الاقتصاديون المرتابون أو البسيميست
سبق الكلام في الدروس السالفة على الفيزوقراطيين وعلى آدم سميث، وهم جميعًا من الاقتصاديين المستبشرين أو الأوبتسيتت، أي الذين لا يرون من الأشياء إلا الجانب الحسن؛ ولذا رأيناهم ينشرون مبدأ الحرية الاقتصادية، ويزعمون وجود نظام للأشياء يؤدي بالإنسانية إلى السعادة المطلقة، وقد اتفق آدم سميث والفيزوقراطيون في هذه النقطة، وإن كان اختلف معهم في نقط أخرى.
على أنه ليس في تسمية العلماء بالمرتابين من حرج عليهم أو ملام أو خطر من أقدارهم إنما هذا لتمييزهم عن المستبشرين، بل سترون أيها الإخوة أن مبادئ المرتابين كانت أقرب إلى الحقيقة من مبادئ سابقيهم.
لكل مدرسة اقتصادية أو مبادئ اقتصادية علماء يمثلونها؛ لأنم يكونون أشهر أو أقدر من قال به. كذلك أشهر وأقدر المرتابين عالمان إنكليزيان الأول اسمه مالتوس والآخر اسمه ريكاردو. وكان كلاهما محبًّا للإنسانية ساعيًا جهده في العمل لخيرها، وليس لدى أعدائهم حجة تثبت على هذين العالمين الجليلين ضد ذلك. وإن كثيرًا من النظريات التي قالوا بها جديرة بالانتقاد الشديد، وقد ظهر بالخبرة أن المرتابين قد قاموا بأعمال جليلة للإنسانية، طالما كانوا غير شاعرين بما بدا للمنتقدين من ارتيابهم؛ لأنهم مع إخلاصهم عملوا على حد قول الشاعر:
وسوف ترون أن كارل ماركس عالم الاشتراكية هو ابن روحي لريكاردوا، أو بعبارة أخرى أشد أتباعه تعلقًا بمبادئه، وأقدرهم على تفسيرها وتنفيذها.
مالتوس
اشتهر مالتوس أولًا برأي في نمو السكان نتكلم الآن عليه بإسهاب، وقبل ذلك أقول كلمة عن تاريخه، ولد مالتوس هذا في أواسط القرن الثامن عشر عام ١٧٦٦، وكان أبوه غنيًّا فاختلط بعلماء عصره وفلاسفته أمثال هيوم الإنكليزي وجان جاك روسو، وبعد أن تخرج مالتوس من مدرسة كامبروج الجامعة اشتغل بالدين، فصار قسيسًا بروستانتينيًّا ثم ألَّف كتبًا كثيرة في الاقتصاد، وأشهرها كتابه عن السكان واسمه مقالة عن قانون نمو السكان وتأثيره في تقدم الهيئة الاجتماعية، وقد توفي عام ١٨٣٦، وكانت لمؤلفاته آثار نافعة في أبناء وطنه ومعاصريه، فقد ذكر داروين العالم الطبيعي الإنكليزي الذي قال بمبدأ النشوء والترقي في مقدمة كتابه، أن الفضل راجع إلى مالتوس في إظهار مبدأ التنازع في سبيل الحياة، الذي هو مظهر من مظاهر الاختيار وبقاء الأنفع، وهذا المبدأ العلمي هو بلا نزاع أشهر المبادئ العلمية، التي ظهرت في القرن التاسع عشر بقطع النظر عن ثبوته أو نقضه.
وفي عام ١٧٩٤ ظهر كتاب لعالم فرنسوي آخر اسمه كوندورسيه قال فيه إن العالم يسير نحو السعادة البشرية المطلقة، وإنه ليس هناك خطر يتهدد الحياة الإنسانية، وأنتم ترون أن هذين العالمين قالا بآراء المستبشرين، بل إن كوندورسيه قال إن الإنسان سيصل بالعلم إلى درجة قصوى، فإنه إن لم يفُز في القضاء على الموت، فسوف يفوز في إقصائه عن الإنسان ومد الآجال إلى اللانهاية.
عند ذلك ظهر كتاب مالتوس الغريب، وقد جعله ردًّا على أقوال هذين العالمين، وقال إن مصدر الخطر هو تقدم الإنسان، وتمكنه بالعلم من الموت إقصاء ومد الآجال، بل هذا هو الخطر الأكبر والعقة التي لا يمكن التغلب عليها، وقد أبان مالتوس رأيه بعملية سوسيولوجية عجيبة أثبتت نمو عدد السكان نموًّا مهولًا لو ترك النسل وشأنه، وأبان كذلك النسبة المنحطة التي تخرج بها المحصولات، التي يحتاج إليها الإنسان في قوام حياته، وقال: إن النسل ينمو بنسبة هندسية أي نسبة: ١ ٢ ٤ ٨ ١٦ ٣٢ ٦٤ ١٢٨ …
والمحصولات الغذائية تنمو بنسبة حسابية: ١ ٢ ٣ ٤ ٥ ٦ ٧ ٨ ٩ …
وقد ثبت لعلماء علم الحياة صدق النسبة الأولى، فقد علم أن المرأة غير العاقر يمكنها أن تحمل عشرين مرة قبل نهاية مدة الخصب النسلي، وقد يزيد العدد فلم يبالغ مالتوس مطلقًا في هذا الرأي.
على أن القواعد والقوانين التي قال بها خصوم مالتوس لا تنقض قانونه، ولا تقلل من قيمته العلمية.
