الفصل الثاني

بلوغ «النجومية» من خلال لقطة رد الفعل

من الواضح، كما يبدو لي، أنَّ جوني كارسون قد تفهَّم بعمقٍ أن تخصُّصه في ردود أفعال الآخَرين يمكِّنه من التحرُّك على نحوٍ أفضل، ومن مواصلةِ الظهور على المسرح، وجعْلِ أدائه حاسمًا. لقد استوعب القاعدة التي يوصي بها المخرِجون الممثِّلين منذ بودوفكين، ألَا وهي «أنَّ التمثيل (أمام الكاميرا) يتمثَّل في الاستجابة لمؤثرات».

غير أنَّ ردَّ الفعل هذا، إزاء الآخرين، قد ينحرف عن توجُّهه الأصلي، حتى إنه يدور حول نفسه ومن أجْل ذاته. وقد باح مايكل كين منذ مدَّة ببعضِ الأسرار المتعلِّقة بأداءِ الممثِّل أمام الكاميرا، فقال بهذا الصَّدد: «عندما كنتُ حديثَ العهد بالتمثيل، قال لي المنتِج ذات يومٍ: هناك يا كين شيءٌ تؤدِّيه أفضلَ من بقيَّة الممثِّلين؛ أنت تُصغي. وهذا ما سيجعلك تنجح خاصة إذا اشتغلت بالسينما. وقد توصَّلتُ بالفعل إلى ما هو أفضل من الإنصات، إذ تعلَّمت أن أسمع. وهذا ما أفلَحَ فيه سبنسر تراس ومارلون براندو؛ ففي مشهد من عمَّال الميناء، حيث يلهو براندو بقفَّاز إيفا ماريا سانت، يتجسد كلُّ ما تقوله على قَسَمات وجهه كاللقطات الخاطفة. وعندما عُرض على التمثيل في فيلم تربية ريتا؛ قال لي الجميع: لا يمكنك أن تقبل ذلك، إنه دور لفتاة. ولكنني كنتُ أعلم أنَّ ذلك غيرَ صحيح، كنتُ أعلم أنَّ دوري هو ردود فِعل رجلٍ إزاءَ تلك القوة، تلك الفتاة اللندنية، وأنَّ ذلك هو المهم، وكنتُ مصيبًا.»
وقد كان محقًّا بالفعل. فقد استخدم لويس جيلبرت مُخرِج تربية ريتا (۱۹۸۳م)، استخدم بانتظام تكنيكًا للاستفادة من ردود كين إزاء جولي والترز، الممثلة «الرئيسية». كان تمثيلُ مايكل كين ردًّا على سلوك ريتا بارعًا حقًّا؛ فهو عظيمٌ وغامض في آنٍ واحد. وتعيَّن على الكاميرا أن تتمهَّل إزاءَ ردود فِعل هذا الممثِّل «الثانوي»؛ حتى تُتيح لها الوقتَ لكي تتَّضح ويتمكَّن المشاهِدون من متابَعتها. وهكذا تحوَّلت تدريجيًّا لقطات ردود الفعل التي تصوِّر لنا ردود فِعل كين، تحولت من مشهدٍ لمشهد إلى الإطار المفضَّل والمرجع الذي تتمُّ من خلاله النظرة لريتا، بينما تجري الأحداث.
لم نر حتى الآن شيئًا لم يتمَّ العمل به في برنامج الليلة، الذي يقدِّمه كارسون؛ بَيْد أنَّ شيئًا جديدًا سيحدث في الجزء الثاني من تدريب ريتا، فقد تعاظمت ردود فِعل كين حتى وصلت إلى حدِّ الاستئثار بالمجال بأكمله واستبعاد ريتا، مع أنَّ مهمَّة ردود فِعله في الأصل هي خدمتها. لقد تحوَّل كين إلى شخصيةٍ تطغى على الشاشة وتستشهد بجمهور المشاهِدين.

والواقع أنَّ كين يعبِّر تمامًا عن العبارة الحديثة ﻟ «الاستعراض الفردي» (لرجلٍ أو امرأة)، باستخدام قدرته على الإنصات؛ لكي تعظُم ردود فِعله من حضوره، حتى إن الكاميرات والمشاهِدين يُدفعون دفعًا إلى عدم رؤية أحدٍ غيره في نطاق الشاشة.

على أنَّ كين يستغلُّ إلى أقصى حدٍّ إحدى ميزات الاستراتيجية السينمائية، حتى إنه يستنفدها؛ بل ويفسدها، في رأيي، وأقصد بذلك حاجةَ المُشاهِد التي لا تُقهر إلى تكشُّف ما يدور خارجَ مجال الشاشة؛ فالأمر الذي يستهوي مشاهِدي الأفلام منذ ثمانين سنة، هو توقُّعهم وهُمْ في ظَلامِ القاعة ما سيكشف عنه المجالُ الخارجي من واقعٍ خيالي لم يظهر بعدُ، وإنْ كان على مقربة عند الحواف المظلِمة للشاشة المضيئة، علمًا بأنه قادم ليستبعد ما هو قائم. وممَّا يزيد من تأثير ذلك الإغراء أنَّ المتفرِّج يعلم في قرارة نفسه أنَّ رد الفعل المنتظَر، الذي سيبرز بعد لحظاتٍ من الظلام ليُضيء الشاشة، هو نفس رد الفعل الذي تخيَّل قسماته. والواقع أنَّ ميتز محقٌّ تمامًا في قوله إنَّ «المجال الخارجي للشاشة هو المكان الخاص بالمتفرِّج»؛ ذلك أنَّه يحلم بردود فِعل الأشخاص في ظَلام المجال الخارجي. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ المجال الخارجي هو المكان الذي تُصنع فيه لقطاتُ ردِّ الفعل.

