في أخلاقهم
اشتهر البدو في كل زمان ومكان بحب الضيافة، والكرم، والغزو، والنجدة، والأخذ بالثأر، ومراعاة الجار، وتعظيم الجميل، وتكريم الإبل، واحترام العرض، والوفاء بالعهود، والافتخار بالنسب، والشجاعة، وعلو الهمة، وبذل المعروف، والأنفة، وعزة النفس، وعدم احتمال الضيم، وكره التقيد بنظام، والجراءة في طلب الحق، والأريحية، وحب المساواة والحرية، والشورى في الشئون العمومية.
وترى أثر هذه الأخلاق كلها في بدو سيناء، لكن ضعف حالهم وقلة عددهم يفقدانهم رونق هذه الأخلاق، فلا تراها رائعة متأصلة فيهم كما في بدو مصر والشام.
وبدو التيه أعرق في البداوة من بدو الطور والعريش، لكنهم ليسوا أكرم أخلاقًا ولا أطيب أعراقًا منهم، ولست أذكر أخلاقهم هنا خلقًا خلقًا، ولكني أذكر ما خبرته بنفسي من تلك الأخلاق.
(١) الضيافة
وأول خلق رأيته فيهم حب الضيافة، فإذا أقبل الضيف أنزلوه على الرحب والسعة، وأضافوه بالتناوب إلَّا إذا كان عزيزًا لديهم جميعًا، فإنهم لا يراعون النوبة ويتسابقون إلى ضيافته، فإذا اختلفوا في من يضيفه رفعوا الأمر إلى كبير القوم، وهو يسمِّي المضيف، وحكمه نافذ، وقد اتفق لنا في رجوعنا من دير طور سيناء في يناير سنة ١٩٠٥، أننا مررنا على مخيم الشيخ صالح شيخ قبيلة أولاد سعيد، فاستقبلنا أهل المخيم واختلفوا في من يضيفنا، وكان الشيخ موسى أبو نصير كبير مشايخ الطورة معنا، فرفعوا الأمر إليه، فقضى بأن نكون ضيوف الشيخ صالح؛ لأنه حضر معنا من الدير، فذبح خروفًا وسلقه وطبخ بمرقه أرزًا، وجعل الأرز في قصاع من خشب، وجعل في كل قصعة بضع قطع من اللحم، وفي قصاع أخرى أرغفة من الخبز، وكان قد حضر إلى خيمة الضيوف جميع رجال المخيم، فجلسوا حول القصاع فئات، كل فئة حول قصعة، فأكل الجميع إلَّا المضيف، فإنه بقي على خدمة الموائد إلى أن فرغ الجميع، فأكل ووزع ما بقي من الطعام على النساء فأكلن في خيامهن، والعادة أنَّ كبير الضيوف يرسل من قصعته نصيبًا من اللحم إلى راعية البيت، إذ النساء لا يأكلن إلَّا فضلات الرجال، ومما يذكر أنَّ اليدين والرجلين ولحم الرقبة ولحم البطن، لا تقدم على موائد الرجال، بل تحفظ للنساء، قالوا: ويعدُّ تقديمها على موائد الرجال إهانة لهم، وبعض العرب لا يحتفلون بالذبيحة إلَّا إذا رأوا رأسها على المنسف، ومنهم عربان ضبا والمويلح، ولكن عربان سيناء يتركون الرأس للنساء، ويجعلون الكبد على المناسف بدل الرأس.
(٢) العداية
ومما يذكر عنهم في هذا الصدد ما يعرف «بالعداية»، وهي ما يأخذه المضيف من غنم جاره لإكرام ضيفه، فإذا فاجأ البدوي ضيف ولم يكن عنده ما يضيفه به، فله أن يأخذ رأسًا من قطيع جاره، سواء كان من قبيلته أو من غير قبيلته ليذبحه للضيف، بل له أن يعدو على قطيع جاره، ولو كان الضأن والمعزى ملء داره، بل لا يشترط أن تكون الذبيحة التي أخذها من قطيع جاره أليق للذبح مما عنده، ولكن يشترط ردُّ مثل الذبيحة في مدة أربعة عشر يومًا، ومن أمثالهم: «الكرم سدَاد»، فإذا لم يرد المضيف العداية في هذه المدة، حق للجار الوثاقة عليه — أي الإغارة على غنمه — وحجز ما أمكنه منها حتى يسترد العداية.
ومن عادة المضيف أن يلطخ رقبة جمل ضيفه بدم الذبيحة، حتى إذا ما جاء أحد يطلب الوثاقة منه لا يقرب هذا الجمل احترامًا للضيافة.
(٣) الإباء والحرية
ومن أجمل ما رأيت في أخلاقهم الإباء والحرية في القول والعمل، رأيت في بلدة نخل رجلًا من عامة البنيَّات التياها يدعى سلَّام أبو عكيرش، كان يخاطب حاكمًا أعجبه حكمه قال: «أنت كبيري، أنت راجل حق تخاف منك العرب، العرب جبابرة، الهيِّن ما يحكمهم»، وخاطب حاكمًا لم يعجبه حكمه فقال: «أنا عارفك وكل الناس تقولك: إنك لا تصلح للحكم ووكيلك خير منك.»
وحُكي عن هذا الرجل نفسه أنه استأجره بعض العسكر؛ لجلب بعير له من مرعى على عشرة أميال من نخل بأجرة ريال واحد، فذهب في أثر للبعير فلقيه على نحو خمسة أميال من البلدة، فأتى به إلى صاحبه، وقال له إنه لقيه بمحل كذا فما استحق غير نصف الأجرة التي اشترطها لنفسه، وأبى أن يأخذ إلَّا نصف الأجرة.
