مبدأ الفيزوقراطيين
وضع أنطون مونكرتيان اسم الاقتصاد السياسي في أوائل القرن السابع عشر عَلَمًا على العِلم الذي يعرف الآن بهذا الاسم. وفي هذه التسمية خطأ؛ لأن الاقتصاد هو علم تدبير ثروة الأمة، وليس له في السياسة دخل، ومنشأ الخطأ هو العلاقة بالأمة كمجموع، وإلا فإنهم يطلقون على العلم نفسه اسم التدبير المنزلي إذا كان المقصود به تدبير ثروة الفرد. وعلى ذلك كانت آراء فلاسفة اليونان.
وقد شاع هذا الاسم واستعمل لأن المشتغلين بالعلوم والسياسة في القرن السابع عشر وما بعده كانوا يقولون بأن الاقتصاد فرع من سياسة الأمة؛ لذا كتب جان جاك روسو مقالة في دائرة المعارف الفرنسوية عن الاقتصاد السياسي، فقال: إن هذا العلم لا يفصل عن السياسة؛ لأنه فرع من الحكومة قائم بتدبير المنزل العام. وبعبارة أخرى هو علم تقدُّم البلاد ونجاحها، وإن العلماء قد ذكروا طرقًا شتَّى لإنجاح البلاد بالماديات، وتدبير الثروة الشعبية.
فبعضهم كان يقول بإكثار مقدار النقود فيها؛ لأن كثرة النقود حصر للثروة، وهذا رأي فريق النقديين «بوليونيست»، وقال فريق إن وسيلة تقدُّم البلاد تكون بتنمية المتاجر وتشجيعها، وهم يسمون بالتجاريين أو المركنتيليست، وقام كذلك فريق أدخل العلوم الاقتصادية في عالم الخيالات، ورسم خططًا لا يمكن تنفيذها غايتُها الوصول إلى تقدُّم البلاد، وهذا الفريق يسمى بالإيتوبيست من كلمة إتيوبي أو إرم ذات العماد، وهي تسمية مجازيَّة لمن يريد تحقيق ما لا يُحقَّق، ومنها جمهورية أفلاطون التي سبق ذكرها.
وأنتم ترون أن العلم الاقتصادي كان بين أصحاب هذه المبادئ المتضاربة المتناقضة في فوضى لا نظام لها، بل لم يكن في الواقع علم اسمه علم الاقتصاد، إنما مجموعة آراء مختلفة دعت إلى القول بها رغبة العلماء في تقدم أوطانهم، واشتباك هذه الآراء وتضاربها كان لا شك دليلًا على أنه قد آن الأوان لظهور العلم الحقيقي، ونضاج الأفكار واستعدادها للنبوغ فيه، كل هذا كان في بداية القرن السابع عشر؛ أي منذ ثلاثة قرون بالضبط.
ثم أخذ يتسع هذا العالِم في مبدأه، ويلتف حوله العلماء القائلون برأيه، وكان الفضل لهم وله في الإلمام بعلم الاقتصاد السياسي بمجموعه، ولكن لم يقصدوا بالعلم سوى الاقتصاد الاجتماعي؛ لأنهم قالوا بأن الحوادث الاجتماعية مرتبطة بروابط ضرورية واجبة الوجود، لا بد للحكومات من فهمها والسير بمقتضاها، وكانت مؤلفات هؤلاء العلماء الفيزوقراطيين تنتشر من سنة ١٧٥٦ إلى سنة ١٧٧٨.
أما الفيزوقراطيون فكانوا يعتقدون بأن النظامات الاجتماعية لا سيما الملكية ليست إلا نتيجة لازمة للنظام الطبيعي، أو بعبارة أخرى هي ثمرة وزهرة هذا النظام، وإنها كذلك قد شوَّهتها الحكومات بأعمالها، ولكن إذا انتهت تلك الأعمال المتلفة عاد النظام الطبيعي إلى حاله الأولى.