ولقد أدرك ذلك تمامًا كبارُ المُخرِجين الكلاسيكيين، أصحاب الأفلام الشعبية المُبهِرة، وعلى رأسهم فرانك كابرا وألفريد هيتشكوك، ولذا لم يظهرا على الشاشة إلا في اللقطات التي توقَّعها المشاهِدون من قبل. وعندما كان كابرا وهيتشكوك يراجعان مَشاهِد أفلامهما، كان اهتمام كلٍّ منهما منصبًّا على مشاهدة جمهور قاعة السينما والإنصات إليه، لا على مراقبة الصورة والصوت على الشاشة.

وقد اعتاد كابرا على تسجيل مختلف الأصوات والضوضاء الصادرة عن قاعة السينما التي تُعرض فيها نسخةُ عمل الفيلم على عيِّنات من المتفرِّجين. وكان يستخدم شريط التسجيل، الشاهد على ردود الفعل الصوتية، لمراجعة المونتاج واختصار أو إلغاء المقاطع المواكِبة لأي ضوضاء غير مألوفة في القاعة، وإطالة تلك التي تحظى بالقبول المسموح أو الصمت المعبِّر عن الاحترام. والواقع أنَّ كابرا كان يختبر بذلك فعالية لقطات ردود الفِعل، من خلال تسجيل الانعكاسات الصوتية الصادرة عن القاعة، مؤكِّدا بذلك صحة وعمق حدس كريستيان ميتز. وقد أصبح ما كان يلجأ إليه كابرا في الثلاثينيات، بواسطة إمكانات محدودة، أصبح مؤسَّسة مُتقَنة تتمثَّل فيما يسمَّى اليوم «العروض الرائدة»، وهي عروض خاصة يُطلب فيها من المُشاهِد تسجيلُ انطباعاته حول ما يدور على الشاشة، أثناء عرض الفيلم، وذلك بالضغط على الزر المناسِب بجهازٍ إلكتروني: «جيد جدًّا»، «جيد»، «مقبول»، «سيئ»، «سيئ جدًّا»، «باطل».

أمَّا هيتشكوك فقد اعترف بأنَّ ما كان يفضِّله دائمًا هو الجلوس في قاعة سينما تعرض أحدَ أفلامه لملاحظة ردود فِعل المتفرِّجين. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّه كان يريد التأكُّد من مدى مصداقية شخصيات أفلامه، بل إنه كان يتتبع ما يرتسم على وجوه ونظرات المتفرِّجين للتعرُّف على مدى تأثير المونتاج. والواقع أن هيتشكوك يُعتبر أحد المُخرِجين الأشدِّ حرصًا في تاريخ السينما على التمسك بأفكار بافلوف حول الانعكاسات الشرطية. وممَّا لا شكَّ فيه أنَّه تأثَّر خلال الفترة التي كان يُخرِج فيها أفلامًا صامتة بأحد مُريدي بافلوف، ألَا وهو السينمائي التجريبي السوفييتي الشهير ليف كولتشوف؛ فقَدْ أدرك على نحوٍ أفضل من الآخرين أنَّ السينما قامت منذ نشأتها على الخيال البصري، وأنَّ دور المُخرِج يتمثَّل بالتالي في الحفاظ على ذلك الخيال وتغذيته، وذلك بأن يسجِّل على الشريط السينمائي، وفي المكان المناسب، ردودَ فِعلِ شخصياتِ الفيلم لكي يخلق بنفسه تأثيرَها على المتفرِّج. وكان هيتشكوك لا يحبُّ النجوم التي تستعرض جاذبيتها الجنسية. وتُشيع هالةً من الشبق. وما كان يمكن أن تتبادر إلى ذهنه فكرةُ اختيار مارلين مونرو للتمثيل في أحد أفلامه. وكان يصنع الأحاسيس عن طريق التقابل بين لقطاتٍ لوجوه الممثِّلين. وهذا المونتاج الذي يخلق الأحاسيس، كان سيَئُول إلى الفشل الذريع، لو ارتأتْ إحدى الممثِّلات أن تستعرض مَفاتِنها.

ويتيح لنا هيتشكوك فرصةَ التمييز بين طِرازَين من السينمائيِّين: منهم مَن يعتمد على النجوم للتأثير على المتفرِّج، ومنهم مَن يخلق الانفعال من خلال المونتاج الذي يَعرض علينا ردودَ الفعل الفردية، كلًّا منها إزاءَ ردودِ الفِعل الأخرى. ولكنَّ المسألة معقدة؛ فمارلين مونرو التي لم يتطرَّق إلى ذهنِ هيتشكوك أنْ يُشركها في أحد أفلامه، هي من نجوم السينما الأمريكية التي أتاحتْ إمكانية الاستفادة على خير وجهٍ من نموذج لقطة ردِّ الفعل؛ فالفيلم الوثائقي مارلين المصحوب بتعليق لروك هدسون، والذي يَعرض حوالي خمسة عشر مشهدًا من أشهَر أفلام هذه النجمة السينمائية، يتضمَّن نفس البنية المتكررة؛ فاللقطة التي تتجلَّى فيها مواهب مارلين مأهولة بل ومحاصرة من كافَّة الجهات بعددٍ كبير من الشخوص المرتَّبة بكلِّ عناية حسب دورها وجنسها وسنِّها. وهذه الشخوص لا تخرج من الظَّلام المحيط بالشاشة (وهو حيز الرؤية بالنسبة لنا) إلا في اللحظة الاستراتيجية؛ لكي تُلقي فيها نظرةً على النجمة أو تأتي بحركةٍ أو تنطق بكلمةٍ تعلِّق بها. وبالطبع فإنَّ نظرات مارلين هي التي تحظى بكلِّ الاهتمام. وهذا هو المطلوب؛ لأنَّ تنظيم نظرة القاعة الاستطلاعية يستدعي بالضرورة تحديدَ هُوية النظرات على الشاشة وتنويعها وتكثيفها. فهناك نظراتٌ مُنذهِلة وأخرى خجولة وثالثة «بانورامية» تستعرض جسم مارلين ورابعة مُرائية ومتخفِّية تتصنَّع عدمَ الرؤية وخامسة متحرِّجة لرجالٍ بصُحبة زوجاتهم الغيورات. هذا عدا النظرات الساذجة، أو المستهجنة، أو المختلسة، أو الوقحة، أو الشهوانية. ولكي تكون متابَعة مشاهدِ الفيلم لمسارِ المتفرِّجين الظاهرين أمامه على الشاشة مضمونةً، ولكي يحلَّ محلَّهم عندما يصبح هؤلاء خارج الكادر، أي باختصار لكي لا تنحرف أنظارُ القاعة عن النجمة، تُهيِّئ عدَّةُ لقطاتٍ جامعة تستهلُّ المشهد، ممَّا يتيح الفرصة لجمهور المعجَبين الظاهرين على الشاشة للاستحواذ بالمجال المتميِّز لمارلين وتوجيه نظراتهم المنبهِرة نحوها.

