في تاريخ سيناء في عهد الأسرة المحمدية العلوية
(١) محمد علي باشا مؤسس الأسرة (سنة ١٨٠٥–١٨٤٨)
لما تولَّى محمد علي باشا مصر كانت سيناء في جملة ما دخل في حوزته من أملاك مصر، وكان عرب سيناء يحكمهم قضاة منهم بحسب عرفهم وعاداتهم، وكانت مدينة الطور تابعة في الإدارة لمحافظة السويس، وقلعة نخل وغيرها من القلاع الحجازية ملحقة بقلم الرزنامة بالمالية المصرية، ونظارة العريش تابعة رأسًا لنظارة الداخلية.
(١-١) الثورة الوهابية سنة ١٨١١–١٨١٨م
ولما كانت الثورة الوهابية في نجد والحجاز سنة ١٨١١م عهد السلطان محمود الثاني بأمر إخمادها إلى محمد علي باشا، ففكر في الطريق التي يسلكها بجيوشه، فرأى أنه إذا سار بطريق سيناء فإن قلة الماء توقعه في الفشل، فآثر طريق البحر الأحمر إلى ينبع، ولم يكن عنده عمارة بحرية تقلُّ جيشه إليها فأسس دار الصناعة في بولاق وبنى السفن قطعًا وحملها إلى السويس، فركِّبت فيها سفنًا كاملة الأدوات والعدد، وسيَّر بها جيشًا مؤلفًا من ٨ آلاف مقاتل بقيادة ابنه الثاني طوسون باشا، فسار إلى ينبع واتخذها قاعدة لأعماله الحربية وأرسل بعض مهماته العسكرية بطريق سيناء، وزحف طوسون باشا من ينبع ففتح المدينة ومكة بعد مواقع دموية. وفي سنة ١٢٢٩ﻫ/١٨١٤م سار محمد علي باشا لنجدته، وأدَّى فريضة الحج ثم عاد إلى مصر قبل أن يجهز على الوهابيين، وتبعه طوسون باشا فأصابه صرع شديد قضى عليه ولم يمهله إلا بضع ساعات.
وفي سنة ١٨١٦ سير محمد علي باشا جيشًا جديدًا بقيادة ابنه الأكبر إبراهيم باشا، فسار إلى ينبع بطريق قنا والقصير، وزحف على نجد بطريق المدينة، فأجهز على الوهابيين وخرَّب عاصمتهم درعية وأسر زعيمهم عبد الله وأرسله إلى مصر ومنها إلى الآستانة حيث احتزَّ رأسه سنة ١٨١٨، فكافأ السلطان إبراهيم باشا بلقب «والي مكة» وكافأ محمد علي بلقب «خان» وأعطاه طشيوز ملكًا له لقربها من قَوَلة مسقط رأسه، فوقف محمد علي ريعها على ما أنشأه في قَوَلة من المدارس والتكايا، وما زال وقفه نافذًا للآن.
(١-٢) الحملة على سوريا سنة ١٨٣١–١٨٤١
هذا وكانت بلاد اليونان في هذا العهد تعمل على خلع سلطة الأتراك واستعادة استقلالها، فهبَّت للثورة سنة ١٨٢١ وأيدتها أوروبا، فطلب السلطان نجدة من محمد علي، وكان قد فرغ من فتح السودان، فأنجده بعمارة تقل ١٧ ألف مقاتل تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا سنة ١٨٢٤ ففتح في بلاد اليونان مدنًا وحصونًا وكاد يخضعها كلها لولا أن إنكلترا وفرنسا وروسيا أرسلت مراكبها الحربية، فشتتت العمارة التركية والعمارة المصرية في موقعة نفارين الشهيرة في ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٢٧م، فسلمت تركيا باستقلال اليونان وعاد إبراهيم باشا إلى مصر، وتنازل السلطان عن جزيرة كريت لمحمد علي لقاء ما خسرته مصر من المال والرجال، قيل وكان محمد علي يرمي إلى امتلاك البلاد العربية كلها، وقد أمَّل أن ينال سوريا من السلطان فلما لم ينلها أخذ يتحين الفرص لضمها إلى مصر بالقوة.
وفي سنة ١٨٣١ وقع بينه وبين عبد الله باشا والي عكا خلاف، فاتخذ ذلك حجة لاحتلال سوريا، فجرد حملة في البر والبحر بقيادة ابنه إبراهيم باشا فسيَّر هذا في البر بطريق العريش (١ نوفمبر سنة ١٨٣١) ٢٤ ألفًا من المشاة معهم ٨٠ مدفعًا ونيفًا، وسار هو في البحر إلى يافا، ومنها إلى عكا، فحصرها بحرًا وبرًّا نحو ستة أشهر، وأخذها عنوة في ٢٧ مايو سنة ١٨٣٢، ثم توغل في البلاد فملك دمشق الشام واشتهر ملكه بالعدل.
ولما علم السلطان محمود بما كان من محمد علي في سوريا أصدر فرمانًا بعزله وتجريده من ألقابه، وأنفذ إلى سوريا الشمالية ٣٥ ألف مقاتل بقيادة محمد باشا والي طرابلس لمقاومة إبراهيم باشا، فالتقاه بقرب حمص في ٩ يوليو سنة ١٨٣٢، ففاز إبراهيم باشا عليه وهزمه، وتقدم إلى حلب فسلمت له في ٢١ سبتمبر فترك فيها حامية وتابع مطاردة جيش حمص، فأدركه في مضيق بيلان في جبل اللكام وهزمه مرة ثانية وغنم كثيرًا من مدافعه، وجرَّد السلطان محمود جيشًا آخر فكان نصيبه كالأول.
ولما تمَّ لإبراهيم باشا فتح سوريا تقدم إلى آسيا الصغرى، فاستولى على أطنة وطرسوس، ثم انتهى إليه أن السلطان أعدَّ جيشًا ثالثًا بقيادة الصدر الأعظم رشيد باشا فجدَّ للقائه، وفي ديسمبر التقاه في قونية فمزَّق شمله وأسر قائده وهدَّد الآستانة، فخافت أوروبا العاقبة وقامت لتوقفه عند هذا الحد، فأبرمت «معاهدة كوتاهيا» سنة ١٨٣٣، وفيها تنازل السلطان محمود لمحمد علي عن مصر والحجاز وكريت، ولإبراهيم باشا عن سوريا وأطنة على أن يكون كلاهما تابعًا للباب العالي ويدفع له جزية سنوية.
