهد، مبنية بالحجر المنحوت والطوب الأحمر على شاطئ البحر المتوسط، على نحو ساعة وثلثي الساعة من تل الفضة، وهناك قصر جميل بحمامات على أجمل طرز قائم على تل مرتفع، وجبَّانة شمالي التل فيها قبور كثيرة حسنة الصنع، وقد تحوَّل البحر على تلك الخرائب، فغمر أكثرها ولا يزال يحمل على الباقي.
قلعة الطينة
أمَّا قلعة الطينة فقائمة على فم الفرع البليوسي، على نحو ساعتين غربي المحمدية، وأقل من ساعتين شمالي تل الفضة، وبينها وبين تل الفضة خرائب الفرما الآتي ذكرها، وهي من بناء الأجيال الوسطى، وقد بقيت عامرة تخفرها العساكر إلى عهد قريب، وقد عثرت على كتاب مع بعض أهل العريش مؤرخ ١٢ ذي الحجة سنة ١١٤٠ﻫ/٢٠ يوليو سنة ١٧٢٨م، يستدلُّ منه أنَّ الطينة كانت في ذلك التاريخ عامرة بالعساكر، ويستدلُّ مما كتبه المستر وِتْمن الذي رافق الجيش العثماني لإخراج الفرساويين من مصر في أوائل القرن الغابر أنَّ قلعة الطينة كانت لا تزال عامرة وفيها حامية، والذي يعلمه أهل العريش أنَّ حاميتي قَطْيَة والطينة نقلتا من عهد غير بعيد إلى قلعة العريش، ثم ألغيت قلعة العريش حوالي سنة ١٨٤٠ كما مرَّ.
قلعة مُفرِّج
ويقال لها أيضًا قلعة البلَّاح، على نحو ساعتين غربي قلعة الطينة، في طريق بورسعيد من الفرما، وهي قائمة على فم فرع النيل المعروف بطِيتَنِك الذي جفَّ، وهي الآن مهجورة كقلعة الطينة.
الفَرَما
وهي خرائب مدينة متسعة وقلعة عظيمة مبنية بالطوب الأحمر والحجارة المنحوتة والعمد الغرانيتية، واقعة على ضفة الفرع البليوسي اليمني بالقرب من مصبه بالبحر المتوسط، وهذا الفرع قد جفَّ من عهد بعيد، وهي مرتفعة قليلًا عن الطريق المنسوبة إليها الآن على نحو ميلين من تل الفضة شمالًا، ومثل ذلك من قلعة الطينة جنوبًا، وعلى نحو ساعتين من المحمدية، وست ساعات من بورسعيد بسير الإبل، وكانت قديمًا من أشهر مدن مصر البحرية وأكثرها عمارة، وكانت عرضةً لغارات الأمم المهاجمة برًّا وبحرًا؛ لوقوعها على شاطئ البحر المتوسط، وأقصى فروع النيل الشرقية، وقد طالما وقف ملوك مصر فيها لرد هجمات الغزاة من الآشوريين والفرس والسوريين والعرب والصليبيين الإفرنج كما سيجيء بالتفصيل، ويدل تاريخ هذه المدينة أنها عريقة جدًّا في القدمية، وأنَّ أهلها الأصليين كانوا من البحَّارة الفينيقيين، وأنَّ بسامتيك الأول (٦٦٤ق.م) استخدم لحمايتها مسترزقة اليونان، وأقطعهم أرضًا بالقرب منها، وكان لهم في البحر مرافئ لمراكبهم، ولعلَّ الأرض التي أقطعهم إياها هي في موضع خرائب المحمدية المتقدم ذكرها.
وظن بعض المحققين أنها «سين» المذكورة في سفر حزقيال النبي الذي بدأ نبوته في بابل سنة ٥٩٤ق.م (ص٣٠ عد١٥): «وأسكب غضبي على سين حصن مصر، وأستأصل جمهور نو، وأضرم نارًا في مصر، سين تتوجَّع توجُّعًا ونو تكون للتمزيق.»
هذا وقد عرفت عند اليونان باسم بلوسيوم، وإليها نسب فرع النيل القائمة عليه كما مرَّ، وعرفت عند القبط باسم فرومي، ومنه أخذ العرب اسم الفرما، وهو الاسم المعروفة به إلى هذا اليوم، قيل وإنها وطن بطليموس الفلكي الشهير، وإنه كان في شرقيها قبر بمبيوس الذي أقام عمود السواري بالإسكندرية، وفي تاريخ الكنيسة أنه قد تنسك فيها القديس أبيماخس الشهيد، ثم انحدر إلى الإسكندرية في عهد الإمبراطور داكيوس، فقبض عليه أبليانوس الحاكم وقتله سنة ٢٥١ب.م، وفي عهد الإمبراطور ثيودوسيوس الثاني (٤٠٩–٤٥٠ب.م) قام فيها عالم من علماء النصرانيَّة يدعى إيسودورس، فكتب عدة مقالات في الدين، وجهها إلى أعدائه وأحِبَّائه.
وفي طريق الفرما سار عمر بن العاص لفتح مصر سنة ١٩ﻫ/٦٤٠م، فنزل العريش ثم أتى الفرما، وبها على رواية البلاذري المتوفى سنة ٢٧٩ﻫ/٨٩٢م قوم مستعدون للقتال، فحاربهم فهزمهم وحوى عسكرهم، ومضى إلى الفسطاط، والفرما كان حصنًا على ضفة البحر، يُحمَل إليه ماء النيل بالمراكب من تنيس، ويخزن أهله ماء المطر في الجباب، وكان بعض أهله قبطًا وبعضهم من العرب، وقد ورد ذكره كثيرًا في شعر أهل القرون الأولى، وفي الفرما أرق الخليفة المأمون رضي الله عنه لما سار إلى مصر، فبات فيها، وقد ذكر بغداد ونعيمها وقصورها فقال:
وهي التي عناها أبو نواس بقوله:
وذكر المقريزي الفرما قال: «قال البكري: الفرما، بفتح أول وثانيه ممدود على وزن فعلاء وقد يقصر، مدينة تلقاء مصر. وقال ابن خالويه في كتاب ليس: الفرما هذه سميت بأخي الإسكندر، وكان يسمى الفرما، وكان كافرًا، وهي قرية أم إسماعيل بن إبراهيم» ا.ﻫ. ويقال اسمه الفرما بن فليقوس، ويقال فيه فليس، ويقال بليس، وكانت الفرما على شط بحيرة تنيس، وكانت مدينة حصينة، وبها قبر جالينوس الحكيم، وبنى بها المتوكل على الله حصنًا على البحر، تولى بناءه عنبسة بن إسحاق أمير مصر في سنة تسع وثلاثين ومائتين ﻫ/٨٥٣م عندما بنى حصن دمياط وحصن تنيس، وأنفق فيها مالًا عظيمًا، ولما فتح عمر بن العاص عين شمس أنفذ إلى الفرما إبرهة بن الصباح، فصالحه أهلها على خمسمائة دينار هرقليًّا وأربعمائة ناقة وألف رأس من الغنم، فرحل عنهم إلى البقارة، وفي سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة/٩٥٤م نزل الروم عليها، فنفر الناس إليهم وقتلوا منهم رجلين، ثم نزلوا في جمادى الأولى سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ﻫ/يونيو ٩٦٠م، فخرج إليهم المسلمون، وأخذوا منهم مركبًا، وقُتل من فيه، وأسروا عشرة، وقال اليعقوبي: الفرما أول مدن مصر من جهة الشمال، وبها أخلاط من الناس، وبينها وبين البحر الأخضر ثلاثة أميال، وقال ابن الكندي: ومنها الفرما، وهي أكثر عجائب وأقدم آثارًا من غيرها، ويذكر أهل مصر أنه كان منها طريق إلى جزيرة قبرص في البرِّ، فغلب عليها البحر، ويقولون: إنه كان فيما غلب عليه البحر مقطع الرخام الأبلق، وأنَّ مقطع الأبيض بلوبية.