وفضلًا عن أنَّ نظرة المتفرِّج تحلُّ تدريجيًّا محلَّ نظرة الممثِّلين المصوَّبة نحو النجمة، في نفس اللحظة التي يُستبعد هؤلاء من إطار الشاشة وينتقلون خارج الكادر؛ فإنَّه يدفع دفعًا إلى مشاركتهم انبهارَهم عندما يعودون بقوة ويقتحمون الحيزَ الذي تحتلُّه النجمة لكي يحتفوا بها. بَيْد أنَّه يتعيَّن أن يتولَّى روَّاد السينما مهمَّة إحياء هذا الاحتفال بأنفُسهم وبشكلٍ مباشر، دون وساطةِ الممثِّلين المعجَبين الظاهرين على الشاشة. وعندما تتمُّ معالجة صورة النجمة طويلًا من خلال ظهورها داخل الكادر وخروجها منه، وكذلك عندما يتمُّ إثراء ردود الأفعال عن طريق العديد من اللقطات؛ حيث يلتقي معًا كلٌّ من النجمة ومعجبيها في كادرٍ واحد، أي باختصار عندما تتمُّ تعبئة كافَّة الأنظار، فإنه يصبح بإمكانها التحرُّر من شخوص الشاشة المعجَبين وتكريس نفسها مباشرةً وعلى انفرادٍ لنظرات جمهور قاعة العرض.

وهنا تُصبح صور مارلين مونرو التي لا تقاوَم من نصيبنا نحن، في لقطاتٍ كبيرةٍ لوجهها وجسمها تستقرُّ طويلًا على الشاشة بالعرض البطيء وازدواج صورتَين، والتلاشي التدريجي. وهذه الصور غير موجَّهة لأيِّ شخصية من شخصيات الفيلم، لسببٍ بسيط وهو أنَّها أُعِدَّت خصوصًا لروَّاد السينما. وهي صور أسطورية نضجتْ بواسطة لقطاتِ رد الفعل، كما أنَّها صور لا نندهش لظهورها على صفحات المجلات التجارية وعلى جدران غرَفِ جنود البحرية الأمريكية؛ لأنها تمتعت من قبل باستقلالها الذاتي في مشاهد الأفلام التي ينفرد بها روَّاد السينما في ظَلام القاعة. وتكشف هذه الصور عن نرجسيَّة المتفرِّج العميقة؛ ذلك أنَّ هذه المناظر التي يلتهمها بعينَيه، ليست في الواقع سوى صورٍ لمخلوق وهمي، ساهَمَ هو بنفسه في صُنعه بالتناوب مع لقطاتِ ردود الفعل، وهكذا أصبح بوسع السينما أن تشبِع النظرات الرأسية المتواصِلة لمَشاهد صورها، وكذلك النظرات الأفقية والمتقطعة للمشارِكين في الفيلم.

والواقع أنَّه بإمكاننا أن ندلِّل من خلال فحصِ الحيز المُضيء على تواجد مسار مزدوج يهيئ المجال لانطلاق المشهد السينمائي. فجميع العناصر التي يتشكَّل منها ذلك الحيز المضيء منظَّمة ومرتَّبة كلٌّ منها بالنسبة للعناصر الأخرى؛ لكي تطلق حركةً أفقية لا تُقهر، تدفع القصة للأمام، من لقطةٍ إلى لقطة ومن مشهدٍ إلى مشهد. ومن المفيد أنْ نذكُر هنا أننا في الواقع بصددِ القمَّة الجمالية للسَّحب الميكانيكي للشريط السينمائي عن طريق آلةِ العرض التي حلَّت محلَّ الكاميرا؛ ممَّا يفسر لنا تحوُّل السينما إلى حكْرٍ تستأثر به البلاد المتقدِّمة صناعيًّا. غير أنَّ النجمة السينمائية هي التي تدفع تلك الحركة المتواصِلة، وتؤمِّن مسارَ الرواية. فهي التي تحتلُّ مركز الشاشة المُضاءة وتتكفَّل بمهمة القاعة، ذلك الحيز الغارق في الظَّلام. وبعبارةٍ أوضح، تضطلع النجمة بمهمَّة تعديل المسار الأفقي للشاشة وإكسابه مسارًا رأسيًّا. أمَّا اللقطات الكبيرة العديدة للنجمة، التي تحتلُّ الشاشة في اللحظات الاستراتيجية للقصة، وبالأخص تلك اللقطات المستقلَّة ذاتيًّا بالنسبة لجمهور الشاشة نفسها (لا جمهور القاعة)؛ فهي تقحم «السكون على الحركة» على حد قول كريستيان زيمر. وهنا تتحقق العملية الفيلمية التي تنقل محتوى الشاشة إلى القاعة، وتنقل القاعة نفسها إلى الشاشة، أي أنَّ الحيز المضيء الفريد للشاشة ينتقل إلى الحيِّز الجماعي المظلِم، والعكس بالعكس. ويتحقَّق باختصار الخيال الرئيسي. فالحركة الأفقية لحيز الشاشة الذي تتمُّ تجزئته وتغذيته بلقطات رد الفعل، تنعكس على القاعة التي تتحوَّل إلى المجال الخارجي لحيز الشاشة. وعندما تفرز الشاشة ذلك المسار الرأسي، عن طريق اللقطات الكبيرة للنجمة، يحقِّق العرض السينمائي مهمَّته، وتنشأ بذلك وظيفةُ المتفرِّج. وقد تعرَّف الروس أخيرًا على تلك الوسيلة، في السنوات الأُولى من حقبة الثلاثينيات (وهو ما سأتطرَّق إليه في الفصل الأخير من الكتاب)، وأدركوا أنَّهم لن يتمكَّنوا من حشْدِ روَّاد السينما في قاعات العَرض السوفييتية، بدون تلك البِنية القائمة على تطلُّع المتفرِّجين إلى محطِّ الأنظار المتميِّز، وكان ذلك من بين أسباب عدم تحيُّزهم لآيزنشتاين وفيرتوف.

