في شرائعهم وأحكامهم
ليس للبدو شريعة مكتوبة، بل يحكم قضاتهم بالعرف والعادة كما مرَّ، وأهمُّ جرائمهم: القتل، والسرقة، والشتم، وخطف البنات، وحرق زرع الغير، والاعتداء على أرضه، وردم آباره، وعدم وفاء دينه، وشن الغارة بعضهم على بعض ونحو ذلك، وأما شريعة البدو فيمكن حصرها تحت الرءوس الآتية، وهي: (١) روابط القبائل. (٢) شريعة القتل. (٣) شريعة الجروح. (٤) شريعة النساء. (٥) شريعة الإبل. (٦) شرائع أخرى.
(١) روابط القبائل
(١-١) حفظ النسب والعصبية
وبدو سيناء كسائر البدو يعنون بحفظ أنسابهم ويتفاخرون بها ويبالغون في استقصائها حتى يردُّوها إلى الآباء الأولين، وأقرب أسباب العصبية عندهم الأبوة والأخوة والعمومة ومنها تتألف العائلة، ومن العائلات تتألف الفصيلة، ومن الفصائل يتألف الفخذ، ومن الأفخاذ يتألف البطن، ومن البطون تتألف العمارة، ومن العمائر تتألف القبيلة، ومن القبائل يتألف الشعب وهو النسب الأبعد.
ثم إن القبائل يتعصب بعضها لبعض حسب ارتباطها في العصبية، فتجتمع القبائل أو فروعها الأقرب فالأقرب على الأبعد فالأبعد، أي تجمع الفصائل من الفخذ الواحد على فخذ آخر ولو كانوا جميعًا من بطن واحد، والأفخاذ من العمارة الواحدة على عمارة أخرى ولو كانوا جميعًا من قبيلة واحدة، وهكذا.
(١-٢) سمات القبائل
ولكل قبيلة من قبائل البدو سمة خاصة تسم بها إبلها وحميرها وغنمها، أي تضع عليها علامة ما بميسم كيًّا بالنار، وذلك في الرقبة أو الرأس أو الصلب، وأمَّا الخيل والبقر فتترك بلا وسم.
(١-٣) حدود القبائل
ولكل قبيلة جهة محدودة من الجهات الأربع معروفة عندهم بعلامات طبيعية بارزة. وفي الجهات التي ليس فيها علامات بارزة يضعون رجومًا من الحجارة للدلالة على الحدود.
(١-٤) المراعي والمياه
ولكل قبيلة مراعٍ ومياه وأراضٍ زراعية معروفة، أمَّا المراعي والمياه فمشاع لجميع القبائل، فلا تمنع قبيلةٌ قبيلةً أخرى عن مراعيها ومياهها إلَّا في زمن الحرب، وأمَّا الأراضي الزراعية فهي ملك لأفراد القبائل، فلا يتعرض أحدهم لأرض غيره ولا يزرعها إلَّا بإذنه.
وفي عرفهم أنه إذا اكتشف أحدهم ماء لم يكن معروفًا أو احتفره في مكان لم يكن فيه من قبل أصبح الماء ملكًا له وأقام بجانبه رجمًا ووسمه بوسمه، وإن كان بقرب الماء أرض صالحة للزراعة استولى عليها وزرعها لنفسه، هذا إذا كان الماء في أرض قبيلته وإلَّا فإذا كان في أرض أجنبية حق له الانتفاع به كغيره من أبناء القبيلة التي وجد الماء في أرضها، ولم يكن له حق بالأرض التي حوله.
(١-٥) الحِلف والقلَد
وكل قبيلة من قبائل سيناء مرتبطة بسائر القبائل بحلف أو قلد، ولها «حسيب» حافظ لعهودها مع القبائل، ويعرف بالعقيد أو بنقَّال الأقلاد أو نقَّال العلوم، أمَّا «الحلف» فهو المحالفة بعينها، وهو معاهدة دفاعية هجومية، وأمَّا «القلد» فهو معاهدة سلمية لمنع الحرب أو الغزو وحفظ السلام بين القبائل.
وفي عقد الحلف بين قبيلة وأخرى يجتمع حسيبا القبيلتين وكبارهم في بيت وجيه من قبيلة ثالثة، فيجعل الحسيب الواحد يده في يد الآخر، ويعيد كل منهم القسم الآتي: «الله الله، محمد رسول الله، نحن وإياكم الحوض واحد والروض واحد، الذي يضرُّكم يضرُّنا، والذي يسرُّكم يسرُّنا، بيننا وبينكم عهد الله، لا يصير بيننا غزو ولا حرب، أعداء من عاداكم وأصدقاء من صادقكم ما دام البحر بحر والكف ما ينبت شعر»، وأمَّا قسم القلد فهو: «الله الله، محمد رسول الله، ما بيننا عهد الله ما يتعدى أحد على أحد.»
ويشترط في من يُعقد عنده الحلف أو القلد أن يكون «مشهور مذكور وسيع المراح راعي مال وعيال»، ويدعى «راعي البيت» وبيته «بيت العمارة»، وهو الشاهد الحكم بين المتعاهدين، ويورث علمه هذا للأرشد من أولاده.
وهذه حال الحلف والقلد بين قبائل سيناء في وقتنا الحاضر.
بين الحويطات واللحيوات والترابين والطورة حلف قديم، وبين كل من هذه القبائل والتياها قلد، وقد تمَّ حديثًا بين التياها شياخة حمد مصلح وبين الترابين حلف جديد، ثم إن بين السواركة والعيايدة من جهة وبين الترابين من جهة ثانية قلد، وبين السواركة وكل من التياها واللحيوات قلد، وبين البياضيين والسماعنة حلف.
قيل وهذه العهود ترجع إلى قسمة قديمة العهد بين البدو كافة، فهم بوجه الإجمال شطران: شطر «سعد» وشطر «حرام»، وقد اختلفوا في تعليل ذلك، فمنهم من قال: إن انقسامهم هذا يرجع إلى مقتل الحسين، فالذين غلبوا في تلك الواقعة قالوا: «اليوم حرمنا النصر»، فكانوا شطر حرام، والذين فازوا قالوا: «اليوم سعدنا» فكانوا شطر سعد، وقال آخرون: إن «سعد وحرام» شقيقان عشقا في ما مضى من الزمان بنت أمير عرب، فانقسمت العرب بهما قسمين: قسم انحاز إلى سعد وآخر إلى حرام، وحصلت حرب عامة بين البدو بسببهما، فسُمِّي كل قسم بالأمير الذي انتمى إليه.