واستأجره رجل من نخل؛ لينظف له أرضًا يريد زرعها على أن يدفع له ريالًا مصريًّا، فلما نظف الأرض وجد أنَّ الشغل أيسر مما ظنه، فقال لصاحب الأرض: إنَّ الشغل في أرضك لا يستحق ريالًا فخمسة عشر غرشًا تكفيه، وأبى أخذ الزيادة.
وترى البدوي يخاطب شيخه، ويعامله كأنه مثيل له بلا تهيُّب ولا مداراة.
(٤) الفروسية
وهم يعظمون الفارس الشجاع، ويسقون أطفالهم من ريقه، وذلك بأن يأخذ الفارس ريقه بحد السيف، ويلقمه الولد أو يلقم الولد الريق رأسًا في فمه.
وهم يغنون في سيرهم إلى القتال الأناشيد الحماسية، ومن ذلك قولهم:
اللي يموت خليه يموت، خليه يزور المقبرة، يا بيض لا تحدَّن عليه، وقولهم:
(٥) قتالهم
وإذا أرادوا الغزو ركبوا الهجن، وقصدوا العدو حتى يصلوا إلى مقربة منه، فيأتون خورًا أو منخفضًا من الأرض، ويبرِّكون الإبل ويعقلونها ويجعلون عندها بعضهم لحمايتها، ثم يتقدمون صفًّا واحدًا، حتى إذا ما رأوا العدو أطلقوا عليه نيرانهم، فإذا فرغت النيران حملوا بالسيوف حملة صادقةً، فلا يعودون إلَّا ظافرين أو منكسرين.
وفارسهم في ساحة القتال يتكنى باسم أخته أو بنته، فيقول: أنا أخو فلانة، وأنا أبو فلانة، وينادي: «الذبح! الذبح!»
(٦) احترام العرض
وقصاص الزاني عندهم القتل، وأمَّا مزينة والتياها فيقبلون الفدية.
(٧) الأخذ بالثأر
وأهم ما اشتهر به البدو وتحققته في بادية سيناء الأخذ بالثأر، فما يموت لبدوي ثأر مهما قلَّ شأنه أو مهما طال عليه العهد، وإذا مات قبل أن يثأر من خصمه خلَّف الثأر لابنه ولنسله من بعده، لكنه قد يعرف حقه ويتركه.
حدثني القائمقام محمد بك كامل قومندان جزيرة سيناء سابقًا قال: اختصم موسى بن نصار من عرب أولاد سعيد مع عيد بن محمد من عرب العليقات سنة ١٩٠٥ على جمال، ورفعا الأمر إليَّ، فدافع موسى عن حقه بكل حماسة وشدة، وأقسم ألا يرجع عن خصمه حتى يثبت حقه، فلما قال الخصم لك عندي هذا الحق يا أبا فلان خمدت ناره، وسكن جأشه، وأجابه على الفور لقد تركته لك.
(٨) النجدة
ومن أكبر المعايب عندهم أن يفر الرجل من القتال أو يجبن عن نجدة رفيقه، أو يسرق مطمورة جاره، فمن فعل هذه الجرائم كلها أو واحدة منها؛ احتقر ورذل، ورفضت البنات زواجه، قالوا: وإذا دخل مجلسًا ووزِّعت القهوة على الجلوس مدَّ الساقي يده بالفنجان موهمًا أنه يقدم له القهوة، حتى إذا ما مدَّ يده لتناول الفنجان كبه الساقي في الأرض استخفافًا به واحتقارًا لشأنه، فينصرف من المجلس من غير أن ينبس ببنت شفة، وفي غالب الأحيان يرحل إلى بلاد لا يعرف أحد فيها بجنايته.
ومما يدل على مروءتهم وحبهم النجدة ما حكاه لي الشيخ إبراهيم أبو الجدائل المار ذكره، قال: «إنَّ رجلًا من القرارشة يدعى حسن أبو نميرة، استدان مني ١٢ بنتو، فطالبته مرارًا فلم يفِها، وفي كل مرة يعتذر بالعدم، فلما كانت سنة ١٩٠٠ ذهبت إلى غوطة فيران في موسم البلح لتحصيل ديوني من العربان، فوجدت حسن أبو نميرة هناك فطالبته بالدين، فاعتذر بالعدم كعادته، فسألت قومه عن حاله فأقسموا أنه لا يملك شيئًا غير الثوب الذي عليه، فقلت لهم: إذن أنتم أهله تفون دينه؛ لأني أنا لم أقرضه مالًا إلَّا لقرابته بكم، فقالوا: ولكنا نحن لم نكفل لك دينه ولا سألناك أن تقرضه، قلت: إذن فاحسبوني واحدًا منكم وتحملوا الخسارة معي، قالوا: «المفرط أولى بالخسارة»، فلما ضاقت بي الحيل قلت: أريد منكم شيئًا بدل مالي، وهي أن تربطوا عِمَّتي هذه في رقبته، فأقوده بها من أول فيران إلى آخره، قالوا: ولأي شيء تفعل ذلك؟ قلت: أريد أن أقوده إلى العوارمة لعلهم يفتدونه بوفاء دينه، فقالوا: أنسمح بابن عمنا أن يُجَر كالخروف إلى قبيلة أخرى، ثم قام واحد منهم وقال: عليَّ باثنين بنتو من دينه، فقام الحاج موسى أبو خشني وقال: عليَّ بالدين كله يا أبا الجدايل، ووفَّاه عن آخره!»
هذا، ومع تغلب هذه الأخلاق العالية في البدو، فإنك قد تجد فيهم الكذب والخداع والغدر والخيانة والجبن كسائر الناس، خصوصًا إذا اختلطوا بالحضر!
ومن وصايا البدو التي تدل على أخلاقهم:
ومن وصاياهم:
ومن أقوالهم في تكريم النسب: