الفصل الرابع
وقفت أنا والمخلوق المستقبلي الهزيل متواجهين. أتاني مباشرة وضحك ناظرًا في عيني. لم يبد عليه الخوف على الإطلاق، الأمر الذي أدهشني كثيرًا. ثم استدار إلى المخلوقين اللذين تبعاه وتحدث إليهما بلغة غريبة شديدة العذوبة للسامع وواضحة المخارج.
أتى آخرون وسرعان ما وجدت حولي مجموعة صغيرة من ثمانية أو عشرة أفراد من هذه المخلوقات المبهرة. خاطبني أحدهم. العجيب أنه خطر ببالي عندئذ أن صوتي سيبدو لهم غليظًا وطنانًا بشدة، فهززت رأسي نفيًا ثم أشرت إلى أذني وأنا أهز رأسي مجددًا. اقترب المخلوق خطوة مني ثم تردد ثم لامس يدي. شعرت بأطراف أخرى صغيرة رقيقة على ظهري وكتفي؛ أرادوا التأكد من أنني حقيقي، لكن لم يخفني أي من هذا. كان هناك شيء ما في هؤلاء القوم الصغار الوسيمين ألهمني الثقة فيهم، وهو تصرفهم بلطف ورقة مثل الأطفال، علاوة على أنهم بدوا شديدي الضعف حتى إنني شعرت أن بإمكاني أن أطرحهم جميعًا أرضًا كقناني البولينج، لكنني أشرت لهم فجأة محذرًا عندما رأيت أيديهم الوردية الصغيرة تتحسس آلتي. من حسن الحظ أنني انتبهت عندئذ قبل فوات الأوان إلى خطر كنت قد أغفلته، فمددت يدي إلى قضبان الآلة وفككت مسامير رافعات تشغيلها الملولبة الصغيرة ووضعتها في جيبي، ثم استدرت إلى المخلوقات مجددًا لأرى ما بوسعي فعله لأتواصل معهم.
لما تأملتهم من مسافة أقصر، لاحظت خصائص أخرى تميز هيئتهم الجميلة. جميعهم امتلك شعرًا مموجًا ينتهي بالضبط عند الرقبة والوجنة ولم ينمُ على وجوههم أي شعر على الإطلاق، أما آذانهم فكانت صغيرة إلى حد عجيب، وامتلكوا فمًا دقيقًا ذا شفاه رفيعة حمراء لامعة. أذقانهم الصغيرة كانت مدببة، أما أعينهم فكانت كبيرة وأطلت منها وداعة، لكن خيل لي أنهم يبدون اهتمامًا بي أقل من المتوقع. قد يبدو لكم هذا غرورًا مني.
وبما أنهم لم يبذلوا أي محاولات للتواصل معي ووقفوا حولي يبتسمون ويتحدثون بنبرة ناعمة رقيقة وحسب، شرعت في محادثتهم. أشرت إلى آلة الزمن ثم إلى نفسي ثم ترددت لحظة احترت فيها كيف أعبر لهم عن الزمن، فأشرت إلى الشمس، فأخذ على الفور فرد صغير عجيب وسيم الطلعة منهم يرتدي زيًّا يجمع لونه بين البنفسجي والأبيض يقلد إيماءتي، ثم أدهشني بتقليد صوت الرعد.
شعرت بالذهول لوهلة، مع أن مفاد إيماءته كان بالوضوح الكافي. طرأ على ذهني فجأة سؤال: هل هؤلاء القوم حمقى؟ ربما يصعب عليكم أن تتصوروا كيف صدمت؛ فلطالما توقعت أن يسبقنا البشر بعد عام ثمانمائة ألف وألفين بفارق هائل في المعارف والفنون وكل شيء، وها قد سألني أحدهم فجأة سؤالًا ينم عن أنه يتمتع بذكاء طفل في الخامسة من العمر. في الواقع سألني إن كنت قد قدمت من الشمس في عاصفة رعدية! بذا تأكد حكمي على ملابسهم وأطرافهم الضعيفة الهزيلة وملامحهم الرقيقة، فشعرت بالإحباط الشديد، واعتقدت لوهلة أنني بنيت آلة الزمن سدى.
