رفض لقطة رد الفعل

في فيلم راع يمينك (۱۹۸۷م) يظهر جان لوك جودار، مخرِج الفيلم وممثله الرئيسي في كل الصور الأُولى، ويتصرف بشكلٍ غريب، حتى إنه يُحدث بلبلةً عند المتفرِّج. وهو يحتلُّ مركزَ الشاشة، ويحرك رأسه عدَّة مرَّات نحو يسار الكادر، ثم نحو يمينه وهو يصفر، وخلال ذهابه وإيابه داخل الكادر يروح يصفق، إما في مواجهة المتفرِّج أو يلاكِم غريمًا غير مرئي، كلما توسَّط الشاشة. وهنا تكمن كلُّ سينما جودار، الذي يفيدنا من الوهلة الأُولى بأننا يجب ألَّا نتوقَّع في هذا الفيلم على غِرار الأفلام السابقة، عليه أن يثير الحماس عن طريق النظرات داخل المجال، أو في المجال المقابِل.
ويعتبر جودار نفسه أنه «منفي من السينما الأمريكية»؛ فقد تجنَّب بانتظام التقنيات الأمريكية الساحرة في قاعات العَرض المُعتِمة، وبالأخصِّ لقطة رد الفعل. وقبل أن يخوض جودار مجال الإخراج السينمائي، كان يفصح في كتاباته كناقد — المنشورة في كراسات السينما — عن إعجابه بالسينما الأمريكية، والبنيات السردية عند أنتوني مان وهيتشكوك، على سبيل المثال لا الحصر. ومع ذلك، فقَدْ بذل جهوده منذ أفلامه الأُولى لتحطيم قيد الخطِّ السردي المتواصِل؛ إذ اكتشف في مكنون ذاته ضرورة التحرر، وربما أيضًا أنَّ رسالته تتمثل في تخليص السينما ممَّن أسماهم فيما بعد «جستابو البنيات»؛ نظرًا لأنه من الدُّعاة الأخلاقيين. وكان في حاجة إلى حلفاء يساندونه، فاقتفى أثر خطوات آيزنشتاين العملاقة لتمزيق المونتاج المتواصِل والمتدرِّج في خطواتٍ قصيرة؛ لكي تنجح لقطاته في الابتعاد بعضها عن بعض، حتى إنه لا يمكنها أبدًا المخاطرة بأنْ تتصدَّى لبعضها عن طريق أنماط المجال والمجال المقابِل. يضطرنا جودار إلى النظر إلى لقطاته حقًّا، بعزلها عن بعضها وجعْلِها في منأًى عن النظرات المجاوِرة؛ لكوننا قد تحوَّلنا من عيون الشاشة المكلَّفة أصلًا بالرؤية نيابةً عنَّا. وهو يقول: «النظر هو النظر مرتَين، وهذا أمرٌ قيِّم.» وعليه يجب أن نُلزم أنفُسنا بالبحث عن أنماطٍ أخرى من العلاقات بين اللقطات، وصنع سينما مختلفة. ويقول جودار إن تقديم صور على هذا النحو الدارج سهلٌ للغاية، ويكون غضًّا وهو يفصح في الوقت نفسه عن قدْرٍ محدود من النضوج: رجل ينظُر إلى امرأة، ثم يريك تلك المرأة التي كان ينظُر إليها الرجل، ولكن مَن يدري؟ ربما كانت هذه الصور، التي الْتُقطت كلٌّ منها على حدة، تصبو إلى الالتقاء بشكلٍ مختلف؛ وبالتالي يكون تركيبها (مونتاجها) بطريقةٍ مغايرة. وبعبارةٍ أخرى، يدعو جودار الفنَّان إلى النظر إلى الأمر مرتَين قبل أن يلتقط الصور ويجمعها معًا، هي والأصوات، حتى تتمكن السينما من التعبير عن تحقيق رغباتٍ أساسية ولكنها غير متوقعة من جانب المتفرِّج.
