في عاداتهم
(١) خيامهم وعرائشهم
(١-١) الخيام
يسكن البدو في خيام من الشعر، تحيكها النساء، ويبنونها على شكل ظهر الثور، جاعلين أبوابها إلى الشرق، وللخيمة المستوفاة تسعة أعمدة، ثلاثة في الوسط، وثلاثة في كل من الجنبين، أمَّا عمد الوسط فهي «المِقدَم» في صدر الخيمة في الشرق، «والواسط» وهو أعلى العمد في الوسط، «والزافرة» في الغرب، وأمَّا عمد كل من الجنبين فهي: «اليد والعامر والرِّجل».
هذا هو هيكل الخيمة يكبِّرونه أو يصغِّرونه حسب الاقتضاء، ثم يضعون فوق هذه الأعمدة السقف، مؤلفًا من «شقاق»، يحيكونها من شعر الماعز، ثم الأجناب وتدعى «الرواق»، تحاك من وبر الإبل وصوف الغنم وأكثرها من الصوف، ويجعلون في وسط الخيمة ستارًا يدعى«المَعند»، يمد من المِقدم إلى الزافرة فيقسم الخيمة قسمين، قسمًا للنساء وقسمًا للرجال، ويحاك من الصوف أو الوبر، وأكثره من الصوف، وأمَّا باب الخيمة فهو الوجه الشرقي كله، يترك مفتوحًا إلَّا في أيام المطر والبرد فإنه يقفل، وتثبَّت جوانب الخيمة في الأرض بالأوتاد والحبال، يشترونها من المدن أو يجدلونها في باديتهم من نبت السمار.
(١-٢) العرائش
وهم لا يسكنون الخيام إلَّا في الشتاء والربيع؛ اتقاء المطر والبرد، فإذا ارتفع المطر وزال البرد خبئوا خيامهم في «القرى»، وبنوا لأنفسهم أكواخًا من القش وأغصان الشجر؛ اتقاء الحرِّ والرياح تدعى «عرائش».
(٢) أثاثهم
- المَنسف: وهو طبق مستدير واسع من الخشب، يقدمون عليه الطعام للضيوف.
- والباطية: وهي منسف صغير يستعملها رب العائلة الكبيرة.
- والكرمية: أو الزَّلفة: أصغر من الباطية، وتستعمل لعجن الدقيق وتقديم الطعام.
- والهنابة: أصغر من الكرمية وأعمق جوفًا منها، وتستعمل استعمال الكرمية.
- والقدح: وهي آنية من خشب في شكل مربع مستطيل ولها يد وفم، تستعمل لحلب الإبل وشرب الماء.
- وحجارة الرحى: يستعملونها لطحن الدقيق، ويتجرون بها كما مرَّ.
- والغرابيل: لغربلة الحبوب وتنظيف الدقيق، يشترونها من المدن.
- والصاجات: من الحديد للخبز وعمل الأرغفة.
- والحلل النحاسية: للطبخ، يشترونها بلا أغطية.
- وعدة القهوة: وهي مؤلفة من: «المحماصة» وهي طاسة من الحديد، يحمصون بها البن، «والهون» وهو هاون من الحجر أو الخشب أو الفخار، يستخدمونه لسحن البن، ومعه يد من خشب تعرف «بالسحَّانة»، «والبكرج» وهو إبريق من نحاس لغلي القهوة، «والفناجين» وهي من الصيني الثخين واسعة الفم، يشترونها من المدن ويستعملونها بلا صحون، «والصينية» من نحاس يشترونها من المدن، أو من خشب، وتصنع عندهم بيد من أصل الخشب.
- والأغطية: ينسجونها من الوبر أو الصوف، ويستعملونها كالألحفة.
- والغُفور (م: غفرة): ينسجونها من الصوف المصبوغ أحمر وأخضر، ويستعملونها أغطية أو يطوونها ويستعملونها وسائد.
- والفُرُش (م: فراش): يستعملونها كالبسط والسجاد.
- والغرائر (م: غرارة): أو «الفراد» (م: فِردة) وهي أكياس من الوبر أو الصوف أو الشعر؛ لحفظ الحبوب وحملها.
- والأخراج: وهي أهمُّ أثاثهم ولا بُدَّ لهم منها في أسفارهم، يصنعونها من الصوف الأبيض والملوَّن أخضر وأصفر وأحمر، ويصنعون لها شراريب من الصوف والشعر.
- والمزاود (م: مزوادة): تشبه فردة الخرج، وتصنع مما يصنع منه الخرج، وتستخدم في السفر لحمل الدقيق.
- والمخالي: للخيل، تصنع من الصوف أو الوبر.
وكل هذه الأنسجة الصوفية تحاكم عندهم «بأنوال» بسيطة تقدم لنا وصفها.
- والقرب: وهي آنية الماء المشهورة، وتصنع من جلود المعزى، وهي أفضل الآنية لتبريد الماء، وأمَّا في بلاد العريش الشرقية، فيستخدمون أجرار الفخار السود بدل القرب، يشترونها من غزة واستخدامهم للقرب قليل.
- والمجارب (م: مجرابة): وهي أكياس للدخان، تصنع من جلود الغزلان وجِداء المعز.
- والغلايين: لشرب الدخان، أمَّا عودها فيصنع من شجر الأثل أو شجر الكرز يشترونه من السويس، وأمَّا حجرها فيستخرجونه من جبل كتيفة بجوار يلك، أو من جبل العرف شرقي العقبة، وهم يعلقون في الغليون سلسلة، وفيها مبرد يدعى «الإبرة» لتنظيف الحجر، وملقط صغير يدعى «الماشة» لالتقاط الجمر.
- وأسرجة الإبل والخيل والحمير: ويعرف سرج الحمار عندهم بالبردعة، وسرج الفرس بالسرج، وسرج جمل الحمل «بالوتر أو الحوية»، وسرج جمل الركوب «بالغبيط أو الشَّداد» وللغبيط حزامان من الشعر، وهما «البُطان»، ويحزم مقدم بطن الجمل، «والحقَب» ويحزم مؤخر بطنه.
وقد ورد في القرآن الكريم وصف مساكن البدو وأثاثهم، وأمتعتهم بعبارة في منتهى الرقة والجزالة، وهي: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ.
(٣) لبسهم وسلاحهم
(٣-١) لبس الرجال
ولبس البدو قميص قصيرة، فوقها قميص طويلة من الخام أو البفتا، تدعى «الثوب أبو أردان»، سميت بذلك لطول ردنيها، فإن لابسها لو وقف وألقى يديه إلى جنبيه يكاد ردنا ثوبه يمسان الأرض، ولكنهما في الغالب يُعقدان وراء الظهر.
وقد يلبسون فوق الثوب أبو أردان «الكِبْر» وهو ثوب من البفتا كالقفطان، ويلبسون فوق الكل عباءة سوداء تدعى «دفِّية»، وهم يستعملونها لأغراض شتى.
