في تاريخ سيناء في عهد الدول العشرين الأولى المصرية
(١) تعدين الدول العشرين الأولى للفيروز والنحاس في بلاد الطور
اكتشف المونيتو سكان بلاد الطور الأصليين — منذ بدء التاريخ — طبقات معدنية في الشمال الغربي من بلادهم، استخرجوا منها الفيروز والنحاس والمنغنيس والحديد، وكانوا يأخذونها إلى الدلتا ويبيعونها للمصريين كما يفعل بدو هذه الأيام بالفيروز، وكان الفيروز من الجواهر المستحبة عند المصريين، فحرَّك ذلك أطماع ملوكهم؛ فأرسلوا الحملات إلى بلاد المونيتو ففتحوها عنوة واستثمروا معادنها ولا سيما الفيروز.
وقد عدَّنوا الفيروز أولًا في وادي المغارة منذ عهد الدولة الأولى، ثم بعد ذلك بأجيال عدَّنوه أيضًا في سرابيت الخادم، وعدَّنوا النحاس في وادي النصب الغربية، والمنغنيس والحديد في غيره كما سيجيء.
وقد أطلقوا على البلاد التي عدَّنوا فيها الفيروز اسم «مفكة»، فجعل بعض علماء التوراة هذا الاسم أصلًا «لدفقة» المذكورة في طريق الإسرائيليين في سيناء، لا سيما وأن محل دفقة في الطريق ينطبق على وادي المغارة أحد معادن الفيروز.
على أن المونيتو لم يرضخوا لاغتصاب أملاكهم بالسهل، فكان المصريون يشترون سكوتهم بمال ينقدونهم إياه قبل التعدين، أو يعدُّون قوة من العساكر لدفع هجماتهم في أثناء التعدين.
وقد دوَّن المصريون خبر غزواتهم وحملات التعدين على صخرات وأنصاب في جوار المعادن، فظهر مما دوَّنوه على أنصاب سرابيت الخادم وغيرها أنهم كانوا كلما أرادوا التعدين أرسلوا العمال، ومعهم الجند، والكتَّاب، والبنائين، والنقاشين، والنحاتين، وآل الخبرة في التعدين، والأمناء؛ لحفظ ما يجمع من المعدن، والمفتشين والأطباء وغيرهم.
وكان أكثر العمال من أسرى الحرب وأرباب الجنايات، وعليهم المقدمون، وعلى كل عشرة مقدمين شيخ، وكان يساعدهم في التعدين «الآمو» وعليهم نظار، «والرتنو» وعليهم مشايخ، أمَّا الآمو فيظن أنهم من سكان سوريا، وأمَّا الرتنو فمن سكان سيناء وجنوب فلسطين، وكلاهما من الجنس السامي.
وقد جاء في أخبار حملة لأحد ملوك الدولة الخامسة أن قد رافقها ثلاثة تراجمة، فدلَّ لك على أن الرتنو والآمو لم يكونوا يفهمون لغة المصريين، وأن رجال الطبقة العليا من المصريين لم يتكلموا اللغة السامية.
أمَّا عدد رجال الحملات فكان يختلف باختلاف عدد أسرى الحرب والمجرمين في مصر، وقد ذكر على بعض الصخرات الهيروغليفية في وادي المغارة أن ٧٣٤ رجلًا أتوه ثلة واحدة للتعدين فيه.
وكانوا يستخدمون المراكب في البحر والحمير في البر لنقل المؤن والمياه، وقد ورد في خبر بعض الحملات ذكر ٥٠٠ حمار عليهم ٤٣ حمَّارًا من الفلاحين.
وكان رجال الحملة يجتمعون أولًا عند رأس خليج السويس، ومعهم ماؤهم وزادهم، فيسيرون بالمراكب في البحر وينزلون ميناء أبو زنيمة إذا كانت وجهتهم سرابيت الخادم، وميناء أبو رديس إذا كانت وجهتهم وادي المغارة، ويسير الحمَّارة بقِرَب الماء في البر حتى إذا ما وصلوا الميناء المقصود حملوا الزاد والماء على الحمير إلى المعدن.
وهناك كان يشتغل البعض بالبناء، والبعض بتدوين أخبار الحملة وذكر رجالها على الصخور والأنصاب، ولكن أكثرهم كان يشتغل بالتعدين.