أومأت برأسي وأشرت إلى الشمس وقلدت صوت هزيم الرعد بدقة أدهشتهم، فتراجعوا جميعًا خطوة إلى الوراء وانحنوا، ثم تقدم أحدهم نحوي ضاحكًا وهو يحمل حلقة من الزهور الجميلة التي لم أر مثلها من قبل ووضعها حول رقبتي، فصفق الباقون تصفيقًا شجيًّا استحسانًا لفكرته وأخذوا جميعًا يركضون جيئة وذهابًا بحثًا عن الزهور التي أخذوا يقذفونني بها ضاحكين، إلى أن كسيت بها على نحو شبه تام. بما أنكم لم تشهدوا موقفًا كهذا من قبل، فلن تستطيعوا على الأرجح أن تتخيلوا الزهور الرائعة الجميلة التي أثمرتها سنوات لا تحصى من الاستنبات. بعدئذ اقترح أحدهم عَرض لُعبتهم في أقرب مبنى، فقادوني مرورًا بأبي الهول المصنوع من المرمر الأبيض — الذي بدا أنه يراقبني طيلة الوقت مبتسمًا من دهشتي — إلى صرح رمادي كبير من أحجار متآكلة. تذكرت أثناء ذهابي معهم توقعي بثقة أن الأجيال القادمة ستتمتع برزانة وذكاء كبيرين، لم أستطيع أن أقاوم شعوري بطرافة الموقف.
كان للصرح مدخل ضخم وكانت أبعاده هائلة. انهمكت بالطبع في مراقبة القوم الصغار الذين تزاحموا أكثر فأكثر، وبمشاهدة البوابات الضخمة التي انفتحت على مصاريعها وبدت لي مظلمة يكتنفها الغموض. انطباعي العام عن العالم الذي احتضن هؤلاء القوم هو أنه أرض خربة ضربتها الفوضى تمتلئ بالشجيرات والأزهار الجميلة؛ حديقة أهملت منذ زمن لكن لم تنمُ بها الأعشاب الضارة. رأيت عددًا من العناقيد الزهرية الطويلة التي يبلغ طولها نحو قدم وتحمل زهورًا بيضاء عجيبة تنتشر بين بتلاتها الشاحبة. تناثرت تلك العناقيد كأنها نمت من تلقاء نفسها بين الشجيرات المتنوعة، لكنني لم أتفحصها عن كثب آنذاك وتركت آلة الزمن على قطعة الأرض المكسوة بالعشب بين شجيرات نبات الوردية.
نُحت باب المدخل نحتًا متأنقًا على شكل قوس، لكنني لم أتأمله عن كثب بالطبع ولو أنه هُيئ لي وأنا أمر عبره أنني رأيت ما يبدو كزخارف فينيقية دهشت من أنها تحطمت بشدة وتآكلت بفعل عوامل التعرية. التقيت عند باب المدخل المزيد من الأشخاص الذين ارتدوا ثيابًا فاتحة الألوان ودخلنا الصرح. كنت أرتدي ثيابًا متسخة من القرن التاسع عشر، وأبدو مضحكًا غريب الهيئة إلى حد ما، وأنا أضع أكاليل الزهر وتحيط بي دائرة محتشدة من الأشخاص الذين ارتدوا ملابس ناعمة فاتحة الألوان وحملوا مصابيح بيضاء ساطعة. انطلقت آنذاك وأنا محاط بعاصفة من الأصوات الضاحكة العذبة والكلام الذي يتخلله الضحك.
قاد المدخل الكبير إلى قاعة ضخمة نسبيًّا بنية اللون. سقفها غمره الظل، أما نوافذها فقد أطل منها ضوء معتدل، بعضها كان زجاجه ملونًا وبعضها بلا زجاج، أما أرضية القاعة فقد افترشت بأحجار هائلة من معدن أبيض شديد الصلابة لا بألواح أو بلاط بل بأحجار تآكلت كثيرًا بفعل الأجيال التي داستها على مر الأزمان جيئة وذهابًا على حد اعتقادي بحيث امتدت تآكلاتها على نحو أعمق بطول أكثر الطرق ارتيادًا. وجدت على طول الطريق عددًا لا حصر له من الموائد التي صنعت من ألواح من الحجر المصقول، وعلت الأرض بنحو قدم، وتراكمت عليها أكوام من الفاكهة. لاحظت أن من بينها برتقالًا وتوتًا كبير الحجم، أما أغلبها فكان غريبًا.