وقال يحيي بن عثمان: «كنت أرابط في الفرما، وكان بينها وبين البحر قريب من يوم، يخرج الناس والمرابطون في أخصاص على الساحل، ثم علا البحر على ذلك كله.»
وقال ابن قديد: «وجَّه ابن المدبر — وكان بتنِّيس — إلى الفرما في هدم أبواب من حجارة شرقي الحصن احتاج أن يعمل منها جيرًا، فلما قُلع منها حجر أو حجران؛ خرج أهل الفرما بالسلاح، فمُنعوا من قلعها وقالوا: هذه الأبواب التي قال الله فيها على لسان يعقوب — عليه السلام: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ، والفرما بها النخل العجيب الذي يثمر حين ينقطع البسر والرطب من سائر الدنيا، فيبتدئ هذا الرطب من حين يلد النخل في الكوانين، فلا ينقطع أربعة أشهر حتى يجيء البلح في الربيع، وهذا لا يوجد في بلد من البلدان لا بالبصرة، ولا بالحجاز، ولا باليمن، ولا بغيرها من البلدان، ويكون في هذا البسر ما وزن البسرة الواحدة فوق العشرين درهمًا، وفيه ما طول البسرة نحو الشبر والفتر.»
وقال ابن المأمون البطايحي في حوادث سنة تسع وخمسمائة/١١١٥م: «ووصلت النجابون من والي الشرقية تخبر بأن بغدوين ملك الفرنج وصل إلى أعمال الفرما، فسيَّر الأفضل ابن أمير الجيوش للوقت إلى والي الشرقية بأن يسير المركزية والمقطعين بها، وسير الراجل من العطوفية، وأنْ يسير الوالي بنفسه بعد أن يتقدم إلى العربان بأسرهم بأن يكونوا في الطوالع ويطاردوا الفرنج ويشارفوهم بالليل قبل وصول العساكر إليهم، فاعتمد ذلك ثم أمر بإخراج الخيام وتجهيز الأصحاب والحواشي، فلما تواصلت العساكر وتقدمها العربان وطاردوا الفرنج، وعلم بغدوين ملك الفرنج أنَّ العساكر متواصلة إليه، وتحقق أنَّ الإقامة لا تمكنه أمر أصحابه بالنهب والتخريب والإحراق وهدم المساجد، فأحرق جامعها ومساجدها وجميع البلد، وعزم على الرحيل، فأخذه الله — سبحانه وتعالى — وعجَّل بنفسه إلى النار، فكتم أصحابه موته، وساروا بعد أن شقوا بطن بغدوين وملئوه ملحًا حتى بقي إلى بلاده، فدفنوه بها، وأمَّا العساكر الإسلامية فإنهم شنُّوا الغارات على بلاد العدو، وعادوا بعد أن خيَّموا على ظاهر عسقلان …
وبلغ المنفق في هذه النوبة على ذهاب بغدوين وهلاكه مائة ألف دينار.
وفي شهر رجب سنة خمس وأربعين وخمسمائة/أكتوبر ١١٥٠م نزل الفرنج على الفرما في جمع كبير وأحرقوها ونهبوا أهلها، وآخر أمرها أنَّ الوزير شاور خربها لما خرج منها متوليها ملهم أخو الضرغام (حوالي سنة ٥٦٠ﻫ/١١٦٥م) فاستمرت خرابًا لم تعمر بعد ذلك. وكان بالفرما والبقارة والورَّادة من عرب جذام يقال لهم القاطع …
وقال ابن الكندي: وبها مجمع البحرين وهو البرزخ الذي ذكره الله — عز وجل — فقال: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ، وقال: وجعل بين البحرين حاجزًا، وهما بحر الروم وبحر الصين، والحاجز بينهما مسيرة ليلة ما بين القلزم والفرما، وليس يتقاربان في بلد من البلدان أقرب منها بهذا الموضع، وبينهما في السفر مسيرة شهور.» ا.ﻫ.
تل القلس
أمَّا تل القلس فهو كثيب عظيم من الرمال، على نحو سبع ساعات إلا ربعًا من المحمدية، وهو يمتد نحو ميلين على شاطئ البحر، ويعلو نحو ثمانين قدمًا عن سطح البحر، وفي شرقيه خرائب بلدة قديمة طمرتها الرمال، أخبرني البدو أنهم وجدوا فيها قطعًا كثيرة من النقود والفُسيفساء، وفي وسط التل تجويف عظيم فيه بئر عذبة الماء أعلى من سطح البحر، ويسكن القلس الآن بعض العرب الأخارسة بخيامهم، ولهم فيه بعض نخيل.
الفلوسيَّات
أمَّا الفلوسيَّات فهي خرائب بلدة قديمة مبنية بالحجر المنحوت على نحو سبع ساعات شرقي القلس، ونحو نصف ساعة إلى الجنوب من فم بحيرة الزرانيق، وفيها وجد أهل البلاد كثيرًا من النقود النحاسيَّة أو الفلوس، وهذا على الأرجح سبب تسميتها بالفلوسيات، والظاهر مما كتبه مؤرخو العرب أنها خرائب بلد الورَّادة.
قال المقريزي تحت عنوان «أرض الجفار»: «اعلم أن الجفار اسم لخمس مدائن وهي: الفرما، والبقارة، والورادة، والعريش، ورفح، والجفار كله رمل، وسمي بالجفار؛ لشدة المشي فيه على الناس والدواب من كثرة رمله وبعد مراحله، والجفار تجفر فيه الإبل، فاتخذ له هذا الاسم، كما قيل للحبل الذي يعقل به البعير عقال، واشتقت البقارة من البقر، والورادة من الوريد، والعريش أخذ من العرش، وقيل إنَّ رفح اسم جبل.» ا.ﻫ.
وقال المقريزي تحت عنوان «بلد الورَّادة»: «الورادة من جملة الجفار، قال عبيد الله بن عبد الله بن خرداويه في كتاب المسالك والممالك: وصفة الطريق والأرض من الرملة إلى أزدود اثنا عشر ميلًا، ثم إلى غزة عشرون ميلًا، ثم إلى العريش أربعة وعشرون ميلًا في رمل، ثم إلى الورَّادة ثمانية عشر ميلًا، ثم إلى أم العرب عشرون ميلًا، ثم إلى الفرما أربعة وعشرون ميلًا، ثم إلى جرير ثلاثون ميلًا، ثم إلى القاصرة أربعة وعشرون ميلًا، ثم إلى مسجد قضاعة ثمانية عشر ميلًا، ثم إلى بلبيس أحد وعشرون ميلًا، ثم إلى الفسطاط مدينة مصر أربعة وعشرون ميلًا.» وقال جامع تاريخ دمياط: «ولما افتتح العرب المسلمون الفرما بعد ما افتتحوا دمياط وتنيس، ساروا إلى البقَّارة، فأسلم من بها، وساروا منها إلى الورَّادة فدخل أهلها في الإسلام وما حولها إلى عسقلان.» وقال القاضي الفاضل في متجددات شهر المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة/١١٧١م: «وصابحنا الورَّادة، فبتنا على ميناء الورَّادة ودخلنا الورَّادة، فرأيت تاريخ منارة جامعها سنة ثمانٍ وأربعمائة/١٠١٧م، واسم الحاكم بأمر الله عليها. والورَّادة من جملة الجفار، ويقال: أُخِذ اسمها من الورود، ولم يزل جامعها عامرًا تقام به الجمعة إلى ما بعد السبعمائة/١٣٠٠م، وبلد الورَّادة القديمة في شرق المنزلة التي يقال لها اليوم الصالحية، وبها آثار عمائر ونخل قليل.» ا.ﻫ.