وفي الشتاء يتردُّون «بالفري» أو «الجعدان»، أمَّا الجعدان فمفردها الجاعد، وهو جلد من الضأن غير مدبوغ، يلبس فوق الثوب مقلوبًا، حتى يكون صوفه لجهة الظهر، ويؤتى بطرف منه فوق الكتف الأيمن، والطرف الآخر من تحت الإبط الأيسر، ويعقد الطرفان فوق الصدر، وأمَّا الفري فهي الجعدان مفصلة تفصيل السترة الإفرنجية بأكمام وأزرار.
ثم إنَّ أكثر الطورة يلبسون السراويل، وأمَّا سائر بدو الجزيرة فلبسهم للسراويل نادر، وكلهم يلبسون في أرجلهم «النعال» من جلد الحيوان، ويلبس كبارهم الجزم أو البلغ المصريَّة، يشترونها من غزة أو السويس.
ويلبسون على رءوسهم «العمامة والمريرة» فوق عراقية من وبر الإبل، إلَّا بدو الطورة وأهل مدينة العريش، فإنهم يلبسون الطربوش المغربي فوق العراقية، وعلى الطربوش عمامة من الشاش أو الحرير الملوَّن، غير أنَّ كثيرين من بادية العليقات ومزينة يلبسون العمامة والمريرة، كبادية التيه والعريش، أمَّا العمامة فهي منديل أبيض من قطن، وأمَّا المريرة فهي العقال من صوف الضأن أو وبر الإبل، وقد يلبسون فوق العمامة «كوفية» من حرير ملوَّن، أو «شال» من الصوف الأبيض، ويعقدون الاثنين بالمريرة.
(أ) سلاحهم
وكلهم يتحزمون بكُمُر يجعلون فيها نقودهم، أو بسيور من جلد، ومنهم من يعلق بحزامه سكينة محدبة ذات حدين تدعى «الشِّبْريَة»، يخيط قرابها بالحزام.
(ب) سيوفهم
- العجميَّة: وهي سيوف مستقيمة ذات حدَّين كسيوف عرب السودان، وهي من صنع العجم، وقد رأيت سيفًا من هذا النوع مع الحاج حمدان الزيت من القرارشة، عليه كتابةً هذا نصها: «لا حول ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم، نصر من الله وفتح قريب.»
- والدمشقيَّة أو الشاكرية: وهي سيوف محدبة ذات حدين تأتي من الشام، وهي أجود الأنواع.
- والسليميَّة: وأكثر سيوف بدو سيناء من هذا النوع، وهي سيوف مستقيمة محنية من رأسها، وهي أردأ الأنواع، وأكثر سيوف بدو سيناء منها، قيل وتنسب إلى السلطان سليم الفاتح العثماني.
(ﺟ) بنادقهم
- بنادق بالفتيلة: وهي أقدم الأنواع، يولعون الفتيلة قبل إرادة إطلاقها بقليل، ويستخدمونها لصيد التيتل والنمر، وغيره من الحيوانات الكاسرة.
- وبنادق بالشطفة: أي بالقداحة والصوانة، وهي تلي البنادق بالفتيلة قدميةً.
- وبنادق بالكبسول: مفردة أو متومة، ويقال للمتومة «بنادق بروحين».
- وبنادق رمنتون: ويقال: إنَّ في الجزيرة نحو ألف بندقية منها، التقطها البدو من أرض مصر بعد الثورة العرابية، ولكنهم لا يحملونها في البنادر.
وبعضهم يحمل «طبنجات» بالشطفة من الطرز القديم، أو المسدسات المعروفة «بالريفلفر»، وهم يعلقون «الذخيرة» على الكتف اليسرى مدلاة من تحت الإبط الأيمن، «والصفن» على الكتف اليسرى مدلى من تحت الإبط الأيسر، أمَّا الذخيرة فهي سير من جلد، يشدون إليه مكاحل من قصب الغاب ملأى بالبارود وقرنًا فيه المستحفظ من البارود، وأمَّا الصفن فهو كيس مربع من جلد، يجعلون فيه الدراهم، والموسى، والسكين، والزناد، والقداحة، ورصاص البنادق وغيرها، وقد يحملون للرصاص صفنًا خاصًّا، وإذا ساروا حملوا «الغلايين» بأيديهم، «والمجارب» أو أكياس الدخان في أرساغهم، وإذا ركبوا الإبل حملوا «المحاجن» (م: مِحْجَن) وهو قضيب معقوف الرأس، وإذا ركبوا الخيل حملوا «الرماح» الطويلة كما مرَّ.
ويحمل رعاة الإبل «الدبوس» وهو عصاة قصيرة في رأسها كتلة.
هذا في لبس أهل البادية وسلاحهم، وأمَّا الحضر في مدنهم الثلاث فيلبسون القفاطين القطنية والحريرية، والستر الإفرنجية والطرابيش المغربية أو الإسلامبولية، والأحذية الحمراء والسوداء كعامة مدن مصر.
وكلهم من عرب وحضر، يحلقون شعور رءوسهم ويدُورون لحاهم ويهذِبون شواربهم، وبعضهم يتركون خصلة في قمة الرأس، فيضفرونها ضفيرة واحدة أو أكثر، تتدلى تحت العراقي، وأكثر الطورة يحفون شواربهم من تحت الأنف.
وكلهم يتختمون بخواتم من الفضة بفصوص من العقيق أو الفيروز أو حجر الدم، ويفضلون العقيق على الفيروز؛ لأنهم يعتقدون أنه مانع للرعاف، وقد يتختمون بمحابس من النحاس، ولبسهم للذهب نادر.
(٣-٢) لبس النساء
هذا في لبس الرجال، وأمَّا النساء فإنهنَّ لا يلبسن إلَّا الثوب أبو أردان، يشترونه مصبوغًا أزرق، ثم يغمِّقون لونه بصبغة من جذور النبات، ويتحزمن بحزام من شعر أسود أو أبيض، يلففنه حول الخصر ثلاث لفات ويحكنه في البادية، وقد يلبسن فوقه حزامًا أحمر يسمى «السفيفة»، تتدلى منه شراريب عن الجنب الأيمن إلى حد الركبة، ويلبسن في أرجلهن النعال أو الأحذية الحمراء، ولبسهن للأحذية قليل.