ولن تكون دراستنا مستوفاةً لِلَقطة ردِّ الفعل، كأداةٍ لتحويل مارلين مونرو إلى نجمةٍ ساطعة في الأفق السينمائي، إذا لم نُضِف إليها عنصرًا أساسيًّا في واقع الأمر، وهو أنَّ هذه الشابة التي كانت تحمل اسم نورما جان مورتنسون في شهادة ميلادها الرسمية، قد كشفت من خلال شخصيتها المتفرِّدة عن كونها الكائنَ السينمائي المثالي، وذلك قبل ترويضها لصالح عالم السينما. لقد كانت ذات شخصية هشَّة، كما كانت تشعُر بحاجةٍ لا تقاوَم بأن تكون مَحطَّ الأنظار طوال ٢٤ ساعةً في اليوم، حتى إنها كانت تتشبَّث في كلِّ لحظة بتليفونها، بل وكانت تصرُّ على أن يصحبها أحدٌ عند تردُّدها على دورة المياه، وأن يظلَّ على مقربةٍ منها طوال مدَّة قضاء الضرورة. كانت في حاجة إلى وجودٍ بالقرب منها، خارج نطاق مجالها، ولكن شريطة أن يكون ذلك الوجود مجاوِرًا لها فورًا؛ لإنعاشها وبثِّ الحياة في أوصالها. والحقُّ أنَّ المجال الحيوي لنورما جان مورتنسون، ما كان يتشكَّل ويتألَّق في الواقع أو في السينما إلا بالتشبُّث بمجالها الخارجي. وقد لَمسَ مكتشِفو النجوم وصنَّاعها تلك الحاجةَ المرضيَّة لدى نورما جان مورتنسون، لأنْ تكون محاطة بالمعجَبين، وذلك التعطُّش الذي لا يرتوي إلى نظراتِ المتطلِّعين. وقد استغلُّوا ذلك الضَّعف المتحكِّم في شخصها، بشكلٍ منتظِم ومدروس؛ لكي يحوِّلوها إلى قوةٍ أسطورية، وذلك لإحساسهم بأنهم يفجِّرون بذلك طاقاتِ السينما الحيَّة. والواقع أنَّ تجَّار النجومية نجحوا في عرض جسد نورمان جان مورتنسون المتعطِّش إلى النظرات، على الممثِّلين المصاحِبين لها لكي يجذبوا إلى فلكهم تلهُّف المشاهِدين إلى الاستمتاع بما ليس في متناولهم؛ فخلقوا بالتالي أسطورة مارلين مونرو، وبلغوا حدَّ الكمال في الاستفادة بلقطات رد الفعل. ويتجلَّى أمامي في نهاية هذا السرد أنَّه من المفيد أن أُضيف أنَّ هناك علاقةً من جهة، بين تقنية لقطة رد الفعل الملازِمة للسينما الهوليودية وبين ظاهرة «الرجل الآخَر الموجَّه» التي درسها دافيد ريسمان في مؤلَّفه العظيم الإحساس بالوحدة وسط الزحام  The Lonely Crowd الصادر في عام ١٩٥٠م، حيث أبرز بعض الملامح الأساسية المميِّزة لسلوك المواطنين الأمريكيين.

ومن الواضح أن هيتشكوك حاوَلَ استخدام تشوُّق المشاهد الملحِّ إلى التلصُّص، في كلِّ مشاهد أفلامه. كما أنه من الجليِّ بنفس القَدْر أنَّ امتناع هيتشكوك عن اللجوء إلى ممثِّلين من طراز مارلين مونرو للتمثيل أمام كاميراته؛ جعل منه أحدَ الفنَّانين الطليعيين المعتمدين على القدرات الفنية للسينما، بوصفها نمطًا مستقلًّا ذاتيًّا يستطيع أن يُفرز أعماله الخاصة، وتميَّز بذلك عن السينمائيين المقتبِسين الذين خاضوا غِمار عالَم السينما مع التشبُّث بقوة بالمرافئ المأمونة المتمثِّلة في الأعمال الأدبية المعروفة، أو النجوم التي تجتذب المتفرِّجين.

وعلى أية حال، فإنَّ تلك البنية الثنائية البسيطة التركيب، أي الكادر وخارج الكادر، هي التي نصادفها دائمًا في الأفلام ولا شكَّ في أنَّ ذلك يعود إلى كونها تولِّد، من تلقاء نفسها، السردَ الذي يشكِّل مَنبعًا لا ينضب للترقُّب المقلِق. وهذا ما لم يكفُّ أبدًا المؤلفون عن تدبُّره في كافَّة مراحل إنتاج أفلامهم، وفي كلِّ مشهد من مشاهدها، شأنهم في ذلك شأن المقتبِسين. فحتى المُخرِجون المتشدِّدون من أمثال جودار، الذي يرفض لقطةَ رد الفعل (يبدو لي أن ذلك هو سببُ رد الفعل الرافض من جانب المتفرِّج الذي يغامر بمشاهدةِ أحَد أفلامه)؛ استسلموا وأشادوا بالبنية الثنائية للسينما. فهذا المخرِج الذي حاول أن يتفادى بكافَّة الوسائل، التشابُك بين المُشاهَد (بفتح الهاء) والمُشاهِد (بكسر الهاء)؛ تعمَّدَ الوقوع بمحضِ إرادته وبلا سخرية في فخِّ الكلمات. فقَدْ أعلن في حديثٍ إذاعي مع برنار بيفو في برنامجه المسمَّى «المواجَهة» أنَّ جوهر السينما يكمن في البنية الثنائية، وأضاف قائلًا، على سبيل المزاح، إن ذلك هو السبب في أنَّ مبتكِرَيها (بفتح الراء) كانا في آنٍ واحد ميلييس ولوميير.

