الفصل العاشر

فرانك كابرا وتوظيف آيزنشتاين

آن الأوان للتطرق إلى الإخراج السينمائي عند فرانك كابرا. لقد نوَّهتُ عدَّة مرات من قبل بأهمية دور كابرا في عالَم السينما الأمريكية، ويتعين أن نوضِّح في ختام هذا الكتاب، وتبعًا لمَا أوردنا من أفكار حول فيلم روكي ٤، أنه لا جديدَ تحت كشَّافات الإضاءة في استوديوهات لوس أنجلوس الكبرى، وأنَّ فرانك كابرا الذي عاصَرَ سنوات ازدهار السينما الكلاسيكية الهوليودية، نجَحَ في أن يبلور في أفلامه بنية لقطة ردِّ الفعل التي يتم تجاوزها منذ ذلك العهد. وأقترح على القارئ أن يتدارس بعض مشاهد فيلمين لكابرا بغضِّ النظر عن تسلسلهما الزمني، وهما السيد سميث في واشنطن (۱۹۳۹ م) ومستر ديدز الشاذ (١٩٣٦م). وسيتيح لنا السيد سميت إمكانية التحقُّق من مدى أستاذية كابرا وتفوُّقه في استخدام لقطة الفعل، أمَّا مستر ديدز فسيردُّنا إلى روكي ٤ لنصل من خلاله إلى كيفية توظيف كابرا لسينما آيزنشتاين الثورية الروسية.
والواقع أنَّ روبرت سكلار محِقٌّ تمامًا في ضمِّه كلًّا من فرانك كابرا ووالت ديزني إلى الفصل الثاني عشر من كتابه أمريكا المصنوعة سينمائيًّا، والمُعَنوَن «صنع ثقافة الأساطير». وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الرجلَين هما أشدُّ السينمائيين تأمركًا في تاريخ هوليود، نجحا في تسويق نظام لقطات ردِّ الفعل، صانعة النجوم، بحيويةٍ لا تضاهى. وهناك جانب من الحقيقة في الجملة التي أطلقها السينمائي جون كاسيفيت على سبيل المزاح، قائلًا: «ربما لم تكُن هناك في الأصل أمريكا، وربما لم يكن هناك سوى فرانك كابرا.» وعلى أيَّة حال، فإنَّ لهذه الدعاية الفضل في أن تفسر لنا سببَ عدم تطرُّق النقَّاد الأوروبيين، وبالأخصِّ الفرنسيين منهم، لفرانك كابرا والتفضل بمحاولة شرح أفلامه أو تفسيرها. ويعود ذلك إلى عدم توافق أعمال كابرا مع سينما المؤلفين، التي نشأت مع الموجة الجديدة الفرنسية، ومازالت تتحكم حتى الآن في توجُّهات المجلات السينمائية الرفيعة المستوى، التي ترى أنَّ السينمائيين ذوي البصمة الخاصة، والأسلوب الشخصي المتميِّز، هم الوحيدون الجديرون بالاهتمام وبالدراسة النقدية لأعمالهم. غير أنَّ الأسلوب في أفلام كابرا، إذا كان هناك أسلوب، ليس مِلكَ المؤلف، بل ملك الجمهور المتفرِّج في القاعة الذي يجِدُ في الفيلم التعبيرَ الدقيق عن مسلكه وكلامه المتدثِّرين بالمثالية. وهنا تكمن بالذات مدى الأهمية الخاصة لرجل السينما فرانك كابرا بالنسبة لنا. فهناك ما يتجاوز الحيل التقنية التي يستخدمها لإبهار أدعياء الفن؛ إذ إنه يتمادى في دسِّ تقنيةٍ أخرى غير مرئية تبثُّ في لاوعينا أساطيرَ الأمَّة الأمريكية.
لقد أخرج فرانك كابرا أهمَّ أفلامه الشعبية في النصف الثاني من الثلاثينيات: حدث ذات ليلة (١٩٣٤م)، مستر ديدز الشاذ (١٩٣٦م)، الأفق المفقود (۱۹۳۷م)، لا يمكنك أن تأخذها معك (۱۹۳۸م)، السيد سميث في واشنطن (۱۹۳۹م). وعلى أثر النجاح الكبير الذي حظِيَ به مستر ديدز الشاذ؛ أصبح كابرا أول مخرِج يتمتع بامتياز وضع اسمه على الشاشة قبل عنوان الفيلم. وقد بلغتْ شعبيته مدًى كبيرًا في بداية الحرب العالمية الثانية، حتى إن الجنرال مارشال كلَّفه بمهمَّة إخراج أفلامٍ وثائقية عسكرية (تحوَّلت إلى المسلسل الشهير: لماذا نحارب؟) بغية تأجيج الحماس القتالي لدى الجنود الأمريكيين. ويجدر بنا أن ننوِّه هنا بأنَّ انتصار الإرادة، الفيلم الفاشستي الكبير للمخرِجة الألمانية ليني رييفنستال، بغية التمرس من خلاله.
وقد أجرى الصحفيون معه حديثًا عند خروجه من سينما، كان يشاهد فيها فيلم روكي ۱ (وكان قد بلغ التاسعة والسبعين من عمره) فصاح قائلًا: «هذا هو الفيلم الذي كان بودِّي أن أصنع.» القول واضحٌ تمامًا لمَن يعرف أعمال كابرا، وهناك مشهد في فيلم السيد سميث في واشنطن ذي الشهرة الشعبية الواسعة النطاق، يبدو لي مهمًّا للغاية. كما أنَّ تواجُده في منتصف الفيلم، له ما يبرِّره. ولنبدأ بمضمون القصة: يتم انتخاب جفرسون سميث (واسم جفرسون في حدِّ ذاته يُنبِئ بأننا بصدد بطل) عضوًا في مجلس الشيوخ بواشنطن. وهو نموذجٌ مثالي لأبطال كابرا. إنه شاب نقيٌّ وبسيط، بل وساذج، يحبُّ الطبيعة وينظِّم معسكرات الكشَّافة. ولم يسبق له أن ترك مدينته الصغيرة المغمورة في الغرب. وقد أشرف على حملة انتخابه أحدُ كبار رجال الأعمال في ولايته، واسمه تايلور (ممَّا يذكِّر أيضًا بخطورة التيلورية). وهذا الأخير شخصٌ واسع النفوذ وعديم الذمة، ويسيطر على مجلس الشيوخ، وفي حاجة إلى دُمية يستخدمها في واشنطن؛ لكي يتفرغ لعمليات الاحتيال والنصب دون أن يتعرَّض لافتضاح أمره. وهذا السيناريو مثالي حقًّا لاستخدام لقطة رد الفعل الملازمة لتحقيق التشرب على الطريقة الأمريكية؛ تمهيدًا للتحول المفاجئ. ويؤدي جيمي ستيوارت دور جفرسون سميث، الذي استهلَّ به شهرته، وحصل من أجله على أوسكار أحسن ممثِّل لعام ١٩٣٩م. والواقع أنَّ هذا الفيلم وجَّه وحدَّد نهائيًّا، ليس فقط أخلاقيات جيمي ستيوارت «النقاء، وإيثار الغير، والإيمان الراسخ بقِيَم أمريكا الأساسية»، كما جاء في قاموس السينما الصادر في باريس (لاروس)، بل وأيضًا سلوكه على الشاشة.