(أ) البرقع
وهنَّ يتبرقعن ببرقع كثيف يغطي الوجه كله، فلا يبقى ظاهرًا منه إلَّا العينان، وهو مؤلف من (١) «الوقاة»، وهي قطعة من نسيج قطني أسود اللون، مطرزة بخيوط حريرية، مختلفة الألوان تغطي الرأس والأذنين، وتعقد بشريطتين تحت الذقن. (٢) «والبرقع بالذات» وهو قطعة مربعة مستطيلة من كريشة حمراء أو صفراء أو بيضاء، مطرزة بخيوط حريرية ومُزَّينة بقطع صغيرة من النحاس أو الفضة أو الذهب، مرصوصة صفوفًا عن جانبيه وأسفله، يغطي الوجه من الأنف إلى ما تحت الذقن، وقد يصل إلى الحزام. (٣) «والجبهة» وهي قطعة من نسيج البرقع، تلبس على الجبهة فتغطيها، وقد جعل لها حلقتان من الجنبين، في كل جنب حلقة، يتدلى منهما على الصدغين والكتف سلاسل من قطع النقود القديمة أو الودع، تدعى الواحدة منها «شكة»، ثم يعقد بكل حلقة شريطتان، شريطة تتدلى إلى أسفل تربطها بالبرقع، وشريطة تُرَدُّ إلى الوراء وتُشد برفيقتها في مؤخر الرأس، فتثبت البرقع والوقاة معًا، ويتدلى من وسط الجبهة شريطة أخرى تجيء فوق الأنف فتشد البرقع من الوسط، وبذلك أشبه برقع البدويات الشجرة التي تعلق بها الخرق تبركًا، ولعله أقبح لبس للرأس استنبطه البشر إلى اليوم، والظاهر أنَّ القصد الأول من اختياره على هذا الشكل هو وقاية الوجه من لذع الشمس، ثم أضيفت إليه سلاسل الخرز والنقود للزينة.
(ب) القُنْعة
وتلبس النساء فوق البرقع وشاحًا أسود اللون يدعى «القنعة» يغطي الرأس والظهر، ويتلثمن به عند مقابلة الرجال.
(ﺟ) الخُلَى
وهنَّ يعلقن في أعناقهن عقودًا من الخرز والسوميت والفضة، ويتختمن كالرجال بخواتم ضخمة من الفضة أو القصدير، ويلبسن أساور الفضة في أرساغهن، وأساور الزجاج في زنودهن، وحجول الفضة في أرجلهن، وهن لا يثقبن آذانهن، بل يثقبن أنوفهن من جهة واحدة، ويلبسن فيها الأشناف من فضة أو ذهب، أمَّا نساء المدن فإنهن يثقبن آذانهن ويلبسن فيها الأقراط كنساء الحضر.
(د) الوشم
وجميع نساء سيناء مغرمات بالوشم، فيشمن الشفة السفلى، وظاهر اليدين من ظهر الكف إلى المعصم إلى الكوع، وقد يشمن الخد بدقة كرجل الطير، ورجال البادية تحب الوشم وتتغزل به، التقى فارس بدوي ببدوية فعلق بها قلبه فأنشدته:
فأجابها:
(٣-٣) لبس الأولاد
أمَّا الأولاد فإنهم يلبسونهم قميصًا مفتوح الصدر، ويكحلون أعينهم، ويتركونهم حفاة عراة الرأس، إلى أن يبلغوا سن الرشد.
ومما يستحق الذكر أنَّ لبس الرجال في بادية سيناء أبيض ما عدا العباءة، ولبس النساء مصبوغ أزرق، وأنَّ لبس الأحجبة غير معروف عندهم، وهم يغسلون الثياب ببلها بالماء وضربها على حجر مَلِس، أو يغسلونها بالقلو، وكثيرًا ما يغسلون أيديهم بورق القلو أو ورق الطرفاء، ولكن بدو سيناء في الغالب لا يعتنون بالنظافة، وقد يلبس البدوي الثوب جديدًا فلا يغسله، بل قد لا يخلعه حتى يتهرَّأ، ومن أمثال النساء:
ولكن هذا القول قد يصدق على الذين يعزُّ الماء في بلادهم.
(٤) طعامهم
(٤-١) حبوب الطعام
وطعامهم الشعير، والذرة، والقمح، والأرز، والعدس، والبلح، وأفخر الحبوب عندهم الأرز، يشترونه من مصر، ولكن أكثر أكلهم الشعير، ثم الذرة، ثم القمح، ثم الأرز، ثم البلح، وكثير منهم يأكل دقيق الشعير مخلوطًا بدقيق الذرة، أو بدقيق القمح، أو بكليهما، ويسمونه «البغت».
(٤-٢) الأرغفة والأقراص
وهم يطحنون الحبوب بالرَّحى، ويعجنون الدقيق بالباطية، ويخبزونه فطيرًا على الصاج أرغفةً رقاقًا، أو يخبزونه على الجمر أقراصًا وهو أكلهم في السفر، وقد طالما رأيتهم في البادية يطحنون الحب بهاون من خشب؛ لعدم وجود الرَّحى، ثم يعجنونه بقصعة صغيرة، ويجعلونه قرصًا ثخينًا، ويوقدون الحطب على الأرض، حتى يصير جمرًا فيزيلون الجمر عن الرماد، ويطمرون القرص في الرماد، ثم يردُّون الجمر عليه إلى أن يجف وجهه الأول، فيكشفونه ويقلبونه ويعيدون الرماد ثم الجمر عليه، حتى يجف وجهه الثاني فيقسمونه كسرًا صغيرة ويأكلونه، وما يستغرق عمل القرص بهذه الطريقة أكثر من ساعة، ويدعى «قرص الملَّة».
(٤-٣) الآدام
وهم يأكلون خبزهم بلا آدام أو بآدام من قمر الدين، أو اللبن الحليب، أو السمن، أو الزيت، أو الكِشك، أو اللحم، أو السمك، وكثيرًا ما رأيت العرايشية في السفر جالسين حلقة حول قصعة من الطعام، يأكلون بأيديهم الفتة من عيش الذرة، وعليها من الآدام الكشك، والزيت، والبصل، والثوم، والفلفل، وأهل نخل يأكلون قرص الملَّة بغموس من قمر الدين.
(٤-٤) أنواع الأطعمة
- الجريشة: يجرشون القمح بحجر الرَّحى حتى يصير برغلًا خشنًا، ويسلقونه جيدًا، ثم يسكبونه في قصاع، ويصبون عليه من الآدام اللبن، أو السمن، أو الزيت.
- والعصيدة: يغلون الماء في حلَّة، ويصبون عليه الدقيق شيئًا فشيئًا، وهم يحركونه حتى يكون له قوام، فيصبونه في القصاع ويأكلونه، أو يغلون اللبن الحليب بدل الماء وهو «التلبانة».
- والمطبوخة: يضعون فتات قرص الملة في الحليب، ويغلونها في حلة حتى تنضح، فيسكبونها في القصاع، ويأكلونها بآدام من السمن الحار أو بلا آدام، وعلى نحو ذلك «البازينة، وأم جلَّة، والفطيرة، والمردودة».
- والدفينة: وهي فتة من الخبز أو مسلوق الأرز بمرقة اللحم، واللحم
منثورًا قطعًا فوقها، وأكثر أكل البدو القرص والعصيدة
والجريشة، ومن أطعمة مدن سيناء:
- الكُشَري: وهو طعام من الأرز والعدس، مطبوخًا بالسمن أو الزيت.