ولكن السلطان محمود ما لبث أن استعد لاستعادة سوريا من إبراهيم باشا، فأرسل لقتاله ٨٠٠٠٠ مقاتل بقيادة حافظ باشا، فالتقاهم إبراهيم باشا في سهل نزيب غربي عين تاب في ٢٤ يونيو سنة ١٨٣٩ وهزمهم إلى مرعش وقتل وأسر وغنم، وكانت الدولة قد أرسلت عمارة بحرية إلى ثغر الإسكندرية، فسلمت إلى محمد علي بلا قتال.
ومات السلطان محمود بعد موقعة نزيب بثمانية أيام فخلفه السلطان عبد المجيد، وعقد مع روسيا وبروسيا وأوستريا وإنكلترا «معاهدة لندن» في ١٥ يوليو سنة ١٨٤٠ سلَّم بمقتضاها أن يكون حكم مصر لمحمد علي وذريته الأكبر فالأكبر من بعده، على قاعدة الوراثة في السلطة العثمانية، وأن تكون ولاية عكا له مدة حياته على أن يتنازل لقاء ذلك عن سائر فتوحاته، وبعثت الدولة إلى محمد علي تبلغه رسميًّا هذه المعاهدة فأبى التسليم بها واستعد للقتال وكانت فرنسا تعضده، فأصدر السلطان فرمانًا بعزله عن مصر وخرجت عمارات الدول المتحالفة إلى سوريا لترغم إبراهيم باشا على الجلاء عنها، ففتحت سواحل سوريا وأقلعت العمارة الإنكليزية إلى الإسكندرية ففاوضت محمد علي في أمر الصلح على أن يسلم سوريا والعمارة العثمانية في الحال، وأن يكتفي بمصر له ولذريته، وألا يتجاوز عدد الجيش المصري ١٨ ألف جندي، وأن يضرب النقود باسم السلطان»، وقد صدر الفرمان الشاهاني بذلك بتاريخ ١٣ فبراير سنة ١٨٤١م، ولم يكن محمد علي بعد فتوحاته المجيدة راضيًا بهذه النتيجة، ولكنه قبلها مضطرًّا اختيارًا لأهون الشرين، وقد أمر جنوده — قبل صدور الفرمان — بالرجوع عن سوريا. قيل فعادوا منها ٥٠ ألفًا وكانوا قد ذهبوا إليها ١٣٠ ألفًا.
هذا وكان إبراهيم باشا قبل قيامه بالحملة على سوريا قد رمم بئر قَطْيَة وبئر العبد وبئر الشيخ زويِّد، ونظم بريدًا على الهجن إلى غزة، وجعل له المحطات الآتية: القنطرة، قَطْيَة، بئر العبد، بئر المزار، العريش، الشيخ زويد، خان يونس، غزة، ووضع الخفراء على الآبار لحمايتها، ولما رجع بجيشه من سوريا نقض عليه السواركة والترابين، فنهبوا محطات البريد في الشيخ زويد وبئر المزار، فجرَّد عليهم عرب الهنادي من مصر لتأديبهم فساروا في طريق العريش وكانوا كلما صادفوا عربيًّا في طريقهم جردوه من ماله، فنفرت العربان إلى الجبال فجمع الهنادي ماشيتهم وساقوها أمامهم إلى خان يونس؛ فاجتمع منها هناك شيء كثير حتى قيل إن رأس الماعز بيع بغرشين.
(٢) إبراهيم باشا ابنه (من يونيو إلى نوفمبر سنة ١٨٤٨م)
وفي يونيو سنة ١٨٤٨ انحرفت صحة محمد علي حتى لم يعد في استطاعته إدارة الأحكام؛ فتولى مصر ابنه الأكبر إبراهيم باشا، ولكنه لم يلبث أن راجعه انحراف كان قد طرأ على صحته واشتد عليه بغتةً، ففارق هذا العالم في ١٠ نوفمبر سنة ١٨٤٨ قبل أن يخرج إلى حيز العمل ما كان قد نواه من الخير لبلاده، ثم توفي محمد علي باشا بعده في ٢ أغسطس سنة ١٨٤٩م تغمَّدهما الله برحمته وأسكنهما فسيح جناته.
هذا وفي أيام محمد علي باشا، سنة ١٨١٠، طرق سيناء الرحَّالة الشهير «بوخارت»، فكان أول سائح جال في سيناء وكتب عنها في هذا العهد.
وفي سنة ١٨٢٥ أرسل محمد علي مهندسًا فرنساويًّا، يسمى الموسيو «لينان» إلى بلاد الطور، فدرس معادنها ورسم خارطتها، وسمَّى نفسه هناك «عبد الحق»، وكانت الخارطة التي رسمها أول خارطة وُضعت لسيناء في التاريخ الحديث.
(٣) عباس باشا الأول بن طوسون باشا ابن محمد علي (سنة ١٨٤٨–١٨٥٤م)
وبعد وفاة إبراهيم باشا تولى مصر عباس باشا أكبر أولاد الأسرة العلوية، وقد زار سيناء واهتم بها اهتمامًا كبيرًا، وظهر أنه نوى أن يجعلها مصيفًا له، فبنى فيها الحمام فوق النبع الكبريتي في قرب مدينة الطور، ومهَّد طريقًا من دير طور سيناء إلى قمة جبل موسى، وشرع في بناء قصر جميل على جبل «طلعة» غربي جبل موسى، وشرع في مدِّ طريق للعربات من مدينة الطور إلى القصر، ولكن عاجلته المنية قبل أن يتمها، وكان لرهبان الدير والجبالية حدائق عند جبل طلعة فأخذها منها وعوَّض عنها الجبالية مبلغًا كبيرًا يساوي أضعاف الثمن، وعوَّض الرهبان «أبعدية» في سرياقوس بمصر مساحتها نحو مائة فدان من أجود الأطيان، وهي الآن من أفضل أملاكهم وأنفعها.
(٤) سعيد باشا نجل محمد علي باشا سنة ١٨٥٤–١٨٦٣م
وخلفه سعيد باشا نجل محمد علي باشا، وهو الذي أذن في حفر ترعة السويس سنة ١٨٥٦م، وأسس محجر الحجاج في سيناء سنة ١٨٥٨م كما مرَّ.