تناثر بين الموائد عدد كبير من الوسائد جلس عليها من قادوني، ثم أشاروا إلي أن أجلس بدوري، وأخذوا يأكلون الفاكهة بأيديهم بعفوية وهم يلقون بالقشور والسوق وما إلى ذلك في الفتحات الموجودة بجوانب الموائد. لم أنفر من حذو حذوهم، فقد شعرت بالعطش والجوع، وفيما فعلت هذا أخذت أتأمل القاعة كما يحلو لي.
لعل أكثر ما أدهشني هو أن القاعة بدت متهالكة. كانت نوافذها ذات الزجاج الملون التي لم تُظهر إلا شكلًا هندسيًّا مكسورة في مواضع عديدة، أما الستائر التي تدلت منها فقد غطاها غبار كثيف، وقد لفت انتباهي أن أحد أطراف المائدة المصنوعة من المرمر قد شُرخ، مع ذلك كان المكان بوجه عام ساحرًا يوحي بالفخامة الشديدة. ضمت القاعة ما يقرب من مائتي شخص يتناولون الطعام جلس أغلبهم على أقصر مسافة ممكنة مني وهم يتأملونني باهتمام. التمعت أعينهم الصغيرة وهم يتناولون الفاكهة وارتدى جميعهم الأردية الحريرية الناعمة القوية ذاتها.
في الواقع، كانت الفاكهة هي كل ما يتغذون عليه. لم يأكل هؤلاء القوم من المستقبل البعيد اللحم على الإطلاق، من ثم اضطررت أثناء إقامتي معهم إلى أن أحيا بدوري على الثمار، مع أنني تقت إلى تناول اللحم. تبين لي فيما بعد أن الخيول والماشية والأغنام والكلاب قد انقرضت كالديناصورات، إلا أن الفاكهة كانت طيبة الطعم جدًّا لا سيما نوع منها بدا متوفرًا طيلة فترة إقامتي هناك؛ ثمرة ناعمة تحيط بها قشرة لها ثلاثة جوانب، صرت بعدئذ أتناولها طوال الوقت. أدهشتني في البداية كل الفاكهة العجيبة والزهور التي رأيتها هناك، لكن فيما بعد أدركت مصدرها.
ها أنا ذا أحدثكم عن الفاكهة التي تناولتها على العشاء في المستقبل البعيد! ما إن أشبعت جوعي بعض الشيء، حتى عزمت على تعلم لغة هؤلاء القوم. لا شك أن هذا هو ما كان علي القيام به بعدئذ. بدت لي الفاكهة موضوعًا مناسبًا أبدأ التعلم منه، فحملت إحدى الثمار وأخذت أتحدث بنبرات استفهام وأشير مستفهمًا. واجهت في البداية صعوبة كبيرة في إيضاح مقصدي، إذ قوبلت محاولاتي بنظرات الدهشة والضحك بلا توقف، لكن بعدئذ بدا أن مخلوقًا أشقر ضئيل الحجم منهم قد فهم مقصدي فكرر لي اسمًا. كان عليهم أن يثرثروا طويلًا ويشرحوا المسألة بعضهم لبعض، وتسلوا كثيرًا بأولى محاولاتي لتقليد أصوات لغتهم الرقيقة الرفيعة، إلا أنني شعرت بينهم كمعلم وسط أطفال، فثابرت في محاولاتي إلى أن تعرفت على الكثير من أسماء الأشياء ثم انتهيت إلى ضمائر الإشارة والفعل «يأكل»، لكن هذا استغرق وقتًا طويلًا، فسرعان ما مل القوم مني وأرادوا التملص من أسئلتي، فقررت مضطرًّا أن أتركهم يعلمونني بجرعات ضئيلة، عندما يجدون في أنفسهم ميلًا لتعليمي، وبالفعل كانت الجرعات ضئيلة للغاية في واقع الأمر؛ إذ لم ألق في حياتي قومًا أكثر كسلًا أو قومًا يملون بهذه السهولة.