وقد عثر العلامة بتري أستاذ فن الآثار المصرية في كلية لندن على بقايا أزاميل الصوان والمطارق الحجرية وبعض أزاميل النحاس في وادي المغارة وسرابيت الخادم.
وكانت حملات التعدين تذهب من مصر مرة كل سنة أو سنتين أو عدة سنين، وموعد قيامها من مصر فصل الشتاء في شهري نوفمبر وديسمبر فتبقى في سيناء إلى أن يشتد الحر في شهر مايو؛ فتنقلب راجعة بما استخرجته من المعدن إلى مصر بعد أن تترك لها أثرًا في محل التعدين، وقد ترك المصريون بجانب المعادن — في وادي المغارة وسرابيت الخادم ووادي النصب الغربية وغيرها — من الآثار ما دلَّ بأجلى بيان على أنهم غزوا الجزيرة وعدَّنوا الفيروز والنحاس والمنغنيس والحديد فيها من عهد الدولة الأولى إلى الدولة العشرين، وأهمُّ تلك الآثار هي لملوك الدولة الأولى إلى الدولة السادسة، ثم للثانية عشرة، ثم للثامنة عشرة إلى العشرين، وبعد الدولة العشرين بطلت حملات التعدين إلى اليوم، ولعلَّ السبب في ذلك أن غلة التعدين لم تعد تفي بنفقاته.
ومن الغريب أن تلك الآثار ثبتت على الدهر آلافًا من السنين حتى قام طلاب الفيروز في الجيل الحاضر، فأخذوا يعيثون فيها ويشوهون الصخرات الهيروغليفية نفسها طمعًا باستخراج الفيروز منها.
وكان علماء القرن الغابر قد اكتشفوا تلك الآثار وعرفوا أهميتها، ولكن لم يهتم أحد بالمحافظة عليها حتى ذهب الأثري الشهير العلامة فلِنْدرس بتري المار ذكره إلى سيناء لدرس آثارها، ورأى عيث طلاب الفيروز في آثار وادي المغارة، فرفع الأمر إلى حكومة مصر ونصح بوجوب نقل الآثار إلى مصر؛ ففعلت الحكومة بنصحه وعهدت إلى المستر كورلي من رجال نظارة الأشغال بهذه المهمة، فقام بها خير قيام ونقل كل ما أمكن نقله من تلك النفائس إلى المتحف المصري بالقاهرة، وكان محبو الآثار الذين زاروا تلك الجهات قد نقلوا بعض النفائس إلى المتحف البريطاني بلندن أو غيره من متاحف أوروبا، فلم يبقَ هناك من آثار الفراعنة إلَّا ما لا أهمية له أو ما لا خوف عليه من عيث البدو وطلاب الفيروز.
وقد نقَّب العلامة بتري في آثار المصريين في وادي المغارة وسرابيت الخادم ودرسها درسًا فنيًّا وافيًا، وفي سنة ١٩٠٦ أصدر كتابه «مباحث في سيناء» زيَّنه بكثير من الرسوم والخرط وضمنه وصف تلك الآثار وصفًا دقيقًا، واستخلص منها آراء جديدة في تاريخ مصر وسيناء والخروج فلخصت من كتابه هذا كلما يدخل بموضوعنا وتهمُّ الجمهور معرفته.
(٢) آثار الفراعنة في وادي المغارة
إن أهم الآثار التي تركها الفراعنة في وادي المغارة هي: الصخرات الهيروغليفية، ومغاور الفيروز، ومساكن المعدِّنين، وسد في الوادي، وأهمها جميعًا:
(٢-١) الصخرات الهيروغليفية
وقد كان منها فوق الثلاثين صخرة، فعبثت بها أيدي طلاب الفيروز فأتلفوا أكثرها أو شوهوها كما قدمنا، وبقي إلى يومنا هذا:
(٢-٢) مغاور الفيروز
أمَّا مغاور الفيروز التي تركها الفراعنة في وادي المغارة فكلها في طبقة من الجبل تعلو نحو ١٧٠ قدمًا عن سطح الوادي و١١٧٠ قدمًا عن سطح البحر، وأهمها مغارة سانخت المار ذكره طولها ٢٠ قدمًا وعلوها ٥ أقدام، ولا يزال البدو يعدنون الفيروز فيها وفي غيرها من مغاور القدماء ويوسعونها إلى اليوم.