-
الشيخ نصير بن موسى بن نصير، حسيب الطورة.
-
الشيخ عودة بن بنية أبو طقيقة، حسيب الحويطات.
-
الشيخ سلَّام البرعصي، حسيب التياها.
-
الشيخ سليمان القصير بن نجم، حسيب اللحيوات.
-
الشيخ فريج سلَّام أبو صفيح، حسيب الصفايحة اللحيوات.
-
الشيخ سلامة بن جازي، حسيب الترابين الحسابلة.
فالقبائل التي يربطها القلد لا ترفع خصوماتها إلى الزيادي رأسًا، بل إلى الحسيب، فإذا اعتدت قبيلة منها على جمال الأخرى؛ ذهب صاحب الإبل إلى الحسيب وهو يرد له الإبل مع غرامة جنيهين عن كل جمل، وأمَّا القبائل التي يربطها الحلف فترفع خصوماتها إلى الزيادي بعد رفعها إلى الحسيب، فإذا سرق أحدهم جمالًا من قبيلة مرتبطة مع قبيلته بحلف؛ ذهب صاحب الجمال إلى حسيب قبيلة السارق فيردُّ له الجمال المسلوبة ويجرُّ السارق إلى الزيادي فيغرمه غرامة شديدة.
(١-٦) النفاض
وإذا أراد قليد «نفض» العهد مع قليده لسبب من الأسباب؛ بعث له برسول من قبيلة ثالثة على هجين له، فيقول الرسول: «جايب لك النفاض من فلان، وهذا حد العهد بينك وبينه، والعرض من العرض أبيض (أي إنه حذره ولم يغدر به)، ومعك ثلاثون يومًا تلم بها أطرافك وبعد هذا الميعاد حرب، عليك النقا بذبح الرجال وشلِّ المال»، ثم تدور رحى الحرب بينهم فإمَّا أن يغزو بعضهم بعضًا وتنهب كل قبيلة من جمال الأخرى وتقتل من رجالها ما تصادفه في طريقها، أو يلتقي رجال القبيلتين في معركة دموية فاصلة يستخدمون بها الأسلحة النارية والأسلحة البيضاء، ومتى استعرت حرب بين قبيلتين استنجدت كل قبيلة بالقبائل المرتبطة معها بحلف فتنجدها.
(١-٧) العَطْوة
وقد يطلب أحد الفريقين هدنة، وتعرف عندهم «بالعطوة» فيعقدانها ثم يعودان إلى الحرب، ومدة الهدنة عندهم من ٣ أيام إلى سنة وشهرين، ومن خان رفيقه أثناء العطوة اقتُصَّ منه ضعفين.
(١-٨) الصلح
ومتى أرادت القبيلتان الصلح اجتمع حسيباهما وكبارهما وهدروا كل دم لم يعلم قاتله، وأمَّا الرجل المعروف قاتله فديته ألف غرش تعريفة أي خمس جنيهات مصرية، وأمَّا المال المنهوب فلا يرد، ثم يعقد الصلح بحلف أو قلد.
(١-٩) الأخوَّة أو الطلوع
وقد تضعف قبيلة أصيلة في حرب مع قبيلة أخرى؛ فتنضم إلى قبيلة ثالثة بالأخوة للمحافظة على كيانها، فيجتمع شيخ القبيلة اللاجئة بشيخ القبيلة الملجوء إليها في مجلس خاص ويقول له: «أنا طالع معك وأخوك من كتاب الله العزيز، دمي يسد عن دمك، ومالي يسد عن مالك، ورجالي تسد عن رجالك، وابني يسد محل ابنك، وبنتي تسد محل بنتك، أطرد مطرادك، وأشرد مشرادك، وفي الخير إخوان، وعلى الشر أعوان، عهد الله بيننا، والقلب صافي، هل قبلتني؟»
فيقول الثاني: «قبلتك على الرحب والسعة»، فتصبح القبيلتان من ذلك الحين كأنهما قبيلة واحدة، مقعدهم واحد وحربهم واحد وفزعهم واحد وقولهم واحد، ويعرف ذلك عندهم «بالطلوع»، ومن ذلك طلوع الرميلات مع السواركة، والخلايفة اللحيوات مع الشوَّافين، ومزينة مع العليقات في جزيرة سيناء.
وقد «يطلع» نفر من البدو من شياخة فخذ إلى شياخة فخذ آخر في القبيلة الواحدة، كما فعل هُوَيشل بن سليم، فإنه طلع من شياخة الصفايحة اللحيوات إلى شياخة الخناطلة اللحيوات.
(١-١٠) الخاوة
وأمَّا التجاء قبائل هتيم إلى القبائل الأصيلة فيعرف بالخاوة كما مرَّ.
(١-١١) الطنَب
وإذا جار شيخ قبيلة على جماعة من رجال قبيلته، وأحس هؤلاء من أنفسهم القدرة على مقاومته قاوموه، وإلَّا أطنبوا على شيخ قبيلة أخرى بأن ينصبوا خيامهم في حذاء مخيَّمه، ويطلبوا إليه أن ينصفهم من شيخهم، ففي الغالب يرحِّب بهم ويذبح لهم الذبائح، ثم يذهب معهم إلى شيخهم ويصلحهم، ويعرف ذلك عندهم «بالطنب».
(١-١٢) الوثاقة
ومما اعتاده أهل البادية وأصبح عندهم شريعة «الوثاقة» وهي رهائن من الإبل تؤخذ خلسة للحصول على حق ممطول، فإذا ادَّعى رجل على آخر بحق ولم يذعن المدعى عليه للحق ولا سَمَّى قاضيًا للفصل في الدعوى أشهد عليه بذلك وأصبح له الحق بأخذ الوثاقة من إبله أو إبل عشيرته، وإذا كان خصمه من قبيلته أشهد عليه بذلك أربع مرات متوالية في أربع جلسات والشمس طالعة قبل أن يشرع بأخذ الوثاقة، إلَّا في رمضان فإنه يجوز له أن يشهد على خصمه ليلًا.
ويشترط لصحة الوثاقة أن تناخ الجمال الموثوقة عند بيت رجل مهوب، وأن يقال لرب البيت: «إني أضع هذه الوثاقة عندك في حقي عند فلان»، فإن أدرك صاحب الإبل الموثوقة إبله قبل إدخالها في بيت الرجل المهوب قاتل أحدهما الآخر، وأكثر شرور البدو في سيناء وغيرها تنجم من الوثاقة.