الخُوَينات
أمَّا الخوينات فهي خرائب بلدة قديمة، على نحو نصف ساعة جنوبي الفلوسيات، وهي في درب الطوايات من دروب العريش التي غمرتها حديثًا بحيرة البردويل المتقدم ذكرها.
قبر الساعي
وبجانبها قبر يدعى قبر الساعي، رُوي أنه كان في الخوينات ساعٍ شُغف بحب بنت من أهل قريته، تدعى عائشة، وأبت أن تتزوجه إلَّا إذا أتاها «بزلابية سخنة» من غزَّة، فذهب إلى غزة واشترى الزلابية وعاد مسرعًا إلى حبيبته، وكان كلما سار شوطًا يجسُّ الزلابية فيجدها ساخنة، وبقي حتى أشرف على البلدة فجس الزلابية فوجدها باردة، فاغتمَّ لذلك وسقط في الأرض ميتًا، فدفنوه في مكانه، وجعلوا فوق قبره رجمًا من الحجارة، ومن ذلك الوقت كلما مرَّ مسافر بالقبر رماه بحجر وقال:
تل اليزك
وعلى نحو خمس ساعات ونصف ساعة من الفلوسيات تل اليزَك، القائمة عليه قبة النبي ياسر، وعلى مثل هذه المسافة من تلِّ اليزَك شمالًا مطلَّة الشيخ زويد، وقد مرَّ ذكرهما، وقد كان في شمالي تلِّ اليزك بلدة صغيرة قديمة العهد طمرتها الرمال فكشفها الموسيو كليدا، من رجال شركة القنال، المولج بالبحث عن الآثار في شهر فبراير سنة ١٩١٣، فوجد بعض الغرف قد بُلِّطت بالفسيفساء، ورُسِم بها صورة ملكة تحتها أربعة أسطر باللاتينية، وبجانب البلدة مقبرة مبنية بالحجر المنحوت فيها ١٢ قبرًا في صفين، في كل صف ستة قبور، وللمقبرة سور متين من حجر.
عسلوج
أمَّا عسلوج فعلى شاطئ البحر، على نحو ساعة إلَّا ربعًا شمالي مطلة الشيخ زُويد، وهناك بئر حديثة العهد تدعى بئر عسلوج، وبجانبها تلة عليها خرائب مدينة قديمة العهد، بناؤها بالطوب النيء والمحرق، والحجارة المنحوتة والرخام، وقد وجدت على تلك التلة كثيرًا من النقود النحاسية الرومانية والبيزنتية والإسلامية، وكثيرًا من كسر آنية الزجاج الأخضر المطلي بالذهب والفضة، والمسامير الحديدية الضخمة كالتي تستعمل في البوابات العظيمة، ووجدت مثل ذلك على تل ميناء رفح على نحو ساعتين شمالي عسلوج، وعلى غيره من التلال بين رفح والفرما.
قال أيوب سالم — من سكان الشيخ زويد — وهو مصدِّق ما يقول: «كانت هذه البلاد تسمى مدائن الزعقات، والسبب في وجودها على رءوس التلال أنه لم يكن البحر المتوسط من قبل، وكانت أرضه عامرة ملأى بالمدن والقرى، وكلها خاضعة للملكة هيلانة، فوقعت حرب بينها وبين الإسكندر وأخذته أسيرًا، فتوسل إليها أن تطلقه من الأسر، فقالت: إذا أنا أطلقتك عدت إلى محاربتي، فأقسم لها بشرفه ألا يعود إلى محاربتها، ولما أطلقته ذكر ذله في أسرها، فهاجت الذكرى في نفسه روح الانتقام، ولم يكن شرفه يسمح له بنقض العهد وإشهار الحرب عليها، فذهب إلى سد المحيط وفتح فيه ثغرة «وهي بوغاز جبل طارق»، فغمر بلاد الملكة هيلانة، وكان البحر المتوسط! وفرَّت الملكة هيلانة ببعض رعاياها من وجه الماء وعمَّرت هذه المدن على التلال، وسكنتها إلى أن أراد الله خرابها، فخربت»!
(ب) على طريق العريش
أمَّا الآثار الباقية على طريق العريش، فأشهرها مبتدأ من القنطرة: «التل الأحمر، تل حبوة، قَطْيَة، تل أبو مزروع، رجم البردويل، خربة العشوش، الخروبة، المكسر، الشيخ زويد، رفح»، وقد تقدم الكلام عليها كلها إلَّا «تل أبو مزروع، وخربة العشوش، ورجم البردويل، والخروبة، والمكسر.»
وجاء في خطط المقريزي تحت ذكر «مدينة حطين»: «هذه المدينة آثارها إلى اليوم باقية فيما بين حبوة والعاقولة بأرض العاقولة، فيما بين القَطْيَة والعريش تجاهها بميل ماء عذب تسميه العرب أبا العروق، وهو شرقيها، وهذه المدينة تنسب إلى حطين، ويقال له: حطي ابن الملك أبي جاد المديني، وأهل قَطْيَة اليوم يسمون تلك الأرض ببلاد حطين والجفر، وملَكَ حطين هذا أرض مصر بعد موت أبيه، وكان صاحب حرب وبطش، وكان ينزل بقلعة في جبال الأردن قريبًا من طبرية، وإليه تنسب قرية حطين التي بها الآن قبر شعيب بالقرب من صفَد.» ا.ﻫ.
تل أبو مزروع
أمَّا تل أبو مزروع فإنه تل مرتفع يطل على البحر في «طريق العريش الوسطانية» على نحو أربع ساعات إلَّا ربع ساعة غربي العريش، وعليه خرائب برج قديم.
خربة العشوش
وتعرف أيضًا «بخربة البردويل»، وهي خرائب بلدة قديمة في «طريق العريش السلطانية» على نحو عشرة أميال غربي مدينة العريش.
رجم البردويل
أمَّا رِجم البردويل فعلى تل صغير يبعد نحو عشرة أميال غربي العريش في «طريق العريش الوسطانية»، ونحو نصف ساعة شمالي خربة البردويل، قيل إنَّ البردويل محرفة عن بلدوين أو بغدوين كما عرَّبه كتاب العرب، وإنَّ بلدة البردويل ورجم البردويل وبحيرة البردويل، منسوبة إلى الملك بلدوين الأول من ملوك الصليبيين الذي ملك القدس سنة ١١٠٠م، وفي تاريخ مصر أنَّ هذا الملك غزاها وعاد عنها خائبًا، فمات في الطريق سنة ١١١٨م، فأخرجوا أمعاءه، ثم حنطوا جثته وحملوها إلى القدس ودفنوها هناك بجانب جثة أخيه «جود فري» أول ملوك القدس، وقد أشار المقريزي إلى ذلك في كلامه عن الفرما كما مرَّ.