(٥) إسماعيل باشا ابن إبراهيم باشا (سنة ١٨٦٣–١٨٧٩م)
وخلفه إسماعيل باشا ابن إبراهيم باشا، وفي أيامه سنة ١٨٦٨م أرسل الإنكليز لجنة علمية برئاسة الأستاذ هنري بلمر للتنقيب في بلاد الطور، فأقامت فيها ستة أشهر رسمت في أثنائها عدة خرائط وأخذت نحو ٣٠٠ صورة شمسية تمثل أخص مواقع البلاد، ونشرت خلاصة أعمالها وآرائها سنة ١٨٧٢م في كتاب كبير.
وفي أيامه تمت ترعة السويس، فاحتفل بافتتاحها في ١٧ نوفمبر سنة ١٨٦٩ احتفالًا شائقًا لم ترَ مصر مثله في تاريخها الحديث، وقد أنشأ عند منتصف الترعة بلدة خاصة لهذا الغرض سماها باسمه «الإسماعيلية»، ودعت الحاجة إلى إنشاء قرية في طريق العريش على شاطئ الترعة الشرقي لجهة سيناء سميت «بالقنطرة» وقد مرَّ وصفها.
وكان إسماعيل باشا كبير المطامع شديد الرغبة في إصلاح بلاده وتمدينها، وكانت الولاية في مصر إلى عهده لا تزال تنتقل إلى الأكبر فالأكبر من أفراد الأسرة المحمدية العلوية، فسعى في جعلها لبكر أبنائه ولبكر هذا من بعده، فأصدر السلطان عبد العزيز فرمانًا بذلك في ٨ يوليو سنة ١٨٧٣م، وأجاز له زيادة الجيوش البرية والبحرية حسب الحاجة، وعقد قروضًا ومعاهدات تجارية، ومنحه لقب خديوي وهو أكبر ألقاب الدولة، وأنشأ إسماعيل باشا كثيرًا من القصور والمدارس والمعامل والمتاحف والشوارع، وحفر الترع، ومدَّ خطوط السكك الحديدية والأسلاك التلغرافية، وأسس مصلحة البريد في مصر وأدخلها في اتحاد البوسطة العام، فضلًا عما أتاه في السودان والحبشة من الحروب والفتوحات، فاستغرقت كل هذه الأعمال والإصلاحات القناطير المقنطرة من الأموال، واستنفدت أموال البلاد؛ فاضطر إلى عقد قروض مالية في أوروبا حتى بلغ دين الحكومة المصرية نحو ٩١ مليون جنيه، فأصبحت حملًا ثقيلًا على الخزينة المصرية وعلى أهالي البلاد؛ لأنه كان يضرب الضرائب الفادحة ليوفي منها فائدة تلك الديون ويستخدم العنف في تحصيلها، ومع ذلك فقد عجز عن تسديد الأقساط المستحقة في حينها، فآل الأمر إلى مداخلة الدول الأجنبية للمحافظة على أموال رعاياها أصحاب الديون، فتشاورت في أحسن الوسائل لضمان تلك الديون واستهلاكها، فألفت لجنة دولية مشتركة سميت صندوق الدين العمومي، وصدر الأمر العالي بتشكيله في ٢ مايو سنة ١٨٧٦، وكانت أعمال الحكومة المصرية إلى هذا العهد تجري بمقتضى إرادة الخديوي رأسًا، فحملت الدول الخديوي على تأليف مجلس النظار كما هو الآن وتعيين ناظرين أحدهما إنكليزي للمالية والآخر فرنساوي للأشغال العمومية، فاستعظم إسماعيل غلَّ يديه بمجلس فيه ناظران أجنبيان، فقلب هيئة المجلس في ٧ أبريل سنة ١٨٧٩ وأخرج منه الناظرين الأجنبيين، فساء ذلك إنكلترا وفرنسا فسعتا لدى الباب العالي، فصدر الأمر الشاهاني بإقالته في ٢٦ يونيو سنة ١٨٧٩، وفي ٣٠ منه غادر مصر إلى نابولي، ثم استدعاه السلطان عبد الحميد إلى الآستانة، فبقي فيها إلى أن توفي في ٦ مارس سنة ١٨٩٥ فنقلت جثته إلى مدفن آبائه في مصر، طيَّب الله ثراه.
(٦) محمد توفيق باشا ابن إسماعيل باشا (سنة ١٨٧٩–١٨٩٢م)
وخلفه ابنه الأكبر محمد توفيق باشا، فأراد السلطان عبد الحميد حرمانه الامتيازات التي منحها السلطان عبد العزيز لأبيه، فتصدت للدفاع عنه إنكلترا وفرنسا صاحبتا المراقبة على أموال مصر، لكن السلطان عبد الحميد فاز في تحديد عدد الجند فجعله ١٨ ألفًا، وأصدر الفرمان بذلك في ١٤ أغسطس سنة ١٨٧٩.
(٦-١) الثورة العرابية سنة ١٨٨٢م
وأهم ما جرى في عهد توفيق باشا: الثورة العرابية في مصر، ثم الثورة المهدية في السودان سنة ١٨٨٢، وكان الباعث الأكبر لهما في البلادين «ظلم الترك للعرب»، وقد ظهر ظلم الترك على الخصوص في الجندية، فكان للتركي الرتب العالية والرواتب الفادحة والكلمة النافذة، وما على العربي إلا الطاعة، وكان أول من رفع صوته وجاهر بالشكوى في مصر «عرابي باشا» فنسبت الثورة إليه.