- والمفروكة: وهي نوع من الشعيرية تؤكل بالسمن والسكر.
(٤-٥) الشوية
وللبدو طريقة حسنة في شواء الضأن أو الماعز، وذلك أنهم يبنون زربًا من الحجارة على هيئة كوخ صغير له باب، ويوقدون فيه الحطب حتى يصير جمرًا، ويذبحون جدي الضأن أو الماعز ويسلخون جلده، ثم يبقرون بطنه ويستخرجون منه الأمعاء والكرش، ثم ينظفون الكرش ويلفُّون به الذبيحة ويضعونها في الزرب ويطمرونها بالجمر، ثم يسدون باب الزرب ويتركونه نحو ساعة ويخرجونه، فإذا به شواء لذيذ شهي للغاية.
•••
والبدو يستخدمون الملح، ولكنهم لا يستخدمون البهارات في أطعمتهم، وأكلهم للخضر والفاكهة قليل، وكذلك أكلهم اللحم والسمك، وفي أيام الربيع ينبت في صحاريهم كثير من الأعشاب التي يأكلونها كما مرَّ، وهم يأخذون أغصان الزقُّوح والعليجان، والرُّبيَّان، والشيح، والجرجير، والقرَّيص، والزعتر، وينشفونها ويطحنونها بحجر الرحى، ويمزجونها ويغمسون قرص الملة بها، ويأكلونها «كالدقة».
(٥) شرابهم
(٥-١) الماء واللبن
وشرابهم الماء ولبن الإبل والضأن والمعزى، ومن فضائلهم أن ليس لهم مسكر من أي نوع كان، وأكثر شربهم من ماء الآبار أو الينابيع، ولكنهم لا يعتنون بنظافتها، وإذا نزل المطر وجرى السيل شربوا من ماء الغدران.
وهم يحفظون ماءهم بالقرب إلَّا في بلاد العريش الشرقية، فإنهم يحفظونها في أجرار سوداء يشترونها من غزة، ويشربونها بالأقداح الخشبية أو من أفواه القرب والأجرار.
(٥-٢) الدخان
وكلهم مولعون بشرب الدخان، يزرعونه في أرضهم أو يشترونه من الخارج، ويُدَّخنون بغلايين طويلة تبلغ نحو ٣٠ قيراطًا، ولا يمضغون التبغ مضغًا كما في السودان، وإذا عدم البدوي الدخان وعنَّ له شربه تناول بعرة يابسة من بعر الإبل، وجعلها في غليونه ودخَّنها.
(٥-٣) القهوة
ثم إنَّ ولعهم بالقهوة ليس بأقل من ولعهم بالدخان، ولا يشربون القهوة إلَّا مصنوعة في وقتها، فتراهم أينما نزلوا أوقدوا النار وجلسوا حولها حلقة يدَّخنون التبغ بغلايينهم، وأتوا بعدة القهوة فحمصوا البن بالمحماصة، ثم سحنوه بالهاون، وعملوا القهوة وسكبوها في الفناجين، ووزعوها على الحضور دورًا أو دورين أو أكثر على الترتيب، مبتدئين من اليمين، وهم يشربونها صرفًا إلَّا في الأفراح، فإنهم يشربونها بالسكر، وربما مزجوها بحبهان أو قرنفل أو زنجبيل، وليس لهم عادة شرب الشاي لكن إذا قُدِّم لهم شربوه واستعذبوه.
ولعرب سيناء صبر على الجوع والعطش، وإذا جاع أحدهم ولم يجد طعامًا شدَّ حجرًا مستطيلًا على معدته، واحتمل الجوع بصبر غريب، واكتفى بأكل العشب.
ومن بات بلا عشا سُمِّي «المَقْوي»، ومن لم يأكل طعام الصبح سُمِّي «المَريوق».
قال شاعر لهم:
وقال آخر:
(٦) سلاحهم ومجالسهم
إذا التقى بدوي ببدوية من أقاربه أحنى لها رأسه فتقبله في جبينه وتصافحه، وإذا دخل بدوي على صديق له في مجلس وقف له وصافحه، ثم أدنى رأسه من رأسه، حتى يمس حاجبه الأيمن حاجب صديقه الأيمن، ويشرع يقبله في الهواء، ثم يجلسان في الأرض ويدور بينهما السلام الآتي أو نحوه:
– سلامات يا فلان.
– الله يسلمك.
– سلامات.
– الله يبقيك.
– كيف أنت عساك طيب؟
– والله نحمد الله طيب بخير.
– كيف عيالك؟
– طيبين بخير في أمان الله.
– كيف الربيع؟
– نحمد الله زينه.
– الزرع كيفنه؟
– خصاب الحمد لله، يعوَّض بذاره، شراقي بطال.
وإذا التقى صديقان في الطريق دار بينهما السلام الآتي أو نحوه:
– السلام عليك.
– مرحبًا.
– الله يمسيك بالخير.
– الله يمسيك بالخير والرضى.
– العوافي يا فلان.
– الله يعافيك.
– القوة يا فلان.
– الله يقويك، الله يزيدك قوة.
وعند الودع يقول له: أودعتك الله، فيجيبه: في عقد الله، الله يسهل عليك، فالك حسن.
ومن أغرب ما رأيت من عامتهم أنهم إذا قابلوا حاكمًا أو كبيرًا لا يعرفونه؛ رفع الواحد منهم يده مبسوطة، وضربها في الهواء مرتين إشارة إلى السلام.
وإذا اجتمع البدو في مجلس قعدوا مربعين على الأرض أو على الفرش، وقد يجلسون ركعًا على الركب كركوعهم للصلاة، أو يجلسون على ركبة واحدة.
أمَّا النساء فلا يجلسن في مجالس الرجال، ولا يعقدن مجالس بينهنَّ كالرجال، بل تزور البدوية جارتها وقتًا قصيرًا ثم تعود إلى خيمتها.
وإذا كانت المرأة راكبة ومرت بمجلس رجال ترجلت ومشت على قدميها، وهي إذا ركبت الإبل لا تركب على الغبيط بل تركب على صلب الجمل، وأمَّا إذا ركبت الحمير ركبت ركوب الرجال.