وعلى نحو ميلين غربي رجم البردويل حُفَر صغيرة في وسط الطريق، بين الحفرة والأخرى نحو مترين، قد خطَّ حذائها تلم في الأرض، وفي تقاليد البدو أنَّ رجم البردويل هذا هو قبر البردويل ملك البلدة المجاورة المنسوبة إليه، قتله أبو زيد الهلالي، وقالوا في تفصيل ذلك: «إنَّ بني هلال لما رحلوا من نجد قاصدين بلاد المغرب ومعهم فارسهم وعقيدهم أبو زيد الهلالي، مرُّوا ببلدة البردويل، وكان عليها ملك يدعى البردويل بن راشد، وكان لهذا الملك طاقية إذا لبسها في الحرب اختفى عن عيون مقاتليه، فلما مرَّ بنو هلال صارعه كثير من فرسانهم فصرعهم، وكان من عادة أبي زيد أنه لا يقاتل أحدًا إلَّا إذا عجز فرسان قبيلته عن قهره، فانبرى له، وكان قد علم أنَّ سر قوته في طاقيته، فصارعه سبعة أيام متوالية، وهو يحاول خطف طاقيته عن رأسه فلم يفلح، وكان للبردويل بنت بديعة الجمال تشاهد القتال من قصرها، فأعجبتها بسالة أبو زيد ووقع حبه في قلبها، فسرقت من أبيها طاقيته المسحورة وأعطته طاقية أخرى، فلما نزل لمصارعة أبي زيد في اليوم التالي طعنه أبو زيد بالرمح، فخرَّ قتيلًا بجانب ذلك التل، فدفنوه عليه وجعلوا الرجم على قبره، وفيما هو يطارده رسم رمحه وفرسه التلم والحفر التي في جواره، ومن ذلك اليوم لا يمرُّ أحد بتلك الجهة إلَّا أحيا الحفر ورمى الرجم بحجر، قالوا: ومن مرَّ بهذا الأثر ولم يفعل ذلك وجبت عليه اللعنة، وهذا هو السبب في بقاء هذا الأثر إلى اليوم.»
الخرُّوبة
أمَّا الخرُّوبة فموضع في منتصف الطريق بين العريش ورفح، وفيه أراضٍ متسعة صالحة للزراعة، وهناك خرائب برج قديم مبني بالحجر المنحوت وبجانبه بركة متسعة، والظاهر أنه كان محطة للبريد في الأجيال الوسطى، وأنه كان هناك قديمًا خرُّوبة فتسمَّى بها، مررت بهذا الموضع في ١٠ سبتمبر سنة ١٩٠٦، فوجدت فيه رجلًا من متسببي العرايشية قد نصب خيمةً جعل فيها كل ما يلزم البدو من مأكول وملبوس، وقد صاد مئات من السمَّان جعلها في أقفاص من الجريد، وكان يطعمها الذرة ويبيعها الاثنتين بغرش صاغ.
المكسر
وعلى نحو نصف ساعة من الخروبة في الطريق إلى رفح «المكسر»، وهو موضع خلاء، وفيه كسر الترابين السواركة في واقعة دموية شهيرة سنة ١٨٥٦ كما سيجيء، ومن ذلك اسمه، ومن هذا الموضع طريق تتجه غربًا، فتخترق كثبان الرمال إلى بئر على شاطئ البحر تدعى بئر المصيدة.
(ﺟ) على الدرب المصري
ومن الأماكن الأثرية على الدرب المصري الآتي من غزة بطريقة المقضبة إلى السويس والإسماعيلية: «نقع شبانة، وصنع المنيعي، وحجر السواركة، والبواطي.»
نقع شبانة
أمَّا نقع شبانة فبئر قديمة العهد مبنية بالحجر المنحوت على ١٢ ميلًا إلى الجنوب الشرقي من رفح، وهي الآن ملك جمعة العوَضات من السواركة، اشتراها من الترابين الذين اكتسحوا هذه البلاد وأخذوها بالقوة من أهلها الرتيمات كما سيجيء، والبئر زَعِقة الماء بعيدة الرشاء كبئر الرُّطيل، قال صاحبها: «عمقها ٤٤ قامة، وقد كانت مردومة فطهرتها، فوجدت ماءها ملحًا جدًّا لا يصلح للشرب فأهملتها»، وقد رأيت على فم البئر بكرة بين عمودين من الخشب، ورأيت أثر أقدام الإبل التي كانت تستخدم لنشل الماء منها على نحو ما وصفناه في بئر لحفن، وقد تحققت عمق البئر من طول ذلك الأثر، وأمَّا «بئر الرُّطيل» في شمال الجورة المار ذكرها، فقد كان عمقها ٢٢ باعًا قبل التطهير، وبعد تطهيرها في عهد محافظ سيناء الأسبق ظهر الماء فيها على عمق ٨٠ مترًا.
صنع المنيعي وحجر السواركة
أمَّا صنع المنيعي فهو بركة صناعية في طريق السيل على نحو ٣ ساعات بسير الهجن جنوبي رفح، وعشر دقائق من الجورة، صنعها رجل من السواركة، وقيل من الرتيمات، يدعى المنيعي فنُسبت إليه، وفي منتصف المسافة بين صنع المنيعي والجورة: «حجر السواركة» وهو حجر طباشيري طوله أقل من ذراع، عليه وسم السواركة هكذا: «—||»، وبجانبه حجر أصغر منه عاطل لا وسم عليه، قيل كان عليه وسم الرتيمات حلفاء السواركة في القديم، ولأهل البلاد رواية تقليدية في ذلك، قالوا: عصى المنيعي الدولة، فطارده بعض فرسانها، وكان المنيعي راكبًا فرسًا سبوقًا، فعجز الفرسان عن اللحاق به، فسأله أحدهم وهو جادٌّ في أثره: ما أصل هذا الفرس يا عربي؟ فأجابه هازئًا: «شعير يا جندي»، قالوا: ولما كان كتم أصل الأصائل من الشؤم أفل سعد الفرس، وللحال خفَّ جريها، فأدركه الفارس وقتله في هذا الموضع، ونصب السواركة هذا الحجر دلالة على مقتله، ومن هذا الحجر شمالًا إلى بئر رفح درب شهيرة تدعى «درب الحجر» نسبة إليه.
البواطي
وأمَّا البواطي فعلى الدرب المصري على نحو نصف ساعة جنوبي الجورة، وهي دوائر مرسومة في أرض صلبة وسط الطريق، تشبه البواطي حجمًا وشكلًا، ومن ذلك اسمها، وكلما طمرت الرمال هذه الدوائر أحياها العرب، ولكن ليس أحد منهم يعرف لها أصلًا.
هذه هي أهمُّ آثار العريش عدا الآثار التي مرَّ ذكرها في الفصول السابقة، وأهمها، خربة الرطيل في شمال الجورة، ورجم القبلين، وبئر لحفن، وقلعة لحفن على وادي العريش، والقلعة الرومانية في جبل المغارة.
(د) بلدة القنطرة
القنطرة بلدة صغيرة في طريق العريش على شاطئ الترعة الشرقي، على نحو ٣٣ كيلومترًا من الإسماعيلية، و٤٥ كيلومترًا من بورسعيد، وفيها نحو ٢٠٠ بيت وبعض الجنان، أنشأ هذه البلدة في أثناء فتح الترعة تجار ومتسببون من غزة والعريش والصالحية، وغيرها من مدن الوجه البحري، فبنوا فيها أولًا أكواخًا خشبية، وأقاموا فيها يبيعون أنواع المأكولات والملبوسات والحبوب على عمَّال الترعة والبدو وعابري السبيل، ثم بنوا المنازل بالطوب النيء، وسكنوها إلى اليوم، وعدد سكانها الآن (سنة ١٩١٤) ٧٥٠ نفسًا، وقد كانوا ٤٨٨ نفسًا في سنة ١٩٠٧ كما مرَّ.