ثم إن الفيزوقراطيين كانوا يقولون بأن الواجب والمنفعة متفقان أو هما أمر واحد، أما جان جاك روسو فكان يقول بتضاربهما وتناقضهما.
النظام الطبيعي
فالنظام الطبيعي — كما قلت لكم — هو مجموع قواعد طبيعية ينبغي فهمها والسير عليها، ولكن لا بد من البيان، فإن هذه القواعد ليست هي التي تسير بمقتضاها الهيئات الاجتماعية الحيوانية، أو القواعد التي تسير عليها الأجسام الحية بالمعنى الطبي أو الفيزيولوجي إنما النظام الطبيعي هو مجموع القواعد التي ارتبطت بها سعادة البشر. النظام الطبيعي هو النظام الذي أرادته العناية لهناء الإنسانية، هذا النظام الطبيعي هو النظام الذي ينبغي لنا أولًا أن نتعلم كيف نفهمه، ثم نتعلم كيف نسير بمقتضاه.
ولكن كيف يمكن لنا معرفة هذا النظام الطبيعي الذي ارتبط به هناء البشر؟
إن هذا النظام إنما يعرف بوضوحه وظهوره وحقيقته، أو بعبارة أخرى هو النظام الذي يتضح لأهل البصيرة وأصحاب العقول النيرة أنه هو أحسن نظام ينبغي العمل بمقتضاه، وأساس هذا النظام الطبيعي هو احترام حق الملكية، والسلطة التي تحافظ على هذا الحق. وهذا النظام كسائر الأمور الأبدية قديم لا يزول ولا يتغير، وهو هو بعينه لسائر الأمم وفي سائر الأزمان.
وغني عن البيان أن هذا التعبير الجديد عن النظام الطبيعي هدم النظامات الاقتصادية التي سبقته؛ لأنه كما ترون نظام مبني على الحرية يربط منفعة الشخص بمنفعة المجموع؛ لأن هذا النظام الطبيعي لا يحتاج في تطبيقه إلا لترك الأمور تجري في أعنتها بدون قيود، فيترك مجال العمل للأفراد واسعًا حرًّا، وتتعلم الجماعات والقائمون بأمرها طرق السير بمقتضى تلك القوانين، وهذا هو ما يعبر عنه عندنا أهل الشرق بقولهم: دع الخلق للخالق.
المحصول الخالص Produit net
إن النظام الطبيعي الذي سبق ذكره هو في نظر الفيزوقراطية نظام شامل لكل شئون الحياة الاجتماعية، إنما الذي يهمهم ويلفت أنظارهم هو نصيب الأرض في الإخراج، وسترون بالبرهان أن هذا الرأي هو من الخطأ بمكان عظيم، ولكنه في الوقت نفسه الرأي الوحيد الذي امتاز به جماعة الفيزوقراطيين، وأن الفيزوقراطيين وصلوا إلى هذا الرأي — أي تقدير الأرض أكثر من قدرها الحقيقي — بالفكرة الآتية: قالوا إن المحصول الخالص هو الفرق بين النفقات التي يتكلفها المحصول وبين الثروة التي تنتج عن الانتفاع بالمحصول، وقد ظن الفيزوقراطيون أن هذا المحصول الخالص لا يوجد إلا في الزراعة؛ وبناءً على هذا الرأي كان الفيزوقراطيون يعتقدون أن الصُّنَّاع والعمال إنما هم فريق جدب لا يخرج للناس شيئًا، ولا يخلق للمجموع ثروة جديدة.