والذي لا ريب فيه هو أنه لا يمكن أن يعيش في بقعة ما من الأرض عدد أكثر ممن يمكنهم أن يعيشوا من محصول هذه البقعة، وثبت أيضًا أن في علم الحيوان وفي الجماعات المتوحشة يموت عدد عظيم من الأفراد جوعًا (وفي لندن أيضًا)، وقد أسهب مالتوس البحث في أحوال هؤلاء المتوحشين.
فرد عليه بعض منتقديه بأن ما كان يصح عند الحيوان أو الجماعات المتوحشة لا يصح في عهد المدنية، فأجاب مالتوس بأن الأمم المتمدنة حفظت أشياء كثيرة من عادات المتوحشين، وهذا حق لأن القحط إن لم تكن أثاره الفظيعة باقية إلى الآن في روسيا والهند، فإن له آثارًا أشد فظاعة في البلاد المتمدنة، وهي تظهر بمظاهر مختلفة كلها ذات علاقة بالجسم البشري.
ففي المتمدنين أمراض مثل السل الذي أهم أسبابه هو سوء التعذية، ووفيات الأطفال، ووفيات العمال قبل الأوان، والحروب الفظيعة التي تغتال ألوف الألوف في أقل من لمح البصر، وقد شهد مالتوس بعينه حروب الثورة الفرنسية، وحروب بونابرت التي قتل أثناءها نحو عشرة ملايين من الرجال في مقتبل العمر. يقول مالتوس: إن هذه الحوادث الكبرى هي التي حفظت النسبة بين الناس وبين المحصول، ولكن هذه الحوادث كما ترون هي من آثار البربرية، وحيث إن المتوحشين كانوا مسوقين بطبيعتهم إلى حفظ النسبة بزيادة الوفيات، فالمتمدنون يحفظون هذه النسبة بعينها بتقليل النسل.
وقبل الزواج ينبغي للرجل والمرأة أن يعفا، وأن لا يتحملا مسئولية العيلة قبل أن يكون القيام بأعبائها ممكنًا. فإذا لم يتيسر هذا فليمتنع الشخص عن الزواج مطلقًا، وهو يقول بصريح العبارة في ص٦١٦ من كتابه السابق الذكر: إنني أرفض كل وسيلة مصطنعة غايتها تقليل النسل، وإن ما أوصي به من طرق التقليل هو نتيجة ما يأمر به العقل والدين، فإنه من السهل جدًّا بالطرق العلمية تقليل النسل، أو قطعه مرة واحدة، ولكن هذا وقوع في الطرف الأخرى أي تفريط.
ولا شك في أن مالتوس يحارب سائر وسائل منع النسل الأخرى مثل «الإسقاط الاغتصابي»، وقتل الأطفال، ووأد البنات، وإجراء عمليات البتر المؤدية لوجود الخصيان، واكتفاء جنس بأفراده، كل هذا نفاها وأنكرها وحرَّمها.
ولكنه في بعض النبذ من كتابه أشار إلى إمكان قضاء الحاجات بدون الوقوع في خطر من الأخطار السالفة، وقد مهد مثل هذا القول السبيل لخلفائه الذين ادَّعَوا باطلًا بأنه كان ينصح باستعمال الوسائل الصناعية، التي يتمكن بها الناس من شهواتهم بدون معاناة الحمل والولادة والتربية.
وقد قال كثير من الاقتصاديين الذين اشتهروا بالدفاع عن مالتوس أن مبادئه أدت إلى تقوية الأسرة؛ لأنها هي الوسيلة الوحيدة في عدم نمو النسل نموًّا زائدًا، وكانت مبادئه كذلك حجة على القائلين بالارتباط الحر أو العلاقة اللازوجية؛ لأن مثل هذا النظام ومثل الكوميونزم؛ أي الحياة المشتركة يؤدي إلى ازدياد النسل لعدم مسئولية الوالدين عن النسل الذي يولد من علاقتهم.
على أنه منذ عهد مالتوس إلى الآن لم نَرَ في العالم بلادًا اشتكت من زيادة النسل، ولكن يرد على هذا بأن الأمم التي نما سكانها نموًّا عظيمًا قد هاجر أبناؤها إلى بلاد غنية سموها بالمستعمرات يستغلون ثروتها ويستنزفون أرزاقها. كما أن الأمم التي منحت أراضي واسعة مثل أمة الولايات المتحدة، التي قتل أسلافها أمة الهنود الحمر؛ ليتسع لهم مجال العيش سعت في فناء أهل البلاد.
ولا يخفى عليكم أن الأمتين اليونانية والرومانية كانت تعتقد بأن التناسل واجب على كل وطني نحو المدنية، وعلى كل متدين نحو الأرباب كما أن الأشراف في كل زمان يعتقدون بأن وجود نسل يرثهم، ويحفظ اسمهم كأعظم فخر لهم.
وكذلك مالتوس لم يحرم سعادة الحب والأسرة، إلا على الفقراء وحدهم الذين يطالبهم مالتوس بالعفة وبالصوم والامتناع؛ لأنه يجوز لهم أن يتمتعوا بملاذِّ الحياة الدنيا ما لم يستطيعوا أن ينفقوا على أسرة.
وقد أثبت الخبرة فساد قوانين مالتوس، ونحمد الله على ذلك؛ لأن صحتها والعمل بها كانت تؤدي بالعالم إلى الوقوع في مصائب جمة تتعلق بالآداب وبالعيشة القومية.
أما قلة النسل في هذا الزمان في بعض الممالك فليست من أيادي مالتوس على بني الإنسان إنما هي نتيجة التقدم، الذي يخلق للإنسان حاجات كان في سالف الزمن في غنًى عنها، وهذا رأي العالم ليردابوليو.
انتهى الكلام عن مالتوس