وفي عرفهم أن الهجن الأصيلة لا توثق ما دام يوجد غيرها، ومن أمثالهم: «الهجن منذرة الطلب» فإذا أخذت بالوثاقة جر صاحبها الواثق إلى الزيادي وحاكمه وحكم عليه، ومن الهجن التي لا توثق هجن الضيوف كما مرَّ، ومن أمثالهم: «الضيف من المحصنات».
(١-١٣) الرجم
الرجم حجر أبيض أو مجموع من الحجارة البيضاء، تقام على ماء شهير أو درب جهير اعترافًا بجميل أو ردًّا لشرف أو تخليدًا لأثر، فإذا فعل رجل مع آخر جميلًا بأن أنقذه من خطر أو نشله من فقر؛ نصب له رجمًا على درب جهير أو ماء شهير، وجعل عليه وسم قبيلته إشهارًا لجميله، وإذا عاب بعضهم شخصًا حكم المنشد عليه بإقامة رجم للمعتدى عليه على درب جهير أو ماء شهير ردًّا لشرفه، وإذا ثقل عليه إقامة الرجم افتداه بجميل ظهير، ثم إذا وقعت واقعة عندهم تستحق الذكر أقاموا في مكان الواقعة رجمًا من الحجارة تخليدًا لها، وقد يخطون بدل الرجم دوائر أو حفرًا وثلمًا في الأرض لا يزالون يحيونها كلما طمرت، وهذه العادة هي من أجمل عاداتهم خصوصًا وأن ليس عندهم كتبٌ يدوِّنون بها أخبارهم، وقد اهتديت بها إلى كثير من وقائعهم وحروبهم.
فدعا يشوع الاثني عشر رجلًا الذين عيَّنهم من بني إسرائيل، رجلًا واحدًا من كل سبط، وقال لهم يشوع: اعبروا أمام تابوت الرب إلهكم إلى وسط الأردن وارفعوا كل رجل حجرًا واحدًا على كتفه حسب عدد أسباط بني إسرائيل لكي تكون هذه علامة في وسطكم إذا سأل غدًا بنوكم قائلين: ما لكم وهذه الحجارة؟ تقولون لهم: إن مياه الأردن قد انفلقت أمام تابوت عهد الرب، عند عبوره الأردن انفلقت مياه الأردن، فتكون هذه الحجارة تذكارًا لبني إسرائيل إلى الدهر.
ويستدل من التوراة أنه كان من عادة البدو قديمًا نصب الرجوم عهدًا بين فريقين، فهي بمثابة الرجوم التي تنصب الآن لصانعي السلام بين قبيلتين أو شخصين.
جاء في سفر التكوين ص٣١ عد٤٣ إلخ: «فأجاب لابان وقال ليعقوب: … هلم نقطع عهدًا أنا وأنت فيكون شاهدًا بيني وبينك، فأخذ يعقوب حجرًا وأوقفه عمودًا، وقال يعقوب لإخوته: التقطوا حجارة، فأخذوا حجارة وعملوا رجمة، وأكلوا هناك على الرجمة … وقال لابان ليعقوب … شاهدة هذه الرجمة وشاهد العمود أني لا أتجاوز هذه الرجمة إليك وأنك لا تتجاوز هذه الرجمة وهذا العمود إليَّ للشر.»
وجاء في سفر يشوع ص٤٢ عد٢٥ إلخ: «وقطع يشوع عهدًا للشعب في ذلك اليوم، وجعل لهم فريضة وحكمًا في شكيم … وأخذ حجرًا كبيرًا ونصبه هناك تحت البلُّوطة التي عند مقدس الرب، ثم قال يشوع للشعب: إن هذا الحجر يكون شاهدًا علينا؛ لأنه قد سمع كل كلام الرب الذي كلَّمنا به فيكون شاهدًا عليكم لئلا تجحدوا إلهكم.»
(١-١٤) التبييض والتسويد
التبييض نصب راية بيضاء على ماء شهير أو درب جهير إشهارًا لفضل أو إشعارًا بجميل، فهو كالرجم إلَّا أن الرجم من حجر وهذا من قماش، وضده التسويد وهو نصب راية سوداء على ماء شهير أو درب جهير تشهيرًا لقبيح أو للتقصير في وفاء دين أو غرامة، فإذا كفل رجل آخر في سداد حق لثالث ولم يفِ بكفالته نشر المكفول له عباءته كعلم في ملإٍ من الناس وقال: هذه راية فلان، فإنه نكث بعوده وقصَّر في كفالته، ونحو ذلك من العبارات التي تسوِّد وجه الكفيل، فإن كان المكفول له محقًّا سكت الكفيل، وإلَّا طلبه للمنشد وغرَّمه غرامة شديدة.
أخبرني قومندان سيناء أن المنشد حكم لبعضهم سنة ١٩٠٤ برباع ورباعية وجنيهين؛ لأن خصمه سوَّد عليه بلا سبب موجب، وقال المنشد: لو كان التسويد قد حضره أهدبان شائبان معتبران؛ فلصاحب الوجه فوق ذلك أربعون جملًا، فطلب أحد الحضور من صاحب الوجه التنازل عن الجنيهين، وطلب القومندان التنازل عن الرباعية؛ فبقي لصاحب الوجه رباع واحد فأخذه وانصرف.
(١-١٥) رمي الوجه
وهو الاستنجاد برجل وجيه مهوب لمنع شر أو خصومة، فإذا هب رجلان أو قبيلتان للقتال وقال أحد الحضور: «رميت وجهي أو وجه فلان بينكما» كف الفريقان عن القتال في الحال، فإن «للوجه» حرمة عظيمة عندهم فلا يمتهنه إلَّا كل فظٍّ مجازف، فإذا استمر أحد الفريقين على القتال بعد رمي الوجه؛ قال صاحب الوجه: «فلان قطع وجهي» ودعاه إلى المنشد، فإذا أبى أشهد عليه أربعة شهود وشرع في أخذ الوثاقة من إبله حتى يذعن للمنشد، ولا بدَّ للمنشد من الحكم عليه بعقوبة تختلف من جملين رباعيين إلى أربعين جملًا «حسب درجة الوجيه المقطوع الوجه» ونصب رجم لمقطوع الوجه على ماء شهير أو درب جهير، فإذا لم ينصب الرجم في مدة ٣ أيام اضطر أن يعوض عنه بجمل ظهير، وقد يحكم المنشد عليه بقطع قيراطين من لسانه فيفتدي ذلك بعدد من الإبل.