إن الصناع والتجار يربحون أكثر من الزُّرَّاع، ولكن هذا الربح ليس مما يحصلونه هم بأعمالهم، إنما يكسبونه، والفضل في رجوع هذه الثروة إليهم راجع إلى همة المزارعين، بل الصناع هم الخدم الذين يأخذون أجرهم بعد مروره بأيدي المزارعين المخرِجين الأول، هذا الخلاف الأساسي بين الزراعة والصناعة هو النقطة الكبرى التي دار الجدل عليها، بل هو أصل الفرق بين المبادئ الاقتصادية؛ لأن محصول الأرض هو من صنع الله القادر على أن يخلق، ومحصول الصنائع والفنون هو من صنع البشر العاجزين. وحقيقة الأمر كما سيظهر لكم أنه ليس في العالم ما يُخلق وما يُفقد (بضم اليائين)، وكل شيء هو كائن في الطبيعة وعائد إليها. إن في الحياة الاقتصادية قانونًا عامًّا هو قانون المزاحمة وبقاء الأفضل، وكما أن هناك فرقًا بين نفقة المحصول الزراعي وبين الثمن الذي يُباع به، كذلك يوجد فرق بين نفقة المحصول الصناعي، وبين الثمن الذي يباع به، وقد تكون صناعة أربح من زراعة في هذا الباب والعكس بالعكس.
نتيجة هذه الفكرة الفيزوقراطية
- (١)
أنه حدث رد فعل ضد التجارة؛ لأنها أصبحت معدودة من الفنون الجدبة العاقر.
- (٢)
ارتفاع قدر الزراعة في نظر الجمهور.
- (٣)
ثم إن الاهتمام العظيم بالزراعة أدى إلى نتيجة لا ينتظرها الفيزوقراطيون، وهي ابتداء فكرة الحماية الجمركية، مع أن الفيزوقراطيين كانوا — قبل كل شيء — كما ذكرت لكم يحبون الحرية في الحياة الاقتصادية والتجارية، وهم القائلون: دع الخلق للخالق.
- (٤)
والرأي الرابع هو اعتقاد الناس بأن الزراعة وحدها هي المحركة لقوى الحياة.
تداول الثروة
- (١)
الفريق المخرج أو المحصل، وهو فريق المزارعين والفلاحين عدا الأجراء وأصحاب المناجم وأصحاب صيد البحر.
- (٢)
فريق المُلَّاك الذين لهم حق الملك على الأرض والسيادة على محصولها.
- (٣)
وفريق كافر وهو فريق المشتغلين بالتجارة والصنائع والأعمال المنزلية والفنون الحرة، كالمحامين والأساتذة والقضاة والأطباء.
-
مليونان يقتضيها تحسين الثروة، وهو جزء من الثروة لا يمكن تداوله؛ لأنه يبقى على طبيعته أرضًا وعددًا وأنعامًا، وهو يبقى في يد المزارعين.
-
مليون يعطى لفريق العمال وأرباب الصنائع.
-
مليونان يرجعان إلى فريق الملاك وأصحاب الحق على الأرض.
فماذا يجري بعد تقسيم الأموال على هذه الصفة؟
يقول الفيزوقراطيون إن المليونين الذين يحصل عليهما فريق الملاك يرد مليون منها إلى الفلاحين، ويدفع المليون الآخر إلى الصناع لقضاء الأعمال التي يحتاج إليها الملاك.
فيكون مجموع ما يحصل عليه فريق العاقرين — أي الصناع — هو مليونان: واحد من المزارعين وواحد من الملاك. ولكن فريق العمال محتاج إلى مواد أولية كالطعام واللباس، فهو يرد المليونين إلى المزارعين للحصول على ما يحتاج إليه، وبهذا يرد مبلغ الخمسة ملايين إلى المخرجين الأُوَل أي المزارعين، وهكذا يحدث في كل عام.
والذي يدهشنا نحن الآن هو أن الفيزوقراطيين لم يلتفتوا إلى أمر مهم، وهو أن الملاك حصلوا على خمسي المحصول؛ أي على مليونين من خمسة بدون أن يفعلوا شيئًا، وهذا ناشئ من أن الفيزوقراطيين كانوا يعدون حق الملكية حقًّا سماويًّا مقدسًا لا يمكن منازعته.
وهذا راجع إلى ما ذكرته قبلُ بالإجمال، وهو أن الفيزوقراطيين عاشوا في العهد القديم، فرأوا أن الهيئات الاجتماعية كان يسودها أبدًا فريق ممَّن لا يكلفون الأعمال؛ لذا ساروا على هذا الوهم فيما يتعلق بملك العقار، وكان في ذلك مثلهم كمثل أرسطو فيلسوف اليونان الذي قال بضرورة بقاء الرق؛ لأن النظام الاجتماعي في عهده كان يقضي بوجود العبيد.