(٧) البدوي في مخيمه
يطلب العرب المرعى في أيام القيظ بيتين بيتين، أو ثلاثة ثلاثة، فمتى جاء الربيع اجتمعوا أفخاذًا في الجهات التي يكثر فيها الكلأ، وجعل كل فخذ منهم مخيمه صفًّا واحدًا، وفتحوا أبواب خيامهم للشرق، وجعلوا أمامها أنعامهم، وقد وصف لي أحد مشايخهم معيشته في مخيمه قال:
نقوم كل يوم عند مطلع الشمس، فيذهب الرعاة بالإبل والأغنام إلى المراعي: الشبان لرعي الإبل، والشابات والفتيان لرعي الأغنام، وتبقى النساء في البيت لتحضير الطعام، ويجتمع باقي رجال المخيم في خيمتي، يأتون من الصبح ومع كل منهم حفنة من البن، فنوقد النار ونصنع قرص الملة ونأكله، ثم نعمل القهوة ونشربها معًا، ونجلس نتحدث في شئوننا الخاصَّة، وأكثرها عن الإبل والغزوات السابقة واللاحقة، أو نلعب السيجة المعروفة في مصر، وليس عندنا من الألعاب غيرها، أو نغني على الربابة ونشرب الدخان إلى الضحى، فينصرف كل منا إلى خيامه، فيجد طعام الظهر قد أُعدَّ له، فيتغدى ويرجع إلى المجلس، فنتحدث أو ننام أو نلعب السيجة إلى العصر، فنصنع القهوة ونشربها، ونعود إلى التحدث أو اللعب إلى الغروب، إذ تعود الإبل والأغنام من مراعيها، ويكون طعام العشاء قد أُعدَّ، فيذهب كل منا إلى خيامه، فيشاهد ماله ويتعشى، ثم يعود إلى المجلس فيبقى إلى وقت العشا، ثم ينصرف كل منا إلى منامه، إلَّا إذا كان عندنا فرح فنلعب الدحية أو السامر إلى نصف الليل أو أكثر وهكذا، فنحن نأكل ثلاث وجبات في النهار، «الفطور» عند طلوع الشمس، «والغذاء» عند الظهر، «والعشاء» عند الغروب، أمَّا الرعاة فيأكلون وجبتين، «الفطور» قبل قيامهم للمرعى، «والعشاء» في الغروب بعد رجوعهم بالسائمة، وقد يضطر الراعي في بعض الأحايين أن يبيت وحده في الخلا، فيأكل قرص الملة ويشرب من لبن الإبل، ومن ذلك قولنا فيه:
«يا واكل قرص الملة، يا شارب لبن أم قردان، يا بايت في الخلا وحده.»
هذه حالنا في الربيع، وأمَّا في الشتاء فإذا نزل المطر وارتوت الأودية، اهتم الناس بالزرع ثم بالحصاد، وبعد حصد الزرع يكون النخيل قد نضج ثمره، وآن وقت جمعه، فيذهب كل من كان له نخيل إلى الطور أو فيران أو قَطْيَة أو العريش، فيبقون هناك إلى أن يجمعوا الثمر، ثم يتفرقون إلى مصالحهم.
وقد دعاني الشيخ سليمان معيوف شيخ الرميلات إلى مخيمه شرقي الشيخ زويد في ربيع سنة ١٩٠٦، فقبلت الدعوة؛ لأزداد علمًا بأحوال البدو، فاستقبلني مع جماعة من فرسانه في ظاهر المخيم، ثم أخذني إلى خيمة قد فُرِشت بالبسط، وجعلت فيها الغفور كالمساند، وكان الوقت قرب الغروب، وقد اجتمع من العربان نحو مائة رجل فيهم ٢٠ فارسًا، فأخذ الفرسان يتسابقون على الخيل أمام الخيمة والنساء يزغردن لهم نحو نصف ساعة، ثم أوقدوا النار وعملوا القهوة وقدموها للحاضرين.
ثم قُدِّم الطعام في منسفين كبيرين، منسف فيه الأرز مسلوقًا يسع ١٢ شخصًا، وآخر فيه الخبز وقطع اللحم، فأخذ المضيف يقسم اللحم والخبز على الحضور، ويدعوهم إلى منسف الأرز، فدعا أولًا ١٢ شخصًا من كبارهم، فأكلوا ثم قاموا، وأتى ١٢ شخصًا غيرهم حتى أكل الكل، فقعد المضيف هو وأولاده وأكلوا ما بقي.
وكان بين الحاضرين شاعران من الرميلات، وهما: سلَّام سليمان من السننة، وفرج أبو سليمان عبد لعيد بن عبيد الله من البُسوم، فما انتهوا من الطعام حتى بدءوا الرقص والغناء، فلعبوا السامر والمشرقية والدحية، وارتجل الشاعران في ذلك أقوالًا ذكر بعضها في باب الشعر والغناء، وكان كلما سر الجمع قول شاعر رماه واحد منهم بكوفيته وتركها له هبة حسب عادتهم.
(٨) البدوي في السفر
أحبُّ شيء إلى البدوي الغزو والسفر على حدِّ قولهم:
وإذا عزم البدوي على السفر أحضر الجمل والماء والدقيق والدخان والقهوة، فإذا نزل في مكان عقل جمله وتركه يرعى، ثم أوقد النار وشرب الدخان والقهوة، وعمل قرص الملة، وقد بعثنا مرة رسولًا على قدميه، فحمل مخلاة من الدقيق على ظهره وقربة ماء في يده وسار ماشيًا، ولسان حاله ينادي:
(٩) أفراحهم
(٩-١) الزواج بين الأقارب
وبدو سيناء كسائر البدو، يحبون الزواج الباكر والزواج بين الأقارب، وسن الزواج عندهم سن البلوغ، وأقرب قريبات الرجل التي يحل له زواجها بنت العم، فإذا بلغ الرجل تخيَّر واحدة من بنات عمه، أو من بنات قبيلته، وقلَّما مال إلى غيرهن، وإذا مال تخير من الأنساب كفؤًا له، فإن احترام البدو للنسب عظيم.
والرجل يخطب البنت من أبيها أو وليها رأسًا، بلا واسطة أو بواسطة أبيه، وأمَّا البنت فإذا كانت بكرًا فلا يؤخذ رأيها في خاطبها، بل لا بُدَّ لها من الرضى بمن رضي به أبوها أو وليها، وإذا كانت ثيبًا فلا بُدَّ من سؤالها ورضاها بمن تقدم لها.
(٩-٢) المهر
ومهر بنت العم من جمل إلى خمسة جمال، ومهر الأجنبية من خمسة جمال إلى عشرين جملًا، ومهر بنت العم في اصطلاح النجمات اللحيوات: «لبني ومربوط وجنيهان».
(٩-٣) القصَلة
وإذا رضي أب البنت أو وليها بالخاطب، أخذ غصنًا أخضر وناوله إياه وقال: «هذه قصلة فلانة بسنة الله ورسوله، إثمها وخطيتها في رقبتك من الجوع والعري، ومن أي شيء نفسها فيه وأنت تقدر عليه»، فيتناول الخاطب القصلة ويقول: «قبلتها زوجة لي بسنة الله ورسوله.»
(٩-٤) البُرْزة
ومتى أخذ الخاطب قصلة عروسه نصب له أهله خيمة على نحو ٥٠ مترًا من خيامهم، تدعى «البرْزة»، وزفوا إليها العروسة بالغناء والزراغيد، ومن غنائهن في هذا المقام للعروس: «عروس مباركة، وكعيبها أخضر»، وللعريس: «طبنجاته باذنجان، وسيفه عجُّوره محنية».