وممَّا يسترعي الانتباه بشكلٍ خاص في أداء جيمي ستيوارت، ذلك الممثِّل الفذ، قدرته على ادِّعاء المراوغة؛ فهو يتباطأ في تثبيت نظرته، بل ويتلعثم بشكلٍ ملحوظ وكأنه يحاول أن يواصل نظرة الآخَر وحديثه وربط تصرُّفه بردِّ فِعل مندوبينا المتواجدين معه على الشاشة (ويذكِّرني ذلك بالأب جرانديه في رواية الكاتب الفرنسي بالزاك، الذي كان يبدأ في التلعثم بمجرَّد الحديث عن الصفقات؛ لكي يدفع محدِّثه إلى تكملة الجملة ومجاراته). وهذا ما جعل جيمي ستيوارت أحدَ الممثلين الأكثر ديمقراطية، إن لم يكن الأكثر ديماجوجيةً في السينما الأمريكية، وبالتالي أحد الذين يناسبون على خير وجهٍ المبادئَ الواقعية لمنهج استوديو الممثِّل. وقد أتاح له دور جفرسون سميث، كما صمَّمه وأخرجه كابرا، أتاح له الفرصة لكي يرسِّخ شخصيته تمامًا. وما كان يمكن أن يتمنَّى ممثِّل أمريكي شابٌّ خيرًا من أن يتألَّق على الشاشة في نظر المتفرِّجين في دُور العرض. ولنا أن نتصوَّر شخصًا مجهولًا تمامًا وجاهلًا وخجولًا، خرج للتوِّ من عالَم رعاة البقر في الغرب، يتمثَّل كلُّ ما يملكه من ثروة في إيمانه الوطيد بأمريكا، ينجح مع ذلك في تطهير مجلس الشيوخ وإنقاذ الأمة من تحكُّم رجال الأعمال الأنانيين والمجرَّدين من أيِّ خُلق، عبْرَ العقبات وخيبات الأمل والإهانات، مدفوعًا في ذلك إلى الأمام بمساعدة امرأةٍ قويةِ العزيمة، ومساندة أفراد من الكشَّافة الأمريكيين المتحمِّسين، وقوة جاذبية التقنية التي استخدمها كابرا.

ولنتدارس ذلك المشهد الذي يعنينا، والواقع في منتصف الفيلم تقريبًا. سميث في مكتبه مع سكرتيرته سوندرز (جين آرثر). لقد أصبح السيناتور الشاب أضحوكةَ واشنطن؛ فقد لاكَمَ صحفيًّا استهزأ به ونشَرَ صورةً له وهو يحاكي تغريد العصافير، كما بدا خجولًا كطفلٍ في مشهدٍ مضحك ومخزٍ في صالون السيناتور «بين» الفخم، أمام إيلين ابنته، التي وقَعَ في غرامها بكلِّ جوارحه. ويستغرق هذا المشهد تسعَ دقائق ونصف دقيقة، ويتكوَّن من ستٍّ وتسعين لقطةً، أغلبها لقطات مقرَّبة حتى الصدر لسميث وسكرتيرته سوندرز، وهي اللقطات المفضَّلة في حالة الحوار. وفي الجزء الأول من المشهد، يكون سميث جالسًا خلْفَ مكتبه على يسار الكادر، أيْ في الجانب الغربي، وهو الأمر الذي يتعيَّن التنويه به. وسيشغل هذا الجانب في سياق المشهد، وهو نفس الجانب الذي ظهَرَ منه القطار الذي جاء به إلى الشرق في بداية الفيلم. وستكون الأفضلية لهذا الجانب بالنسبة له طوال القصة، شأنه في ذلك شأن البطل في أفلام رعاة البقر. وتقف سوندرز على يمين الكادر وهي تشرح لسميث بلهجةٍ ماكرة، تنمُّ عن التنازل، سِباقَ الحواجز والعقبات القانونية والإجراءات المعقدة، التي يتطلَّبها تمرير مشروع قانون في مجلس الشيوخ، بعد أن أفادها السيناتور الشابُّ بلا موارَبةٍ بعزمه على تقديم قانونٍ خاص بمعسكر للشباب في الخلاء، دون أن يكون على دراية بالمصاعب التي سيواجهها هذا المشروع. وخطاب سوندرز الذي يستغرق وحده ثلاث دقائق ونصف دقيقة، ويتضمن ثلاثين لقطةً، عبارة عن درسٍ شعبي وسينمائي حقيقي حول الطقوس البرلمانية الأمريكية المرعية. وطوال ذلك الحديث، تكون عينا سميث مثبتتَين على وجه السكرتيرة، وهو يستمع إليها باهتمامٍ شديد؛ إذ يكتشف وهو مندهش الإجراءات المعقَّدة التي تعتمد عليها استراتيجية مجلس الشيوخ. أما نحن المتفرجين الجالسين على مقاعدنا كما لو كنَّا في قاعة للدراسة — فإننا نتلقَّى من خلال ردود فِعل سميث درسًا في تاريخ أمريكا السياسي. فنحن نُحاط عِلمًا بأنَّ مجلس الشيوخ يضمُّ ٩٦ عضوًا (كان ذلك في عام ۱۹۳۹م، عندما كانت الولايات المتحدة مكوَّنة من ٤٨ ولايةً، لا ٥٠ ولاية كما هو الحال الآن)، وبأنَّ أيَّ مشروعِ قانون يجب أن يمرَّ بعدة مراحل قبل أن يكون صالحًا لعرضه للتصويت في المجلس. فهو يقدَّم أولًا، وفقًا للأصول المرعية في المجلس، من جانب السيناتور الذي أعدَّه، ثم يجري اختيار لجنة من المجلس لدراسة تفاصيله لتقدير مدى صلاحيته واقتراح إدخال تعديلاتٍ عليه، ثم يُحال إلى مجلس النوَّاب الذي يشكِّل بدوره لجنةَ استماعٍ لتقييم المشروع؛ ليعود من جديد إلى اللجنة الأُولى التي قد تقرُّ تعديلاتِ لجنة الاستماع أو ترفضها، ممَّا يؤدي إلى تبادلاتٍ جديدة بين اللجنتَين. وأخيرًا، «إذا ظَل المشروع على قيد الحياة، يصبح بالإمكان إحالته للمجلس للتصويت»، كما تقول سوندرز بلهجةٍ مثبِّطة للهِمم. وهي تستطرد قائلةً بابتسامةٍ ماكرة جديرة بالسكرتيرة المتمرِّسة: «وعندئذٍ تكون دورة اجتماعات المجلس قد انفضَّت لحلول فترة الإجازة.»

وهذا الخطاب الذي تعرضه علينا بالتفصيل بلهجةِ مَن تبدَّدت أوهامه، وباستخفاف الموظَّفة المحنَّكة والموقنة بأنَّ المؤسسات السياسية لم تعُد سوى مناوراتٍ روتينية وصيغٍ ميتة؛ يصِفُ بدقة واقعَ الحياة البرلمانية الأمريكية. وتلقِّن سوندرز هذا الدرسَ لسميث بلقطاتٍ مصوَّبة من فوق لتحت، كأنه تلميذٌ جالس على قِمَطْره. ونتلقَّى نحن أقوالها من خلال ردود فِعل سميث؛ إذ من المهم أن نحصل عليها عن طريق البطل، وذلك لسببَين رئيسيَّين: أولًا لأنَّ المعلومات التي تُفيدنا بها السكرتيرة، لها طابعٌ فني يتطلَّب قدْرًا من التركيز لكي نستوعبها، ممَّا قد يعرِّضها للضياع أو لعدم تمكُّن المتفرِّجين من متابعتها وفهمها؛ وثانيًا لأنَّ مسلك سوندرز ولهجتها ينمَّان عن استخفافها بالإجراءات المعقدة واللانهائية المتَّبعة في مجلس الشيوخ، ممَّا قد يؤدي إلى عداءِ المتفرِّجين للنظام النيابي الأمريكي، لولا ردود فِعل سميث الإيجابية والمعبِّرة عن اهتمامه الشديد بالموضوع.