(١-١٦) الجاهة
وإذا كان قاطع الوجه المحكوم عليه بالغرامة فقيرًا لا طاقة له على دفع الغرامة كلها أو بعضها؛ قام بما استطاع القيام به «وساق الجاهة» بما بقي من الغرامة على صاحب الوجه، فيأخذ نساءه ونساء جيرانه وذبيحة وكيس دقيق وشيئًا من البن ويأتي مخيم صاحب الوجه وينصب خيمته بجانبه، ثم يولم وليمة ويدعو إليها صاحب الوجه ويسترحمه للتنازل عما بقي من المغرم، فيتنازل عنه كرمًا وشهامةً، وإذا أبى التنازل عنه بعد الاسترحام عُدَّ بخيلًا عديم المروءة.
(١-١٧) الأخذ بالثأر
أمَّا الأخذ بالثأر فمشروع عندهم، فلا حرج على آخذ الثأر ولا ملام: فالعين بالعين والسن بالسن والنفس بالنفس، وإذا تخاصم اثنان وجرح أحدهما الآخر وذهبا إلى القصَّاص فإن تساوى الجرحان حكم ببراءة الاثنين، وإذا زاد جرح واحد جرح الآخر قدَّر القصَّاص الغرامة بقدر الزيادة، وإذا مات صاحب الثأر قبل أن يثأر لنفسه من خصمه ورَّث الثأر لأولاده من بعده كما قدمنا.
(١-١٨) الحَسنَة
وكما أن البدوي لا ينسى السيئة فهو لا ينسى الحسنة، فإذا فعل أحد معه جميلًا «شال له الحسنة» أي حفظ له هذا الجميل وأورث الجميل لأبنائه من بعده إلى انقراض الذرية، ولا فرق إن كان صاحب الجميل بدويًّا أو حضريًّا، أمَّا أهل العريش فيحرصون على حسناتهم مع البدو ويدوِّنونها في كتبهم، وأمَّا أهل البادية فيحفظونها في صدورهم.
وفائدة العرايشية من هذه الحسنات في البادية عظيمة جدًّا؛ فإنه إذا فقد لأحدهم بعير فتش «الحساني» عليه حتى يجدوه، وإذا ضاع له حق عند أحد البدو ساعدوه على رده، وإذا كان له حاجة في البادية وأضافهم أكرموه وقضوا له حاجته، وإذا اختصم اثنان من الحساني على ضيافته حُكم بالضيافة لصاحب الحسنة الأهم؛ لأن الحسنات درجات في الأهمية، وإذا حصلت حرب بين قبيلة المحسن وقبيلة المحسن إليه؛ فالمحسن إليه لا يحارب المحسن ولا يقربه بسوء.
ومما سمعته من أهل العريش بشأن الحسنات أن اللحيوات قتلوا رجلًا من أولاد سليمان، فاصطلحوا معهم على الدية أربعين جملًا، فدفع اللحيوات نصف الدية وأبقوا النصف الآخر أي عشرين جملًا بصفة حسنة، فدوَّن أولاد سليمان ذلك في دفتر الحسنات.
وأخبرني الشيخ سليمان القصير شيخ اللحيوات الأسبق بشأن الحسنات بين العرب بعضهم وبعض؛ أن التياها قتلوا أخاه حسينًا في جهة الطور منذ نحو أربعين سنة وتركوه في مكانه، فمر به الزميلي شيخ العليقات في ذلك الحين فحمله على جمل ودفنه في تربة لهم في جهة الرملة، فأتيت إلى الشيخ الزميلي وشكرت جميله ونقلت له الحسنى وقلت: «ناقل لك الحسنة عَ الخمسة (أي خمسة جدود) لا هاملة ولا مرعية»، وأنا لا زلت أحفظ له هذا الجميل وسأورثه لأولادي من بعدي لخامس جد.
(١-١٩) الشريك
هذا وكان حضر الطور وحضر السويس من المسلمين يشترون «حسانيهم» من البدو بالمال، فكل تاجر له مصلحة في البادية يختار له «شريكًا» أو حُسنى من البدو فيجعل له مرتبًا من القماش والغلة يدفعه له كل سنة على شرط أن يقضي له مصالحه مع أهل البادية.
حكى لي الشيخ إبراهيم أبو الجدايل قال: إن إبراهيم بك جريدان من أعيان تجار السويس كان له «حسنى» من العوارمة يدعى نصار بن حسن، وكان لنصار مرتب من أرز وقمح وثياب ونحوها يأخذه من إبراهيم بك كل سنة، وكان تجار السويس قديمًا يرسلون نقودهم صرًّا مع البريد إلى مصر، فحدث في نحو سنة ١٨٦٠ أن بدويًّا قابل البريد وسلب منه الصرَّ وكان فيه صرَّة إبراهيم بك جريدان، فلما حضر نصار بن حسن إلى السويس رفع له إبراهيم بك راية سوداء فسأله في ذلك فقال: كيف تكون «حسناي» ويُسرق صري من البريد، فقال: أنزل هذه الراية وأعطني كيلين غلة زاد الطريق ففعل، فذهب نصار بن حسن وما زال يفتش عن الجاني حتى وجده فقال له: يا فلان إن حسناي رفع لي راية سوداء بسببك، فإمَّا أن ترد لي صرَّته أو بيني وبينك الحرب، فناوله الصرة بذاتها فحمله وأتى بها إلى إبراهيم بك في السويس، وأمَّا باقي الصرر فما زالت مخفية إلى الآن.
(١-٢٠) الخفير
هذا ما كان بين البدو ومسلمي الحضر، وأمَّا نصارى الحضر في الطور، فقد كان للبدو عليهم خفارة، فكل عائلة من نصارى الحضر كان لها عائلة من البدو تخفرها وتحافظ عليها وعلى مالها، قيل وكان للدير قديمًا ٢٥ خفيرًا، وكان من سنَّة البدو أن الخفير يرث مخفوره إذا لم يترك وارثًا.