وفيها سوق صغيرة تشمل ١٦ تاجرًا من تجار المانيفاتورة والحبوب والعطارة والبقالة، وفيها خمارتان للأروام، وأربع قهوات بلدية وستة جزارين، وأكبر تجارها الشيخ صالح جويد من أهالي غزة، قيل جاء بأربعين كيس دقيق فأصبح الآن من كبار الأغنياء، وفي السوق جامع بمنارة يسع نحو ٥٠٠ نسمة مبني بالطوب النيء والأخشاب، بنته نظارة الأوقاف المصرية في أوائل سنة ١٨٩٩ بعد تشريف سمو الخديوي الحالي الحدود، وكان من قبل مبنيًّا بالأخشاب، وفي البلدة مدرسة أهلية يحضرها نحو ٣٠ تلميذًا من الصبيان والبنات يعلِّمهم فقيه من سكان البلدة.
وفي ضاحية البلدة «محجر للحيوانات» التي يؤتى بها من سوريا للاتجار في مصر، ومأمور المحجر الحالي الدكتور حسين بك كامل، من نبلاء المصريين.
وماء القنطرة من الترعة الإسماعيلية النيلية، تجرها إليها شركة القنال بأنابيب من حديد تحت الترعة الملحة، وقد جعلت حنفية عمومية شرقي البلدة يستقي منها الأهلون مجانًا، وأمَّا المياه التي يجرونها إلى منازلهم ويسقون بها جنانهم فيشترونها بثمن بخس جدًّا.
والقنطرة تابعة في الإدارة محافظة بورسعيد كما مرَّ، وفيها ضابط بوليس يرجع بأحكامه إليها، وقد بنت له ولكاتبه حديثًا مركزًا شرقي البلدة فيه ثلاثة منازل، وأهل القنطرة خاضعون للقرعة العسكرية ولجميع الأحكام الجارية على مدن القطر المصري.
وفي القنطرة مأمور تابع لمحافظة سيناء يُلقَّب «مأمور ترحيلات الحربية»، يلبي طلباتها، ويسهل أسباب السفر لموظفيها، وأول مأمور سمته للقنطرة، هو النشيط أسعد أفندي عرفات السالف الذكر، سمته سنة ١٩٠٦، وفي سنة ١٩١٢ بنت له دارًا يسكنها شرقي البلدة، وبنت بجانبها مكتبًا للإدارة، وغرفتين لاستراحة الموظفين المسافرين، وشركة الترعة تسعى لنقل البلدة كلها شرقًا؛ لتتمكن من توسيع الترعة.
وفي برِّ القنطرة الغربي جمرك لجمع الرسوم على الإبل والخيل والأغنام التي ترد من سوريا بطريق البرِّ، وقد كان هذا الجمرك في البر الشرقي، فنقل حديثًا إلى بناء جميل في البرِّ الغربي، وفي هذا الشاطئ مبتدأ من الجنوب، محطة سكة الحديد الآتية من الإسماعيلية ومصر، ومكتب البوسطة والتلغراف، فمكاتب ومساكن عمال شركة الترعة بالقنطرة، فمكتب لغفر السواحل، فمساكن لناظر محطة السكة الحديد، وضابط غفر السواحل، وعمال السكة الحديد، فمدرسة أميرية لأولاد موظفي الحكومة، فيها ٢٧ تلميذًا، فالجمرك الآنف الذكر، ويصل بين البرين «كوبري» متحرك مرَّ ذكره.
(ﻫ) مدينة العقبة
أمَّا مدينة العقبة فهي مدينة صغيرة في رأس خليج العقبة، على نحو ١٩٠ ميلًا من السويس بطريق البحر، و١٥٠ ميلًا بطريق البرِّ، وهي مدينة حديثة العهد قائمة على أنقاض مدينة أيلة الشهيرة، فيها قلعة قديمة، ونحو مائة كوخ مبنية بالحجر الغشيم والطين، يسكنها نحو ٣٥٠ نفسًا من متخلفي العساكر الذين كانت مصر ترسلهم لحماية القلعة، وينتابها مشايخ الحويطات العلويين، والبلدة قائمة على تلة وسط حديقة متسعة من النخيل، تمتد شمالًا وجنوبًا على شاطئ الخليج مسافة ميل أو أكثر، وفي البلدة والحديقة آبار عذبة الماء، يزرع عليها أنواع الخضر، كالبامية، والملوخية، والباذنجان، والطماطم ونحوها، ويمكن زرع الذرة والزيتون والنيلة والقطن؛ لأن التربة خصبة والماء كثير.
وقد دخلت العقبة في حدِّ الحجاز كما مرَّ، وعظم شأنها بعد حملة الدولة الأخيرة على اليمن، فصارت محطة للعساكر، ومُدَّ إليها خط التلغراف من معان، فوصلها في مايو سنة ١٩٠٥، ومُدَّت سكة الحديد الحجازية من دمشق إلى المدينة، وكان في النية مد فرع إلى العقبة من معان، وكانت العقبة محطة من محطات الحج المصري أيام كانت طريق الحج تمر بسيناء، وكان حجاج جنوب سوريا يأتونها بدرب غزة، فيجتمعون فيها مع الحج المصري، ويجيء مع حجاج سوريا نفر من التجار، ومعهم الحبوب وأنواع الفاكهة والخضر والمأكولات؛ بقصد بيعها على الحجاج، ولكن انقطعت درب غزَّة بانقطاع درب سيناء، ولم يعد يمر بها سوى بعض تجار الإبل بين الحجاز والشام كما سيجيء.
(و) قلعة العقبة
أمَّا قلعة العقبة فقائمة في جنوب بلدة العقبة، لاصقة بها من جهة الشرق، وهي على نحو ٥٠ مترًا من شاطئ الخليج في سفح جبل عظيم يفصل خليج العقبة عن الحجاز، وفي منحدر هذا الجبل كان الحج المصري ينصب خيامه عند نزوله بالعقبة، وفيه تعسكر الآن جنود الدولة العلية عند مجيئها إليها.
والقلعة على مثال قلعة نخل، مربعة الشكل، مبنية بالحجر المنحوت، وكان على كل ركن من أركانها الأربعة برج، قد تهدم الآن، ولها بوابة عظيمة بقنطرة تفتح إلى الشمال الشرقي، يُدخل منها إلى صحن القلعة بدهليز عظيم معقود بالقناطر، وفي أول الدهليز عن يمين الداخل وشماله ديوانان مبنيان بالحجر، قد نقش على جدرانهما وواجهة البوابة بأحرف ناتئة كبيرة اسم باني القلعة ومرممها، أمَّا باني القلعة فهو السلطان قانصوه الغوري، الملك الذي قبل الأخير من ملوك دولة المماليك الثانية على مصر، سنة ١٥٠١ إلى سنة ١٥١٦، وأمَّا مرممها فهو السلطان مراد الثالث سنة ١٥٧٤–سنة ١٥٩٥م.
وقد قرأت على جدار الديوان الأيمن هذه العبارة: «أمر بإنشاء هذه القلعة المباركة السعيدة مولانا السلطان الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري، سلطان الإسلام والمسلمين، قاتل الكفرة والملحدين، محيي العدل في العالمين …»
وفي واجهة القلعة على صدغي القنطرة حجران مستديران، نقش على كل منهما هذه العبارة: «لمولانا السلطان الملك الأشرف، مراد بن سليم خان، عزَّ نصره، جدَّد هذه القلعة»، وفي داخل البوابة إلى يسار الداخل حجران آخران مستديران، قد نقش على كل منهما هذه العبارة: «لمولانا السلطان مراد بن سليم عزَّ نصره، جدَّد هذه القلعة سنة ٩٩٦ﻫ/سنة ١٥٨٨م.»