وطوال خطاب سوندرز الممتدِّ عبْرَ ثلاثين لقطةً، وباستثناء خمس لقطات حتى الصدر: ثلاث للسكرتيرة واثنتَين لسميث، يتواجد بطلنا باستمرارٍ في المجال مع المتحدِّثة كما لو كان لا يريد أن تُفلت منه أيٌّ من كلماتها. ويظهر سميث أمامنا، في مواجهتنا أو من الجانب أو الظَّهر، على الحافة اليسرى للكادر، وعيناه مرفوعتان نحو سوندرز ليستمع إليها وقد استهوتْه كلماتها وراح يومئ برأسه مبديًا تفهُّمه لمَا تقول، كما يوجِّه لها أسئلةً بخصوص المقاطع الصعبة؛ فهو يستفسر منها: ما هي لجنة الاستماع هذه؟ ويعبِّر عن تلهُّفه إلى فَهْم سير الإجراءات في المجلس بالتملمُل في مقعده ومقاطعتها بكلماتٍ مثل: «ثم ماذا؟»، و«أكملي». وردود فِعل سميث هذه موفَّقة للغاية؛ إذ تحوَّل خطاب سوندرز إلى روايةٍ مثيرة، وفقًا لتقاليد هوليود الخالصة، مع أنَّه في الأصل خطاب مُضجِر. وقد أثار ذلك حيرة سوندرز، التي كانت تتصوَّر أنها ستدفع السيناتور الشاب إلى النفور من مشروع القانون والتخلي عنه. غير أن العكس هو الذي يحدث؛ فكلما كشفتْ له عن العقبات التي سيتعيَّن التغلُّب عليها حتى يمكن التوصُّل إلى إقرار المشروع؛ زاد حماس سميث وأعلن في ختام شروحها عن رغبته في أن يُملي عليها مشروعه.

وهكذا يحدث تحوُّلٌ كامل في الوضع، ويستخدم كابرا أسلوبَ التلاشي التدريجي للَّقطة التي تحلُّ محلَّها اللقطةُ الجديدة. وقد يبدو لنا أنَّ هذا الأسلوب التقني يرمي هنا إلى التخلُّص من اللحظات الخاوية التي تقضيها سوندرز للذهاب لإحضار الورق لتسجيل ما سيمليه عليها، خاصة وأنَّ كابرا معروف بكرهه الشديد للفراغ السينمائي، أو بإخطارنا فقط بأننا ننتقل إلى مرحلةٍ أخرى من المشهد. والواقع أنَّ التمعُّن في ذلك يُظهر لنا أنَّ هذا الأسلوب يفيدنا بأكثر من ذلك. وهنا تترك سوندرز موقعها أمام مكتب رئيسها وتتَّجه نحو يمين الكادر؛ لإحضار ما يلزمها من معدَّات الكتابة. وتصحبها الكاميرا في هذا التحرك، بحيث يصبح سميث في الوقت نفسه خارجَ المجال من جهة الكادر اليسرى، وهكذا تصبح سوندرز وحدها في المجال، حيث نراها من الظَّهر. وهنا تتلاشى صورتها تدريجيًّا لتحلَّ محلَّها صورةُ سميث في مقدمة اللقطة وهو يذرع المكان جيئةً وذهابًا، وقد بدتْ خصلةٌ من شَعره على جبهته والغليون في يده، وراح يملي مشروع القانون بينما جلستْ سوندرز على كرسيها في المستوى الثاني من اللقطة، وقد وضعتْ مفكرتها على ركبتَيها وأمسكت بالقلم بيدها. وهكذا أسفَرَ المزج التدريجي للصورتَين عن رفعِ شأن سميث الذي أصبح منتصبَ القامة، وأجلس السكرتيرة في مكانها.

وكما دفعتْ ردود فِعل سميث إزاءَ خطاب سوندرز، المتفرِّجين في قاعة العرض إلى متابعة المراحل التي يمرُّ بها مشروع القانون أمام مجلس الشيوخ الواحدة تلوَ الأخرى باهتمام؛ فإنَّ ردود فِعل السكرتيرة إزاء خطاب سميث ستجعل نفس هؤلاء المتفرِّجين يشاركون البطل في إيمانه الوطني. وتتمثَّل أساسًا استراتيجية سميث، وكابرا من وراءه، في إبهار سوندرز. فلو نجَحَ سميث في دفع سوندرز إلى رفع وجهها نحوه وتطلُّعها إليه بما ينمُّ عن الاهتمام، بل والإعجاب إن أمكن؛ لحقَّق النجاح في هذه الجولة، ولمَا كان هناك متفرِّج قادر على مقاومة كاريزما البطل ومعارضة أيديولوجيته. والسبب في ذلك واضح؛ فهذه المرأة الشابة المضطرة إلى اتخاذ وضع المُشاهِد لأنها جالسةٌ صامتة، تتطلَّع إليه وتستمع، بل وأسوأ مُشاهِد. فقد كانت مناهِضة لأفكاره في البداية؛ لأنها فقدت الإيمان بقدرة أمريكا على النهوض من كبوتها، كما أنها تحتقر مجلسَ الشيوخ بعد أن اكتشفت احتيال رئيسها السيناتور «بين»، وهو من أشدِّ الرجال نفوذًا في السياسة الأمريكية، والمتفاني في خدمة تايلور، وترى أن سميث ساذج وغير مسئول يتلاعب به «بين». ولكن هناك ما هو أهمُّ من ذلك؛ فهي تجهل ما نعرفه — نحن المتفرِّجين — بدون استثناء، وهو أنَّ جفرسون سميث هو جيمس ستيوارت نفسه.

ولا يضيِّع بطلنا وقته في نقاشٍ مملٍّ. وهو يستغلُّ وضع سوندرز وهي جالسة وقد أُعيدت إلى مكانها، وكسبه للجولة الأُولى؛ لكي يبرز فورًا مغزى وروح المشروع الذي يفكِّر فيه. وتلك الاستراتيجية التي يتَّبعها سميث تثير الدهشة؛ إذ إنه بدا حتى هذه اللحظة مجرَّد سياسي، سذاجته مضحكة وبلا أية خبرة في عالم السياسة. غيرَ أنَّ هذه الاستراتيجية تعبِّر على خير وجه عن المعالجة الدعائية عند كابرا، الذي يستخدم شخصياته ليبلغنا خطابه هو. ويتَّجه سميث نحو يسار الكادر، أيْ نحو الغرب الذي جاء منه، وسيبقى فيه حتى نهاية المشهد؛ لكي يجذبنا نحوه. وهو يصوِّب عينَيه نحو سوندرز قائلًا لها: «يجب أن تكون لمشروعي الخاص بمعسكر الشباب رُوح.» ثم يلتفت نحو نافذة مكتبه، أقصى يسار الكادر، ويشير بيده إلى قبَّة الكابيتول الذي بدا متألِّقًا في الأفق، ويستطرد قائلًا: «تلك هي الصورة التي يجب أن تنطبع دائمًا في فؤاد كلِّ فرد من أبناء هذا البلد.» وينطلق سميث آنذاك في محاولةٍ لكسب سوندرز لوجهة نظره، وهنا تظهر لقطةٌ كبيرة لرأس سوندرز. وسميث يُجيد التصرف، فهو يتكلَّم عن حرية التعبير التي يجب الدفاع عنها دائمًا للحفاظ على المُثل العليا للأمَّة، ويحدِّثها عن شبابه في غابات الغرب وعن ضرورة تمسُّك الشباب الأمريكي بنقاء الطبيعة. وتتخلَّل هذه الأقوال المختصَرة في بعض الجمل المنتقاة بعناية ردود فعلٍ لسوندرز؛ عملًا بمقتضيات الحرفة. وتقدَّم لنا ردود الفعل هذه في لقطاتٍ نصف جامعة تضمُّ أيضًا سميث، وتُشعرنا بأنها بدأتْ تتخلَّى شيئًا فشيئًا عن غطرستها. لقد تأثرت بما يقول وراحت ترفع عينَيها لتخفضهما في الحال. غيرَ أنَّ سميث وكابرا هما اللذان يحسَّان ذلك معنا في آنٍ واحد. وبعبارةٍ أوضح، فإنهما يشعران، حسب سلوك الشابة، أنها أضحتْ مهيَّأةً للَّقطة الكبيرة وغدتْ مستعدَّة للتخلِّي عن وضعها كموظَّفةٍ فاقدة الإيمان وصلفة من أهل الشرق، ولتسليم رأسها لِلَقطة رد الفعل الحاسمة. وعندئذٍ يصبح سميث مسيطِرًا تمامًا على الموقف؛ فهو نصفُ جالس على حافة مكتبه في وضع مريح تمامًا، في مواجهة جمهور المتفرجين في قاعة العرض ونظره متَّجه من أعلى إلى سوندرز التي انتقلت مؤقتًا خارج المجال (تمهيدًا لعودتها بقوة بعد لحظةٍ لتشغل مجالها). ويستعيد سميث ذكريات فضائل الحياة الريفية التي مجَّدها جفرسون العظيم، ثالث رؤساء الولايات المتحدة، وسَمِي بطلنا، ويتغنَّى بحياة البرية. وهو يذكر التأثير الذي مارسه والده عليه لكي يؤكِّد انتسابه إلى ذلك الرئيس الشهير، ويذكِّر في الوقت نفسه محدِّثته والمتفرِّجين من خلال كلماته بشبابهم ومُثُلهم العليا، فيردد ما كان يقوله له والده: «عليك أن تتأثَّر بروائع الطبيعة وبجَمال الأشجار والصخور والنجوم … وهل لاحظتَ يا ابني أنَّ النهار يعقب الليل، كما لو كان يخرج من نفق؟» وعندئذٍ تحتلُّ اللقطة الكبيرة لسوندرز المجالَ بأَسْره، وبالضبط في اللحظة التي ينطق فيها سميث بالمقطع الأخير من الجملة، حتى إننا نسمع تلك الكلمات، من خارج المجال، بنفس الاهتمام والخشوع، شأننا في ذلك شأن سوندرز (على الأقل بالنسبة للمتفرِّج في ذلك العهد). وهو ينطق تلك الجملة برقَّةٍ شديدة، وبما يشبه الهمس، بينما تصحبها في خلفيةِ المشهد موسيقى مناسبة، وذلك أثناء المزج التدريجي للصورتَين المذكورتَين أنفًا، ممَّا ساهم في دفع الصورة المكبَّرة نحونا.

