مقدمة في تاريخ الاقتصاد١
ظهور الاقتصاد في الشرق
كان أول ظهور فكرة تتعلق بالاقتصاد السياسي في الشرق، وكان مصدر تلك الفكرة الحكومات الدينية التي كانت سائدة في الشرق لذلك العهد وهي ما يسمى بالثيوقراطية. وقد ظهر الاقتصاد في تلك الحكومات بمظهرين: الأول مظهر حماية الصنائع والفنون بتحريمها على غير من لم يرثوها عن آبائهم، وحصرها في النسل خلفًا عن سلف من أكبر حرفة، وهي حرفة الملكية إلى أصغرها وهي حرفة الفلاحة. والمظهر الثاني تقسيم الأمة إلى فئات وفرق لا تتعدى فئة منها على صنائع وامتيازات فئة أخرى، وكان هذا في الهند ومصر، ولا تزال آثاره موجودة بالهند باسم «كاست».
غاية هذين النظامين
وكانت الغاية المقصودة من هذين النظامين الاحتفاظ بالصنائع والفنون وحمايتها، وامتياز الأشراف — أي الفئة القوية في الأمة — بالفنون الراقية الشريفة كالحرب والسياسة، واقتناع عامة الشعب — أي الضعاف — بالصنائع الوضيعة. ولكن من يريد تعليل هذا التقسيم تعليلًا فلسفيًّا يمكنه أن يقول بأنه ليس في الصناعات وضيع؛ لأنها كلها من ضروريات الحياة القومية، وكلها محتاج إليها المجموع، وإن صح وصف البعض بالرضيع والوضيع، صح كذلك وصف أعضاء البدن كذلك مع عدم استغناء الإنسان عن بعض أعضائه لقيام كل منها بوظيفة لا غنى عنها، هذا صحيح من الوجهة الفلسفية، ولكن من الوجهة الاجتماعية كان نظام التقسيم والتوريث قاسيًا غير موافق لحاجات الشعوب، ثم إنه كان يؤدي بالفنون إلى الركود والموات، وبأهل الصنائع إلى الكسل والإهمال.
هذا بقطع النظر عن بعض حسنات هذا النظام الاقتصادي الذي تقدمت بفضله بعض الصنائع، وقد تلاه ظهور بعض المبادئ الاقتصادية النافعة كمبدأ تقسيم الأعمال الذي افتخر به آدم سميث.
المبادئ الاقتصادية الشرقية
أول ما يجد الباحث في كتب الشرق عن المبادئ الاقتصادية هو اهتمامهم بالوجهة الأدبية من الاقتصاد، أو بعبارة أخرى اهتمامهم بالوجهة الاقتصادية من علم الأخلاق، كذم الشراهة والتحذير من حب المال والتهالك في جمعه، وكالأمر بالأمانة في المعاملات، وبالعدل في الكيل والوزن وإعطاء كل ذي حق حقه، ومراعاة العقود وكذم الكبر والطغيان الصادرَيْن عن الغنى، ومدح القناعة وذم التبذير والتقتير، والحث على الاعتدال والإحسان إلى الأجير والمحتاج. أما رأيهم عن تكوين الثروة فكان رأيًا دينيًّا؛ لأنهم قالوا بتعلق ذلك بإرادة الله، وإن كان يعول فيه على شيء من همة الأفراد ونشاطهم.
انتقاد تلك النظامات
والذي كان يُنتقد على هذه النظامات هو تسخيرها لإرادة الفرد، وجعله أداة للمجموع، وتقييد أعماله وأوقاته بحيث كان عبارة عن آلة متحرِّكة تعمل ما تؤمر به بدون إرادة، وكان ذلك لا شك لاختلاط السلطتين الدينية والدنيوية، فلما تقدمت الأمم زالت تلك القيود شيئًا فشيئًا بانفصال السلطتين، ودخلت المسائل الاقتصادية في حيز الحياة الاجتماعية المستقلة تمام الاستقلال عن الحياة الدينية.
الاقتصاد عند اليونان
فأنتم ترون أيها الإخوان أن أول من ظهرت لديهم أفكار اقتصادية كانوا المشارقة، ثم تلاهم اليونان أصحاب المدنية الكبرى.
وأول من كتب من علماء اليونان في الاقتصاد الحكيم هسيود مؤلف كتاب «الأعمال والأيام»، ومعظم أفكار هذا الفيلسوف ومبادئه يشبه مبادئ وأفكار المشارقة التي سبق الكلام عليها.
وزينوفون هذا هو أول من أوصى بالمتاجرة مع الأمم الأجنبية، وتقوية الصنائع وعقد المعاهدات الدولية.
ثم جاء بعد زينوفون أرسطو وهو أول من قال بامتزاج سياسة الحكومة بالحياة الاقتصادية، وسبب وجود هذا الرأي في مؤلَّفَاته هو حال جمهورية أثينا في عهده؛ لأن شئونها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ما كانت ليفصل بعضها عن بعض.
وكان أرسطو لا يعتبر المال غاية إنما وسيلة لسعادة المجموع. وهو يخالف أفلاطون مع أنه تلميذه في أمور كثيرة، أهمها إنكاره رجوع أصل الهيئة الاجتماعية إلى الحاجة الاقتصادية، وقوله بأن حب الاجتماع فطري في الإنسان؛ ولذا كان يحارب مبدأ أفلاطون القائل بتقييد حرية الفرد، وجعله تحت تصرف الحكومة، ويحارب فكرة الاشتراك في المُلك والنساء التي قال بها أفلاطون في جمهوريته، ويقول: إن المُلك الفردي إحدى غرائز البشر. ومن الغريب أن أرسطو هذا دافع عن الرق في مصلحة السعادة، وكان يسمى العبيد أدوات حية لا إرادة لها، وسيأتي الكلام عن ذلك.
الاقتصاد عند الرومان
أي أن الربا يشبه في بشاعته قتل الإنسان. على أن الاقتراض بالربح كان مباحًا في قوانين الألواح الاثني عشر، كذلك أباحه الإمبراطور جوستينيان، وجعل قيمته من ٤ إلى ٨ في المائة.
الاقتصاد في القرون الوسطى
الاقتصاد في العهد الحديث
أول ظهور الاقتصاد السياسي بمظاهره الحديثة في فرنسا على عهد الملك لويس الخامس عشر تقريبًا؛ فقد نشأ فريق من المفكرين العلماء، ونهضوا بهذا العلم وهؤلاء العلماء أطلق عليهم لقب الفيزوقراطيين؛ أي القائلين بحكم الطبيعة، وكان ظهورهم في أوائل القرن السابع عشر.