وقد رأيت هذه القلعة سنة ١٩٠٦، فإذا بها متردمة وتحتاج إلى ترميم كثير، وفي داخلها مخازن للحبوب والذخائر، ومخبز للعساكر، وبئر بعيدة الرشاء، وشجرة سدر، وبقيت هذه القلعة بيد مصر، وعساكر مصر تحميها إلى أوائل سنة ١٨٩٢م، فسُلِّمت إلى الدولة العلية كما سيجيء.
قال صاحب كتاب «درر الفرائد» سنة ١٥٤٨م: «وبعقبة أيلة آبار منها في داخل الخان «القلعة» واحدة، ماؤها عذب سائغ، من بناء السلطان الغوري مع الخان، وفي الخارج بئران داخل نخل، وماؤها عذب، وهما منهل الحاج، وبئر خارج النخل حيث الفضاء، وماؤها دون ذلك، ويسمونها آبار العرب، وكل من أراد الماء فليحفر من الأرض مقدارًا قريبًا يرى الماء عذبًا أحسن من ماء الآبار، وتختلف الحفائر في العذوبة، فبعضها أحلى من بعض وأعذب، والله أعلم.» ا.ﻫ.
قلت: وكان صاحب الدرر — فيما نعلم — أوَّل من سمَّى المدينة «عقبة أيلة»، الاسم الذي عُرف به الجبل العظيم ذو العقبة الشهيرة غربيها، ثم أهمل اسم أيلة، وسُميت المدينة «العقبة»، وسُميت عقبة الجبل نفسها «نقب العقبة أو النقب»؛ لأن ملوك مصر نقبوا؛ أي مهَّدوا فيها طريقًا للحج المصري كما سيجيء في باب الطرق.
تاريخ مدينة أيلة
أمَّا مدينة أيلة التي على خرائبها قامت بلدة العقبة، فهي مدينة قديمة العهد جدًّا، وقد ورد ذكرها كثيرًا في التوراة:
جاء في سفر الملوك الأول ص٩ عد٢٦ في الكلام عن الملك سليمان الحكيم (سنة ١٠١٥–٩٧٥ق.م): «وعمل الملك سليمان سفنًا في عصيون جابر التي بجانب أيلة على شاطئ بحر سوف في أرض أدوم.»
وجاء في سفر الملوك الثاني ص١٤ عد٢٢ في الكلام عن عزريا ملك اليهود (سنة ٨١٠–٧٥٨ق.م) الذي في أيامه قام أشعيا النبي: «هو بنى أيلة واستردَّها ليهوذا.»
وجاء في ص١٦ عد٦ من السفر نفسه، في الكلام عن آحاز بن يوثام ملك يهوذا (٧٤١م–٧٢٥ق.م): «في ذلك الوقت أرجع رصين ملك آرام أيلة للآراميين، وطرد اليهود من أيلة، وجاء الآراميون إلى أيلة، وأقاموا هناك إلى هذا اليوم.»
ثم أخضعها النبطيُّون، فاليونان، فالرومان، وكانت في أيامهم بندرًا تجاريًّا مهمًّا، وصارت في صدر النصرانية مركز أبرشية، وحضر مطارنتها بعض المجامع الكنائسية، ثم آلت إلى الإسلام ولا زالت بيدهم إلى اليوم، وكان لها شأن في تاريخ الصليبيين، وقد ورد ذكرها كثيرًا في كتب مؤرخي العرب:
قال اليعقوبي: «ومدينة أيلة مدينة جليلة على ساحل البحر الملح، وبها يجتمع حاج الشام وحاج مصر والمغرب، وبها التجارات الكثيرة، وأهلها أخلاط من الناس، وبها قوم يذكرون أنهم موالي عثمان بن عفان، وبها برد حِبرَة، يقال: إنه برد رسول الله ﷺ يقال: إنه وهبه لرؤبة بن يَحُنَّه لما صار إلى تبوك.»
وعن كتاب أحسن التقاويم لشمس الدين المقدسي: «وفي أيلة تنازع بين الشاميين والمصريين والحجازيين، وإضافتها إلى الشام أصوب؛ لأن رسومهم وأرطالهم شامية.»
وعن كتاب معجم البلدان لياقوت الحموي: «أيلة بالفتح مدينة على ساحل بحر القلزم، مما يلي الشام، وقيل هي آخر الحجاز وأول الشام، قال أبو زيد: أيلة مدينة صغيرة عامرة، بها زرع يسير، وهي مدينة لليهود الذين حرم الله عليهم صيد السمك يوم السبت، فخالفوا فمسخوا قردة وخنازير، وبها في يد اليهود عهد رسول الله ﷺ وقال أبو المنذر: سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم — عليه السلام — وقال أبو عبيدة: أيلة مدينة بين الفسطاط ومكة على شاطئ بحر القلزم، تعد في بلاد الشام، وقدم يحنَّة بن رؤبة على النبي ﷺ من أيلة وهو في تبوك، فصالحه على الجزية، وقرر على كل حاكم بأرضه في السنة دينارًا، فبلغ ذلك ثلاثمائة دينار، واشترط عليهم قِرى من مرَّ بهم من المسلمين، وكتب لهم كتابًا أن يُحفَظوا ويُمنعوا، فكان عمر بن عبد العزيز لا يزداد على أهل أيلة عن الثلاثمائة دينار شيئًا، أمَّا تبوك فهي إلى الشرق من أيلة بميل إلى الجنوب، وهي على نصف المسافة بين المدينة ودمشق، وكانت هناك واقعة عظيمة بين المسلمين والروم في السنة التاسعة للهجرة، وقال أحيحة بن الحلاج يرثي ابنه:
وقال محمد بن الحسن المهلبي: «ومدينة أيلة جليلة على لسان من البحر الملح، وبها مجتمع حج الفسطاط والشام، وبها قوم يذكرون أنهم من موالي عثمان بن عفان، ويقال: إنَّ بها برد النبي ﷺ وكان قد وهبه ليحنة بن رؤبة لما سار إليه إلى تبوك، وخراج أيلة ووجوه الجبايات بها نحو ثلاثة آلاف دينار، وينسب إلى أيلة جماعة من الرواة منهم يونس بن يزيد الأيلي — صاحب الزهري — توفي بصعيد مصر سنة ١٥٢ﻫ/٧٦٩م، وإسحاق بن إسماعيل بن عبد الأعلى بن عبد الحميد بن يعقوب الأيلي، روي عن سفيان بن عيَينة وعن عبد المجيد بن عبد العزيز بن روَّاد حدَّث عنه النسائي، مات بأيلة سنة ٢٥٨ﻫ/٨٧٢م، وحسان بن أبان بن عثمان أبو علي الأيلي، وُلي قضاء دمياط، وكان يفهم ما يحدث به، وتوفي بها سنة ٣٢٢ﻫ/٩٣٤م.» ا.ﻫ.
وقال صاحب تقويم البلدان: «وأيلة كانت مدينة صغيرة، وكان بها زروع يسيرة، وهي على ساحل بحر القلزم، وعليها طريق حاج مصر، وهي في زماننا برج، وبه والٍ من مصر، وليس بها زروع، وكان بها قلعة في البحر فعطلت، ونقل الوالي البرج إلى الساحل.» ا.ﻫ. وعقب صاحب درر الفرائد (سنة ١٥٤٨م) على هذا فقال: «وقد استجد بها النخل الذي على ساحل البحر، وبعض حدائق بالوادي والساحل، وجميع ذلك لبني عطية الحويطات، وإنما لقبوا بذلك لما بنوه من بعض الحيطان على النخل.» ا.ﻫ.