ويتعيَّن أن نفكِّر في تلك اللقطة الكبيرة لسوندرز؛ لأنها هي التي تحدِّد مسار الفيلم. وأودُّ أن أقول بلا مبالغة إنها حجر الأساس الذي يرتكز عليه فيلم السيد سميث في واشنطن. إنها اللقطة الثامنة والأربعون في هذا المشهد المتضمِّن ستًا وتسعين لقطةً؛ فهي تحتلُّ إذن مركز المشهد بالضبط، كما أنَّها أكبر وألمع لقطةٍ قدَّمها لنا كابرا لوجه جين آرثر (وهي تبدو لنا بعد نصف قرنٍ من إنتاج الفيلم مضيئةً إلى حدِّ إثارة ابتسامةِ طلَبةِ معاهد السينما. ويثبت ذلك أنَّ كابرا الذي برع في توقيت لقطات رد الفعل الشعبية، لم يصمد دائمًا أمام مروز الزمن). ولا يتَّجه وجه سوندرز هنا نحو سميث، بل نحو النافذة على يسار الكادر. وهو متَّجه من فوق كتف سميث نحو قبَّة الكابيتول التي لا تزال خارج المجال. ونظرتها تلمع من فرط التأثُّر وتنساب من حافة عينها اليسرى دمعةٌ حارَّة. ويحظى وجه سوندرز بنفس الإضاءة التي استُخدمت قبل ذلك ببضع لقطات في عزل صورة القبة؛ ممَّا يوضِّح لنا أنَّ الشابة تبنَّت حرفيًّا ما قاله سميث بخصوص رُوح مشروعه.

لقد قامت تلك اللقطة الكبيرة بدورٍ مهمٍّ في جذب المتفرج، حتى إن كابرا استخدمها مرةً أخرى لتكثيف أداء سوندرز في نهاية الفيلم، بترتيب المونتاج بشكلٍ آخَر وتعديل الجملة المصاحِبة لها. ونرى سميث من جديد في نفس وضعه السابق، مواصِلًا خطابه: «وكما قال لي أبي عليكِ أن تحاولي دائمًا النظرَ إلى الحياة من حولك كما لو كنتِ تخرجين من نفق.» وعندئذٍ يظهر وجه سوندرز من جديدٍ — دون مصاحَبة الكلمات هذه المرة — وهي تنظر إلى نفس النقطة في الأفق، وتبتسم في آخِر اللقطة وتخفض رأسها علامةً على الموافقة. وهذه اللقطة الكبيرة المتكرِّرة لسوندرز تؤكِّد تأثير الكلمات التي كانت مبررًا لوجودها (أي وجود اللقطة): الوجه الذي يستمع للكلمات أولًا، ثم انعكاس تلك الكلمات على الوجه. ويسجل ذلك النجاح الكبير الذي حقَّقه جفرسون سميث. لقد تبلور في شخصه الانتصار النهائي على تنظيم تايلور الأخطبوطي. كما أصبح ارتباط المتفرجين بالشاشة مضمونًا من خلاله. لقد اهتدتْ بالمعنى الحرفي للكلمة، وتغيَّر وضعها وستضع نفسها من الآن فصاعدًا في خدمة البطل بوصفها مخلوقًا طيبًا ومخلصًا يحتلُّ مركزه الأدنى حسب المعايير الهوليودية. وستتقلَّص بالتالي لقطاتها الكبيرة كما ستصبح طبيعيةً ومتناسبة مع وضعها الجديد وستنتشر في كلِّ مشاهد الفيلم حتى آخِرها، لكي تظلَّ سندًا للمتفرِّجين وتحافظ على توجُّه نظراتهم طوال الرواية. وستتواجد باستمرار لكي توفِّر لنا ردودَ الفعل إزاء بطلنا أثناء إلقائه الخطابَ الذي يعرض فيه مشروعه على مجلس الشيوخ. فهي تشجعه بإيماءاتها وتتألم معه عندما يتعثر في نَص خطابه ويتلعثم، وتبتسم مع أعضاء المجلس والجمهور إزاء تخبُّطه. وستظلُّ في مركز ردود الفعل الإيجابية نحو سميث، بل ستكون مصدرها في العديد من الحالات، طوال ذلك الخطاب المسهِب في جلسة المجلس. وستقدم للبطل كلَّ مساعدةٍ تلزمه ليتغلبَ على معارضة أعضاء المجلس. بيْدَ أنَّها ستتواجد بالأخص بجوار سميث عندما سيقرِّر التخلي عن النضال والعودة إلى مدينته الصغيرة في الغرب بعد أن تلحق به الهزيمة وتنهار سمعته من جرَّاء الضربات التي تلقَّاها من جانب عصابة تايلور. وعندئذٍ ستُلقي عليه الخطاب الكلاسيكي شأنها في ذلك شأن أدريان مع روكي، وجارليك مع كروناور. وستعمل سوندرز على إنهاض سميث من كبوته بالتواطؤ مع الجمهور من أجل تحقيق التحول الحاسم الذي لا غنى عنه في الفيلم الشعبي الهوليودي. وستحيي من جديد شُعلته وتعيده إلى حلبة التحدي، وستساند ردود فعله في المعركة وفي انتصاره النهائي وسط تصفيق أعضاء مجلس الشيوخ والأمَّة جمعاء.