وكان هدفي أنْ أبيِّن من خلال حالة مارلين مونرو، أنَّنا بصددِ استراتيجيةِ نظام النجومية، أو بالأحرى العملية الهوليودية الكبرى المسمَّاة «بيع النجوم للجمهور» (نجم الشبَّاك)، أي استخدام الحيز المقابِل ولقطة ردِّ الفعل بشكلٍ منتظِم ومتواصِل؛ للاستفادة من النجم إلى أقصى حد. فهذه الاستراتيجية التي تخلُّ بالتوازن الجدليِّ بين المجال والمجال المقابِل، وتحرِّف، بل وتدفع إلى أقصى المدى العواقبَ التي تشكِّل إحدى البنيات الأساسية والأشدِّ فعاليةً في السينما الكلاسيكية. وكانت الحصيلة، ذلك المخلوقَ المشوَّه والمقدَّس، المصمم بحيث يبهِر بسِحره الرُّوادَ المفتونين، الذين فَرضَ عليهم أن يُصبحوا ذلك المجال المقابل للشاشة؛ إذ تحوَّلت قاعة العرض إلى حيِّز مجهول الهوية ومُظلِم، بل وإلى حيز الظَّلامية، لا يرى سوى مساحةِ الشاشة الفريدة والمُضيئة.

وأخيرًا، وهذا ما أريد أن أثبته في الواقع، فإنَّ الإفراط في اللجوء إلى النجومية عن طريق التنسيق المدروس بكلِّ عناية، ما كان يمكن أن يبلغ ذلك الشكلَ المتقَن، وتلك الدرجة من الهوس إلا في الولايات المتحدة. فالتوحُّد مع فردٍ ما يمثِّل ضرورةً حيوية لدى المواطنين الأمريكيين، ولا يعني ذلك أنَّ ذلك الفرد يجب أن يكون متمتِّعًا بالكاريزما، ولكن لا بد أن يبدو كذلك. وفي إطار هذا الانصهار في المجتمع الأمريكي، حيث يجثم خطر التشتت في الفوضى في زحمة الحياة، يجب أن تؤجَّج كثافة التوحُّد؛ لكي تلتقى معًا أنظار المواطنين، على تنوعهم، حول مثَلٍ أعلى واحد من «العالَم الآخَر» البالغ أوجَ الرفعة والرقي، بحيث تذوب في طيَّاته كافَّةُ أوجه الاختلاف. ولقد كَتبَ ريتشارد روسيدل يقول: «لقد طَبعتْ واشنطن صورتها على قلب الشعب.»

والواقع أنَّ هذه العبارة برعتْ في تشخيص أطروحة هذا المؤلف، حول حاجة المواطنين الأمريكيين الشديدة، إلى استيعاب النماذج التي تتجاوز حدود حياتهم اليومية. وقد اقتبس جيمي ستيوارت، الشهير بجفرسون سميث، هذه المقولة حرفيًّا في فيلم السيد سميث في واشنطن (إخراج فرانك كابرا ۱۹۳۹م)، إذ يقول: «يجب أن تنطبع صورة الكابيتول (مقر الكونجرس الأمريكي) في قلب أبناء هذا البلد كافَّة.» ويردِّد هذه الكلمات جيمس ستيوارت، الذي يؤدي دور عضوٍ شاب بمجلس الشيوخ الأمريكي، ويحمل اسم جفرسون سميث، ونظراته مصوَّبة من خلال نافذةِ مكتبه نحو ذلك الصَّرح الرسمي الشهير (الذي يظهر بانتظام في الكادر)، بينما تتَّجه نحوه نظراتُ سكرتيرته سوندرز المفتونة (سأتعرَّض مرةً أخرى لهذا المشهد في الفصل الأخير من الكتاب).

ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ المثَل الأعلى، للعالَم الآخَر، الذي يتحتم أن تتشبع به أفئدة المواطنين الأمريكيين، يجب أن نتفهَّمه أيضًا، من الزاوية السينمائية، كتعبيرٍ عن التطلُّعات الشعبية أو كنتاجٍ لردود الفعل الدفينة لدى الجموع تحت شِعار «من الشَّعب ومن أجل الشَّعب»، ممَّا يفسِّر لنا مدى سطوة الديمقراطية الأمريكية سواءٌ في الواقع أو في السينما.

ولن أنسى أبدًا الدهشة التي اعترتْني عندما شاهدتُ في التليفزيون الأمريكي، مساءَ أحدِ أيام خريف ١٩٦٨م، ريتشارد نيكسون، المرشح لرئاسة الولايات المتَّحدة وهو يوضِّح، مؤيَّدًا بلقطاتٍ مكبِّرة لوجهه، أنه غيَّرَ طريقته في تصفيف شَعره؛ لأنَّه أدرك أن ذلك يروق للأمريكيين بقدْرٍ أكبر.