واتفق أنه منذ نحو ٣٥ سنة مات ناصر المسيحي في الطور عن كرم في وادي الحمام، ولم يكن له وريث غير أخته زوجة الخواجا قسطندي عنصرة، فاستولت على الكرم، وكان خفراء ناصر قديمًا النفيعات فلما دروا بموته قاموا يطالبون بالكرم مع أن النفيعات تركوا سيناء من زمان ولم يبقَ منهم إلَّا شرذمة قليلة كما مرَّ؛ فرفع العناصر الأمر للداخلية، ولما رأى النفيعات أن الداخلية لا تنصرهم سألوا عن خفراء العناصرة من البدو، فوجدوا أن خفراءهم أولاد سعيد؛ فأغاروا على جمال أولاد سعيد وأخذوا منها جملين بطريق الوثاقة وقالوا لهم: «إنكم خفراء العناصرة فأنتم مسئولون لنا عن حقنا منهم»، ثم دخل الشيخ موسى أبو نصير شيخ مشايخ الطورة في الصلح فأعطى النفيعات ٢٠ جنيهًا فوق الجملين وحسم النزاع.
(٢) شريعة القتل
إذا وقعت حادثة قتل في البادية؛ فأهل القتيل الأقربون من الأب والجد فصاعدًا إلى الدرجة الخامسة، ومن الابن وابن الابن والأخ وابن الأخ والعم وابن العم فنازلًا إلى الدرجة الخامسة يطاردون القاتل وأهله الأقربين إلى الدرجة الخامسة صاعدًا أو نازلًا طلبًا للأثر، فإذا فازوا بثأرهم وقتلوا القاتل أو أحدًا من أهله الأقربين انتهى الأمر، وإلا فإذا فاز القاتل وأهله بالانجلاء عن بلادهم واحتموا بقبيلة أخرى قبل أن يلحقهم أهل الثأر توسَّط لهم عقلاء القبيلة التي احتموا بها عند أهل الثأر.
(٢-١) المَدَّة
فإذا رضوا بالصلح نقلوا لهم «الجيرة» وهي جمل رباع، وقدموا «كفيل وفا» وأخذوا منهم «كفيل دفا»، وامتنع أهل القتيل من ذلك الوقت عن مطالبة أهل القاتل، وجعلوا الميعاد بينهم بيت رجل مشهور مذكور يأتون إليه بالدية، وتعرف عندهم «بالمَدَّة» وهي أربعون جملًا وناقة هجين تعرف بالطلبة، والأربعون جملًا أولها ذلول (أي هجين صافٍ) وآخرها دحور (أي فيها لبن) والثمانية والثلاثون الباقون منها ١٤ رباعًا بما فيها «الجيرة» الموضوعة قبلًا و١٢ جذعة و١٢ حقًّا، وأمَّا الطُّلبة فإذا لم توجد ففداؤها خمسون ريالًا مجيديًّا.
(٢-٢) الغرة
هذا في دية القتيل إذا كان من قبيلة غير قبيلة القاتل، أمَّا إذا كان القتيل والقاتل من قبيلة واحدة وجب على أهل القاتل أن يقدموا فوق الدية المعتادة «غرة» أي بنت بكر يأخذها أحد أقارب القتيل بلا مهر بصفة زوجة وتبقى عنده حتى تلد ولدًا فيصير لها الخيار بين أن تعود إلى أهلها حرة وبين أن تجدد زواجها وتبقى مع أبي ولدها بعد أخذ مهرها، ويراد «بالغرة» إعادة الروابط العائلية إلى ما كانت عليه قبل القتل، على أن البنات الأبكار يأنفن من هذه العادة لما فيها من المعرَّة عليهن؛ ولذلك جوزوا فداء الغرة بخمس رباعيات والغالب الفداء.
(٢-٣) الدليخة
ومن قتل غدرًا واختلاسًا في مكان منقطع وأنكر ثم ثبت عليه القتل عُدَّت فعلته دَليخة وطولب بأربع ديات، فإذا أخذ أهل القتيل بالثأر من واحد ودخل العقلاء بالصلح حكم القصاص على أهل القاتل بثلاث ديات، فيأخذ أهل القتيل دية واحدة ويتصدقون بواحدة ويسامحون بواحدة، وكذلك من قتل طفلًا عُدَّ قتله دليخة ووجب عليه أربع ديات، وأمَّا من قتل امرأة فقد وجبت عليه ثماني ديات.
وتدفع الدية في الغالب أقساطًا مؤجلة، من قسط إلى أربعة، في ميعاد شهر إلى سنة، ولكنها في بعض الأحيان تدفع كلها فورًا دفعة واحدة، وهي توزع بين أقارب المقتول الذين يطاردون بدمه، ومن أمثالهم: «من طارد في الدم أخذ فيه.»
ويكفي لوجوب الدية ومنع المطاردة للدم رضا واحد من أقارب القتيل الأخصَّاء، فإذا رضيَ واحد اضطر الكل إلى الرضا برضاه على نحو ما هو مشروع في الإسلام.
وإذا لم يكن عند القاتل قيمة دية ولم ترضَ قبيلته دفع الدية عنه علق «الجيرة» وأخذ ميعادًا طويلًا من أصحاب الدم وطاف في القبائل يستعطي الدية حتى يستوفيها.
(٣) شريعة الجروح
أمَّا جزاء الجروح فبحسب مقدارها ونوعها وموضعها، فإذا كان الجرح ظاهرًا للعيان كأن يكون في الوجه وشوَّه الوجه، كان قصاصه أعظم من الجرح الذي لا يظهر للعيان، يقيس القصَّاص الجرح بأصابعه وهي لاصقة بعضها ببعض، ويجعل غرامته كل أصبع بجمل أو أقل، وأمَّا الجرح الظاهر للعيان فإمَّا أن يقيسه كما قاس الجرح غير الظاهر ويضعِّف الغرامة أو أن يضع فيه ورقة بيضاء ويتقهقر إلى الوراء وهو ينظر إلى الورقة، فكل خطوة يخطوها إلى الوراء بجمل كبير أو صغير أو بنتو أو نصف بنتو حسب أهمية الجرح حتى تغيب الورقة عن نظره، فيقف ويجمع خطاه ويوجب على الجاني بعددها إبلًا أو بنتوات.
أمَّا كسر الساق أو الذراع أو إتلاف العين أو أي عضو من الأعضاء الرئيسية في الجسم فغرامتها نصف الدية، وغرامة قطع الأصبع الشاهد خمسة بعران، والخنصر بعير، وكسر السن بعير.
وإذا أطلق أحدهم بندقية على رجل فلم تصبه حوكم عند كبار العرب، وحكموا للمدعي بالبندقية «وطيبة خاطر»، أو يلزمون المدعى عليه باليمين أنه لم يكن يقصده.