وكان يتعيَّن أن يأسر سميث سكرتيرته، ويدفعها إلى إهدائه لقطة ردِّ الفعل الكبيرة التي لا غنى له عنها من أجل نشاطاته في المستقبل. كما أنَّ تواجد سوندرز كان ضروريًّا لسميث لكي يضمن مساندة أعضاء مجلس الشيوخ والناس عمومًا. وتقضي استراتيجية كابرا بكسب الجماهير تدريجيًّا، وتلك هي الطريقة التي يتبعها للحصول على تأييد الأغلبية الصامتة المتواجدة في قاعات العرض. ويجب أن نلاحظ أنَّ أفلام كابرا قدَّمت منذ عام ١٩٣٤م، وحتى نهاية العقد، الحلولَ لمشاكل الساعة، وهي حلولٌ تبتغي الترسُّب في اللاوعي الشعبي الأمريكي. والواقع أنَّ تلك المشاكل كانت جوهريةً في ظِل «العهد الجديد» الذي دعا إليه روزفلت لتجاوز إحدى أخطر الأزمات التي واجهها تاريخ الولايات المتحدة. وكان هدف هذه السياسة الجديدة حلَّ النزاع الذي بدا مستعصيًا في رأي العديد من الناس، من جهة بين العمَّال الذين حلَّ بهم الفقر ووجدوا قُواهم في نقاباتٍ واسعة النفوذ، وذات توجُّهات اشتراكية تحظى بمساندةٍ حماسية من جانب آلافٍ من المثقفين اليساريين. ومن جهةٍ أخرى، الاحتكارات الأمريكية التي ما كان بوُسع الحكومة أن تتخلَّى عنها دون أن تقضي على وجودها هي. وكانت الأوضاع تُنذر بالانفجار؛ نظرًا لكونها مهيَّأة تمامًا لقيام ثورةٍ طبَقيَّة، كما لاحظ ذلك العديد من المراقِبين.

أمَّا ما راح يدعو إليه كابرا، كما هو واضح في فيلم السيد سميث في واشنطن، فهو بسيطٌ وشعبوي، وبالتالي شعبي للغاية؛ إنها الحكمة الفريدة «أحب جارك» التي تحتلُّ مركز الصدارة بالنسبة للفردية المثالية الأمريكية. فالبطل المنبثِق من وسط جموع الشعب مدرجٌ دائمًا في بنية الفيلم عند كابرا بين المؤسسات وطبقات الشعب الدنيا، وهو المغلوب على أمره والطيب القلب الذي يُلحق الهزيمة بالأشرار بفضل إيمانه الراسخ وتضحياته، ويصلح السُّلطة التي جانبها الصواب مؤقتًا، ويعيد الحرية والأمل للشعب. ويمكن تلخيص كلِّ سينما كابرا بنهاية فيلم متروبوليس لثيا فون هاربو وفريتز لانج، البطل الشعبي الشهم والكريم الذي يوفِّق بين عقل السلطة وسواعد العاملين.

ولا يمكن أن يعثر المرء على سينما أشدَّ مُناهَضةً أيديولوجيًّا للفكر الثوري، وأشدَّ تعارُضًا مع صيغة آيزنشتاين من سينما كابرا. غير أنَّ أيَّ محلِّل لبعض مشاهد من أفلام كابرا بدءًا من عام ١٩٣٤م، سيلاحظ بكلِّ يُسر تأثيرَ آيزنشتاين، وستتكشَّف له رُوح الدعاية الرأسمالية لدى هذا المخرِج الأمريكي بوصفه نقيض الاستراتيجية الاشتراكية للمخرِج الروسي الكبير.

وفي رأيي، إن فيلم مستر ديدز الشاذ الذي أعتبره، على غرار جراهام جرين وكذلك الأكاديمية الهوليودية للسينما، أحسنَ فيلمٍ أخرجه كابرا؛ هو في الواقع أوضحُ نقيضٍ أيديولوجي وتقني لآيزنشتاين. وأقترح التعرُّض كالمعتاد لتفاصيل مشهدٍ من فيلم مستر ديدز الشاذ، يعبِّر عن الطابع العام للفيلم، ويقدِّم نموذجًا لأسلوب كابرا في المونتاج.

ولنذكرْ أولًا الخطوط العامة لقصة الفيلم. فلنونجفيلو ديدز (جاري كوبر)، شاب نقيٌّ وساذج، يعيش في قريةٍ صغيرة في غرب الولايات المتحدة، اسمها ماندريك فولز، ويقضي حياته كالبوهيميين. وهو يرث مبلغ عشرين مليون دولار على أثر وفاة عمٍّ عجوز؛ فينتقل إلى نيويورك ليُقيم في قصرٍ صغير للفقيد جدير بالأمراء. وبعد عدَّة أسابيع يقضيها بلا عمل في الأوساط الثريَّة والمتعفِّنة في المدينة، يقع في حُب صحفية شابة (جين آرثر) التي تستغلُّ سذاجته في أول الأمر لصالح الصحيفة التي تعمل بها، ثم تتَّخذ رويدًا رويدًا موقفًا إيجابيًّا إزاء تعلُّقه بها. ويقرِّر ديدز توزيع كلِّ ثروته على المزارِعين المُعوِزين العاطلين عن العمل. وعليه، يوجَّه إليه الاتهام بالجنون، ويساق أمام المحكمة حيث يظلُّ صامتًا لمدةٍ طويلة كأنَّ مصيره لا يهمُّه، ثم يتكلَّم في نهاية المطاف؛ لينفي عن نفسه التهمة. وهو ينتصر في النهاية، حيث يحمله الجمهور على الأكتاف … وتقبِّله الشابة التي يحبُّها.

ويشعرنا الجزء الأخير من الفيلم المخصَّص لمحاكمة ديدز، بمدى تأثير آيزنشتاين؛ إذ يستخدم كابرا كلَّ إمكاناته لدفع المتفرج إلى التطلع إلى دفاع البطل عن نفسه. وهكذا تنهض الصحفية الشابة، وهي أقرب شخصيةٍ لديدز وخير متحدِّثة بلساننا — نحن المتفرجين — لتحاول جاهدة إقناعَ البطل بأن يتكلَّم ويُثبت براءته في خطابٍ مؤثِّر. وتلي ذلك تسع عشرة لقطةً لأفرادٍ وجماهيرَ يتأثرون بكلماتِ الشابة ويساندون جهودها؛ لحثِّ المتهم على التخلِّي عن صمته. وقد توالت تلك اللقطات في مونتاجٍ يخضع لإيقاعٍ متميِّز ومتصاعد، يضارع (من وجهة النظر هذه) مَشاهد معيَّنة في فيلم البارجة بوتمكين، حيث تُلاحق اللقطاتُ البطلَ وتتعقَّبه حتى يقِفَ على قدمَيه، وكأنه الأسد على درج أودسا. فهذه اللقطات تتتابع بدءًا بالأفراد القريبين من ديدز لتزحف مثل الموجة حتى تصل إلى جمهور الفقراء في قاعة المحكمة وتنعكس في نهاية الأمر على البطل. ولنفحصْ ذلك عن قُرب؛ فهذه اللقطات (بعضها حتى الصدر، وبعضها الآخر كبيرة، وهي تخصُّ ديدز وأربعة أفراد من الجمهور، ولقطات جامعة للجمهور) موزَّعة وفقًا للتعاقب والسلوك التاليين:
مدير الصحيفة، رئيس البطلة (ينهض ويتكلم).
القاضي (يأمر بالْتزام الصمت).
مدير الصحيفة (يواصل الكلام).
ديدز (جالس).
حارس ديدز (ينهض ويتكلم).
القاضي (يأمر بالالتزام بالصمت).
حارس ديدز (يواصل الكلام).
مزارع في القاعة (ينهض ويتكلم).
مزارع ثانٍ (يدفع إلى الوقوف، ويتكلم).
مزارع ثالث (يدفع إلى الوقوف، ويتكلم).
مزارع رابع (ينهض ويتكلم).
ديدز (جالس).
الجمهور (يقوم على دفعات، ويتظاهر).
ديدز (جالس).
القاضي (يحاول عبثًا فرضَ السكوت).
الجمهور (يقوم، ويتظاهر بمزيدٍ من الصخب).
ديدز (جالس).
الجمهور (هائج).
ديدز (ينهض ويتكلم).