(٦-٢) قتل الأستاذ بلمر ورفاقه في ١١ أغسطس سنة ١٨٨٢
وأهم ما جرى في سيناء في أثناء الثورة العرابية قتل الأستاذ بلمر الإنكليزي ورفاقه، وتفصيل ذلك «أنه لما ثار عرابي وانبرى الإنكليز لإخماد ثورته حبًّا بإعادة السلام إلى مصر والمحافظة على القنال بنوع خاص؛ أوفدوا إلى سيناء الأستاذ هنري بلمر المار ذكره وأوفدوا معه ضابطين من الإنكليز، وهما الكبتن جِل من المهندسين واللفتننت تشارنتون من البحارة بمهمة سرية غايتها الظاهرة شراء الجمال للحملة الإنكليزية والخفية قطع خط التلغراف بين مصر وسوريا وتهدئة العربان ومراقبتهم؛ لئلا يعبثوا بالقنال أو المراكب التي تمخر فيه، وقد وضعت البحرية الإنكليزية تحت أمره عشرين ألف جنيه لإتمام هذه المهمة، فأخذ منها ٣٠٠٠ جنيه وخرج من السويس مع رفيقيه في ٨ أغوسطوس سنة ١٨٨٢ قاصدًا بلدة نخل بطريق وادي سدر، وقد صحبه مترجم سوري يدعى «خليل عتيق» وطباخ إسرائيلي يدعى «بخور حسُّون»، وكان خبيره ومعتمده من عربان سيناء «مُطير أبو صفيح» أحد كبار الصفايحة اللحيوات، ومعه «سالم» ابن أخيه، وتسعة جمَّالة: ثمانية من العليقات ورجل من مزينة.
وفي هذه الأثناء كان شرر الثورة العرابية في مصر قد تطاير إلى سيناء، فما أوغلوا في وادي سدر حتى انقضَّ على الحملة عصابة من اللصوص الترابين والحويطات، فقتلوا بالمر ورفيقيه الضابطين والمترجم والطباخ وأبقوا على البدو، وأمَّا النقود فقد فرَّ بها الشيخ مطير وابن أخيه، وكان ذلك في ١١ أغسطس سنة ١٨٨٢.
ولما أخمد الإنكليز الثورة العرابية في مصر أرسلوا إلى سيناء وفدًا برئاسة الكولونل السر تشارلس ورن، فبحث عن الجناة حتى وجدهم وجاء بهم إلى مصر، فحوكموا في طنطا وحُكِم على خمسة منهم بالقتل وعلى سبعة آخرين بالسجن المشدد مددًا مختلفة. وقد وجد الوفد بعض رفات الأستاذ بلمر ورفاقه الأربعة، فنقلوها إلى لندن فدفنت في دار كنيسة القديس بولس، وجعل فوق المدفن صخرة تاريخية ذكرت فيها أسماؤهم ومقتلهم وغرض رسالتهم، ونشر الكولونل السر تشارلس ورن كتابًا وفَّى فيه الكلام على مقتل بلمر ورفاقه، وكيفية البحث عن الجناة والقبض عليهم ومحاكمتهم، ولكني لم أذكر عن هذه الحادثة إلا ما علمته بنفسي من عرب سيناء سنة ١٩٠٦م.
وقد كان بين الجمَّالة العليقات الذين رافقوا حملة الأستاذ بلمر «مُدخل سليمان» شيخ العليقات الحالي، فسألته أن يقصَّ عليَّ خبر مقتل بلمر ورفاقه، فقال: كان الشيخ عبد الله (وهو الاسم الذي اختاره الأستاذ بلمر لنفسه في سيناء) عند مجيئه إلى السويس قد طلب من شيخنا عودة الزميلي أن يصحبه في سفرته هذه إلى سيناء، فأبى قائلًا: إن «البرَّ مهزوز» فما أضمن سلامتكم فيه، ولكن الشيخ عبد الله أصرَّ على الذهاب، فأخذ «مطير بن صفيح» خبيرًا ومعتمدًا، وقمنا من عيون موسى (في ٩ أغسطس سنة ١٨٨٢)، وقيلنا في مطخِّ النسر، فأتانا هجان حويطي يدعى سالم أبو صبحي يصحبه راجل، فأسرَّا كلامًا إلى مطير وعاد الراجل إلى حيث أتى وبقي الهجان، ثم استطردنا السير فنزلنا للمبيت في وادي الأحثا.
وكنا قد التقينا في الطريق ثلاثة رجال: حويطي وعليقي وترباني قاصدين عيون موسى، فما حططنا رحالنا حتى رأيناهم رجعوا ونزلوا للمبيت معنا.
وكان الشيخ عبد الله قد بدأ بشراء الإبل من عيون موسى، فاشترى فيها عشرة جمال وساقها معه، فلما أصبحنا «في ١٠ أغسطس» وجدنا الرجال الثلاثة قد سرقوا منها جملين وفرُّوا بهما، فركبت في الحال مع ثلاثة من الجمالة وسرنا في أثرهم حتى رأيناهم في أعالي وادي غرندل، ولما رأونا تركوا الجملين وفرُّوا هاربين، فعدنا بالجملين إلى المخيم الساعة واحدة بعد الظهر، وفي عودتنا سألت عن سالم أبو صبحي الهجان الحويطي المذكور آنفًا فقالوا: مشى، فقلت لمطير: «أرى الدنيا قائمة، فالأفضل أن نرجع بالخواجات إلى العيون»، فهزأ بكلامي وقال: «إن عادتكم أنتم الطورة الخوف.»
ثم رأيته يسارُّ الشيخ عبد الله، وفي العصر ناداني الشيخ عبد الله وقال: نحن الضباط والترجمان نتقدم مع مطير وابن أخيه إلى عين سدر، وأنتم والطباخ تبقون هنا إلى قرب الغروب، وتسيرون ليلًا فتبيتون في عدِّ أبو جراد في بطن وادي سدر، ثم تلحقون بنا في اليوم التالي إلى العين، وطلب هجيني ليركبه فأعطيته إياه، وسار هو ورفيقاه الضابطان والترجمان ومعهم مطير وابن أخيه والنقود، وبقينا نحن إلى قرب الغروب فسرنا وبتنا على عين أبو جراد، على نحو ٧ ساعات من عين سدر، حسب الأمر.
أمَّا الشيخ عبد الله ورفاقه فإنهم بقوا سائرين بوادي سدر إلى ما بعد الغروب، فأتوا عدًّا في أسفل عين أبو رجوم على نحو ساعتين من عين سدر، وكان بعض اللصوص من الحويطات والترابين فوق عين أبو رجوم متربصين لهم، فلما أحسُّوا بهم شرعوا في إطلاق النار عليهم، فوقفوا وبرَّكوا هجنهم، وفيما هم يبرِّكون الهجن أصابت رصاصة ناقة سلامة ابن أخي مطير فماتت، وكان عليها النقود في خرجين، فوضع مطير الخرجين على هجينه وأركبه ابن أخيه وسيَّره إلى بلاده، ثم ركب هجينًا من هجن الضباط ولحق بابن أخيه، فبقي الضباط والترجمان وحدهم، فأخذ الترجمان ينادي اللصوص: الأمان يا قوم، الأمان، تعالوا هنا، فأتوا وقبضوا عليهم وجرَّدوهم من ثيابهم إلا الألبسة، ثم قالوا: هاتوا فلوسكم وإلَّا قتلناكم، فقالوا: «الفلوس أخذها مطير وابن أخيه وفرَّا بها»، فقالوا: أين بقية حملتكم؟ قالوا: «تركناها على أن تمرح الليلة في عدِّ أبو جراد»، فتركوا سبعة منهم يخفرون الأسرى وانحدروا إلينا على عين أبو جراد.