وإذا كان مخيم أهل العريس بعيدًا عن مخيم أهل العروس، ذهب العريس مع بعض أهله وأحضروا العروسة إلى مخيمهم وأدخلوها «البرزة»، وأدخلوا معها أقرب قريباتها، وأمَّا سائر النساء فيجلسن خارج البرزة مع الرجال.
(٩-٥) النقوط
وأقارب العريس يقدمون له الهدايا من الغنم والقمح والدراهم على سبيل «النقوط»، وهي دين عليه لا بدَّ له من وفائه، فإذا لم يفهِ من نفسه طولب به.
(٩-٦) الذبائح
ويذبح أهل العريس الذبائح من الغنم لأهل الفرح عند باب البرزة على زراغيد النساء، ثم يطبخون أصناف الأطعمة المحبوبة عندهم، فيأكلون ويشربون القهوة، ثم يبعدون قليلًا عن البرزة ويلعبون الدحية والسامر إلى ما بعد نصف الليل.
(٩-٧) شهر العسل
وفي أثناء اللعب تخرج النساء من البرْزة، فيدخل العريس على عروسه ويمكث معها في البرْزة من يوم إلى ثلاثة أيام، والعادة عندهم أنَّ العروس تفر من البرْزة قبل مضي ثلاثة الأيام الأولى، ويتبعها العريس ويقيم معها في الخلاء بعيدًا عن مخيم قومه، وأهله يرسلون لهما الطعام مدة أسبوع إلى شهر، وفي أثناء ذلك ينصبون لهما خيمة بجانب خيامهم، ويفرشونها بالفرش والغفور وغيرها، ثم يذهب أحدهم ويأتي بهما إلى منزلهما الجديد.
والمرأة لا تأكل مع زوجها على مائدة واحدة حياءً، ولا تناديه باسمه، بل تكنيه باسم ولده البكر ذكرًا كان أو أنثى فتقول «يا أبا فلان أو يا أبا فلانة»، وإذا لم يكن له ولد كنَّته باسم أبيه، وتحلف المرأة برأس أبيها لا برأس زوجها، وبذراع ولدها، فتقول: «من رأس أبي» أو «من ذراع ولدي» أو تقول «وحياة ضعوفي»؛ أي أولادي.
(٩-٨) الصبي والبنت
وأهل البادية كأهل الحضر يفرحون للصبي ويتكدرون للبنت، وليس عندهم مولِّدات، بل المرأة تولِّد نفسها أو تولِّدها أقرب قريباتها، وقد تلد البدوية وهي سائرة في الطريق ولا رفيق معها، فتلف ولدها «بمِزْفرٍ» وتستطرد السير إلى أن تصل أهلها.
أمَّا «المِزْفر» فهو خرقة مربعة مستطيلة من شعر يشدُّ إلى كل من طرفيها «عودٌ»، ويعقد الطرفان بحبل، فإذا سارت الوالدة جعلت ولدها بالمزفر وعلقته برأسها.
أخبرني محمد النخلاوي قال «إنه كان في قلعة النويبع ومعه امرأته البدوية واثنتان من قريباته، وكانت امرأته حاملًا فخرجت ليلة إلى شاطئ البحر، ولم تغب نصف ساعة حتى عادت والولد في كمها، ودخلت البيت فنامت إلى صباح اليوم التالي، فقامت ووضعت الولد في المزفر وسرحت في غنمها.»
(٩-٩) تسمية الأولاد
وهم يختنون الأولاد ويسمونهم قبل ختانهم.
(٩-١٠) البدوية والحضر
على أنَّ بنات البدو يأنفن التزوج بالحضر حبًّا بالبداوة وحريتها، أخبرني حضريٌّ تزوج ببدوية من بنات اللحيوات وبنى لها علِّية في نخل، فكانت تمل من الإقامة في الحضر، وتقول له: «بحياة والدك يا أبا محمد تطلقني أسرح في الخلا»، فتذهب إلى أهلها وتقيم عندهم أيامًا ثم تعود إليه، ولكن أكثر رجال نخل الذين يتزوجون من بنات البدو يتركونهنَّ في البادية لرعي أغنامهم.
ومن البدويات من لا يمكن إقناعهن بالتزوج بالحضر في أي حال كان، أعطى سلامة جمعة من اللحيوات الخناطلة قصلة بنته البكر إلى شمس إسماعيل من أهالي نخل، وأخذ مهرها منه بدون أن يسألها على عادة الأب في تزويج بنته البكر، فلما جاءوا يزفونها إليه فرَّت منهم ولم تدخل البرزة، فلحقوها وحملوها على جمل، وأدخلوها البرزة بالرغم عنها فأغمي عليها، ولما أفاقت قالت: لو قُطِّعت إربًا ما أتزوج حضريًّا، ثم غافلتهم وفرت إلى الجبال، وكان ذلك سنة ١٩٠٥، وفي شرع العرب أنه إذا بقيت البنت مصرَّة على رفض زوجها سنة بطولها حلَّ للقاضي طلاقها، فما زالت هذه البنت تفر من جبل إلى جبل حتى مضت السنة، وسمعت بأن مدير المخابرات المشرف على حكومة سيناء في رفح، فجاءت إليه متظلمة وقالت: «إنْ كان الحضري قد تزوجني بسنَّة العرب فقد مضى على زواجي به السنة وأنا لا أريده، فوجب عليه طلاقي بشرع العرب، وإنْ كان قد تزوجني بالشرع الشريف، فكان الواجب على أبي أن يسألني قبل أن يرضى به، وأبي لم يسألني؛ وعليه فأنا طالقة منه على الحالين.» قلت لها: «أراك قد نفرت من الرجل قبل اختباره فلربما لو خبرته كان أصلح لك من كل بدوي، خصوصًا وأنه يحبك حبًّا جمًّا، وهو رجل ذو يسار يريحك من رعي الأغنام وشظف العيش في البادية»، فأجابتني بنحو ما أجابت به أختها البدوية منذ أجيال:
وقد علمت من بعض ذويها أنها علقت بحب ابن عم لها، فبعثها مدير المخابرات بكتاب إلى قاضي نخل؛ لتحقيق أمرها وعدم إجبارها على الزواج بمن لا تحب، فحكم القاضي بطلاقها وتزوجت بابن عمها.
(٩-١١) واجبات الزوجين
ولكل من الزوجين واجبات قررتها العادات والتقاليد.
أمَّا الزوجة فعليها غزل الشعر والصوف، وحياكة الخيام والأخراج والغرائر والفُرش، وجلب الماء من الآبار والعيون، والحطب من الأودية، وطحن الحبوب، والعجن، والخبز، وحلب الإبل والأغنام، والخض (استخراج الزبدة من اللبن)، ورعي الأغنام عند الاقتضاء.