وأودُّ أن أُشير إلى ثلاث سماتٍ تتعلَّق بمضمون هذه اللقطات ومونتاجها، فهي تستغرق وقتًا أقصر فأقصر مع تتابُعها، وتحمل إلينا تعليقاتٍ أكثر فأكثر إيجازًا، كما أنَّ المتحدِّثين القريبين من ديدز هم الذين يتكلمون في البداية. وهم الوحيدون، فيما عدا القاضي المتمتِّع بوضع خاص، الذين يضاعفون تدخُّلهم (لقطتان لمدير الصحيفة ولقطتان للحارس. أمَّا البطلة التي أطلقت العِنان للمشهد، فقد ظهرتْ في ثلاثَ عشْرة من تلك اللقطات). ومن جهةٍ أخرى، فإن المتحدِّثين البعيدين عن موقع ديدز هم آخِر مَن يتدخلون، أي جمهور المزارِعين، وهم يعاودون تدخُّلهم، شأنهم شأن الأشخاص القريبين منه. وأخيرًا، تتخلَّل ردود فِعل كلٍّ من الطرفَين أربعُ لقطاتٍ لأفرادٍ مختلفين من بين جمهور المزارِعين في قاعة المحكمة، يوجِّه كلٌّ منهم بلهجته الخاصة نفسَ النداء الحار: «تكلَّمْ يا مستر ديدز.» وتكون مدة تلك اللقطات أقصر فأقصر، كما يتزايد حجمها، حتى إنَّ الأخيرة من بينها لقطةٌ كبيرة لوجهِ أحدهم تُعادل في حجمها اللقطةَ الكبيرة لديدز التالية لها وهو جالس. وسلسلة اللقطات الأربع مركَّبة بعناية: فاللقطتان الثانية والثالثة اللَّتان يظهر في كلِّ واحدة منهما مُزارع واقف، محاطتان باللَّقطتَين الأولى والرابعة؛ حيث ينهض في كلٍّ منهما مُزارع. حتى إن حركة المزارِع الأول من أسفلَ إلى أعلى، تواصِل حركةَ الحارس الذي سبقه، بينما نفس هذه الحركة من جانب المزارِع الأخير في لقطةٍ كبيرة تؤكِّد التباين الشديد مع لقطة ديدز الجالس، خاصَّة مع نهوض الجمهور.

ما معنى ذلك؟ إنه يعني أنَّ كلَّ شيء قد تمَّ ترتيبه بحيث يعبِّر الشعب، كرجلٍ واحد، عن حاجته التي لا تقاوَم إلى البطل الفرد. بل إنَّ هذه اللقطات التسع عشرة الخاصة بقاعة المحكمة، والتي تدفع ديدز في آخِر المطاف للنهوض والتحدُّث؛ قد تم تحديد موقعِ كلٍّ منها بالنسبة للَّقطات الأخرى، من أجل هدفٍ واحد، ألَا وهو خَلْق الرغبة لدى مُشاهِدي الفيلم في أن يحقِّق البطلُ ما يطالبه به الجمهور (ولْنلاحظ أنَّ هذا الفيلم تمَّ إخراجه بعد سنتَين من ظُهور فيلم انتصار الإرادة، الذي أشرف عليه جوبلز وقال آنذاك: «علينا أن نصنع أفلامَ بوتمكين الخاصة بنا.») ومن الواضح أنَّ خبرة كابرا السينمائية مالت، من فيلمٍ إلى آخَر، إلى ربط المتفرِّج بالشاشة على نحوٍ أفضل فأفضل. ويتَّضح من جهةٍ أخرى، أنَّ استخدام الجماهير، بدءًا بفيلم حدث ذات ليلة (١٩٣٤م) يؤدِّي دورًا وظيفيًّا متزايدَ الأهمية في مونتاجِ كابرا، وكأنه أدرك أنَّ هناك صلات عجيبة تُعقد بين جماهير الشاشة وجمهور دار العرض. ويبدو لي أنَّ هناك علاقة منتظمة بين المشاهد النموذجية لأشهر أفلام المرحلة البطولية عند آيزنشتاين (الإضراب، الخط العام؛ حيث ترتفع هامة عامِلٍ في لقطةٍ كبيرة، تليها لقطةٌ لقبضة يدٍ متقلِّصة، وسواعدُ تمتدُّ وجمهورٌ يصيح) وبين نموذج المَشاهد التي حلَّلناها منذ قليل في مستر ديدز الشاذ، حتى إن الأمر لا يمكن أن يكون محضَ صُدفة. لقد استخدم كابرا آيزنشتاين، ولكن لكي يقلب نموذجه مثل القفَّاز، ويضعه في خدمة الرأسمالية.
وهذا الزعم جادٌّ فعلًا. ويتطلَّب منا لتوضيحه العودةَ إلى الوراء؛ لتكون لدينا فكرةٌ دقيقة إلى حدٍّ ما عن مدى تأثير البارجة بوتمكين على السينما في هوليود. فقد ظهر هذا الفيلم لأول مرة في الولايات المتحدة في سبتمبر ١٩٢٦م، وكان له وقْعُ القنبلة. وقد علَّقَت على ذلك جرائدُ ومجلات تلك الفترة — النيويورك تايمز، ونيو ريبابليك، والنيشون، والسبكتيتور — بالعبارات التالية: «شعوذةٌ سوفييتية»، «عملٌ مسموم ومدمِّر»، «الروس استولوا على السينما»، «لقد أحرزوا تقدُّمًا تقنيَّا هائلًا»، «لا حدود لما يمكن أن يصنعوا»، «بوتمكين عملٌ له قوة خارقة، والسينما عندنا تبدو باهتةً وماسخة، مصابة بالهزال ومتخلِّفة». أما ديفيد أو سلزنيك، كبير منتجي مترو-جولدوين-ماير، أشهر استوديو في العالَم؛ فقد عبَّر عن رأيه على الوجه التالي: «فيلم البارجة بوتمكين يعمل وفقًا لتقنيةٍ جديدة تمامًا، لا نزال نجهل سرَّها.» وقد وجَّه على أثر ذلك خطابًا دوريًّا إلى استوديوهات لوس أنجلوس، دعا فيه المنتِجين والمخرِجين والفنيين والممثلين إلى اجتياح دُور العرض التي تقدِّم الفيلم، و«الجلوس عند قاعدة هذا الصرح السوفييتي؛ لاكتشاف سرِّ نظام عمله».
ويتعيَّن أن نذكر بهذه المناسبة، أنه يجب أن تعتبر السينما سلاحًا ماضيًا في الكفاح من أجل كسب الجمهور. ويعلن الفيلسوف بول فيريليو بكلِّ صراحة في مؤلَّفه منطق الإدراك الذي أشرنا إليه من قبل، أن السينما التي تستخدم الكاميرا لا يمكن إلا أن تكون على علاقة بالبندقية. وهو يسترجع ما كتبه من قبل كريستيان زيمر بخصوص العلاقة القائمة بين الأداتين؛ فكلٌّ منهما تصوَّب نحو الهدف كما أنهما تستخدمان تعبيراتٍ واحدة، مثل تحديد الكادر والتسديد والتصوير to shoot. وعلى أيَّة حال، كانت هناك دائمًا حربٌ باردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي في مجال إدخال تحسينات على سلاح السينما ومواصلة التسلُّح في إخراج الأفلام. والواقع أنَّ البارجة بوتمكين، كانت بمثابة هجومٍ من جانب السوفييت لتجاوز المنتجات الاستهلاكية الهوليودية … وكان آيزنشتاين قد درَسَ على طاولة المونتاج فيلمَ المتعصِّب للمخرِج الأمريكي ديفيد جريفيث، قبل أن يعكف على إخراج فيلمه هذا الشهير. وقد كتَبَ يقول بهذا الصَّدد في مؤلَّفه تحيُّز الطبيعة إنه سعى إلى اكتشاف «كيفية التغلب على هؤلاء العمالقة الأمريكيين الكبار، في مرحلة الخطوات الأُولى المتهيِّبة للسينما عندنا». ويجدر بنا أن نشير هنا إلى أنَّ «بوبينات» فيلم التعصب، كانت بالفعل من غنائم الحرب؛ إذ تركها بعض الأمريكيين في بتروجراد (سان بترسبورج حاليًّا) وهم يتعجَّلون مغادرة روسيا على أثر اندلاع ثورة أكتوبر. وقد تدرَّب آيزنشتاين على هذا الفيلم؛ ففكَّك أجزاءه لكي يستوعب أولًا الأسلوب المتَّبع في الربط بينها، ثُم أعاد تركيبه بطريقة مختلفة. ولو أننا تمسَّكنا بأطروحة فيريليو حول سلاح السينما؛ لبدا لنا أنَّ آيزنشتاين تصرَّف آنذاك على غِرار ما أقدَمَ عليه الفييكونج أيضًا، الذين كانوا يفكِّكون الأسلحةَ الأمريكية التي كانت تقع في أيديهم ليُعيدوا تركيبها.
وخلاصة القول أنَّ فيلم البارجة بوتمكين، كان بمثابة هجومٍ مضاد، بل وانقلاب ثوري. فقد استوعب آيزنشتاين ما توصَّل إليه جريفيث، ولكنه استبدل الفرد البطل بالجماهير البطلة، وأحلَّ محلَّ الفرد الذي يلوِّح بقبضته وينقضُّ على غريمه لكي يستردَّ غنيمته أو المرأة التي يعشقها، آلاف القبضات التي ترتفع لتنقضَّ على المجتمع القديم الفاسد. وبصرف النظر عن الجانب الأيديولوجي، كان ما أقدم عليه أهمَّ وأعمق في منظور السينما. فلمْ يعُد الأمرُ يقتصر على صُور يجمع بينها التواصل، وتعكس العالَم المحيط؛ بل تحوَّل إلى صورٍ جبَّارة مجسَّمة وأقربَ إلى الأيقونات والمقدَّسات، تتفجَّر بقوةِ تأثيرها شبه السحري بمجرد عرضها على الشاشة. كما أنَّ المونتاج الجدلي التكوين، زاد من قوَّتها بتدفُّقها المنعكِس على نفوس المتفرِّجين؛ إذ كانت مهمَّة هذه الصور إعدادَ الأرض لنثر بذور الاشتراكية.
كان وقْعُ البارجة بوتمكين شديدًا، خاصة وأنَّ التوجُّس من شبح الشيوعية كان شائعًا وسطَ الأمة، ممَّا كان يسمَّى في العشرينيات «البعبع الأحمر». وقد عكفوا على دراسة الفيلم لإماطة اللِّثام عن أسراره، ثم جاءوا بفرانك كابرا الإيطالي الأصل و«الصنايعي» الذي اقتبس آيزنشتاين وأرسى دعائمه في كاليفورنيا. ولنا أن نتساءل بهذه المناسبة: إلى أيِّ حدٍّ حاوَلَ كابرا استيعابَ تقنيات زميله الشهير؟ قد عالَجَ علاقاته مع آيزنشتاين بتحفُّظ، ولم يقُل عنه إلا القليل في سيرته الذاتية الاسم أعلى العنوان. ولقد حاولتُ شخصيًّا التوسُّع في معلوماتي عن تلك العلاقة خلال لقاءٍ لي مع فرانك كابرا في عام ۱۹۸۹م في خلوته بلاكينتا، على مقربة من بالم سبرنجز بكاليفورنيا. غير أنه لم يستفِض في حديثه، واكتفى بتعليقاتٍ غامضة وساخرة عن آيزنشتاين وعن الاتجاهات الشكلية في روسيا خلال العشرينيات، على نحو ما كتب من قبل بهذا الخصوص. وقد حدَّثني بحماسٍ وإعجاب عن سلفستر ستالوني وأفلام روكي الثلاثة التي كان قد شاهَدَها، ولكنْ دون أن يكون في تعليقاته شيءٌ يلفت الأنظار. ويتعيَّن أن نقول إنَّ كابرا ليس من الشخصيات التأمُّلية أو من المنظِّرين، على نقيض آيزنشتاين. وقد قال هو نفسُه في سيرته الذاتية: «تصبح السينما عندي سيئة بمجرد أن أقدح ذهني وأفكِّر.» وعلى أيَّة حال، وكما يقول الناقد الفرنسي أندريه بازان؛ فإنَّ أقوال أيِّ فنَّان لا تزن كثيرًا بالمقارنة مع أعماله.