وفي صباح اليوم التالي؛ أي ١١ أغسطس، فيما نحن نحمل الإبل قصد استطراد السير إذا بهم يطلقون الرصاص علينا، ثم اقتربوا منا وسألونا عن مطير وابن أخيه، فأقسمنا أننا لم نرهما، فساقوا الإبل والطباخ وسنَّدوا في الوادي، وفرَّ الجمَّالة الذين معنا بأربعة جمال عريانة، وأمَّا أنا فقد رأيت من فعل هؤلاء اللصوص أن شرًّا لحق بالضباط والترجمان، وكان هجيني معهم كما قدمت، فتبعت اللصوص لأفتش عن هجيني فلم نبعد عن العين ساعة حتى جاءنا هجان من السبعة الذين تركهم اللصوص لخفارة الضباط والترجمان، وقال: إن مطيرًا عاد ومعه عشرة من الحويطات الدبور والصفايحة لإنقاذ الضباط والترجمان، وكان هذا الهجان راكبًا هجيني، فأقسمت للقوم أنها لي فسمحوا لي به فامتطيته وقفلت راجعًا به إلى منزلي.
وأمَّا اللصوص فإنهم جدُّوا السير حتى لحقوا بمطير والضباط، فقالوا له: إن كنت تحب نجاة الضباط فهاتِ الفلوس وإلَّا قتلناهم لا محالة، فألحَّ الضابط إذ ذاك على مطير أن يعطيهم الفلوس، فقال لهم: إن كان هؤلاء ينوون الشر فإنهم لا بدَّ أن يقتلوكم أعطيناهم الفلوس أو لم نعطهم، فقاد اللصوص الأستاذ بلمر والضابطين والترجمان والطباخ إلى شاهق يطل على عين أبو رجوم وأوثقوهم وقذفوا بهم إلى بطن الوادي، ثم أجهزوا عليهم رميًا بالرصاص، وجروا جثثهم إلى مكان قرب العين فيه «ديس»، فخبئوها هناك وتفرقوا إلى بلادهم.
وبعد أن هدأت الثورة العرابية طُلبت إلى مصر شاهدًا، فشهدت بما رأيت وسمعت، وكان الإنكليز قد ساءهم من شيخنا عودة الزميلي إباءَه مرافقة الضباط فعزلوه عن المشيخة ونصَّبوني في مكانه شيخًا على العليقات، وما زلت كذلك إلى اليوم. ا.ﻫ.
وحدثني الشيخ موسى أبو نصير شيخ مشايخ الطورة عن هذه الحادثة قال: اهتم الإنكليز لهذه الحادثة كل الاهتمام، وصمموا على معرفة الجناة ومعاقبتهم، وكان بدو مصر قد ألصقوا الجناية بالطورة وقالوا: إني أنا شخصيًّا مسئول عنها، فقبل أن أخمد الإنكليز الثورة في مصر أرسلوا مركبًا حربيًّا إلى الطور يطلبونني بالاسم، وكان على مدينة الطور إذ ذاك ناظر من قبل محافظة السويس يدعى عفيفي أفندي، فجاءني بنفسه إلى وادي فيران وتوسل إليَّ أن أذهب معه لمقابلة قائد المركب، وقال: إذا أنت لم تحضر معي فالله يعلم ماذا يكون جزائي، وكان عرب الطورة إذ ذاك في أشد الهياج، وقد جاءهم بعض البدو من مصر وأخبروهم أن عسكر المسلمين ذبحوا الإنكليز، وقام المسلمون على النصارى في مصر وذبحوهم وغنموا مالهم، فتعالوا نذبح نصارى الطور ونغنم مالهم، فقلت للناظر: لا بدَّ لي في مثل هذه الأحوال من البقاء بين قومي لمنع هذه الفتنة التي تعود علينا جميعًا بالوبال، وإن شاء الله بعد وصولك إلى الطور بأربعة أيام أكون عندك، ولما كان الميعاد أخذت عشرة رجال من قبيلتي وسرت بهم قاصدًا الطور بطريق وادي حيران، فبت في فم الوادي في أول سهل القاع، فلما درى العرب بقيامي أسرعوا بخيلهم ورجلهم لاحقين بي، وقالوا: لا بدَّ لنا من ذبح نصارى الطور.
قال الشيخ أبو الجدائل: «وقال واحد من القوم: لنُبقِ على إلياس عنصرة ليكشف لنا «كتاب الأم»، فصاح حسين أبو ربيع من عرب مزينة: «جلَدي»؛ أي لنقتلهم جميعًا ولا نبقي على أحد، فلُقِّب «بحسين جلدي» إلى اليوم.
قال الشيخ موسى: فقلقت لإصرارهم على هذا العزم؛ لأني رأيت فيه خراب جزيرتنا، فأخذت السيف ورسمت برأسه خطًّا في عرض الطريق وصحت بالقوم قائلًا: إن من يتعدَّى هذا الخط إلى جهة الطور أقتله أو يقتلني، وبعد جدال طويل سلَّموا بالرجوع إلى فيران ولكنهم شرطوا عليَّ أن أعود معهم، فعدت تلافيًا للشر، وبعثت برسول إلى الطور ليخبر الناظر بما كان وينذر أهل الطور ليأخذوا الحيطة لأنفسهم، وما وصلنا فيران حتى أتانا الخبر أن الإنكليز قهروا عرابي وأخذوه أسيرًا، فرأى العرب إذ ذاك صواب رأيي وشكروني ولم يعد أحد منهم يخالفني برأي.