وأمَّا واجب الزوج فهو رعي الإبل، وجلب الغلال والغنم، وأحجار الرحى والفحم، والغربال والصاج والحمار، ومن الثياب على قدر الطاقة، فإذا قصَّر أحدهما بشيء من واجباته نحو رفيقه ألزمه «العقبي» به كما سيجيء.
قالوا: وأحبُّ خصال المرأة عند البدو، الخصال التي اشتهرت بها «وضحة» زوجة نمر بن عدوان من قبيلة العدوان ببر الحجاز وهي «أنها لم تكن تنام قبل رجوع زوجها إلى منزله، ولم تكن توليه ظهرها ما دامت في حضرته، بل كانت إذا أحبت الانصراف توَلِّيه وجهها وترجع القهقرى، ولم تكن تقترض شيئًا من جارتها مهما اشتدت حاجتها إليه، ولم تكن تحضر السامر ولا الدحية، وما قالت لزوجها «لا» طول عمرها، بل كانت تطيعه بكل أمر، وما زارت أهلها قط إلَّا برأيه وإرادته، وما استطاع أحد من الطائشين أن يراودها»، قالوا: وكان زوجها يحبها حبًّا جمًّا، فلما ماتت شقَّ عليه دفنها في التراب، فأنشد يقول:
(٩-١٢) حكاية قوت وفُهيد
وعند نزولنا في عرب أولاد سعيد سنة ١٩٠٥، طلبت من أحدهم أن يقص علينا حكاية من حكاياتهم، فقصَّ علينا رواية «قوت وفهيد» قال: كان في إحدى قبائل نجد فارس مشهور بالشهامة والإقدام يدعى «فهيدًا»، وكان في قبيلة أخرى تجاورها غادة مشهورة بالفصاحة والجمال تدعى «قوتًا»، فكان كلما التقى فهيد برجل وجرى ذكر النساء، يقول له: لا يصلح لك زوجة غير قوت، وكذلك كلما التقت قوت بامرأة وجرى ذكر الرجال، تقول لها: لا يصلح لك زوج غير فهيد، ولم تكن قوت تعرف فهيدًا ولا فهيد يعرفها، فتولد في قلب كل منهما حبٌّ للآخر وشوقٌ لرؤيته، «والأذن تعشق قبل العين أحيانًا.»
وكان لقوت جارية تعرف مورد فهيد، فأخذت جاريتها وأتت بها إليه، فاتفق أنَّ فهيدًا لم يرد الماء في ذلك اليوم، ولكن وردها أخوه وهو فتًى صغير، فتقدمت إليه قوت وقالت له: أأنت شقيق فهيد الفارس المشهور، قال: نعم، فدنت منه وقبَّلته قبلة وقالت: «هذه لك»، ثم قبَّلته قبلة ثانية وقالت: «هذه لأخيك فهيد»، وعادت إلى قبيلتها، فذهب الولد وأخبر أخاه بما كان، فاشتعل إذ ذاك فهيد حبًّا، وأخذ يسعى رؤية قوت والاجتماع بها، فلبس لبس راعٍ ودخل قبيلة قوت، وقال فقدت «ناقة» لي وجئت أفتش عليها بين نياقكم، فقالوا: هذه إبلنا ففتش على ناقتك بينها، فدخل فهيد بين الإبل وكانت قوت هناك، فلما رآها لم يشكَّ أنها هي؛ لفرط جمالها ورشاقة قدها، فتقدم إليها وحيَّاها بأبيات جميلة، فعرفت أنه فهيد، فردت عليه التحية شعرًا أحسن رد، وخاف فهيد إذا أطال المكث أن ينكشف سرُّه، فودعها مرغمًا وبعث يخطبها من أبيها بأي مهر شاء، وكان لقوت ابن عم لها يريد الاقتران بها وكان أبوها راضيًا به، فرفض طلب فهيد، ولكنه خاف بطشه، فنقض خيامه وسار راحلًا إلى أرض بعيدة، فركب فهيد فرسه ولحق بالقوم، وأخذ منهم قوت عنوةً وهي في هودج على جملها، وسار بها قاصدًا قومه، وفي الطريق قالت قوت: أخاف يا فهيد إذا تزوجتني على الرغم من أهلي أن يعير العرب أولادنا بأنهم أولاد «قلاعة»، فالرأي أن تردني إلى أهلي وتسوق «الجاهة» إلى أبي فيزوجك برضاه، وأنا أعدك وعد حب صادق أني لن أرضى بأحد غيرك قرينًا لي، فاقتنع بوجاهة رأيها وردها إلى أهلها، فلما دخل الظعن رماه عمها وطفان برمحه غدرًا فقتله، فحزنت عليه قوت حزنًا شديدًا، ثم أخذت تندبه وترثيه بالأشعار، وقد انقطعت عن الطعام والشراب إلى أن ماتت، ومن قولها فيه:
ومنه:
(١٠) ختان الأولاد
وهم يختنون أولادهم صبيانًا وبناتًا: البنات في سن الثامنة إلى العاشرة، والصبيان في سن السادسة إلى الثانية عشرة، أمَّا البنات فختان السنَّة «لا ختان فرعون»، ويختنهن أمهاتهن أو قريباتهن، أو نساء الغجر الماهرات بهذه الصناعة، وذلك على انفراد بلا احتفال، وأمَّا الصبيان فيحتفل بختانهم احتفالًا أعظم من الاحتفال بزواجهم، ويحتفل في الغالب بختان جماعة من الصبيان في وقت واحد، فإنه إذا أراد أحدهم ختان ابنه أعلن أهل قبيلته عن المكان والزمان اللذين ينوي الختان فيهما، فيجتمع أفراد قبيلته في الميعاد، وتضرب الخيام، وكل من أراد ختان ابنه رفع راية بيضاء فوق خيمته، ثم تُضرب خيمة شرقي المخيم تدعى «خيمة الطهور» ترفع فوقها راية بيضاء، وتقام الأفراح من يوم إلى سبعة أيام، يتسابق الرجال فيها على الخيل أو الإبل نهارًا، ويرقصون الدحية والسامر ليلًا، وفي عشية يوم الختان يذبح أهل الصبيان المراد ختانهم الذبائح من الإبل أو الضأن أو الماعز، ويطبخون أنواع الأطعمة ويوزعونها على الخيام، وتغني النساء في كرم صاحب الوليمة ومن ذلك قولهنَّ:
وفي صباح يوم الختان يتسابق الرجال سباقًا عامًّا على الخيل أو الهجن، وفي الضحى يركبون الصبيان المراد ختنهم على الإبل، ويطوفون بهم حول الخيام والنساء وراءهم يزغردن لهم ويغنين، ومن غنائهن:
ومنه:
ثم يدخلون الصبيان إلى «خيمة الطهور» ويأتي الشلبية (م: شلبي) المنوط بهم الختن، ويبدءون في الختن الظهر، وإذ ذاك يقف الرجال أمام باب الخيمة والنساء من ورائهم، وكل امرأة يختن ولدها تجعل على ظهرها حجر الرحى والسيف في يدها، تضرب بقفاه الخيمة دفعًا للعين الشريرة، فعندما يقطع الشلبي غلفة ولدها يناديها ولدها «لعينك يا أماه أرمي حجر الرحى عنك ولكِ ناقتي» فتزغرد له، ثم يلتفت إلى عمه ويقول «لعينك يا عماه»، فإن كان لعمه بنت تناسبه علم أنَّ الولد يخطب بنته فيجيبه: «مرحبًا بك بفلانة جاءتك عطاءً»، وإنْ لم يكن له بنت أجابه: «مرحبًا بك لك الناقة الفلانية، أو لك رأس معز أو ضأن» هدية أو نقوطًا.