على أنَّ ظاهرة صُنع النموذج عن طريق رد الفعل الشعبي، تجلَّتْ في أوضح صورة لها مع رونالد ريجان. ويتعيَّن أن نذكِّر هنا، مع الإشادة بهذه المناسبة، بمؤلَّف مايكل روجين رونالد ريجان السينما  Ronald Reagan the Movie؛ كيف يفصح سلوك الرئيس ريجان عن القرابة المثيرة للقلق بين الواقع الأمريكي والسينما الأمريكية. وأودُّ أن أحدِّد معالم تلك الظاهرة بالرجوع إلى مقالٍ نشرتْه في صحيفةٍ يومية تصدُر في مُقاطَعة كيبك، بمناسبة خطابٍ ألقاه ريجان في ۱۸ مارس ١٩٨٥م، في عاصمةِ تلك المقاطعة الكندية. فقَدْ ألقى الرئيس ريجان خطابًا موجَّهًا إلى المواطنين الكنديين، ومنهم بالأخصِّ أهالي كيبيك؛ إذ ألقى خطابه هذا عبْرَ التليفزيون في القاعة الكبرى لقَصْر فرونتاك بعاصمة الإقليم. وكان استخدام لوحتي تلقين تنقلان إليه نصَّ الخطاب، إحداهما على يمين المنضدة التي يقف خلفَها والأخرى على يسارها، ينضح بالواقعية بالمفهوم السينمائي للكلمة، بمعنى أنَّ هذه الطريقة كانت تولِّد انطباعًا أكيدًا بأنَّه يرتجل. ولكي يتمكَّن ريجان من قراءة الكلمات التي كانت تظهر على التوالي على لوحتَي التلقين؛ كان يتعيَّن عليه أن يلجأ إلى اللفتات البانورامية الحانية، من اليمين إلى اليسار ومن اليسار إلى اليمين، ومن فوق لتحت ومن تحت لفوق، ليؤكِّد الانطباع لدى الحضور بأنَّه يرتجل، وأنَّه يوجِّه كلامه إلى كلِّ فردٍ منَّا، وهذا هو الأهمُّ. ولا بد أن نعترف بأننا صادفنا هنا فنًّا محنَّكًا وسينما متقَنة للغاية. وكان فرانك كابرا، المُخرِج الذي أشرَفَ على تمثيل أشهرِ نجوم هوليود، يقول: «الممثِّل هو الشخص العادي الذي يستطيع أن يعطي الانطباع بأنَّه شخصٌ فوق العادة.»

ويتعيَّن علينا أن نذهب إلى مدًى أبعد في تقييم أداءِ ريجان؛ لكي نحدِّد ملاحظاتنا بشكلٍ مباشِر. فلكي ينجح الممثِّل ريجان في زرع الإيمان بشخصه، ويعطي الانطباعَ الأكيد بأنَّه رئيسُ الولايات المتحدة، فهو في حاجةٍ إلى زوجته نانسي؛ لتعظِّمَ صورته، وذلك إلى جانبِ لوحتَي التلقين اللَّتَين يستلهم منهما الدورَ الذي يمثِّله. وهذا ما قامت به نانسي في تلك الليلة في قَصْر فرونتاك ونَقَله لنا التليفزيون. فلا وجود لنانسي إلا من أجل إبراز رونالد ريجان. وهي تؤدِّي على الوجه الأكمل مهمَّة لقطة رد الفِعل الرسمية التي تقتضيها مؤسسات الدولة، مما يهيئ الفرصة لريجان للاضطلاع بدور رئيس الولايات المتحدة بشكلٍ سليم، وبعبارةٍ أدقَّ: تتمثَّل وظيفة نانسي في التطلُّع إلى ريجان، سواءٌ أكانت بجواره على المنصَّة أم في الصفوف الأُولى بالقاعة، وسط أصحاب المناصب الرفيعة. فهي تخصُّه فِعلًا، وسينمائيًّا تنظُّراتها الحانية. وإذا كان ريجان قد تدرَّب على أن يجول بناظرَيه على المستمِعين؛ لكي يُعطيهم الإحساس بأنَّهم يفهمون حقًّا ما يقول، فإن نانسي أتقنتْ بدورها أن تتطلَّع باستمرارٍ إلى زوجها الرئيس. ولا مجالَ لأنْ تغيِّر نانسي، ولو لِلَحظة، اتجاهَ نظرتها أو أن تحدَّ من بريقها. فمن الضروري ألَّا تفاجئها الكاميرات (وهي ترتدي في أغلب الأحوال فساتينَ حمراء تجتذب الكاميرات مثل المغناطيس)، بينما تنمُّ حركة عينَيها عن نظرة غير موجَّهة نحو ريجان. أمَّا ريجان نفسه، فلا يجب أن ينظُر إليها إلا من آنٍ لآخَر، بطرف العين، بُغيةَ التأكُّد من أنَّها تُحسِن أداء دورها؛ لأن الدور المنوط به هو توجيه نظراته نحو مُشاهِدي التليفزيون الذين يتطلَّعون إليه بالمقابل بحبٍّ وإعجاب، من خلال نظرة نانسي المفتونة.

غير أنَّ أداء نانسي لدورها على نحوٍ جيِّد، أيْ دفع مُشاهِدي التليفزيون تلقائيًّا إلى تبيُّن نظرتها لريجان، يتطلَّب أساسًا أن تبدو لهم شخصًا صادقًا للغاية ولطيفًا حقًّا، أيْ شخصية يَقبل الناس اتباعَ خطِّ سَيرها دون إلقاء أيَّة أسئلة. وعندما لا تكون نانسي بجوار ريجان، أو في القاعة بين جمهوره، فهي تصوِّر لنا عادةً أثناء زيارتها للمدارس أو المستشفيات، وعند تسلُّمها الهدايا والالتماسات، واستقبالها بالتصفيق من جانب أضعف أفراد المجتمع: الأطفال والعجائز والمرضى. وهكذا لا تَخيب نظرات نانسي نحو زوجها؛ لأنها (أيْ نظراتها) تشقُّ طريقها نحوَ الزعيم من خلال تطلُّعات عيون المُحيطين بها.

وعلينا أن نلاحظ أيضًا أنَّ تلك البِنية (نانسي التي تثبِّت نظراتِها المفتونة على رونالد ريجان؛ لكي لا تنحرف عنه نظرات مشاهدي التليفزيون) هي الحيلة الأشدُّ فعاليةً، التي برع في استخدامها مُنتِجو استوديوهات هوليود الكُبرى لتحويل الممثِّلين إلى نجوم.