(٢-٣) مساكن المعدنين القدماء
هذا وكان المعدنون القدماء في وادي المغارة يسكنون أكواخًا من الحجر قرب مغاور الفيروز، وترى إلى الآن على أكمة منفردة تجاه المغاور أنقاض منازل تسع نحو ٢٠٠ رجل، وكلها مبنية من الحجر الغشيم بلا طين، بعضها مستدير الشكل وبعضها مربع مستطيل، ولها أبواب ضيقة جدًّا حتى لا يدخلها السمين من الرجال إلَّا بالجهد.
(٢-٤) السدُّ
والظاهر أن مياه عين وادي إقنة في جوار المعدن وعين وادي لبن على نحو ساعتين شرقيه لم تكن تكفيهم؛ فأقاموا سدًّا منيعًا من الحجارة في سيل وادي المغارة، وصل الأكمة التي كانوا يسكنونها بالأكمة التي كانوا يعدِّنون فيها، فنشأ من ذلك بحيرة عظيمة من مياه الأمطار كانوا يصيدون فيها السمك، ولا يزال أثر هذا السد ظاهرًا هناك إلى اليوم.
(٣) هيكل سرابيت الخادم وآثار الفراعنة فيه
أمَّا سرابيت الخادم فجبل صغير مستطيل الشكل مسطح الرأس في شمال بلاد الطور، يعلو نحو ٢٦٥٠ قدمًا عن سطح البحر، ويبعد نحو يومين بسير القوافل عن ميناء أبو زنيمة، وهو يطل من الشمال على سهل الرملة الفسيح ونقب الراكنة العظيم.
في ذلك الجبل عدَّن الفراعنة الفيروز منذ عهد الدولة الثالثة إلى الدولة العشرين، وتركوا فيه عدة مغاور كلها في الطبقة العليا من الجبل، وهي تعلو نحو ١١٥٠ قدمًا عن طبقة الفيروز في وادي المغارة، ولكن أهمَّ ما تركه الفراعنة في ذلك الجبل:
(٣-١) هيكل سرابيت الخادم
- الأولى: أن المصريين مارسوا في هذا الهيكل الطقوس السامية لا المصرية، وأن هذا الهيكل هو أقدم هيكل معروف استخدمت فيه هذه الطقوس.
- الثانية: أن العمال الساميين الذين ساعدوا المصريين في التعدين في
سرابيت الخادم كان لهم كتابة خاصة لا تزال مجهولة عند
علماء الآثار إلى اليوم.
(٣-٢) كهف الإلهة هاتور
وكان هذا الهيكل في أول نشأته كهفًا صغيرًا منحوتًا في سفح أكمة صغيرة على سطح الجبل، وله باب صغير إلى الغرب، وقد أُقيم لعبادة هاتور إلهة الشمس أو النور الملقبة بسيدة الفيروز، وهي معبودة سكان البلاد الأصليين، ولعلها عشتروت معبودة الفينيقيين المشهورة، فلما جاء المصريون لتعدين الفيروز في سرابيت الخادم عبدوا هذه الإلهة بالطقوس التي كان يعبدها بها أهلها على عادة تلك الأعصار من عبادة الأجنبي آلهة البلاد التي ينزلها وممارسته طقوس أهلها.
وأمَّا قِدَم هذا الكهف فيرجع إلى عهد الملك سنفرو (٤٧٥٠ق.م) المار ذكره، وقد وُجد فيه شعاره وهو تمثال صقر، فكان هذا التمثال أقدم أثر للمصريين في ذلك الهيكل.
(٣-٣) كهف الإله سوبدو
ثم بعد أن عبد المصريون هذه الإلهة وحدها زهاء ثلاثة آلاف سنة أقاموا معها عبادة سوبدو إله الشرق، وهو من أشهر آلهتهم، فنحتوا له كهفًا في أصل الصخر بجانب كهف الإلهة هاتور، ومارسوا في عبادته أيضًا الطقوس السامية، وهذا الكهف هو في الأرجح من آثار الملكة هتشبسوت سنة ١٥٠٣–١٤٨١ق.م من ملوك الدولة الثامنة عشرة.