وبعد ختن الأولاد يعلقون رءوس الذبائح في أوتاد على بعد ٤٠ إلى ١٠٠ خطوة حسب قوة بنادقهم، ويتبارون في رميها بالرصاص، ويبدأ بالرمي أهل الفرح ثم الحضور، وكل منهم يطلق رصاصة واحدة، فأي من أصاب رأسًا أخذه وأخذ معه فخذًا من اللحم، وكذلك يفعلون في ذبائح الأفراح، ويسمى هذا الكسب عندهم «طعمة البارودة»، وتغني النساء للفائز فيه بقولهنَّ:
ومن غنائهن في السامر بعد الطعام:
(١١) أمراضهم وأطباؤهم
تقدم أنَّ جفاف هواء سيناء ونقاوته يمنعان تفشِّي الأمراض بين أهلها، وهم أنفسهم يتحصَّنون من الأمراض بمحافظتهم على العرض واهتمامهم بالزواج الباكر، ولو راعوا النظافة وسائر شرائط الصحة، لعاشوا بلا مرض وعمِّروا طويلًا.
وفيهم آل خبرة في الطب من النساء والرجال، ورأس الدواء عندهم «الكي»، قالوا: «لما غضب لقمان الحكيم من الدواء رماه في النار»، فهم يستعملون الكي لوجع الرأس، والمعدة، والظهر، وسائر الأمراض الباطنية، وعندهم عدد ليس بقليل من الأعشاب الطبية يداوون بها مرضاهم وقد تقدم ذكرها.
وفيهم الجراحون يعالجون الجراح التي كثيرًا ما يصابون بها في غزواتهم، فهم يخيطونها ويغسلونها كل يوم بمستحلب بعر الحمير مدة أربعة أيام، ويغلون البصل بالماء، ويصفُّونه ويغسلون به الجرح، ويسقون العليل منه؛ لمنع تعفُّن الجرح ودفع أذى الرائحة، ثم يغلون المر بالسمن، ويجعلونه دهانًا، فيدهنون به الجرح أربعين يومًا حتى يبرأ.
ومن الأمراض التي تنتابهم بالعدوى من الحضر: الجدري والحمى «الوخم»، وهم لا يعرفون لهما علاجًا، ولكن يبخرون المصاب بهما بشعر الضبع أو بجلد القنفد، وأمَّا الكوليرا فغير معروفة في سيناء، وقد أصيب بها السواركة مرة في شرق بلاد العريش، جاءتهم من برِّ الشام ففتكت بهم حينًا ثم فارقتهم.
وجرت عادة النساء أن يحرقن صغار العقارب ويسحنَّها بهاون، ويرششن منها على حلمات أثديتهن عند إرضاع أطفالهن تطعيمًا لهم؛ حتى لا يؤذيهم لسع العقارب.
ويعتني بالمريض أمه وأخته وزوجته وعمته وخالته، ويعوده أهل قبيلته، فيقولون: «عساك طيب، يزول الشر.» فيجيب: «يزول إنْ شاء الله.»
(١٢) مآتمهم
يبكي الميت أمه وأخته وزوجته وعمته وخالته وبنت عمه، وهن يحللن شعورهن ويحثين التراب على رءوسهن ويندبنه بقولهنَّ: «يا ويلي يا حزني يا ولدي يا سبع.»
وأمَّا الرجال فلا يبكون الميت ولا يندبونه إلَّا نادرًا، ويقولون: «الميت لمَّا مات عشاك أفيد منه»، ويقولون في التعزية «الله يرحمه، والله سوَّى اللي عليه أبو حَمَده»؛ أي قرى الضيف وأنجد الرفيق، وهم يغسلون الميت ويكفنونه ويصلون عليه قبل دفنه.
ولكل قبيلة تربة أو ترب خاصَّة بهم، وغالب تربهم قرب الماء؛ وذلك لأجل غسل الميت قبل دفنه، وإذا مات أحدهم بعيدًا عن الماء جعلوه في غرارة، وحملوه على جمل في الجنب الواحد، وجعلوا ما يوازنه حجارةً في الجنب الآخر، وأتوا به إلى الماء وغسلوه وكفَّنوه، وإذا تعذر عليهم جلب الماء والمصلي دفنوه بلا غسيل ولا صلاة، وهم يفضلون دفن موتاهم في الترب المدفونة فيها أولياؤهم كما مرَّ.
والقبر عندهم حفرة واسعة في أحد جانبيها حفرة ضيقة، يضعون الميت في الحفرة الضيقة على جنبه الأيمن، متجهًا نحو الكعبة ويسدُّونها بالحجارة، ثم يردمون الحفرة الواسعة ردمًا محدَّبًا كسنام البعير، ويدلُّ على القبر حجر فوق رأس الميت، وحجر فوق قدميه، أو فرشة من الحصى فوق القبر كله.
وهم يجعلون بدلة من ثياب الميت فوق قبره، فتبقى حتى تبلى أو يأخذها عابر سبيل، وفي بلاد الطور يعلقون بدلة من ثياب الميت في شجرة، أو يضعونها على صخرة قرب التربة، ويقولون عند الدفن: «يا رحيم، يا رحيم، ارحم القبر المقيم» يكررون ذلك مرارًا، ويقفون عند رأس الميت ويقولون: «شجرة الدر عمتك وأمك النخلة.»
أمَّا «الحداد» على الميت فالرجال لا نصيب لهم فيه، وأمَّا النساء فيحددن من أربعين يومًا إلى سنة كاملة، لا يلبسن فيها الحلي ولا جديد الثياب، ويخلعن البراقع فيتلثَّمن بخرقةٍ سوداء، أو يغشين البرقع كله بالسواد وينقطعن عن الأفراح والمآدب، ثم في ليلة جمعة من شهر رمضان يذهب أهل الميت نساءً ورجالًا إلى القبر ويذبحون ذبيحة جملًا، أو رأس معز تصدقًا عن نفس الميت، يجعلون اللحم عند القبر ويقولون: «هذا عشاك ودع فلان وفلان (من الذين ماتوا قبله أو بعده) يأكل معك»، وكذلك يقدمون في نهاية السنة ذبيحة ناقة أو رأس معز، ويتصدقون بها على الفقراء.