ثم جئت إلى الطور فوجدت المركب الحربي قد عاد إلى السويس، فعدت إلى فيران وبعثت إليه بالخبر، فجاءني منه رسول يدعى «مبارك أبو عطوة» من النفيعات، فصحبته إلى السويس ووصلناها (في ١٩ أكتوبر سنة ١٨٨٢) ودخلت دار المحافظة فوجدت فيها ثلاثة من الضباط الإنكليز على كراسيهم ومعهم مترجم، فحييتهم فلم يحفلوا بي ولا أمروا لي بكرسي أجلس عليه، وأخذ المترجم يسمع لهم ثم يلتفت إليَّ ويقرِّعني لأني تأخرت عن المجيء إلى الطور في الميعاد، فاعتذرت بجملة مقتضبة، ولكن الغيظ كان قد أخذ مني كل مأخذ حتى لم أعد أستطيع الكلام، فصار المترجم يكلمني وأنا ساكت، ثم قلت: «قل لهؤلاء الإنكليز ما أنا قتلت الشيخ عبد الله حتى أعنف وأهان وأترك واقفًا أمامهم كمجرم قاتل، وإني رجل محترم في قومي وفي مجالس الحكام، وأكبر حاكم يقف لي ويشير إليَّ بالجلوس قبل أن يبادئني بخطاب.»
فلما ترجم لهم هذا القول وقد رأوا من لهجتي الصدق والبراءة تبسموا وأمروا لي بكرسي وقهوة وسيجارة، ثم سألوني عدة أسئلة دلَّت أن عربان مصر قد ألصقوا التهمة بالطورة، وكنت أعلم أن الطورة أبرياء منها، وأن أهل التيه هم الجانون، فقلت للمحققين: تعالوا معي في الطريق التي سار بها بلمر والضباط وأنا أهديكم إلى القاتلين إن شاء الله، ففرحوا لقولي وقاموا معي يصحبهم مترجم وبعض المشايخ من مصر، فسرنا في طريق وادي سدر ونحن نحقق الأمر حتى وصلنا إلى محل القتال والمكان الذي خبئوا فيه الجثث عند عين أبو رجوم، وكانت الضباع قد عبثت بها، وكان أول من دلَّني عليها وهداني إلى الجناة رجل من العليقات مستخدم عند حسن بن مرشد الترباني أحد الجناة الملقب بأبي عُدَيمة.
ودلَّنا على الشاهق الذي دُهوِر منه الأستاذ بلمر ورفاقه الأربعة، فأقام الإنكليز فوقه «رِجمًا» عظيمًا من الحجارة الغشيمة على شكل هرم باقٍ هناك إلى اليوم.
ثم ذهبنا كلنا إلى نخل وشرعنا في التحقيق حتى عرفنا الجناة فردًا فردًا، فألقي القبض على أكثرهم وسيقوا إلى القطر المصري، فحوكموا في طنطا، فحكم على بعضهم بالشنق وعلى البعض بالسجن خمس عشرة سنة وعشر سنين وخمس وثلاث، وممن حكم عليهم بالشنق: سالم الشيخ من الغناميين الحويطات (مات في السجن قبل تنفيذ الحكم)، وسالم أبو تلحيظة من الدبور الحويطات، وعلي الشويعر من الترابين، وحسن بن مرشد الثرباني الملقب بأبي عديمة «وقد فرَّ من السجن».
أمَّا مطير أبو صفيح فقد أنكر الدراهم أولًا ثم اعترف بها، ودلَّنا على مخبئها في الجبل، فوجدنا الصندوق مفتوحًا والدراهم ناقصة ألف جنيه، فاستدللنا من ذلك على طمعه وعدم إخلاصه، وقد مات هو وابن أخيه في السجن قبل صدور الحكم عليهما. ا.ﻫ.
وحدثني أحد أعيان السويس عن لسان حسن بن مرشد الترباني المذكور قال: إن الإنكليز بذلوا الجهد في القبض عليَّ، فألزموا سلامة بك شديد شيخ الحويطات أن يحضرني إليهم، فأرسل سلامة بك الرسل بطلبي، ثم أتى بنفسه وقال لي: «أنت بوجهي تواجه سالم وتطلع غانم»، فذهبت معه فأخذني إلى العباسية، وحال وصولي وضعوا الحديد في رجلي وحبسوني في خيمة، ولما كانت الساعة ٣ بعد الغروب سمعت الحرَّاس يقولون همسًا: باقٍ من عمر هذا المسكين ليلة، فلما سمعت هذا القول قلت: هذا وقتك يا حسن، وصممت على الفرار، وبعد نصف الليل اغتنمت غفلة الحراس وفررت والقيد في رجلي فاختبأت في كهف في جبل المقطم، ولم يكن إلَّا القليل حتى سمعت وقع حوافر الخيل — خيل الحراس — بالقرب مني، ولكن الله سبحانه أعمى أبصارهم فلم يروني، فأخذت أعالج القيد الذي برجلي حتى فككته ونجوت بنفسي في تلك الليلة، وما طلعت الشمس حتى كنت في جزيرة سيناء وقد عبرت الترعة سباحة شمالي السويس. واجتمع عليَّ خمسة من أولاد عمي فتسلحنا وكنا نقضي النهار كله على رأس جبل الراحة وفي الليل نعود إلى أهلنا، وقد علمت أن الإنكليز عادوا فطلبوني مرة ثانية من سلامة بك، فقال لهم: إنه فرَّ إلى بلاد الشام فأرسلوا العساكر إلى مخيمي فأخذوا امرأتي ومالي: حمار و٢٠ رأس غنم وبيت شعر، فأبقوا المال وأرجعوا امرأتي بعد أن ولدت في السجن، وأمَّا أنا فبقيت محاذرًا مهاجمة العساكر مدة ستة أشهر، ولما رأيت الطلب قد كف عني عدت إلى عيشتي السابقة. ا.ﻫ.
قال محدثي: لم يمضِ على الحادثة سنتان حتى صار حسن المذكور يجيء إلى السويس ويعود بلا خوف رقيب أو واشٍ؛ لأنه كان محبوبًا من الجميع من بدو وحضر، وكان رجلًا عاقلًا بصيرًا، سخي الكف سديد الرأي، وكان العرب يقصدونه لفض مشاكلهم، وقد مات في البريَّة نحو سنة ١٨٩٤م. ا.ﻫ.