(٣-٤) غرف الهيكل
وظاهر من بناء الهيكل ومما عليه من الآثار الهيروغليفية أنه امتد تدريجًا من هذين الكهفين نحو الغرب في صف واحد من الغرف والأروقة حتى أصبح طوله ٢٣٠ قدمًا وعرضه من ١٥ إلى ٤٥ قدمًا، وله سور من الحجارة غير المنحوتة طوله ٨٠ مترًا وعرضه ٣٥ مترًا، وثخن حائطه ٢٦ سنتيمترًا.
وأقدم غرف الهيكل وأقربها إلى كهف هاتور هي للملك أوسرتسن الأول سنة ٣٤٣٩–٣٣٩٥ق.م من ملوك الدولة الثانية عشرة، ثم أخذ بعده ملوك هذه الدولة ثم ملوك الدولة الثامنة عشرة إلى العشرين يبنون الغرف والأروقة تباعًا إلى أن بلغ الحد المذكور.
(٣-٥) الأنصاب
وكان كلما بنى ملك غرفة في الهيكل جعل أمامها نصبين يدلَّان على مدخل الهيكل، وكان الخلف يُبقي على النصبين فيبني غرفة متصلة بهما، ويجعل أمام الغرفة نصبين آخرين على مدخل الهيكل الجديد وهكذا.
ويدلُّ على الهيكل من بعيد نصب لساتي الأول سنة ١٣٢٦–١٣٠٠ق.م من ملوك الدولة التاسعة العاشرة، قائم فوق كهف هاتور، ونصب آخر جنوبيه.
وفي الهيكل داخل السور تسعة أنصاب، وخارج السور في طريق الهيكل من الغرب ١٢ نصبًا، يحيط بكل نصب دائرة من الحجارة غير المنحوتة، قطرها من ١٠ أقدام إلى ١٥ قدمًا، وعلو الأنصاب من ٥ أقدام إلى ١٢ قدمًا قد نقش على جانبيها أو على جانب واحد منها بالهيروغليفية أخبار الحملات التي أرسلها الفراعنة لتعدين الفيروز في تلك الجهة، وقد استخرج العلامة بتري من تلك الأنصاب خبر ١٥ حملة، وفيها أسماء القوَّاد ورؤساء العمال مذكورة بالترتيب حسب رتبهم، وأسماء الملوك الذين أمروا بالحملات، ونظام سير الحملات، وعدد رجالها، ونحو ذلك.
وأقدم الأنصاب في الهيكل نصب لأوسرتسن الأول (٣٤٠٠ق.م) المار ذكره، وبين الأنصاب التي خارج السور نصب موظف من رجال الدولة الثانية عشرة يقول فيه: «أنه جمع من الفيروز أكثر من كل من عدَّنه قبله من عهد الملك سنفرو.»
وأحدث الأنصاب نصبان في مدخله الحالي: الأول للملك رعمسيس الثاني سنة ١٣٠٠–١٢٣٤ق.م، والثاني للملك ستْنخت سنة ١٢٠٣–١٢٠٢ق.م، وكلاهما من ملوك الدولة التاسعة عشرة.
وأحدث أثر في الهيكل كتابة على عمودي إحدى الغرف للملك رعمسيس السادس سنة ١١٦١–١١٥٦ق.م من ملوك الدولة العشرين.
وجميع ما في الهيكل من بناء وأنصاب مأخوذة حجارته من مقلع رملي قرب الهيكل.
قلت: وقد سُمِّي هذا الجبل سرابيت الخادم نسبة إلى هذه الأنصاب؛ لأن «السربوت» في عرف أهل سيناء الصخرة الكبيرة القائمة بنفسها، وجمعه سرابيت، والخادم عندهم الجارية السوداء، فلعلهم نسبوا هذه السرابيت إلى الخادم؛ لأن الصور التي في الهيكل تشبه الخدم السود، والله أعلم.
(٣-٦) معبد الملوك
هذا وإلى شمالي الهيكل من داخل السور أنقاض «معبد الملوك»، وهو بناء فخم من آثار الملكة هتشبسوت المار ذكرها، ومما على جدرانه من الرسوم: الملكة هتشبسوت تقدم القرابين للإلهة هاتور والإله سوبدو والإكرام للملك سنفرو.