وقال المقريزي في خططه: «ذكر ابن حبيب: إن أُثال بضم أوله ثم ثا مثلثة وادي أيلة، وأيلة بفتح أوله على ووزن فعلة، مدينة على شاطئ البحر فيما بين مصر ومكة، سميت بأيلة بنت مدين بن إبراهيم — عليه السلام — وأيلة أول حد الحجاز، وقد كانت مدينة جليلة القدر على ساحل البحر الملح، بها التجارة الكثيرة، وأهلها أخلاط من الناس، وكانت حد مملكة الروم في الزمن الغابر، وعلى ميل منها باب معقود لقيصر، قد كان فيه مسلَّحته يأخذون المكس، وبين أيلة والقدس ست مراحل، والطور الذي كلم الله عليه موسى — عليه السلام — على يوم وليلة من أيلة، وبينها وبين القلزم ست مراحل في برية وصحراء، وكانت في الإسلام منزلًا لبني أمية، وأكثرهم موالي عثمان بن عفان وكانوا سقاة الحج، وكان بها علم كثير وآداب ومتاجر وأسواق عامرة، وكانت كثيرة النخل والزروع، وعقبة أيلة لا يصعد إليها من هو راكب، وقد أصلحها فائق مولى خمارويه بن أحمد بن طولون، وسوى طريقها ورمَّ ما استرمَّ منها، وكان بأيلة مساجد عديدة، وبها كثير من اليهود، ويزعمون أنَّ عندهم برد النبي ﷺ وأنه بعثه إليهم أمانًا، وكانوا يخرجونه رداءً عدنيًّا ملفوفًا في الثياب، قد أُبرز منه قدر شبر فقط.»
وذكر أبو الحسن المسعودي في كتاب أخبار الزمان: أنَّ موسى — عليه السلام — سار ببني إسرائيل بعد موت أخيه هارون إلى أرض أولاد العيص، وهي التي تعرف بجبل الشراة جنب جبل الشوبك، ثم مرَّ فيها إلى أيلة، وتوجه بعد أيام إلى برية باب حيث بلاد الكرك حتى حارب تلك الأمم، وكان إلى جانب أيلة مدينة يقال لها عصيون جليلة عظيمة.
وذكر المسعودي أنَّ يشوع بن نون — عليه السلام — حارب السميدع بن هرمز بن مالك العمليقي ملك الشام ببلد أيلة نحو مدين، وقتله واحتوى على ملكه، وفي ذلك يقول عون بن سعيد الجرهمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسوله لتحية بن رؤبة وأهل أيلة، أساقفهم وسائرهم في البرِّ والبحر، لهم ذمة الله وذمة النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثًا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وأنه طيب لمن أخذه من الناس، وأنه لا يحل أن يمنعوا ماءً يريدونه ولا طريقًا يريدونه من برٍّ أو بحر، هذا كتاب بن جهيم بن الصلت وشرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله ﷺ وكان ذلك في سنة تسع من الهجرة.
ولم تزل مدينة أيلة عامرة آهلة، وفي سنة خمس عشرة وأربعمائة/١٠٢٤م طرق عبد الله بن إدريس الجعفري أيلة، ومعه بعض بني الجراح، ونهبها وأخذ منها ثلاثة آلاف دينار، وعدة غلال، وسبى النساء والأطفال، ثم إنه صرف عن ولاية وادي القرى، فسارت إليه سرية من القاهرة لمحاربته.
قال القاضي الفاضل: وفي سنة ست وستين وخمسمائة/١١٧٠م: أنشأ الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب مراكب مفصلة، وحمَّلها على الجمال، وسار بها من القاهرة في عسكر كبير لمحاربة قلعة أيلة، وكانت قد ملكها الفرنج وامتنعوا بها، فنازلها في ربيع الأول، وأقام المراكب وأصلحها وطرحها في البحر، وشحنها بالمقاتلة والأسلحة، وقاتل قلعة أيلة في البر والبحر حتى فتحها في العشرين من شهر ربيع الآخر، وقتل من بها من الفرنج وأسرهم، وأسكن بها جماعة من ثقاته، وقوَّاهم بما يحتاجون إليه من سلاح وغيره، وعاد إلى القاهرة في آخر جمادى الأولى.
وفي سنة سبع وسبعين/١١٨١م وصل كتاب النائب بقلعة أيلة أنَّ المراكب على تحفظ وخوف شديد من الفرنج، ثم وصل الإيريس لعنه الله إلى أيلة وربط العقبة، وسير عسكره إلى ناحية تبوك وربط جانب الشام؛ لخوفه من عسكر يطلبه من الشام أو مصر، فلما كان في شعبان من السنة المذكورة، كثر المطر بالجبل المقابل للقلعة بأيلة، حتى صارت بها مياه استغنى بها أهل القلعة عن ورود العين مدة شهرين، وتأثرت بيوت القلعة لتتابع المطر، ووهت لضعف أساسها، فتداركها أصحابها وأصلحوها.» ا.ﻫ.
قلتُ: وقد خربت أيلة خرابًا تامًّا، ولم يبقَ منها ما يدل عليها سوى أسس بعض منازلها وأنقاضها، وهناك أساس من حجر داخل مياه الشاطئ يدعى «الحمَّام».
وقد أراني رشدي باشا قومندان العقبة سنة ١٩٠٦ قطعة ذهب من النقود الإسلامية التي وجدها في خرائب أيلة، وهي أكبر قليلًا من نصف الجنيه الإنكليزي، وقد نقش عليها في الوسط: «لا إله إلَّا الله محمد رسول الله»، وعلى الدائر: «محمد رسول الله، أرسله بالهدى ودين الحق، يظهره على الدين كله، ولو كره المشركون.»
أمَّا «عصيون جابر»، فقد اختلف المحققون في تعيين مكانها، فجعلها بعضهم في جزيرة فرعون، وجعلها آخرون في النويبع وغيرهم في المرشش؛ لأن منطوق التوراة يدلُّ أنها كانت ميناء على خليج العقبة، قريبة من أيلة، وفي طريق جبل سيناء. وقد مرَّ أنَّ خرائب جزيرة فرعون هي أحدث عهدًا من عصيون جابر، وليس في النويبع أو المرشش خرائب بلدة ظاهرة، ولعلها كانت ضاحية من ضواحي أيلة، وخربت معها.
(ز) وادي العرَبة
هذا، ومدينة أيلة، والعقبة خليفتها، واقعتان على فم وادي العربة العظيم على ضفته اليسرى، وعرضه من مدينة العقبة إلى المُرَشَّش، في سفح النقب الشرقي ستة كيلومترات، وطوله من رأس خليج العقبة إلى البحر الميت نحو ١١٥ ميلًا، ويعترضه في وسطه جبل الريشة، فيقسم سيله قسمين، قسمًا ينحدر جنوبًا إلى خليج العقبة، وقسمًا ينحدر شمالًا إلى البحر الميت، ويزداد هذا القسم تحدُّرًا كلما اتجه شمالًا، حتى إنه ينخفض عند البحر الميت نحو ١٢٩٢ قدمًا عن سطح البحر، ويعرف السهل عند سفح جبل الريشة الجنوبي «بالقاع»، وهو صالح للزراعة، ويسكنه عرب السعديين، ويسكن العربة من القاع إلى رأس الخليج عرب الخلايفة اللحيوات.