(٦-٣) تحويل درب الحج المصري عن سيناء
ثم إن من أهم ما حدث في سيناء في عهد المغفور له توفيق باشا انقطاع الحج المصري منذ طلعة ١٣٠١ﻫ/١٨٨٤م عن طريق سيناء، واتخاذه طريق البحر إلى جدَّة. وقد وُسِّع محجر الطور ومُدَّ إليه خط تلغرافي من السويس سنة ١٩٠٠م، فكان في تغيير هذه الطريق راحة للحجاج تفوق الوصف؛ لأنهم كانوا يقاسون كثيرًا من الشدائد والأخطار بطريق البر، ولكن شقَّ على البدو انقطاع الحج عن بلادهم، وكان في جملة من خسروا بذلك الحويطات، واتفق أن الحكومة في ذلك الحين حاولت تجنيدهم فهالهم الأمر جدًّا، وخرجوا من بلادهم راحلين إلى الحجاز، فأرسل الخديوي من أعادهم وأعفاهم من الجندية، وفي ذلك قال شاعرهم:
ثم بعد انقطاع الحج المصري عن سيناء صدر قرار مجلس النظار في ٢١ مايو سنة ١٨٨٥ نمرة ١٣١ بإلحاق القلاع الحجازية الحربية وكانت تابعة للرزنامة بالمالية، فقامت تركيا تطالب مصر بهذه القلاع، وكانت مصر تنفق عليها بلا جدوى فسلَّمت الوجه سنة ٧–١٨٨٨، ثم ضبا فالمويلح فالعقبة سنة ١–١٨٩٢ كما مرَّ.
(٧) عباس حلمي باشا الثاني ابنه (سنة ١٨٩٢–١٩١٤م)
(٧-١) فرمانه
وخلف توفيق باشا ابنه الأكبر عباس حلمي باشا الثاني، ولما أرسل السلطان عبد الحميد فرمان توليته خديويًّا على مصر أخرج جزيرة سيناء كلها من حدود مصر، فاعترض المعتمد الإنكليزي السر إفلن بارنج (اللورد كرومر) على ذلك وأوقف قراءة الفرمان رسميًّا حتى جاء التصحيح من الآستانة.
(٧-٢) زيارته الطور سنة ١٨٩٦
وفي ٢٢ يونيو سنة ١٨٩٦ أبحر عباس باشا إلى مدينة الطور، فزار محجرها وجامعها وحمام موسى، وعاد إلى مصر.
(٧-٣) زيارته العريش سنة ١٨٩٨
وفي سنة ١٨٩٨ زار برًّا بلاد العريش، فوصل عمودي الحدود عند رفح واستراح هناك ساعة، وكان محافظ العريش إذ ذاك عثمان بك فريد فأمره بأن يكتب تاريخ زيارته الحدود على العمود الذي إلى جهة مصر، فخطَّ التاريخ الشيخ إبراهيم محمد قاضي المحكمة الشرعية بالعريش، خطَّه على صحيفة كبيرة ونقشه في العمود مصطفى أفندي البيك من أهالي العريش، وكان القاضي قد عمل مسودة للتاريخ، فبقيت عند عبد الحميد أفندي وهبة كاتب المحكمة، فسلمني إياها في العريش في ٩ سبتمبر سنة ١٩٠٦، وهذه هي صورتها مصغَّرة بالفوتوغرافية:
ومما أجراه عباس باشا من الإصلاح عند زيارته العريش أنه جدَّد بناء جامع العريش كما مرَّ، ورمَّم بئر قَطْيَة، وحفر بئرًا جديدة عند النبي ياسر على ساحل العريش، وأمَّا ما جرى من الإصلاح في سيناء عمومًا على عهده فقد مرَّ الكلام عليه تفصيلًا.
ومن الحوادث التي جرت في عهده في سيناء قتل الهنداويين، وتفصيل ذلك:
(٧-٤) قتل الهنداويين على درب الحج سنة ١٩٠٥
أنه في ٧ مارس سنة ١٩٠٥ خرج محمد الهنداوي وأخوه إبراهيم من بلدتهما نخل في طريق الحج المصري قاصدين العقبة للاتجار ومعهما جملان يحملان من بضاعة البن والسكر والزيت والحنطة والأقمشة ما لا تزيد قيمته على ١٥ جنيهًا، وقد رافقهما من نخل رجل ترباني وعبدٌ من العقبة معه جمل يحمل بضاعة لسيده، فلما كانوا على نحو عشرة أميال من نخل صادفهم خمسة من الصقيرات التياها مسلحين ببنادق رمنتون آتين من الشمال لغزو الصفايحة في الجنوب طلبًا للثأر، وكان بين هؤلاء الصقيرات الخمسة: «سليم الأطرش» فتًى في الثلاثين من عمره و«صبَّاح حسين» في الخامسة والعشرين، فقال هذان لرفاقهما: هلمُّوا نتبع هؤلاء التجار فنقتلهم ونغنم مالهم، فأبى الرفاق عليهما ذلك وبقوا مستمرين في طريقهم لغزو الصفايحة، أمَّا هما فإنهما صمَّما على إنفاذ رأيهما وتتبعا التجار إلى أن نزلوا للمبيت في وادي «أبو قُوَيعة» على نحو عشرين ميلًا من نخل، وما أوقدوا النار وشرعوا في تهيئة الطعام حتى كان الرفيقان قد اقتربا من الوادي متسترين بالظلام، فأطلق سليم الأطرش عيارًا ناريًّا أصاب محمد الهنداوي فجندله قتيلًا، وحاول صباح حسين إطلاق عياره فلم ينطلق لأنه كان فاسدًا، ثم هاجما المحلة ففرَّ العبد والترباني وبقي إبراهيم الهنداوي مدهوشًا مما دهاه، فأوثقاه وربطا عنقه برجل أخيه المقتول وحملا الإبل الثلاثة بما خف وغلا، ثم حشا صباح حسين بندقيته بعيار صالح وأطلقه على إبراهيم فأرداه، ثم أخذا جمال القافلة الثلاثة وأوغلا شمالًا في بلاد التيه.
نحن خديوي مصر
- المادة (١): يشكل قومسيون من: نعوم بك شقير نائبًا عن قلم المخابرات بنظارة الحرابية، والميرالاي سعد بك رفعت، وعلي بك حسين وكيل النيابة تحت رئاسة نعوم بك شقير للتوجه إلى شبه جزيرة سيناء؛ لسماع الدعوى المتهم فيها سليم الأطرش وصباح بن حسين بقتل محمد الهنداوي وإبراهيم الهنداوي في ٧ مارس الماضي والحكم فيها.