(٣-٧) تلة الرماد
وإلى جنوب الهيكل خارج السور تلة مرتفعة عليها أكداس من الرماد، وفي غرف الهيكل أيضًا رماد، وقد قدر العلامة بتري ما بقي للآن على التلة وفي الهيكل من الرماد بخمسين طنًّا.
(٣-٨) الطقوس السامية
فهذا الرماد والأنصاب وأشياء أخرى في الهيكل، بل كيفية بناء غرف الهيكل هي التي دلَّت العلامة بتري على أن المصريين لم يستخدموا في عبادتهم الطقوس المصرية، بل استخدموا الطقوس السامية كما قدمنا.
أمَّا غرف الهيكل فقد كان المعدِّنون ينامون فيها على رجاء أن ربة الهيكل وسيدة الفيروز تهديهم في الحلم إلى المحل الذي يكثر فيه الفيروز، وقد كانت عادة الساميين أنه إذا طلب أحدهم الاستشفاء من مرض أو أحب الاهتداء إلى سبيل ينقذه من شر أو يوصله إلى خير؛ ذهب إلى الهيكل ونام فيه أو في جواره؛ ليرى في الحلم وحيًا يوصله إلى الغرض، ولا تزال هذه العادة متبعة عند نصارى الشرق إلى اليوم.
فاستيقظ يعقوب من نومه، وقال: حقًّا إن الرب في هذا المكان … وأخذ الحجر الذي وضعه تحت رأسه وأقامه عمودًا وصبَّ زيتًا على رأسه ودعا اسم المكان بيت إيل.
والظاهر أن المعدِّنين في سرابيت الخادم كانوا أولًا يقيمون أنصابًا من الحجارة قرب كهف سيدة الفيروز، ويحيطونها بدوائر من الحجارة ينامون فيها، ثم تدرجوا إلى بناء الغرف أمام الكهف، ولعل الغرف كانت لرءوس الحملة وكبار العمَّال، ودوائر الحجارة حول الأنصاب أو الزرائب لسائر العمال.
ومما وجده العلامة بتري ودلَّ على استعمال المصريين الطقوس السامية في الهيكل: «أربعة أحواض» للوضو أمام كهف سوبدو، كان لا بدَّ للمتعبد أن يمر بها قبل دخوله الكهف، وقد كان الوضو عادة دينية عند اليهود كما نرى في سفر الخروج ص٤٠ عد٣٠ و٣١: «ووضع المرحضة بين خيمة الاجتماع والمذبح، وجعل فيها ماءً للاغتسال؛ ليغسل منها موسى وهارون وبنوه أيديهم وأرجلهم.»
ومما وجده بتري في الهيكل: «عدة مذابح» صغيرة من حجر لحرق البخور، وجدها في الكهف نفسه، وحرق البخور في الهياكل عادة دينية مشهورة عند اليهود.
ثم إن الرماد الذي على التلة المار ذكرها دلَّ على أن المتعبدين في هذا الهيكل كانوا يذبحون ويوقدون على تلك التلة، وهذه العادة — أي عادة حرق الذبائح على المرتفعات — عادة قديمة عند الساميين اقتبسها اليهود عنهم: جاء في سفر الملوك الأول ص٣ عد٣: «وأحب سليمان الرب سائرًا في فرائض داود أبيه، إلَّا أنه كان يذبح ويوقد في المرتفعات، وذهب الملك إلى جبعون ليذبح هناك؛ لأنها هي المرتفعة العظمى، وأصعد سليمان ألف محرقة على ذلك المذبح»، وجاء في سفر الملوك الثاني ص١٢ عد٣: «إلَّا أن المرتفعات لم تنتزع، بل كان الشعب لا يزالون يذبحون ويوقدون على المرتفعات» وفي السفر نفسه ص١٦ عد٤ في الكلام عن آحاز ملك يهوذا ٧٤١ق.م: «وذبح وأوقد على المرتفعات وعلى التلال …»
وفي السفر نفسه ص١٧ عدد ٩: «وعمل بنو إسرائيل سرًّا ضد الرب إلههم أمورًا ليست بمستقيمة، وبنوا لأنفسهم مرتفعات في جميع مدنهم من برج النواطير إلى المدينة المحصنة، وأقاموا لأنفسهم أنصابًا وسواري على كل تل عال، وتحت كل شجرة خضراء.» قلت: وأمَّا إقامة الأنصاب تحت كل شجرة خضراء، فلا نزال نرى آثارها إلى اليوم في برية سيناء كما قدمنا.