وكان لا بد وأن يتلاقى جودار مع دزيجا فيرتوف، ذلك الروسي أيضًا المعاصِر لآيزنشتاين. وكان ذلك الالتقاء حاسمًا؛ فبعد عام ١٩٦٨م أسَّس جودار فريقَ دزيجا فيرتوف. وعلى أثر أربع سنوات من التطهر والتأمل والتجريب في الصحراء، اتبع فيها توجُّهات فيرتوف، أبو الكينوكس (سينمائيي العين)، وجلا عينَيه من «مرهم الأفكار» (وهي عبارة من ابتكار الشاعر والمصوِّر الروسي كازيمير ماليفيتش، ۱۸۷۸–١٩٣٥م) وتعلَّم النظر. وقد اكتشف جودار بالتفكير في نظرية المسافات عند فيرتوف، وبإجراء التجارب مع فريقه، القوةَ المحرِّرة ﻟ «السينما-العين» التي تتيح إمكانية «ربط أيَّة نقطة في الكون بأيِّ نظامٍ زمني». وقد لاحظ تمامًا أنَّ الحيل التي استخدمها فيرتوف في أفلامه، وفي فيلم الرجل خلف الكاميرا (۱۹۲۹م) — وبالأخص: الصور المتحركة، واللقطات البطيئة والمتسارعة، وطَبْع صورتَين إحداهما فوق الأخرى، والتجزئة، ونسبة تخفيف السرعة — لا تُستخدم في تعزيز المسار المستقيم للقصة المرويَّة، بل على العكس لتحرير قِصر نظرنا، الذي بات لا يعمل إلا حسب الإيقاع الضيِّق الأفق، والتَّراوُح المجازي بين المجال والمجال المقابِل، على غِرار كُرة الطاولة، حتى يتبدَّى لنا المشهد العظيم للمبادلات الكونية الغامضة.
والعديد من مفسري أعمال جودار، ينعون عليه مرحلة «دزيجا فيرتوف» عنده، ويعتبرونها مغامرةً غيرَ موفَّقة وشرودًا عقيمًا، يحسُن بنا أن نضرب صَفحًا عنها. غيرَ أنَّ الواقع مغاير لذلك تمامًا. فلولا تلك المرحلة لمَا أخرج جودار أبدًا أفلام: الهروب من الحياة، والوجد، والسلام عليكِ يا مريم، وراع يمينك؛ ولمَا استغرق صُنعها تلك المدة الطويلة داخل فريق دزيجا فيرتوف. وكان يتعيَّن عليه أن يقطع صِلته بالأفلام التي يجري إخراجها؛ إذ إنها دفعتْه رغمًا عنه في نهاية المطاف إلى أن «يصنع أفلامًا بنفسه» على حدِّ قوله، وقد توجَّب عليه أن ينأى بنفسه عن صناعة السينما القائمة؛ لينجح وبالأخص ليفكِّر في الصور والأصوات، بعيدًا عن الواقع الذي تستند إليه، ثم التوصل عن طريق الاختبارات والتجارب إلى الحرية التي يتمتع بها المصوِّر والموسيقار في معالجة موادَّ غدتْ كلٌّ منها مستقلَّة ذاتيًّا. وباختصار، كان يتوجَّب التخلُّص من الربط الواقعي بين المجال والمجال المقابِل.

وجودار سينمائي مُتجلٍّ؛ فقد استسلم ﻟ «إغراء الممكن» حسب بريخت، ووجد نفسه يلاحِق «الصورة المثالية»، مقتفيًا في ذلك أثر آيزنشتاين وفيرتوف. ويرفض جودار الصورةَ التي تعرضها علينا وتُسمعنا إيَّاها كلُّ الأفلام تقريبًا، والسير في أعقاب هوليود؛ فهي صور تتميز باندماجها وتزامُنها مع الصوت، وتتغلغل خفية في نفوسنا وفقًا لإيقاعات لقطات رد الفعل. غير أنَّ هذه الصورة فاشلة كصورة؛ لأنها تتلاشى تحت وطأة الانطباع الشديد بالواقع، الذي تحمله في طيَّاتها. أمَّا ما يحاول جودار أن يقدِّمه لنا، فهو الصورة «الصافية» التي ليست إلا صورة، وكلمة صائبة، ومجرَّد كلمة. فالمتفرِّج على فيلمٍ لجودار مقيَّد بمشاهدة صور والاستماع، دون أن يحضُّه أحدٌ على أن يتصوُّر أن ما يجري على الشاشة حقيقةٌ واقعة.