وعندما يتدارس المرء أفلام كابرا، يدرك أنه — بوصفه مُواطِنًا أمريكيًّا طيِّبًا وفخورًا بتراثه — قد اكتفي بكلِّ بساطة باستعادة ما الْتقطه آيزنشتاين من جريفيث. وهكذا استردت السينما الأمريكية عن طريق كابرا، ما سرقه الروس عن طريق آيزنشتاين. لقد اقتبس الأخير من جريفيث واتَّجه به في المسار الاشتراكي، واقتبس كابرا من آيزنشتاين ليستردَّ جريفيث «ويُرَأسملُه»، مستفيدًا في الوقت نفسه بقوة المونتاج الروسي، ولكنْ لكي يستخدم الكافة، أغنياء وفقراء، في لقطاتٍ جامعة لإضفاء النجومية على البطل الفرد الذي يستأثر عادةً بأغلب اللقطات الكبيرة.

أمَّا سيرجي ماكسيموفيتشي آيزنشتاين، الماركسي الثوري، فلا يؤمن بإمكانية المهادَنة بين أرباب السُّلطة والمحرومين منها. والمعركة في نظَرِه مُميتة بين المسيطِرين والمقهورين، وبين المُهيمِنين المتشبثين بقمَّة السُّلطة والمُنزوين في حضيض المجتمع. فلا مجال هنا إذن للإحلال التدريجي لِلَقطةٍ محلَّ لقطةٍ أخرى، أو للانسياب من المجال إلى المجال المقابِل ومن المُشاهِد والمُشاهَد. وسينما آيزنشتاين خاليةٌ من لقطات ردِّ الفعل. واللقطات عنده مستقلةٌ ذاتيًّا وغير قابلة للاختزال، وذلك بالأخص لكي تتلاطم وتنتج «الصدمة القاتلة الناجمة عن التناقضات». وهذا الصِّدام مميتٌ فِعلًا؛ لأنَّ المعسكرَين الغريمَين (اللقطات أيضًا) تفصل بينهما مسافاتٌ شاسعة؛ ممَّا يزودهما باندفاعةً عارمة، ويعجِّل سرعتهما عندما ينقضُّ كلٌّ منهما على الآخَر، ولا بد من ذلك لكي ينبثق من ساحة المعركة التي يسقط فيها الخصوم ذلك «الإنسان الجديد»، الذي سيكتب بنفسه تاريخَه القادم. وهكذا يمكننا أن نتفهَّم بقدْرٍ أكبر الصدمة التي أحدثها فيلم البارجة بوتمكين في عالَم السينما الأمريكية، وأن ندرك مدى الحاجة الماسَّة آنذاك لتعظيم شأن الخصائص المميِّزة لهوليود.

لقد نقَلَنا المخرِج الأمريكي الرأسمالي، ونَصير التطورية، إلى عالَمٍ آخَر، عالم تتوفَّر لدى كافة عناصره ذرَّاتٌ متماسِكة وحروفُ وصل. ويتطور فيه كلُّ شيء وينتقل من الدافع إلى النتيجة خطوةً خطوة ورُويدًا رُويدًا، ولا تحظى فيه الصراعات الطبقية بالاعتراف بها، إلا ليتمَّ التغلب عليها بعصًا سحرية وبمعجزة المجال القريب للغاية من المجال المقابِل الرد فعلي، حتى إن أحدًا لا يفطن إلى ذلك الانفصام. وفي هذا العالم يتعيَّن بالضرورة أن تتجاور لقطات القوى المتنازعة؛ لأن مآلها في نهاية المطاف هو الالتقاء معًا في وحدةٍ واحدة؛ لكون الخصام سطحيًّا وناجمًا عن حدث عارض أجَّجه للأسف سببٌ قهري أو أشخاص فاسدون، ولن يحتاج الأمر إلا إلى مجيء البطل المنزل لكي يسود من جديد السلام والصفاء.