سرعان ما اكتشفت سمة عجيبة في مضيفي الصغار، وهو أنهم غير مبالين؛ كانوا يأتونني كالأطفال صائحين في لهفة ودهشة ثم يكفون سريعًا عن تأملي ويبتعدون بحثًا عن تسلية أخرى. وقد لاحظت أن العشاء وبداية حواري معهم انتهيا ولاحظت أنه انصرف تقريبًا كل من أحاطوا بي أولًا، ومن العجيب أيضًا أنني سرعان ما فقدت اهتمامي بهم. خرجت من بوابة هذا الصرح إلى العالم الذي غمره ضوء الشمس مجددًا ما إن شبعت. ظللت ألقى المزيد من هؤلاء القوم الذين تعقبوني لمسافة قصيرة وثرثروا وضحكوا مني ثم تركوني وشأني بعد أن ابتسموا وأومئوا لي بإشارات ودودة.
عندما خرجت من القاعة الهائلة، كان هدوء المساء يخيم على العالم، وقد أضاءت المشهد أشعة الشمس الدافئة التي آذنت بالمغيب. بدت الأشياء في البداية محيرة بدرجة كبيرة، إذ كان كل شيء مختلفًا تمامًا عن العالم الذي عهدته، حتى الزهور. كان الصرح الذي غادرته يقع على منحدر وادي نهر شاسع، أما نهر التيمز فقد ابتعد ميلًا تقريبًا عن موقعه الحالي. ارتأيت الصعود إلى قمة التل التي تقع على مسافة ميل ونصف تقريبًا ليتاح لي إلقاء نظرة أشمل على كوكبنا في العام ٨٠٢٧٠١ (ثمانمائة ألف وألفين وسبعمائة وواحد) ميلادية؛ فهذا هو التاريخ الذي سجله العداد الصغير بآلتي.
بحثت أثناء سيري عن أي انطباع قد يساعدني على فهم قصة الأطلال الساحرة التي انتهى إليها العالم؛ فقد آل بالفعل إلى أطلال. تكدست على سبيل المثال كومة هائلة من الجرانيت في نقطة مرتفعة قليلًا من التل تختلط بكمية هائلة من الألومينيوم، مشكِّلةً تكدسًا من الجدران الهائلة والحطام الذي نمت بينه نباتات تشبه أبنية الباغودا — لعلها من الفصيلة القراصية — إلا أن أوراقها شابتها مسحة من اللون البني ولم تكن بها أشواك. لم يكن لدي شك في أنها أطلال مهجورة لبناء هائل لا أستطيع أن أجزم لِمَ بُني. قُدر لي — فيما بعد — أن أخوض في تلك النقطة تجربة شديدة الغرابة، هي الخيط الأول الذي قادني لاكتشاف أعجب، لكنني سأتحدث عن ذلك في الوقت المناسب.
نظرت حولي وقد خطرت لي فكرة على نحو مفاجئ؛ أدركت وأنا أستلقي على مرتفع لبعض الوقت أن المنازل الصغيرة لم يعد لها وجود. لم تعد هناك على ما يبدو بيوت أو منازل للأسر؛ تناثرت مبان تشبه القصور في كل مكان بين الخضرة، أما المنازل والأكواخ التي تميز ريفنا الإنجليزي فقد اختفت.
قلت لنفسي: «إنها الشيوعية.»