- المادة (٢): المرافعة والإجراءات أمام هذا القومسيون تكون علنية إلَّا في ما يتعلق بالمداولة.
- المادة (٣): يعمل محضر عن كافة إجراءات القومسيون.
- المادة (٤): يعاون القومسيون في سماع الدعوى أربعة مشايخ ينتخبهم الرئيس من أعيان الجهة بصفة عدول، ويجوز لكل واحد من هؤلاء العدول أن يقترح على الرئيس تكليف أي شخص بالحضور أمام القومسيون بصفة شاهد وتوجيه أي سؤال إلى أي شاهد من الشهود، ويأخذ القومسيون رأي كل واحد منهم عن مجموع القضية قبل أن يفصل هو فيها، وتدوَّن آراؤهم في محضر الإجراءات.
- المادة (٥): يراعي القومسيون في حكمه ما يكون معلومًا من عوائد الجهة ما لم يكن مغايرًا للعدالة أو الذمة، وفي حالة عدم وجود عوائد معلومة أو إذا كانت هذه العوائد مخالفة للعدالة أو الذمة يراعي القومسيون مبادئ العدالة، ويجوز للقومسيون بما له من واسع السلطة أن يحكم بأي عقوبة جائزة بمقتضى قانون العقوبات، أو أي عقوبة تقل عنها بشرط أنه إذا حكم القومسيون بالإعدام فلا ينفذ إلَّا بعد عرض الحكم علينا للتصديق عليه.
- المادة (٦): يكون محافظ شبه جزيرة سيناء مسئولًا عن إحضار أي شخص يكون حضوره ضروريًّا أمام القومسيون بصفة متَّهم أو شاهد.
- المادة (٧): يقدم القومسيون تقريرًا عن إجراءاته إلى ناظر الحربية.
- المادة (٨): على ناظر الحربية تنفيذ أمرنا هذا.
فوصلنا نحن أعضاء القومسيون الجديد نخل في ٢٥ أبريل وبعثنا في طلب الشهود، وفي ٧ مايو ذهبنا فشاهدنا محل الحادثة وعدنا إلى نخل في اليوم نفسه، وكان المشايخ والشهود قد حضروا، وجاء العرب من جميع أنحاء الجزيرة لحضور المحاكمة، فانتخبنا أربعة من أعيان الجزيرة ليكونوا «عدول» الجلسة حسب الأمر العالي وهم: سلَّام سلامة البرعصي من التياها، وسلمان سلام أبو صفية من الصفايحة اللحيوات، وسلامة بن جازي من الترابين، وسعد سلمان أبو نار من الحويطات.
وفي ٩ مايو الساعة ٩ صباحًا عقدت الجلسة لمحاكمة المتهمين، حضرها نحو مائة رجل من عرب سيناء وموظفيها، فبدأ رئيس القومسيون بكلام تمهيدي اقتضاه المقام، ثم فتحت الجلسة باسم الجناب العالي، وسئل المتهمان كل منهما على حدة، فاعترف سالم الأطرش أنه قتل محمد الهنداوي، واعترف حسين صباح أنه قتل إبراهيم الهنداوي، وأتيا على تفصيل ذلك كما مرَّ، وقد صدَّق إقرارهما عدة شهود.
ثم سئل المشايخ العدول الأربعة عن رأيهم، فقالوا إنه ليس عندهم أقل ريب في أن المتهمين هما الجانيان، وقد وجب عقابها، قالوا: ولكن عادات البلاد تعطي أهل القتيل — من الأب فصاعدًا، أو من الابن والأخ والأب فنازلًا لخامس جد — حق الثأر أو العفو بأخذ الدية من القاتل أو من أقاربه الأدنين لخامس جدِّ، وأن أقارب القاتلين والمقتولين يجب أن يسألوا هل جرت بينهم المفاوضات المعتادة في مثل هذا الحادث بشأن العفو عن الجانيين بدفع الدية، ثم إن الدية في الشرع الإسلامي مائة جمل، أما في سيناء فالدية ٤١ جملًا، وعرف البدو في سيناء كالشرع الإسلامي في أن لأقارب المتقول حق العفو التام عن القاتل أو العفو عن أخذ الدية أو قسم منها، وأنه إذا عفا واحد من ورثة المقتول سقط حق الورثة الآخرين في طلب العقاب كثروا أو قلوا، فأحضرنا أهل القاتلين والمقتولين جميعًا، فقال أهل القاتلين: «لو رضي أهل القتيلين الدية فإننا لا نستطيع دفعها — لفقرنا — قبل مضي عدة سنين»، ثم سئل أهل المقتولين مرارًا فردًا فردًا فأصروا جميعهم على تنفيذ الحدِّ الشرعي في الجانبين، وأبوا بتاتًا النظر في أمر الدية.
وفي الساعة الثامنة من مساء ذلك اليوم خلا أعضاء القومسيون للنظر في القضية، فصدر الحكم بإجماع الآراء بقتل سليم الأطرش وصباح حسين شنقًا أمام قلعة نخل، وأرسل الحكم إلى القاهرة فصدقه الجناب العالي ونُفِّذ في القاتلين في ٢٨ مايو سنة ١٩٠٥ الساعة ٦ وربع صباحًا أما باب القلعة.
(٧-٥) حوادث هامة
هذا ومن الأمور الهامة التي حصلت في أيام عباس باشا في سيناء ما سُمِّي «بحادثة الحدود» سنة ١٩٠٦، ثم لما كانت الحرب الأوربية الحاضرة دخلت تركيا في صف ألمانيا؛ فأعلنت إنكلترا الحرب عليها، وكان عباس باشا إذ ذاك في الآستانة فانحاز إلى ألمانيا، فأعلنت إنكلترا حمايتها على مصر وسمَّت الأمير حسين كامل — ابن المغفور له إسماعيل باشا — سلطانًا عليها في ١٩ ديسمبر سنة ١٩١٤، ثم إن تركيا جرَّدت حملة على مصر بطريق سيناء في أوائل سنة ١٩١٥، فكان نصيبها الفشل، وسنأتي على ذكر هذه الحوادث كلها تفصيلًا بعد.