وبقيت هذه العادة بين اليهود حتى أبطلها حزقيا ملك يهوذا (٧٢٦ق.م): جاء في سفر الملوك الثاني ص١٨ عد٤: «هو أزال المرتفعات، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وسحق حية النحاس التي عملها موسى؛ لأن بني إسرائيل كانوا إلى تلك الأيام يوقدون لها.»
وفي السفر نفسه ص٢٣ عد١٣–١٥: «والمرتفعات التي قبالة أورشليم التي عن يمين جبال الهلاك التي بناها سليمان ملك إسرائيل لعشتورت رجاسة الصيدونيين ولكموش رجاسة الموابيين ولملكوم كراهة بني عمون نجسها الملك، وكسر التماثيل، وقطع السواري، وملأ مكانها من عظام الناس، وكذلك المذبح الذي في بيت إيل في المرتفعة التي عملها يربعام بن نباط الذي جعل إسرائيل يخطئ، فذانك المذبح والمرتفعة هدمهما وأحرق المرتفعة وسحقها حتى صارت غبارًا وأحرق السارية.»
هذا وقد وجد العلامة بتري بين أنقاض الهيكل كثيرًا من الدُّمى والتماثيل والآنية الزجاجية والتمائم والأسورة والحجول والكئوس والآنية الفخارية عليها أسماء بعض الفراعنة وقضبان العاج ونحوها مما كان يقدمه المتعبدون هدايا لسيدة الفيروز، وقد وجد في كهف سوبدو حجرين من الحجار الرملية المخروطية الشكل التي اعتاد الساميون تقديمها لآلهتهم. فأخذ أحدهما إلى المتحف البريطاني بلندن.
(٣-٩) لغة مجهولة
ومن أهم ما وجده العلامة بتري في أنقاض هذا الهيكل تماثيل غير مصرية هي أقل إتقانًا من التماثيل المصرية، وعليها كتابة مجهولة غير هيروغليفية، وكذلك وجد هذه الكتابة على أنصاب الهيكل المار ذكرها، كأنَّ العمال غير المصريين كانوا بعد ذهاب المصريين من المعبد يضعون أسماءهم وبعض أخبارهم على حواشي تلك الأنصاب الخالية من الكتابة، وقد رجَّح بتري أن هذه الكتابة المجهولة هي لغة سامية، واستدل من ذلك أن اليهود عند خروجهم من مصر كان لهم كتابة خاصة بهم.
هذا ما لخصته عن كتاب مباحث في سيناء بتصرُّف كثير، وقد زرت هيكل سرابيت سنة ١٩١٠ بعد أن نقَّب فيه بتري وأعوانه؛ فلم أجد فيه أثرًا يستحق الذكر سوى الكهفين وتلة الرماد وبعض الأنصاب والأعمدة.
(٣-١٠) خيمة الاجتماع وهيكل سرابيت
على أن رؤية هذا الهيكل — بعد الوصف الذي أتى به العلامة بتري — ذكرتني بخيمة الاجتماع أو خيمة الشهادة التي صنعها موسى في جبل سيناء سنة ١٤٩٢ق.م عند خروجه بالإسرائيليين من أرض مصر كما سيجيء، فإنه وجه الشبه بينهما قريب جدًّا حتى إنه من المحتمل أن يكون موسى قد اتخذ هيكل سرابيت الخادم قاعدة لبناء خيمته.
وللخيمة دار يحيط بها سور مربع مستطيل من العمد والسجف طوله ١٠٠ ذراع عبرانية وعرضه ٥٠ ذراعًا، وله باب يفتح إلى الشرق تجاه باب الخيمة، وكانت الخيمة داخل السور أقرب إلى جانبه الغربي منها إلى جانبه الشرقي الذي فيه الباب.