آبار العربة
- بئر البُحَير، وبئر الخليفي: على شاطئ الخليج.
- وعد دَفيَّة: على نحو ١٢ ميلًا من رأس الخليج، في جانب الوادي الغربي.
- وبئر حندس: على نحو ٤ أميال من دفية في جانب الوادي الغربي.
- وبئر النمرة: على نحو ٣ أميال من بئر حندس، بينهما خرائب بلدة قديمة.
- وبئر غضيان: على نحو ٨ أميال من بئر النمرة، في جانب الوادي الغربي، وتجاه غضيان في جانب الوادي الشرقي: «بئر جُبَيل، وبئر طابا»، وهما متقاربتان.
- وبئر المليحي: على نحو ٢٧ ميلًا من غضيان شمالًا، إلَّا أنها مرتفعة عن جنب الوادي الغربي، وهي مورد السعديين سكان القاع، وقد يردها اللحيوات.
فروع العربة
- وادي الرَّدادي: ينشأ من جبال الحمرة، ويصب فيه على نحو ٣ أميال من
رأس الخليج، وفي هذا الوادي نبعان شحيحان: «ثميلة
الردَّادي» قرب رأسه على نحو ٣ كيلومترات من
«المَفْرَق»، وقد دخلت في حدِّ سيناء، وعلى مقربة منها
جبَّانة الشوَّافين اللحيوات، المدفون فيها الشيخ
حمدان المار ذكره.
«وعين القطَّار» وهي عين شحيحة تخرج من شاهق في جبل الردَّادي، عند منتصف مجرى الوادي، وقد زرتها في ربيع ١٩٠٦، فإذا ماؤها يقع قطرتين قطرتين، قلت: ومن ذلك اسمها، أمَّا الردَّادي فيظن فيه الحديد والنحاس، وقد دخل في حد العقبة.
- ووادي الرَّخمَة: يصب في العرَبة على نحو ٣ أميال شمالي بئر دفيَّة.
- ووادي البيَّاني: يصب فيه على نحو ٢٠ ميلًا شمالي بئر غضيان.
- ووادي اللحياني: يصب فيه على نحو ١٥ ميلًا من مصب البياني، ومن فروع اللحياني وادي العُقْفي، ومن فروع العقفي وادي الغُبَيَّة.
- ووادي الجرافي: يصب في العربة شمالي جبل الريشة، وقد مرَّ ذكره تفصيلًا.
- وادي اليتْم: تصب فيه على ٣ أميال من بلدة العقبة.
- ووادي أبو خُشَيبة: تصب فيه شمالي جبل الريشة.
- ووادي موسى: قيل ينشأ من الجبال التي إلى غربي معان، ويصب في العربة شمالي مصب وادي أبو خشيبة.
مدينة البتراء
وفي وادي موسى خرائب «مدينة البتراء» الشهيرة، وأكثرها نقر في صخر، والوادي هناك ضيق جدًّا، حتى إنه في بعض المواضع لا يزيد عرضه على أربعة أمتار، وفي رأس الوادي نبع ماء غزير يسقي البتراء، وهي على الأرجح المدينة المسماة سالع في التوراة (القضاة ١: ٣٦، والملوك الثاني ١٤: ٧، وأشعيا ١٦: ١).
وقد قام في البتراء قديمًا مملكة أدوم، ثم مملكة النبطيين، ثم تملكها الرومان، ثم البيزنتيون، ثم العرب كما سيجيء تفصيلًا في باب التاريخ.
ويزور البتراء للتفرج على آثارها النفيسة كثير من السياح كل سنة، يأتونها من طريق القدس ودمشق الشام، ومن مصر عن طريق سيناء والعقبة، وأهلها الحاليون يعرفون باللياتنة، ويسكنون في خيام عند النبع، ويزرعون أنواع الحبوب، وعندهم بساتين الفاكهة والخضر، وهم يتسلمون السياح من البدو حين وصولهم الوادي.
(ﺣ) طرق العقبة
- طريق النويبع: تتبع شاطئ البحر إلى قلعة النويبع، وسيأتي وصفها.
- وطريق نقب العمراني: وهي طريق خاصة بالبدو، تنشأ من وادي العربة على خمسة أميال من المرشش شمالًا، قيل وعلى رأس هذا النقب خرائب بلدة قديمة.
- وطريق وادي البيَّاني: وهي أسهل الطرق إلى سيناء من العقبة، تسير في وادي العربة إلى بئر دفيَّة، فبئر حندس، فبئر غضيان، فمصب وادي البياني، ثم تصعَّد في هذا الوادي إلى رأسه فتأتي حمادة، فتقطعها إلى وادي العقفي، فوادي الغيبة، فوادي اللحياني، تنحدر معه قليلًا، ثم تقطعه إلى وادي الهاشة، فمشاش الكُنْتِلَّة في وادي الجرافي على طريق غزة الآتي ذكرها، ومسافة هذه الطريق نحو ٢١ ساعة، تقطع بثلاث مراحل متقاربة طولًا: بئر غضيان، فوادي البياني، فمشاش الكُنْتِلَّة.
- وطريق المُلَيْحي: تبدأ من القاع، وتمر ببئر المليحي، فوادي الجرافي
إلى مشاش الكُنْتِلَّة، وهي طريق الغزاة، وقد طالما
غزا بها عرب الشرق جزيرة سيناء كما سيجيء.
وللعقبة إلى البتراء طريقان قديمتان، وهما:
- طريق بوادي اليُتْم: وهي طريقها أيضًا إلى معان ودمشق الشام.
- وطريق بوادي العربة: وهي طريقها المعتادة إلى البتراء، قيل وهذه الطريق ثلاث مراحل: مرحلة إلى بئر غضيان ثماني ساعات، ومرحلة إلى جبل الريشة ثماني ساعات، ومرحلة إلى وادي موسى سبع ساعات، وفي المرحلة الأخيرة تستمر الطريق من جبل الريشة على الجانب الغربي من وادي العربة نحو ٣ ساعات، فتأتي أبو خشيبة، فتصعد معه إلى رأسه — قرب مقام النبي هارون — نحو ٣ ساعات، تترك مقام النبي هارون عن يسارك وتسير نحو ساعة، فأتي خرائب البتراء في وادي موسى.
- طريق القدس: وللعقبة طريق إلى القدس الشريف، طولها ٨١ ساعة بسير الحملة، تمرُّ بالمياه الآتية: بئر غضيان ١٠ ساعات وثلث، فبئر المليحي ١٢ ساعة، فالويبي ١٠ ساعات، فالشهابية ١٢ ساعة وثلث، فنقب الغراب فعسلوج ١٠ ساعات وثلث، فبئر السبع ٧ ساعات، فالخليل ١٢ ساعة ونصف، فالقدس بالعربة ٦ ساعات ونصف، وهذه هي الطريق التي اتخذها رجال كوك الذين رافقوا لجنة الحدود المصرية سنة ١٩٠٦، قطعوها بتسعة أيام في كل يوم تسع ساعات.
نقب العقبة
- جبل الشنانة: عند رجم الدرك، وقد سماه مندوبو الحدود سنة ١٩٠٦ «جبل رشدي باشا» على اسم قومندان العقبة في ذلك العهد وألحقوه بالعقبة.
- وجبل أبو جِدَّة: بين جبل الشنانة والمفرق، وقد سمي «بجبل فتحي باشا» ودخل في حد مصر.
- وجبل الردادي: المار ذكره وهو يحجبها عن سطح النقب، أمَّا سطح النقب أو رأس النقب، فهو القسم الأعلى من النقب بين رجم الدرك والمفرق.