وعلى نقيض ذلك تتصدَّى اللقطات الفردية لبعضها عند آيزنشتاين ﺑ «عواطفها المشبوبة» وبتوجُّهها «خارج نطاق الفرد»، كما شرح ذلك جيدًا آمنجا. فاللقطة «الخارجة عن نطاق الفرد» تتعلَّق بالجماهير الثائرة والمندفِعة نحو التحوُّل إلى دولة الاشتراكية. فكلُّ شيء على وجه الإطلاق يتحرك «خارج نطاق الفرد»؛ لأن لقطات الأفراد هنا تمهِّد لبناء لقطة المستقبل العظيم.

ولكن اللحظات الحاسمة في أفلام كابرا، تسجل حقًّا «تصاعُد» المَشاهد من اللقطات الكبيرة للأفراد إلى اللقطات الجامعة للجمهور، على غرار ما تم تحليله في الفقرة السابقة. وهذا الصعود التدريجي للجموع يعود بالذات عند كابرا إلى آيزنشتاين، وهذه الجموع تحيي من جديد حركة الديمقراطية الأمريكية للأمام التي تمثِّلها أفلام هوليود على خير وجه. غيرَ أنَّ تلك اللقطات الجماعية تنحسر لتصبَّ لا محالةَ في البطل الفرد؛ لكي يصبح نجمًا يضطلع بدورٍ عظيم.

وممَّا يدعو للسخرية حقًّا أنَّ الروس سارعوا باسترداد كابرا؛ تمشيًا مع مقتضيات الحرب الباردة، فبينما كان آيزنشتاين مستغرقًا بكلِّ جوارحه في إعداد فيلمه الشاعري مرج برسجين (١٩٣٦م)، الذي لم يسمح له النظام السوفييتي باستكماله، كانت أفلام كابرا تدرَّس في معهد السينما بموسكو، كما قال كابرا ذاته في سيرته الذاتية. وفي عام ١٩٣٤م بعد عودة آيزنشتاين إلى بلده، ظهَرَ على الشاشات السوفييتية فيلم تشاباييف للإخوة فاسيلييف، وهو فيلمٌ عن الحرب الأهلية التي اندلعت بعد ثورة أكتوبر، فكان إيذانًا بالقضاء على الحركة الخلَّاقة التي تزعَّمها الطليعيون. وممَّا له مغزاه، أن تشاباييف كان أول فيلم تتفضَّل جريدة البرافدا بتحليله، كما أنه حقَّق أرقامًا قياسية بشعبيته. وكان هذا الفيلم بمثابة شجبٍ صريح وعلني لسينما آيزنشتاين، التي تجعل الفرد في اللقطة الكبيرة الفردية في خدمة الجموع (فاللقطة الجامعة لا تزال على مسافةٍ شاسعة من اللقطة الفردية، وبعيدة بالتالي عن ردِّ فِعل الأخيرة). أمَّا تشاباييف فهو تجسيدٌ جليٌّ لعبادة الفرد والبطل، الفرد المتواجد على مقربةٍ من مُمجِّديه ومن الشعب بأَسْره؛ إنه البطل الذي يعمل بالطبع لصالح الجموع، ولكنه واضح المعالم تمامًا على طريقة ستانسلافسكي وستراسبرج، فهو ملموس يتعرف عليه كلُّ الناس ويعمل من أجل مجتمعٍ محدَّد هو أيضًا، ومن السهل التعرف عليه أنه البطل الفرد والنجم الذي غدا «واقعيًّا» اشتراكيًّا، ولم يعُد «أمميًّا»، بل أعيد إلى موطنه الأصلي، داخل الحدود المرسومة له. ويتمشَّى هذا الفيلم تمامًا مع الخط الستاليني للحزب، فهو يعيد العلاقات إلى مكانها الطبيعي، أي إلى المجال الذي يراقبه مجاله المقابِل عن كثب. ولكنه يستخدم فضلًا عن ذلك، لقطةَ رد الفعل بأقصى مدى، حتى إن هذا الأسلوب الأمريكي الصرف الذي بلغ حدَّ التكلُّف، أصبح القاعدةَ التي قرَّرتْها الدوائر العليا في الدولة السوفييتية؛ فالبطل القومي تشاباييف المندفِع نحو الانتصار المحتوم للروس الحُمر على الرجعيِّين البِيض، يكون مصحوبًا دائمًا بالمدعوِّ فورمانوف، قوميسار الشعب الموفَد من قِبَل الحزب الذي يستبسل في تتبُّع خطوات البطل، وذلك في تواصُلٍ وقُرب ملحوظَين. فهو يراقب ويقيم ويصحِّح ويعتمد ويكثِّف بسلوكه المتفاعِل باستمرار أقوالَ النجم وتصرُّفاته ويصفِّق لذِكر مآثره. ففورمانوف هو لقطةُ رد الفعل الرسمية، وخاتم الدولة الذي يصدِّق على البصمة الروسية لتصرفات البطل الفردية والشعبوية.

وفيلم تشاباييف هو في الواقع عبارةٌ عن إضفاء الصبغة السوفييتية على سينما كابرا الشعبوية على الطريقة الستالينية. وأذكِّر بهذه المناسبة أنَّ هذا الفيلم عُرِض في دُور السينما السوفييتية في نفس السنة التي تمَّ فيها عَرض إرادة الانتصار الجرماني. وعندما زار كابرا موسكو في عام ۱۹۳۷م استُقبل استقبالَ الفاتحين، لا من جانب الأوساط السينمائية فحسب، ولكنْ أيضًا من جانب الجمهور السوفييتي المعجَب بأفلامه. ويشير فرانك كابرا في سيرته الذاتية بلذةٍ تكاد لا تخفى، إلى أنه صادَفَ مصاعبَ في الالتقاء بآيزنشتاين «للتعبير عن تقديره لأحد أكبر السينمائيين في العالَم». وقد أوضَحَ أنه لم يتمكَّن من مقابلته إلا بعد العديد من الاتصالات التليفونية التي بدا منها أنَّ آيزنشتاين كان مراقَبًا من جانب النظام، وأن اللقاء معه تمَّ «حول مِنضدةٍ متهالِكة في مقهًى جيورجي بائس بحيٍّ بائس في موسكو»، وأنَّ الكلمات القليلة التي نطق بها «آيزنشتاين العظيم» في عاميَّةٍ أمريكية رديئة، كان يفهم منها أنه يعيش في «حظيرة كلب».

وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ المشاهد الأخيرة من فيلم روكي ٤ (١٩٨٥م)، غمرتْ فرانك كابرا بالنشوة، وحققتْ ما كان يصبو إليه. وإذا كان المونتاج المتوازي الذي سبق أن تكلمتُ عنه من قبل، بين تدرُّب روكي في الهواء الطلق وتدرُّب دراجو المفرِط في ميكانيكيَّته، قد استعاد مونتاجَ الملاهي وأضفى عليه الطابعَ الأمريكي؛ فالمعركة الختامية بين الخصمَين في حلبةِ المُلاكَمة الرسمية أمام شعب موسكو، التي انتهت بتغلُّب الأمريكي على الروسي، تبدو كأنها انتصارُ نظام الولايات المتحدة السينمائي في عُقر دار روسيا الاشتراكية ذاتها. لقد استرد البطل روكي قواه على غِرار جفرسون سميث. غير أنه لا يذهب إلى واشنطن، ولكنْ إلى موسكو. وسيخوض المعركة، فيعاني من ضربات العدو الشيوعي دراجو، ويُطرح أرضًا ثم ينهض مرةً، ويسقط مرةً أخرى لينهض من جديد. ولكنه محاطٌ … باستمرار في الحلبة بالمتكفِّلين بإبراز مواهبه: زوجته أدريان، ومدرِّبه الزنجي ديوك، وشقيق زوجته بولي. وشيئًا فشيئًا يتحوَّل الجمهور الروسي المناهِض له، بالتدريج لقطةً بعد لقطة إلى صفِّه، فتصبح ردود فِعله إيجابية شيئًا فشيئًا إزاء البطل الأمريكي، في مجموعات منعزلة في البداية، ثم في كُتلٍ متراصَّة، وأخيرًا في لقطةٍ جامعة كبيرة تصاحِب انتصارَه النهائي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