في ديانتهم
يعترف بدو سيناء بالإسلام دينًا لهم، ولكن ليس فيهم من يعرف قواعد الإسلام، بل ليس فيهم من يعرف قواعد الصلاة، وقد مازجتهم عدة سنين فلم أرَ منهم من يصلي إلَّا نفر يعدون على الأصابع ممن يخالطون المدن، وهؤلاء لا يصلون الأوقات الخمسة على الترتيب، بل يصلون كلما خطر ببالهم أن يصلوا، ولولا احتفال بدو سيناء بعيد الضحية وذكرهم النبي وحلفهم به والصلاة عليه لما علمت أنهم مسلمون.
(١) الأولياء الصالحون
ولكن لهم في باديتهم قبور أولياء يعدون بالعشرات، يحترمونهم الاحترام الديني، ويحلفون بهم، وينذرون لهم النذور، ويزورونهم كل سنة في المواسم، وعند زيارتهم ينيرون قبورهم ويذبحون للأنبياء منهم جملًا، ولسائر الأولياء رأس ضأن أو ماعز، أمَّا الأولياء الأنبياء فهم: النبي هارون، والنبي صالح، والنبي أبو طالب، ومناجاة النبي موسى، وكلهم في وسط بلاد الطور.
ومن الغريب أنَّ بدو سيناء مع شدة اعتقادهم بأوليائهم تراهم لا يعرفون لهم أصلًا ولا فصلًا، إلَّا القليل منهم الذين دفنوا في هذا الجبل والذي قبله، فإن أصولهم معروفة؛ لأن بدو سيناء ما زالوا كلما مات لهم شيخ يعتقدون صلاحه بنوا له ضريحًا، وبنوا فوق الضريح قبة أو مقامًا، وجعلوا للضريح قفصًا من الخشب مجللًا بنسيج قطني ملون، وجعلوا للقفص رأسًا معممًا، أو تركوا الضريح عطلًا من البناء والقفص، وقد مرَّ ذكر الأولياء جميعًا في الفصول السابقة، وستأتي سردًا في فهرس المواضيع في آخر الكتاب فلا داعي لذكرها هنا.
وقد عرفنا ضريح الولي الذي فوقه قبة بالقبة، والذي فوقه كوخ بالمقام، والذي ليس فوقه شيء بالقبر.
وهم يدفنون موتاهم بجانب أوليائهم، ويزورونهم في المواسم عند زيارة الأولياء، ويذبحون الذبائح فداءً عنهم، ويقولون عند الذبح: «الله أكبر، منك وإليك، وثوابها لفلان المتوفى»، وأكثر مدافنهم أو كلها بقرب الماء.
وترى بجانب أضرحة أكثر الأولياء «عريشة» فيها حلة للطبخ، وبكرج للقهوة، وجرة للماء، «وباطية» لعجن الدقيق، وأخرى لوضع الطعام فيها، وغير ذلك من الآنية التي تلزم الزوار لتحضير الطعام والشراب عند قدومهم لتقديم الذبيحة.
(٢) الشيخ الفالوجي
ولا يقتصر بدو سيناء على تكريم أوليائهم، بل يكرمون أولياء جيرانهم، ففي اعتقاد بدو العريش أنَّ الشيخ الفالوجي المدفون على نصف يوم شرقي غزة من الأولياء الكبار أصحاب الكرامات، وأنَّ من يحلف به زورًا لا بدَّ أن يلقى مغبة كذبه في نفسه أو ماله أو عياله.
وفي مدة إقامتي برفح سنة ١٩٠٦ حضر بدويان يتقاضيان في مبلغ من الدراهم، ادَّعى أحدهما أنه نقده لوالد الآخر المتوفى ولم يأخذ فيه وصلًا، فطلب المدعى عليه اليمين من المدعي على الفالوجي ولم يرضَ بالشيخ زويد، ولا بالحلف المعتاد عند البدو، ولكن توفقت إلى فض الخلاف بينهما بطريق الصلح، فأخذ المدَّعي قسمًا من المبلغ المدَّعى به وسامح بالباقي.
(٣) الأولياء المفسودون
هذا ولبدو سيناء أولياء مفسودون، يصبون عليهم الشتائم ويرمون قبورهم بالحجارة، كما أنَّ لهم أولياء صالحين يقدمون لهم الذبائح، وقد مرَّ بنا ذكر اثنين منهم: «مصبَّح» الولي المفسود على درب الحج المصري في وادي المشيتي، «وعمري» الولي المفسود في أعلى وادي الأبيض على ١٠ أميال من خرائب العوجاء على درب غزة.