أمَّا القدس فما كان يحلُّ لأحد أن يدخل إليه إلا الكهنة، وفيه مذبح البخور والمائدة والمنارة، وأمَّا قدس الأقداس فما كان يجوز أن يدخل إليه إلَّا عظيم الكهنة مرة في السنة، وفيه تابوت الشهادة أو تابوت العهد، وهو صندوق من خشب السنط مصفح بالذهب من الداخل والخارج، طوله ذراعان ونصف وعرضه ذراع ونصف وارتفاعه كذلك، وقد وضع فيه لوحا العهد، وأمَّا الدار فقد كان فيها بين بابها وباب الخيمة: المرحضة للاغتسال قبل الدخول إلى الخيمة، ومذبح المحرقة، وكان جميع العبرانيين (الإسرائيليين) يقدمون قرابينهم ونذورهم وصلواتهم في هذه الدار.
فوجه الشبه بين خيمة الاجتماع وهيكل سرابيت الخادم ظاهر للعيان، فإن قدس الأقداس في خيمة الاجتماع يقابله الكهوف في هيكل سرابيت، والقدس يقابله الهيكل، ودار الخيمة يقابلها دار الهيكل، ثم إن في الخيمة مذبح البخور والمرحضة ومذبح المحرقة كما في هيكل سرابيت.
ومعلوم أن موسى على رواية التوراة عاش في أرض مَدْين ٤٠ سنة، وسيناء هي جزءٌ من أرض مدين، وهيكل سرابيت الخادم كان في ذلك العهد الهيكل الوحيد في قلب الجزيرة كدير طور سيناء في هذا العهد؛ فلا يُعقل أن موسى، وهو ربيب بيت فرعون، يعيش في سيناء أو جوارها أربعين سنة ولا يزور هيكلها الوحيد، بل من المحتمل المعقول أن يكون قد زاره مرارًا وعرفه كما هو، وأنه لما جاء ليصنع معبدًا لشعبه جعل هيكل سرابيت الخادم قاعدة للعمل، وهذا لا ينفي قول الكتاب: إن موسى صنع الخيمة كما أمره الرب؛ لأن الغرض الأساسي من بناء الخيمة هو منع الإسرائيليين من عبادة الأوثان، وتعليمهم عبادة الإله غير المنظور، وقد تمَّ هذا الغرض بخلو الخيمة من كل صنم أو تمثال، كما خلت الشريعة من كل ما يدعو إلى الوثنية أو يقرب منها.
واختار موسى لشعبه بعض الطقوس التي كانت مستعملة في هيكل سرابيت الخادم؛ لأنها طقوس سامية وشعبه يألفها، وليس فيها ما يضرُّ بعبادة الخالق، وقد جعل باب خيمته إلى الشرق لا إلى الغرب كما هو باب هيكل سرابيت؛ لأن الشرق كان وجهته أو لأن ذلك كان عادة البدو في تلك الأيام كما هو عادتهم في هذه الأيام.
ومعلوم أن هيكل سليمان الذي بُني بعد خيمة الاجتماع بنحو أربع مائة وثمانين سنة قد بُني على مثال هذه الخيمة، فإذا صح أن موسى صنع خيمته على مثال هيكل سرابيت؛ فيكون لهيكل سليمان أصل في هيكل سرابيت، والله أعلم.
(٤) آثار الفراعنة في وادي النصب الغربية
عدَّن الفراعنة النحاس في وادي النَّصْب كما عدَّنوا الفيروز في وادي المغارة وسرابيت الخادم، ولا يزال إلى الآن في ذلك الوادي مسابك لسبك النحاس وأكداس عظيمة من الرزالة المتخلفة من إذابة النحاس، وفي تلة فوق الوادي صخرة بالهيروغليفية قد تهرأ ما عليها من الكتابة مع الزمان، لكن ما بقي منها يدل على أن تاريخها في السنة العشرين من ملك أمنمحت الثالث من ملوك الدولة الثانية عشرة المار ذكره.
هذا وقد استخرج المصريون القدماء «أكسيد النحاس والمنغنيس» في وادي النصب وغيرها من أودية سيناء، فاستخدموهما في عمل المين الزرق الجميلة التي كانوا يجلُّونها كثيرًا، وكان المعدِّنون يأتون معهم من سيناء بصخور من «الغرانيت أو حجر الحية» لعمل التوابيت والتماثيل.