أمَّا الضربة التي لا تسبب جرحًا فغرامتها من ١٠٠ إلى ٢٠٠ غرش إلَّا إذا كان الضرب بالكف أو بالعصا أو بالغليون أو بطاسة البن؛ فإن الضرب بها عندهم أعظم من الضرب بالسيف، إذ يقولون: إن الضرب بهذه الأدوات فيه امتهان للمضروب. والغرامة المعتادة على ضرب الكف جمل «مفرود»، ولكن كثير منهم لا يرضى بالقصاص في مثل هذه الجنايات، بل يطلب الجاني إلى المنشد ويطلب منه ردَّ شرفه.
(٤) شريعة النساء
(٤-١) الشرود بالبنات
تقدم أن القاعدة عند البدو الزواج بين الأقارب، فقلما يطلب شاب التزوج ببنت من غير قبيلته، وكذلك الشابة قلما ترضى التزوج بشاب من غير قبيلتها، ولكن سلطان الحب الذي لا يخضع لسلطان قد يستولي على شاب وشابة بكر أو ثيب من قبيلة واحدة بينهما قرابة بعيدة، أو من قبيلتين مختلفتين، ويكون للشابة خاطبٌ من أهلها تكرهه فتتبع هواها وتشرد مع محبها إلى بلاد بعيدة؛ فتقوم قيامة أهل الشابة على أهل الشاب.
فإذا شرد شاب بشابة بكر من غير قبيلته؛ اجتمع أهل الشابة وأخذوا جملًا لأهل الشاب بصفة «جيرة» ورموا وجه أحد الكبار بينهم وبين أقارب البنت منعًا للشر، ثم فزعوا وراء الشابين وردوا الشابة إلى أهلها وجروا الشاب إلى المنشد، فيحكم عليه بخمسة جمال إلى خمسة عشر جملًا وفيها جمل أوضح «شيال حمل الفام»؛ أي حمل التركي، فإن التركي مشهور عندهم بتحميل الجمل جهد طاقته، ويبقى لأهل البنت الخيار فإمَّا أن يزوجوه إياها ويأخذوا منه مهرها، أو يفصلوه عنها، إلَّا إذا حملت منه فإنهم يأخذون منه مهرها ويزوجونه إياها اضطرارًا.
وأمَّا إذا كان الشاب والشابة من قبيلة واحدة؛ كانت غرامة الشاب أخف كثيرًا أي جملًا واحدًا، إلَّا إذا حملت منه فيضطر أهلها أن يزوجوه إياها ويلزموه بدفع مهرها على التمام أي خمسة جمال.
(٤-٢) الشرود بالزوجات
وإذا شرد أحدهم بزوجة رجل من قبيلته أو من غير قبيلته؛ أسرع أهل الشارد إلى نقل «الجيرة» لأحد أقارب الزوجة دفعًا لشر أهل الزوجة، وكل ما يفعله أهل الزوجة قبل قبول الجيرة من ضرب رجال أو شلِّ مال يذهب هدرًا؛ لأنه مباح عندهم، ثم إن أهل الشارد والشاردة يحضرونهما إلى العقبي فيحكم «بأربعين جمل وقوف أو غلام مكتوف» ويراد بالغلام المكتوف المعتدي بعينه مكتوفًا مقدمًا للقتل، فيتوسط الحضور بالصلح فترسو الغرامة على عشرة جمال.
(٤-٣) اغتصاب البنات
وإذا اغتصب أحدهم بنتًا بكرًا من غير قبيلته؛ تذهب البنت لبعض الجيران من غير أهلها وتقول لهم: «أنا شاكية» فيصل الخبر إلى أبيها؛ فيرمي أحد المصلحين «وجهًا» بين أهل البنت وأهل الشاب، ثم يطلب الأب الجاني إلى المنشد، فيحكم عليه بثمانية جمال.
وإذا اغتصب بنتًا بكرًا من قبيلته يُحكم عليه بستة جمال.
وإذا اغتصب ثيبًا من قبيلته يُحكم عليه بأربعة جمال.
وإذا اغتصب ثيبًا من قبيلته يُحكم عليه بجملين، هذا إذا شكت الثيب في الحال، وإلَّا فيحكم عليه بجمل صغير.
(٤-٤) العدل بين النساء
وغالب البدو يتزوج بامرأة واحدة، ولكن الكثير منهم يتزوج بامرأتين، وأمَّا المتزوج بثلاث أو أربع فقليل.
ومن تزوج بأكثر من واحدة لا بدَّ له من العدل بين نسائه بأن يجعل لكل منهنَّ خيمة ويأتيها ليلة، فإذا أهمل دور إحداهن أخذت خيطًا وعقدته عقدة، ثم كلما أهمل ليلة عقدت عقدة أخرى حتى يفرغ صبرها، فتأخذ الخيط المعقد وتذهب به إلى ذويها فيأخذونها إلى العقبي فيحكم لها بناقة رباعية عن كل ليلة تخلى زوجها عنها.
(٤-٥) ضرب النساء
وإذا ضرب رجل زوجته بكفِّه ولم يسبب الضرب جرحًا كانت «رضاوتها» غرشًا واحدًا عن كل كف، وإذا سبَّب الضرب جرحًا وكان خفيفًا كانت رضاوتها نعجة رباعيةً أو جنيهًا واحدًا، وأمَّا إذا كان الجرح بليغًا ساقته إلى القصَّاص وغرمه غرامة كبيرة، وإذا طلبت منه طلاقها ساعدها عليه.
وقد سألتُ بعض قضاتهم عن السبب في جعل رضاوة المرأة في ضربة الكف زهيدًا إلى هذا الحد، قال: «لكي تبقى المرأة مكسورة الجناح، ويبقى الرجل قيِّمًا عليها.»
(٤-٦) الطلاق
وقلما يطلب الرجل عندهم الطلاق، فأكثر الطلاق يكون من جانب المرأة، فإذا أراد الرجل الطلاق ذهب بامرأته إلى أحد الناس، وقال لها في حضرته: «أنت طالقة، وهذا كفيل طلاقك»؛ فيأخذها الكفيل إلى بيت أبيها، وإذا أرادت المرأة الطلاق من زوجها ذهبت إلى أحد أقاربها، لا إلى أبيها، واستنجدته للخلاص من زوجها فيأتي بها إلى العقبي، فيأخذ العقبي في تطييب خاطرها وردِّها عن عزمها وتهوين الأمر عليها، ويحكم على الزوج في الغالب بأن يأتيها ببضع نعجات وحلة «ورحاية» وغربال وحمار تجلب عليه الماء، وأن يجعل خيمتها بين خيمتين من خيام أقاربها، فإذا فعل الزوج ذلك وبقيت الزوجة كارهةً له مصرة على طلاقها طلقها العقبي منه.