(٤) زيارة البحر
وعند السواركة والبياضيين والأخارسة من بادية العريش عادة قديمة جدًّا في تقديم الذبائح للبحر تشبه أن تكون وثنية، وذلك أنهم في كل سنة بعد الربيع يزورون البحر بخيامهم، ومعهم خيلهم وإبلهم وغنمهم، فيغسلونها بالبحر ثم يذبحون الذبائح، ويرمون رءوس الذبائح وأرجلها وجلودها في البحر، ويقولون عند رميها: «هذا عشاك يا بحر» ويطبخون باقي اللحم، فيأكلون منه ويطعمون المارة.
أمَّا السواركة فيتمون هذه الزيارة بلا احتفال ولا أبهة في يوم واحد من المغرب إلى صباح اليوم التالي، ويذبحون في أي مكان على شاطئ البحر بين رفح والعريش، وأمَّا البياضيين والأخارسة من سكان قَطْيَة، فإنهم ينزلون على شاطئ البحر عند المحمدية المار ذكرها قرب الفرما، ويحتفلون بذلك احتفالًا عظيمًا، فيتسابقون على الخيل والهجن، والنساء تزغرد لهم، وذلك مدة ثلاثة أيام.
(٥) زيارة الشجر
وعلى نصف ساعة جنوبي بئر رفح شجرتا سدر، الواحدة بجانب الأخرى، تدعيان «المقرونتين»، ويقال لكل منهما الفقيرة، وللغربية منهما غصن مجوف ينحني حتى يمس الأرض، وجدت في تجويفه قطعًا صغيرة من النقود القديمة والحديثة، ومسامير وخرز وحب عدس، وقد عُلِّق في أغصان الشجرتين أباريق الزيت، فسألتهم في ذلك، فقالوا: إنَّ نساء البدو يكرمن هاتين الشجرتين، وينذرن لهما النذور، ومتى جئن للزيارة وضعن شيئًا من آثارهن فيهما، وأنرنهما بسرج الزيت كما يفعل البدو كافة عند زيارة الأولياء.
وعلى نحو نصف ساعة من العريش في طريق لحفن غابة صغيرة من شجر الطرفاء، تُدعى الفقيرة، تزورها العرب للتبرك بها، وهم ينيرونها ويودعون عندها حبالهم وأشياءهم.
وفي صحن قلعة نخل شجرة سدر قديمة العهد، كان الأهلون يعتقدون أنها ولية، وينيرونها بالسرج إلى عهد قريب، ولا عجب في ذلك، فإن شجرة ظليلة في صحاري سيناء المحرقة لمن أكبر النعم على أهلها.
(٦) روحهم الديني
هذا، والروح الديني في بدو سيناء لا يزال على الفطرة، فإذا وقع أحدهم في ضيق ثم فُرِّج عنه قبَّل الأرض بيده وقال: «يوم ما نطول سماه نقبل وطاه.»
وكنت أكلم الشيخ سليمان معيوف من الرميلات في العمل الطيب، فقال: إني أصلي إلى الله في خلاي أن يميتني قبل أن أظلم أحدًا، وأنْ يبعد عني الظالم، فإني طالب دار الآخرة، والعمل الطيب الذي يلقاه الإنسان بعد الموت، قلت: وأين تذهب الروح بعد الموت، قال العرب تعتقد أنَّ الأرواح تجتمع في بئر القدس إلى يوم الحساب، فيذهب الصالحون إلى الجنة والأشرار إلى النار، وقال: قيل لبدوية فجعت بابنها أنَّ روحه في بئر القدس، فذهبت إلى البئر ووقفت عند فمها، ونادت ابنها باسمه فأجابها الصدى، فلما سمعت الصوت ظنت أنَّ ابنها يجيبها، فرمت بنفسها في البئر وماتت، ومن ذلك الوقت وضعوا شبكة من الحديد على فم البئر، وهذه البئر هي بئر الورقة في هيكل سليمان الذي حوَّله الإمبراطور يوستينيانوس إلى كنيسة، وحوله الإسلام إلى الجامع المعروف الآن بالجامع الأقصى.