وبعدها مباشرة واتتني فكرة أخرى. نظرت إلى الأشخاص الستة الصغار الذين تعقبوني، فلاحظت على الفور أنهم يرتدون جميعًا زيًّا بنفس الشكل، ولا ينمو على وجوههم أي شعر ويملكون أذرعًا وسيقانًا مستديرة كالنساء. ربما قد يبدو مستغربًا أنني لم ألحظ هذا من قبل. لكن كل شيء كان شديد الغرابة. حينئٍذ رأيت الحقيقة بالوضوح الكافي. بدا هؤلاء القوم متشابهين في الملبس والمظهر وفي كل ما يفصل الآن بين الذكر والأنثى من حيث البنية. بدا أطفالهم لي كأنهم نموذج مصغر من آبائهم، من ثم استنتجت أن أطفال هذا الزمن ينضجون مبكرًا جدًّا، وقد عثرت فيما بعد على شواهد كثيرة تدل على هذا.
عندما لاحظت الحياة اليسيرة الآمنة التي يعيشها هؤلاء القوم، شعرت أن تشابه الجنسين هو ما قد يتوقعه المرء على أية حال، فقوة الرجل ورقة المرأة ومنظومة الأسرة واختلاف وظائف الرجل عن المرأة هي ضرورات قتالية في عصر تحكمه القوة البدنية. فعندما يكون عدد السكان متوازنًا وكبيرًا تكون كثرة الإنجاب نقمة لا مزية للدولة، وعندما يندر وقوع العنف ويعيش الأطفال في مأمن تقل — بل تنعدم — الحاجة إلى الأسرة كثيرة الإنجاب، وتختفي الحاجة إلى اختصاص كل من الذكر والأنثى بوظيفة معينة حسب احتياجات الأطفال، ولا تكون هناك حاجة إلى ذلك حقيقة. نحن نشهد اليوم بدايات هذا التحول في زماننا، وفي المستقبل سيصبح تامًّا، لكنني أدركت فيما بعد كم كنت مخطئًا.
فيما استغرقت في هذه التأملات، لفت انتباهي هيكل صغير جميل يبدو كبئر تحت قبة. فكرت برهة في غرابة وجود الآبار إلى ذلك الوقت، ثم واصلت سلسلة تخميناتي. لم تكن هناك مبان كبيرة بالقرب من قمة التل، وبما أن قدرتي على المشي بدت خارقة لهؤلاء القوم، تُركت وشأني للمرة الأولى، فصعدت إلى قمة التل وقد تملكني شعور بالحرية ورغبة في المغامرة.
هنا عثرت على كرسي من معدن أصفر أجهله، تآكل وعلاه صدأ وردي وغطت الطحالب نصفه، شُكِلت ذراعه ونحتت على هيئة رأس عنقاء. جلست عليه وتأملت عالمنا القديم مترامي الأطراف تحت الشمس الآخذة في الغروب في هذا اليوم الطويل، فرأيت أعذب مشهد وقعت عليه عيناي في حياتي. كانت الشمس قد غابت وراء الأفق وسطع الغرب بسنًا ذهبي شابته مسحة من أشعة بنفسجية وقرمزية، وافترش وادي نهر التيمز أسفل التل، حيث امتد النهر كفولاذ مصقول. حدثتكم من قبل عن القصور الهائلة التي تناثرت بين المساحات الخضراء متنوعة الألوان، بعضها أصبح أطلالًا وبعضها ما يزال عامرًا. برز في كل مكان هيكل فضي أو أبيض في حديقة أطلال كوكب الأرض وتناثرت قبب أو مسلات رأسية مدببة. لم تكن هناك أسوار أو لوحات تدل على ملكية، أو أثر على قيام الزراعة. تحول الكوكب بأسره إلى حديقة.
أثناء تأملي بدأت أضع تفسيرًا لمشاهداتي، وبدا هذا التفسير كالآتي (أدركت فيما بعد أنني لم أصل إلا إلى نصف الحقيقة أو لمحة عن أحد وجوهها).
بدا لي أنني وجدت البشرية في مرحلة من مراحل اضمحلالها. دعتني حمرة الغروب إلى التفكر في نهاية البشرية. انتبهت للمرة الأولى إلى أن الجهود التي نبذلها اليوم على الصعيد الاجتماعي قد أثمرت نتاجًا عجيبًا، لكنكم لو أعدتم تأملها ستجدونها قد أثمرت نتاجًا منطقيًّا. القوة تتولد عن الحاجة، والأمن يعطي قيمة وأهمية للضعف. العمل على تحسين الظروف المعيشية — وهو العملية الفعلية التي تدفع نحو التحضر، لتجعل الحياة شيئًا فشيئًا أكثر أمنًا — تواصل بخطى ثابتة إلى أن بلغ ذروته، وانتصرت البشرية على الطبيعة مرة تلو الأخرى، وصارت الأحلام التي نحلم بها الآن مشروعات، أُديرت ونُفذت، فكانت النتيجة هي ما رأيت!