لم يتوصَّل ريجان أبدًا إلى أداء الدور الرئيسي في أي فيلم طَوال أغلب سنوات تمثيله السينمائي. وبعبارةٍ أخرى، فإنه لم يتمكَّن إطلاقًا من جذب نظرات النجمة المعجَبة التي تفيض بالعواطف. فهذه النظرة يحتكرها النجوم. وكانوا يقولون عنه بتسامح: «إنه لم يستحوذ أبدًا على الفتاة.» بَيْد أنه أصبح من الطبيعي تمامًا أن يكون المحتكِر لنظرات نانسي، مندوبتنا نحن لديه، بعد أن نجَحَ في تقلُّد أكبرِ مَنصِب، ألَا وهو رئاسة الولايات المتحدة.

وهكذا يتعيَّن علينا أن نلاحظ أنَّ نظام النجومية نافذٌ، سواء في الواقع الأمريكي أو في سينما هذا البلد، بل إنَّ نجاحه في السينما يعود إلى تعبيره عن الواقع الأمريكي، والعكس بالعكس. ويلاحظ دومينيك نوجز في هذا الصدد أنَّ «ما يمكن أن نتوقَّعه من الآن فصاعدًا، ليس أن تعكس السينما الواقع، بل أن يميل الواقع شيئًا فشيئًا إلى التشبُّه بالسينما». ولا يقصد نوجز هنا أساسًا المضمون بل الشكل. فلا مجال إذن لإبداء الدهشة إزاء الدور الحاسم لِلَقطة ردِّ الفعل في صُنع وأداء الشخصية الاجتماعية السياسية-السينمائية، وفي تحويلها إلى نجم.

ولقد تبيَّن لي من خلال دراستي لبرنامج جيمي سواجارت التليفزيوني الشهير أنَّ عَدْوَى لقطةِ ردِّ الفعل أصابتْ، هي أيضًا، الريبورتاجات التليفزيونية. ويعود قَدْر كبير من كاريزما المبشر جيمي سواجارت إلى استخدام لقطة رد الفعل، علمًا بأن نفوذه كاد يزول بشكلٍ يدعو للرثاء، بسبب فضيحةٍ أخلاقية فاحشة، كما هو معروف. ويبدو لي أن تعزُّز مركز سواجارت بقوة من الناحية التقنية في عهد ريجان، لم يكُن محضَ صدفة؛ إذ إننا هنا بصددِ حركةٍ تنتمي إلى أقصى اليمين. وقد أُجريت بعض التحليلات لذلك البرنامج الديني المُدهِش الذي يُذاع كلَّ يومِ أَحَد؛ فلاحظتُ أنه يعتمد باستمرارٍ في إيقاعه على تلك البنية الثنائية المتمثِّلة في ذلك التعاقب المتواصل بين صور سواجارت، وهو يخطب من فوق المنصة، وصور الحضور الذين يستمعون إليه وهم جلوس في القاعة. وتنطبع في ذهني مَشاهِد التليفزيون، وجوه رجالٍ ونساء من كافَّة الأعمار يظهرون الواحد تلوَ الآخَر متخلِّلين صورةَ سواجارت. ومع أنَّ صورة المبشِّر تختفي مؤقتًا لتترك الفرصة لِلَقطاتٍ كبيرة للمستمعين في القاعة؛ إلا أنَّ خطاب سواجارت يستمر.

ولو أنَّك رجعتَ إلى تسجيلك لأحَدِ البرامج الدينية لهذا المبشر الأصولي لكي تفحص عن قربٍ بنيةَ هذا البرنامج؛ لتَبيَّنَ لك أنَّ الوجوه التي الْتقطت الكاميرات صُوَرَها من بين الحاضرين، هي وجوه «إيجابية» تستنفد تشكيلةً عريضة من ردود الفعل المناسِبة للموقف، ابتداء من الإصغاء باهتمامٍ حتى التَّشنُّج، مرورًا بإيماءات الرضا والامتثال، والتأثُّر وتَرقرُق الدموعِ في المآقي، والانبهار الذي تعبِّر عنه النظرات الجاحظة.

ولو أنك قرَّرتَ إجراء تحليل منتظِم لذلك التسجيل ودراسةَ الصور المُلتَقَطة للمستمِعين، في ترابطها مع اللقطات الرئيسية لسواجارت، لتبيَّن لك بكلِّ وضوحٍ أنَّ صُنَّاعَ ذلك البرنامج الديني وأصحابَ استراتيجية انتقاء اللقطات الخاصة به؛ رجالٌ جادُّون للغاية تمرَّسوا طويلًا في فنِّ غسيل الأمخاخ. فلا توجد أيَّة لقطاتٍ عشوائية لوجوهٍ تظهر بمَحضِ المُصادَفة. فكلُّ لقطةٍ تأتي في الوقت المناسِب؛ لتدعَمَ صُورَ سواجارت، وذلك حسب مدتها وحجمها (لقطة كبيرة لوجهٍ واحد، لقطة متوسِّطة لبعض الوجوه، لقطة جامعة للقاعة)، مع توافقها في الوقت نفسه مع مَجرى الخطاب وإيقاعاته، خاصة مع المقاطع الجوهرية في موعظته. إنها حركة اليو-يو فإيماءات المبشر وحركة يدَيه وتعبيرات وجهه، تنطلق نحو وجوهِ الجمهور؛ لكي ترتدَّ إليه بقوة. فسلوك المبشِّر وخطابه يعزِّز كلٌّ منهما الآخَر بالتبادل ويتغذَّيان باستمرارٍ بردود فِعلِ الجمهور.