وقد يبدي للقارئ أنه لأمر غريبٌ حقًّا، بل ضربٌ من التحدي الوقح أن ينتهي هذا الكتاب المكرَّس لمعالجة هيمنة السينما الأمريكية باللجوء إلى فنانٍ مثل جودار، لا يتمتع بأيِّ نفوذ على المتفرِّج في قاعات العَرض. ومن المهم أن نشير إلى أنَّ جودار يُحيلنا إلى التيارات الطليعية في الفن. ومن الخطورة بمكانٍ أن نتصور أنه ليس إلا حالةً منفردة. وقد أطلق عليه أحد النقَّاد تسمية جود-آرت God-Art على سبيل التهكُّم. ولا مناصَ من أن نقرَّ بأنَّ هذا «الابن المزعِج للسينما»؛ يستعذب شقَّ عصا الطاعة (فهناك جانبٌ من سلفادور دالي عند جودار) وسط التيار الطليعي. ومن المفارقات أنه يضاعف من انفراده بعَرض أفلامه على شاشات دُور العَرض التجارية (وهو ينجح في ذلك بفضل صيته الشخصي). وقد تمكَّن من الانتصار بيُسر، وتقدَّم وحده، بعيدًا عن فريقه من التجريبيين، وراح يستعرض فنَّه المناقِض في عُقر الدار التي ينتظر فيها المتفرِّج بلا كللٍ أو ملل، وصاحب السلطان الحقيقي، أنْ تقدَّم له نجومٌ سينمائية جاهزة. وصور جودار في قاعات العرض تُعتبر ضربًا من الإرهاب. فأفلامه من أمثال كل شيء على ما يُرام، والفرار من الحياة، والوجد، وراع يمينك؛ عبارة عن سلسلةٍ من الاستفزازات المتوالية. والممثلون الذين يشاركون في هذه الأفلام، ذائعو الصيت ومن عينة إيف مونتان وجين فوندا وإيزابيل هوبرت ومايكل بيكولي وجين بركينز. والمتفرِّج يعرفهم وإن كانوا قد تغيروا تمامًا في نظره. فهم يتباطَئُون داخل الكادر دون أن يدفعوا أبدًا الفيلمَ، في أيَّة لحظة من اللقطة أو المشهد، في مساره الأفقي المعهود. ذلك أنَّ هؤلاء النجوم جُرِّدوا نهائيًّا من المزايا التي تُهيِّئها لهم لقطاتُ رد الفعل، وحُرِموا من اللقطات الكبيرة وبَهتَ رونقُهم أمام جمهورٍ فَقدَ في الوقت نفسه مركزَه كمتفرِّج، وأصبح لا يفهم شيئًا. ويظهر هؤلاء النجوم في قاعة العرض المُعتِمة التي انفصلتْ عن شاشتها. فالسحر السينمائي (الظلامي والرجعي في رأي جودار) لم يعُد له تأثير. لقد حطَّمَ جودار العلاقة بين القاعة والشاشة؛ لأنَّ الترابط بين المجال والمجال المقابِل تلاشى من الوجود. والشاشة لا تستطيع أن تتَّخذ وضعًا رأسيًّا لكي تلتقي مع القاعة، ما دام وجه النجم لم يعُد بإمكانه الاعتماد على لقطة رد الفعل، التي لا غنى عنها للانطلاقة الأفقية للقصة. وهكذا توقَّف المسار الثنائي للمجال والمجال المقابِل اللازم لاقتران الشاشة المُضيئة بالقاعة المُعتِمة. ومن السهل بالطبع تفسيرُ إحجام الجمهور عن التردُّد على قاعةٍ يُعرض فيها فيلمٌ لجودار؛ إذ لم تعُد تتوفر له إمكانية الاندماج في العَرض والتحوُّل إلى متفرِّج.
وتثبت سينما جودار مدى النفوذ الهائل لنظام ردِّ الفعل في الأفلام التجارية، وتؤكِّد بالتالي الصعوبة التي تكتنف صُنعَ «سينما مغايرة»؛ فالمتفرِّج المتشبث بكلِّ جوارحه بالاستمتاع بالاندماج المتناغِم بين الشاشة والقاعة، بوُسعه أن يتجاهل جودار على أيَّة حال. غير أنه يجب أن يدرك أنه يُدير ظَهره بهذه الطريقة للفنِّ الطليعي: مسرح الكابوكي، و«الروح الجديدة» عند الشاعر الفرنسي أبولينير، والفصم البريختي، والميكانيا الحيوية عند ميير هولد، والتصوير البنَّاء عند ماليفيتش وكاندينسكي والشِّعر المستقبلي عند ماياكوفسكي، والرواية الجديدة عند آلان روب-جرييه، والجاهز Ready Made عند مارسيل دوشان، وفرانسيس بيكابيا وأليوب آرت، خليف المدرسة السابقة عند وارهول وروسشنبرج، وصور بريسون وروهمر ورويس وستراوب وأنجلوبولس … والواقع أنَّ سينما جودار تنتمي إلى سلالة الفنانين المتمردين على تصوُّر العالَم كما هو. ويرفض هؤلاء الفنانون الخلَّاقون أشكالَ الاندماج السابقة والدمج بين عناصر العالَم، ويطيحون بحروف الجر، وبالخطوط المعهودة بين الكتل والألوان، والترابط بين الممثل والشخصية التي يمثلها، والصور «الواصلة» بين اللقطات وبين المشاهد. وهم يساهمون بذلك في حفاظ الفن على حريته، كما يشاركون في تحرير المجتمعات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