لا تزال الزراعة والصحة العامة في طورهما البدائي اليوم. علوم زماننا لم تكافح إلا جانبًا صغيرًا من الأمراض البشرية، لكنها مع ذلك تنشر عملياتها بخطًى ثابتة مستمرة. وعلم الزراعة والبستنة لدينا اليوم يقضيان على الأعشاب الضارة هنا وهناك وينبتان عشرين نوعًا أو نحو ذلك من النباتات الصحية، تاركين العدد الأكبر كي يسهم في تحقيق التوازن بقدر المستطاع، ونعمل اليوم على تحسين سلالات النباتات والحيوانات — المحدودة جدًّا — التي نفضلها تدريجيًّا عبر التربية الانتقائية، فننتج اليوم ثمرة خوخ جديدة أفضل جودة، وثمرة عنب بلا بذور، وزهورًا أجمل وأكبر، وقطيعًا أفضل من الماشية. نفعل هذا تدريجيًّا لأن الأمور لم تتضح لنا بعد، ولم نصل إلى حقائق ثابتة، ومعارفنا محدودة، علاوة على أن الطبيعة تقاومنا وتتجاوب ببطء لأيدينا الخرقاء، لكن يومًا ما كل هذا سيسير على نسق أفضل وتتحسن الأمور. هذا هو ما نتجه إليه الآن بالرغم من العواصف التي نواجهها. سيصبح العالم بأسره ذكيًّا مثقفًا متعاونًا، ونتجه أسرع فأسرع إلى تسخير الطبيعة، وفي النهاية سوف نعيد ضبط التوازن بين الحيوان والنبات بما يناسب حاجات الإنسان.
في رأيي، لا بد أن عملية الضبط تلك قد جرت على نحو جيد على مر الأزمان أو على مر الفترة الزمنية التي قفزت عبرها آلتي، فقد خلا الهواء من الحشرات، ولم تنمُ الأعشاب الضارة أو الفطريات، وإنما نمت الفاكهة والأزهار المبهجة الجميلة في كل مكان، وطارت الفراشات زاهية الألوان هنا وهناك. بعبارة أخرى، تحققت الغاية المثلى للطب الوقائي، وقُضي على الأمراض، ولم أجد أثرًا للأمراض المعدية طوال فترة إقامتي. سيتعين علي أن أخبركم فيما بعد أنه حتى عمليتا التعفن والتحلل قد تأثرتا إلى حد بعيد بتلك التغيرات.
تحققت أيضًا انتصارات على الصعيد الاجتماعي؛ فقد وجدت البشر يسكنون مساكن فخمة، ويرتدون ثيابًا رائعة الجمال، لكنني وجدتهم بلا عمل. لم يكن هناك أثر لصراع اجتماعي أو اقتصادي، واختفت المحال والإعلانات والمرور وكل أشكال التجارة التي تشكل عالمنا اليوم. كان من البديهي أن تخطر بذهني في تلك الأمسية الذهبية فكرة الجنة الاجتماعية. ظننت أن مشكلة الزيادة السكانية عولجت وتوقف عدد السكان عن الارتفاع.