ولكنْ ماذا يحدث لنا في نهاية الأمر؟ نحن — مشاهِدي التليفزيون — المستهدَفون من براثن تلك الاستراتيجية. إننا نقع مع مرور الوقت في فخِّ حركة الذهاب والإياب المتواصِلة والمتقَنة، بين سواجارت والمُستمِعين إليه. وهكذا تتغلَّب علينا الوجوه التي تظهر على الشاشة بتعبيراتِ قَسَماتها المتنوِّعة بما فيه الكفاية؛ لكي تمثِّل جموعَ مُشاهِدي التليفزيون المجهولين، الذين تمَّ توجيههم نحو صاحب الخطاب الأوحد، ويجرفنا حتمًا تيار ردود الأفعال. وبهذه الطريقة، ارتقى سواجارت إلى مصاف الرمز الديني، بنفس الأساليب المُتقَنة التي ارتقتْ بها مارلين مونرو في الخمسينيات إلى مصاف الرمز الجنسي. فمُشاهِد التليفزيون الذي وقَعَ تحت التأثير الساحر للمبشِّر الأصولي، يصوِّب نحوَه نظرةً كلُّها إعجاب وافتتان وهو يستمع إلى خطابٍ عامر بالعبارات المُلتهِبة من طراز: «لقد فرَضَ الشيطان سِحرَه على الولايات المتحدة»، و«شبابُنا يندفع نحو الجحيم وهو يرقص على أنغام الروك»، و«إننا نواجه قُوى الضلال كما لم يحدُث أبدًا من قبل، طوال تاريخ الولايات المتحدة»، و«ليس هناك مجالٌ ممكن للتردد، ويجب على الأمة الأمريكية أن تدفع بجنود البحرية إلى جزيرة كوبا الشيطانية لسَحْق المتآمِرين الشيوعيين»، و«قد أصبحت روسيا الشيوعية مملكةَ إبليس، وهي ترسل إلينا عملاءها، ومهمَّة هؤلاء الشياطين الحثُّ على حَقْن أوردة الشباب الأمريكي بالمخدِّرات.» وتتدفق هذه الكلمات على القاعة مصحوبةً بلقطاتٍ كبيرة لوجوه مستمِعين تَظهر على قسماتها ردودُ الفعل «الإيجابية» التي سبق أن تكلَّمنا عنها. ويواصل سواجارت خطابه ليُعلن إدانته للمسئولين قائلًا: «إنَّ القادة السياسيين في هذا البلد، الذين يفتحون أبواب مُدُننا على مِصراعيها لأبالِسة الروك، ليسوا سوى مُرائين. وأنا لا أكِنُّ لهم سوى الازدراء الشديد.» وهنا تندفع أمامنا، نحن مُشاهِدي التليفزيون، تعبيراتُ وجهه وإيماءاته الثائرة في لقطةٍ مقرَّبة ضيِّقة مصحوبة بصوته، دون حاجةٍ إلى ردود فِعل جمهور القاعة. وأخيرًا، عندما يوجِّه المبشِّر حديثه إلى مستمِعيه ليستشهد بهم، بلغةِ السينما قائلًا: «لا تتساءلوا لماذا يسير بلدنا نحو الشيطان.» فإن كلماته هذه تهيمن على القاعة، وتندفع أمامنا لقطةٌ كبيرة للجمهور المتحمِّس وهو يصفِّق له.

ومن الصَّعب بمكانٍ لمُشاهِد التليفزيون الذي يتتبع برنامج جيمي سواجارت، ألَّا يقع تحت تأثير تلك اللقطات الكبيرة الجامعة ويصفِّق معها؛ لقد فقَدَ الاتجاه وأصبح موجَّهًا، بل ومسيَّرًا عن طريق التحريض المخطَّط للقطات الكبيرة لوجوه المستمِعين المفتونة. وهو يحتاج إلى حاسة انتقادية متقدِّمة للغاية لكي يقاوِم أداء جيمي سواجارت ويتصدَّى بالتالي لكلماتِ خطابه المعتمدة على ذلك الإخراج المدروس بعناية فائقة. أمَّا ما قد يُنقذه من ذلك، فهو كون التليفزيون منذ أن احتلَّ موقعه في بيوتنا، وسيلةَ إعلام «باردة» كما يقال ترديدًا لمقولة ماك لوهان، ألا وهي أنَّ مستخدم التليفزيون يستطيع دائمًا أن يجول ببصره حول ما يوجد بجواره مباشَرة، وأنْ يتنقَّل بين أثاثِ بيته ويتحاشى الوقوع في براثن الشاشة المضاءة، على عكس الوضع بالنسبة للمستمِع في القاعة المُظلِمة. وأنا لا أنوي الخوض هنا في النقاش حول الحرية النسبية التي يتمتَّع بها مُشاهِد التليفزيون الذي يختلف سلوكه بالطبع عن سلوك المتردِّد على قاعة العرض السينمائي. بَيْد أنَّ لقطةَ رد الفعل اجتاحت التليفزيون، ليس فقط لأنها أصبحت الوسيلة المتميِّزة لنشر المنتجات السينمائية، ولكنْ أيضًا — وهذا هو الأهم — لأنَّ بنية الإنتاج السينمائي تغلغلتْ في الشكل التليفزيوني ذاته. فقَدْ هيمنت لقطات ردِّ الفعل على الشاشة الصغيرة من خلال الألعاب والمسابقات الرياضية والمسلسلات والروايات التليفزيونية التي تشدُّنا نحو صورة الواقع الموجَّهة.

في الفيلم الشعبي سقوط الآلهة (إخراج جاني أويس، ١٩٨٤م) نجِدُ أنَّ البوشمان الذي يُري لأول مرة في مِنظار الكاميرا صورةَ عددٍ كبير من البشَر، يسأل البِيضَ عن كيفية توصُّلهم إلى احتجاز كلِّ هؤلاء القوم في تلك العلبة الصغيرة. وكان الأجدَرُ بالبِيض أنْ يتنبَّهوا إلى حكمةِ ذلك الإنسان البدائي الطيب، بدلًا من إلقاء نظرة إشفاقٍ أبوية عليه. وتتواتر الآن بإلحاحٍ شديد، وبالمزيد من الحجج، أطروحة إخضاع الفرد وتسخيره عن طريق الصور السينمائية والتليفزيونية. ويكفي للمرء أنْ يقرأ بهذا الصدد مؤلَّفاتِ العديد من المفكرين من أمثال جيري ماندر، وبول فيريليو، وجاستون فرنانديز كريرا ونيل بوستمان؛ ليتضح له أن هناك العديد من المفكرين المعاصرين الذين يُبدون تخوُّفهم الشديد من أن يترسَّخ في مجتمعاتنا ما يمكن أن يسمَّى «الإدراك الواقع تحت تأثير السحر».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