وعدة الطلاق عندهم تسعون يومًا، فإذا ظهر أنها غير حامل جاز لها أن تتزوج بغيره، وإذا ظهر أنها حامل بقيت بلا زواج حتى تلد وتفطم ولدها، وفي هذه الحالة فإن كان الطلاق من الرجل يعود في الغالب فيستردها؛ لأنه يكون قد اشترط هذا عند الطلاق، وإن كان الطلاق من المرأة لزمه كسوتها وطعامها إلى أن تلد الولد وتفطمه، أمَّا الكسوة فبدلتان، وأمَّا الطعام فأربعة أرادب غلة في السنة.
ويجوز للبدوي أن يردَّ امرأته بعد طلاقها بمهر زهيد، إلَّا إذا طلقها ثلاثًا فتحرم عليه حتى تتزوج بآخر كما سنَّ الشرع، ويجوز لمن توفيت امرأته أن يتزوج أختها بمهر زهيد.
(٥) شريعة الإبل
أمَّا شريعة الإبل فصارمة جدًّا، والدليل على صرامتها أن الإبل تترك في المراعي وحدها فلا يجسر أحد أن يمسُّها، ولكن هناك ظروفًا خاصة تُسوِّغ للبدوي استعمال غير إبله؛ فللملسوع أو العطشان أو الفارِّ من خطر أن يركب أية ناقة وجدها في طريقه بلا حرج عليه، ولكنه إذا ركب ناقة غيره لأنه تعب فهو مسئول.
وأجرة الراعي لثلة من الإبل من الخمسين فصاعدًا «مفرود» في السنة، ومن خمسين فنازلًا «مباري»، ومن أقوالهم: «يا راعي الزودين كراك مفرودين»، ومنها: «الراعي ركبه عشاه وجلده غطاه» فلا تمنع عنه أجرته بأي حال كان.
(٦) شرائع أخرى
(٦-١) الحوالة
والحوالة عندهم مقبولة وجائزة.
(٦-٢) الرهن
وهم يرهنون أراضيهم الزراعية على مال يستدينونه لسنين معلومة، فيزرع المرتهن الأرض ويستغلها بفائدة ماله، وإذا لم يفِه الراهن حقه في الميعاد بقيت الأرض بيده يستغلها إلى أن يسترد ماله، ومن أمثالهم: «دار الرهن عمار»، ولكن في أكثر الأحيان يبيع الراهن أرضه للمرتهن سدادًا للمال.
(٦-٣) الشفعة
والشفعة مرعية عندهم لسابع جار على الترتيب، فسابع جار أحق بالشراء من الأجنبي، وشهادته في الأرض أقوى وأقبل، ويعرف الجار عندهم «بالحديد»، وإذا كان للأرض حديدان وأراد صاحبها بيعها؛ فلكل منهما حق بشراء جزء منها.
(٦-٤) قانون الوراثة
ويرث البكر عندهم وظيفة أبيه؛ من شيخ قبيلة أو قاضٍ أو حسيب أو عقيد، إلَّا إذا كان غير صالح لها فيختار قومه للوظيفة الأصلح في العائلة، الأقرب فالأقرب. وليس للبنت عندهم ميراث معين، بل إذا مات أب عن بنات وبنين ومال، قسم البنون المالَ والبناتِ فيما بينهم، وإذا لم يكن للمتوفى ذكور تولى مالَه وبناتِه أقرب الذكور إليه، فإذا مات رجل عن زوجة وبنت ورث ماله أقرب الذكور إليه من أهله، فيعطي الزوجة جملًا ويُدخل البنت في كنفه، وهو يزوجها ويأخذ مهرها، أو يبقيها في بيته وينفق عليها، وعند زواج البنت فأخوها أو وليها يأخذ مهرها لنفسه ويعطيها عنزة أو عنزتين، ثم متى زارته في السنة التالية لزواجها أعطاها عنزة أو عنزتين، «وكان الله يحب المحسنين.»
(٧) أمثلة من أحكام قضاة البدو
(٧-١) حكم كبار العرب في قضية أرض زراعية
في نحو سنة ١٩٠٠ لما كان عثمان بك فريد محافظًا في العريش، اختلف حمَّاد القديري وعلي بن خلف — وكلاهما من السواركة — على ملكية أرض في القرَيعي، فاتفقا أمام المحافظ أن يحلف علي بن خلف اليمين على الأرض ويأخذها، فذهبا إلى الأرض، وذهب معهما بعض هجانة المحافظة وجماعة من العربان، فمشى علي بن خلف على حد الأرض التي يدَّعيها ثم نادى حماد القديري ووضع يده في حزامه ونطق بالقسم الآتي: «والله والله والله، وفي ولدي الفالح ومالي السارح، هذا هو حدُّ الأرض التي ورثتها عن أبي وجدي.» فأصدرت المحافظة أمرها لعلي بن خلف بملكية الأرض.
(٧-٢) حكم قصاص في قضية جرح
اتفق أنه مدة وجودي بنخل سنة ١٩٠٥ حضر إليها العوارمة والحويطات يتقاضون عند القصَّاص سلامة الشويكي من البنيَّات التياها في قضية جرح، وكان المجروح عودة الحويطي وجرحه بليغ في ظهره، فقاس الشويكي الجرح وحكم له بسبعة وعشرين جملًا و١٣ بنتو، فشكا العوارمة من ثقل الغرامة، وطلبوا من الحويطات تخفيضها، فخفضوها جملًا واحدًا، فبقي على العوارمة ٢٦ جملًا بين رباع وجذع ولبني و١٣ بنتو، تقدم أقساطًا ثلاثة في ١٨٠ يومًا، بين القسط الواحد والآخر ٦٠ يومًا، وذلك عن يد المَسْوق في نخل، ابتداءً من ٢٧ مايو سنة ١٩٠٥، ونفذ الحكم.