لكن واكب هذا التغيير في الظروف تأقلم حتمي، فما هو سبب ذكاء الإنسان وقوته؛ ما لم يكن علم الأحياء إلا مجموعة من الأخطاء؟ إنها الحرية والمصاعب؛ بعبارة أخرى، السبب هو الظروف التي تجعل النشيط، القوي، الذكي يحيا، فيما ينهزم الضعيف؛ الظروف التي تشدد على أهمية تحالف القادرين وضبط النفس والصبر والحسم. منظومة الأسرة والمشاعر التي نشأت منها، من الغيرة الضارية، وحنان الأب والأم على أطفالهما وتفانيهما من أجلهم، كل هذا كان له ما يبرر وجوده ويدعمه في ظل عرضة الصغار للخطر الوشيك، لكن أين هذا الخطر الوشيك في هذا الوقت؟ يبرز اليوم شعور سوف يتنامى يعارض الغيرة الزوجية ومشاعر الأمومة الحادة والعاطفة بكل صورها؛ هذه المشاعر التي لا حاجة لها الآن، والتي تُشعرنا بعدم الارتياح وتصبغنا بنوع من الهمجية وتعكر صفو الحياة المتمدنة الهادئة.
فكرت في الأجسام الهزيلة لهؤلاء القوم وفي ذكائهم المحدود، وفي تلك الأطلال الضخمة الكثيرة، فزاد اقتناعي بانتصار الإنسان تمامًا على الطبيعة. تمتعت البشرية بالقوة والحيوية والذكاء واستخدمت طاقاتها الوافرة في تغيير ظروف حياتها، وها قد أتت نتيجة هذا التغيير.
أضحت همة الإنسان التي لا تفتر — والتي ننظر نحن إليها على أنها قوة — ضعفًا مع تبدل ظروف الحياة إلى الراحة والأمان التام؛ فحتى في زماننا اليوم بعض الميول والرغبات التي كانت فيما مضى ضرورية للبقاء تسبب الفشل على الدوام. على سبيل المثال: الشجاعة البدنية وحب القتال لا يساعدان كثيرًا الإنسان المتحضر، بل ربما يسببان له المتاعب، وفي ظل الأمن والاستقرار، لا تصبح هناك حاجة للقوة البدنية والذهنية. قدرت أنه لسنوات لا حصر لها لم تعد الحروب وعنف الأفراد والحيوانات الضارية تمثل خطرًا، ولم تعد هناك أمراض موهنة تتطلب بنية جسمانية قوية، ولا حاجة للكدح. وفي ظل حياة كهذه من نعدهم ضعفاء مهيئون تمامًا كالأقوياء؛ فلم تعد سمة الضعف تنطبق عليهم فعليًّا، بل إنهم حقيقة مهيئون أكثر من الأقوياء؛ إذ إن الأقوياء تزعجهم طاقتهم التي لا يجدون لها متنفسًا. لا شك أن بهاء البنايات التي رأيتها كان نتاجًا لفيض الطاقات البشرية — التي لم تعد لها حاجة الآن — قبل أن ينتهي بالإنسان الحال إلى الانسجام مع ظروف معيشته التي كانت ثمرة الانتصار الذي بدأ السلام النهائي الرائع. لطالما كان هذا هو مصير الطاقات البشرية في ظل الأمن؛ إنها تقود إلى الفن والشهوانية ثم إلى الإعياء والاضمحلال.
لكن حتى هذا الباعث على الإبداع سيتلاشى في نهاية الأمر، وقد تلاشى تقريبًا في الزمن الذي رأيته. كل ما تبقى من عشق الفن في هذا الزمن هو التزين بالأزهار، والرقص والغناء تحت ضوء الشمس، لا أكثر، وحتى تلك الممارسات ستتلاشى في نهاية الأمر، وتتحول إلى قنوع بالتراخي. ما يجعلنا حريصين على الكدح باستمرار هو المعاناة والضرورة، وقد بدا لي آنذاك أن هذا الكدح البغيض قد آل أخيرًا إلى نهاية.
اعتقدت وأنا أقف في الظلام الذي أخذ يلقي بظلاله أنني بهذا التفسير قد أحطت بمشكلة العالم وسر هؤلاء القوم اللطفاء. لعل الضوابط التي ابتكروها للحيلولة دون الزيادة السكانية قد نجحت أكثر من اللازم وأخذت أعدادهم في التضاؤل بدلًا من أن تظل ثابتة. هذا يفسر الأطلال المهجورة. ومع ذلك كان تفسيري أبسط وأسهل مما ينبغي، شأنه شأن أغلب النظريات الخاطئة!