- (١)
أن صاحب الأرض يقوم بالنفقات الأولية، وهو ما يسمى بتصليح الأرض وجعلها نافعة وقابلة للزرع، فهو إذا ربح ٥/٢ المحصول إنما يربح لأنه هو الذي أعدَّ الأرض بل أوجدها على حالتها الحاضرة.
-
(٢)
الدليل الثاني: النفع الاجتماعي من بقاء حق الملكية، وبيان ذلك هو أن بدون حق الملكية لا يمكن مطلقًا أن تزرع الأرض، فتبقى كلها بدون زرع. ولكن أظنكم فطنتم إلى ما هناك من التناقض بين الدليلين الأول والثاني، فإن الدليل الأول يقول بأن الأرض لا بد أن تملك لأنها زرعت، والثاني يقول بأن الأرض ينبغي أن تملك ليسهل زرعها.
-
(٣)
الدليل الثالث: أن حق الملك العقاري ضروري ما دام هناك حق الملك الشخصي؛ أي حق ملك المنقولات، وهذا من السفسطة بمكان؛ لأن هناك فرقًا عظيمًا بين الحقين، فإن المنقولات وأهمها المال عرضة للتداول، أما ملك العقار فهو يغري أصحابه بالإبقاء عليه واستغلاله.
- (١)
الاستمرار على إصلاح الأرض غير القابلة للزرع لتصلح لذلك.
- (٢)
القيام بوظيفة الاقتصاد للهيئة الاجتماعية.
- (٣)
أن يعطوا للهيئة الاجتماعية ما لديهم من الفراغ (؟!)
- (٤)
دفع الضرائب.
- (٥)
حماية الفلاحين والمزارعين.
هذا مجمل آراء الفيزوقراطيين، وبقي عليَّ أن أذكر لكم أثر تلك الآراء في ثلاثة أشياء مهمة: الأولى أثرها في التجارة، ثانيًا أثرها في وظيفة الحكومة، ثالثًا أثرها في وضع الضرائب.
التجارة
- (١)
فإنهم أولًا نقضوا نظرية ميزان التجارة.
- (٢)
وثانيًا نقضوا رأي القائلين بأن الرسوم الجمركية يدفعها التاجر الأجنبي.
وقد ساعد الفيزوقراطيون فكرة تنظيم المتاجر بالمال والتسليف، ولكنهم لم ينتجوا إلا القرض الزراعي.
وظيفة الحكومة
إن الفيزوقراطيين يطالبون بأقل ما يمكن من التشريع والتقنين، وفي الوقت نفسه بأكثر ما يمكن من السلطة، وكان النظام الحكومي الذي يعجبهم هو نظام الملكية الوراثية المطلقة، ووظيفة الملك في رأيهم كوظيفة رئيس الموسيقيين؛ أي إنه يحافظ على النظام الطبيعي، ويعلم المجموع ليستنير الرأي العام وأن يقوم بالأشغال العامة كمد طرق المواصلات، وتسهيل وسائل العمل.
الضرائب
أما فريق العمال فلا يدفع شيئًا من الضرائب؛ لأن ديكوناي رئيس الفيزوقراطيين لا يسمح للأُجَراء بأجر أكثر مما يحتاجون إليه كنفقة للعيش. ورأيهم الصائب في الضرائب هو أنه ليس المطلوب موافقة الضرائب لاحتياجات الحكومة، إنما هو موافقة الحكومة لمصادر الثروة في البلاد، وفضيلة النظام الذي وضعه الفيزوقراطيون للضرائب ظاهرة في أنهم جعلوا للضرائب تقديرًا على شيء معلوم محسوس، وهو المحصول الخالص، وهذا القانون عقبة في وجه الحاكم الذي يريد رفع الضرائب بدون حساب.