(٧-٣) المبشع والمنشد في قضية ردِّ شرف
ومنذ بضع سنين عقد العوارمة والقرارشة شركة لاستخراج الفيروز من وادي المغاورة، فجمعوا صرة كبيرة وجعلوها في «قرية» حسن بن فيض القرَّاشي، وبعد أيام افتقدوها فلم يجدوها، فاتهم العوارمة بها رجلًا من القرارشة يدعى خليل ابن أخي الشيخ موسى بن نصير، وأخذوه إلى المبشع في بلاد الحجاز؛ فألحسه الطاس المحماة، ولما لم تترك أثرًا على لسانه أصدر المبشع حكمًا ببراءته، فعاد القرارشة على العوارمة بردِّ شرف المتهم وطلبوهم إلى المنشد، ولما أبوا «ردوا عليهم النقا» وأعطوهم ميعادًا ٣٥ يومًا، فوصل الخبر إلى سعد بك رفعت قومندان سيناء في ذلك الحين، فرمى وجهه على الفريقين وأرسل في طلب المشايخ إلى نخل فحضروا، وأقام منشدًا في نخل فحكم على العوارمة بأربعين جملًا يؤدونها للقرارشة وغز رجم لهم في وادي فيران لردِّ شرفهم، وبذلك انطفأ الشر وأقام الفريقان رجمًا لسعد بك على ربع ساعة من نخل في طريق الطور إعلانًا لفضله واعترافًا بجميله.
(٧-٤) حكم المنشد في قضية خطف بنت
خطف شاب من الصفايحة بنتًا من التياها سنة ١٨٩٩، وشرد بها إلى معان؛ فأشهر أهلها الحرب على الصفايحة، فأسرع سعد بك قومندان سيناء ورمى وجهه عليهم لمنع التياها عنهم، ثم أمر مشايخ الصفايحة بإحضار الشاردين إليه، فلم يمض ١٥ يومًا حتى كانا في قلعة نخل، فعقد سعد بك مجلسًا من مشايخ التياها والصفايحة، وأقام فيهم منشدًا للفصل في المسألة، فحكم على الصفايحة بأربعين جملًا يؤدونها لأهل البنت، فتوسط الحضور مع التياها وخفضوا الغرامة إلى ثمانية جمال، وأقام الفريقان رجمًا لسعد بك رفعت عند عجيرة الشي قرب الخفجة اعترافًا بفضله.
وأخذ رجل من الصفايحة منديلًا أبيض فعقده إلى رأس عصا وطاف في البلدة ينادي: «هذه راية البيك، بيَّض الله وجهه، وشكر فضله، وأعلى شأنه، وستر عرضه.»
(٧-٥) الزيادي في قضية سرقة ناقة
أخبرني محمد آغا أبو جمعة ضابط هجانة نخل قال: سُرِق لي ناقة سنة ١٩٠٠، فوجدتها عند الشيخ حماد الصوفي كبير الترابين في بلاد غزة، وحلف لي أنه اشتراها بعشرة جنيهات من رجل لا يعرفه، والعادة في مثل هذه الحالة أن الشاري وصاحب المال يتقاسمان الخسارة بينهما مناصفة، والخيار لصاحب المال، فإن شاء دفع نصف الثمن للمشتري وأخذ ماله، أو أخذ نصف الثمن وتركه للمشتري، فخيرني الشيخ حماد بين اتباع العادة أو التفتيش عن السارق، فقلت: أفتش عن السارق أولًا، فإذا لم أجده أعود فأنقدك الثمن وآخذ ناقتي، فرضي بذلك وأصحبني برجل يعرف ملامح السارق، فبقيت أبحث عنه حتى وجدته عند نهر الشريعة، وهو رجل من التياها يدعى سلمان سليم، فقال: استر عليَّ يا محمد وخذ ما تريد، فقلت: أطلب أولًا ليرتين فرنساويتين أجرة الدليل الذي هداني إليك، وثمن الناقة، ثم أطلبك إلى الزيادي تأديبًا لك على السرقة، فنقدني أجرة الدليل وثمن الناقة، وتوسل إليَّ أن أعفو عنه وأنجيه من الزيادي، فأبيت ودعوته إلى نخل فحضر، ولما كان حق تسمية الزيادي لي؛ لأني المدعي سميت القضاة الثلاثة: الشيخ سليمان العوارمة من كبار التياها واثنين آخرين، وبعد أن دفع المدعى عليه «الرزقة» (وهي من ٤ جنيه إلى ٨ جنيه) واصطف الناس نصف حلقة حول الزيادي قلت: «إيش عندك يا زيادي، أول ما أجيك بهدي وأثنِّي عليك بقضي، ولا تنقضي الحاجات إلَّا بالصلاة على النبي، إيش عندك في رفيقي هذا اللي من عماه وقلة هداه وإبليس غواه، ومشى لناقتي وخانها وأخذها من فلاها ووداها مهفاها، وباعها وقبض ثمنها، وهي بطنها باع وسمنتها ذراع، ملحقة الطلب منذرة العرب، والله ومشيت وراه لما استقصيت عليه وجبته، وبرَّكته ركبته مثنية قدام جماعة محنية، إني أجرمه وأغرمه وألحقه بالمهافي والمسافي، وأنا داخل على الله وعليك على حق بيِّن لك وغبي علي.»
فقال المتهم: «وايش عندك يا زيادي في ناقة رفيقي هذا اللي زليت فيها زلة، وإن شاء الله أقول من عندك هذه الزلة لا تلحقني فيها غرامة ولا جرامة، والله أخذتها في الليل وأحسبها من الطير الأجنبي، وهذا الذي جسرني على أخذها، والله على بالي لما أخذتها لا غاويني شيطان وما جرَّبني الرحمن وأنها غنيمة باردة، وهذا عقاب حجَّة البليم عند القاضي الفهيم.»
فقال الزيادي: «أنا من عندي أن الناقة اللي وسمها على خشمها ويخونها حديدها اللي الحوض واحد والروض واحد، أنا من عندي إنها مربعة (أي يغرم سارقها بأربع نياق)، ومن عندي حقها من خلاها لما وصلها مهفاها، كل خطوة بجنيه يدفعها لصاحب الناقة، فصاح المتهم من ثقل الغرامة، وطلب مني هو وجميع الحضور تخفيفها، فسامحته بالخطوات إكرامًا للجمهور، وأخذته منه غرامة الأربع نياق، ومن ذلك الحين لم يعد يجسر أحد من البررة أن يعتدي على إبل العساكر إلى هذا اليوم.» ا.ﻫ.