الفصل الثالث
انتصار لقطة ردِّ الفعل
لقد انسقت في التعرُّض لفيلم انتصار الإرادة (١٩٣٤م) للمخرِجة
الألمانية ليني رينفنستال، وهو أكبر عملٍ سينمائي تمَّ تصويره حتى الآن للدعاية للفاشية،
والعمل الذي بلغت فيه بنية رد الفعل حدَّ الكمال. كما أشرتُ إلى الاستخدام المُبرمَج
والمنظَّم لِلَقطة ردِّ الفعل في الأفلام الأمريكية بوصفه أداةً لصُنع النجوم، فرضتْها
على
ما يبدو ضرورةُ توحيد الأفراد ذوي الأصول العِرقية المختلفة في إطارِ أمَّةٍ واحدة موحَّدة.
وبناءً على هذا الاستدلال نفسه، يمكننا أن نستشفُّ نوعًا من التلازم بين ألمانيا النازية
وأقوى تعبير سينمائي عنها متمثِّلًا في فيلم انتصار الإرادة، مع الأخذ بعين الاعتبار
كافة
التفرُّدات التي تفرض نفسها والتي سنفحصها عن كثب.
من أوضح مزايا كتاب أساتذة الفكر للفيلسوف الفرنسي أندريه جلوكسمان، تنويهه بالجهود
المستميتة التي بذلها الألمان سُدى طوال تاريخهم من أجل توحيد بلادهم. وقد حرص جلوكسمان
على
اللجوء باستمرار إلى كبار المفكرين الألمان لتأييد فكرته، فذَكَر بهذا الصدد مقولةَ هيجل
الشهيرة: «ألمانيا هرمٌ من الأحجار الكروية.» وتفتُّت التراب الألماني يشكِّل في تصوُّر
قادة الفكر الألمان قدْرًا محتومًا وذلة قومية. لقد تحوَّل الاعتراف بافتقاد الألمان
لوحدتهم القومية منذ عهد شارلمان، وبتواجد مجموعة من الأقاليم المتجاوِرة المستقلَّة
ذاتيًّا والمنطوية كلٌّ منها على نفسها، تحوَّل مع مرور الزمن، لدى رجال الفكر ولدى شعوب
«العقدة الألمانية»، إلى مناحةٍ أليمة ومتواصِلة بلغتْ حدًّا من الشدة والعمق، أثار حلمَ
الانصهارِ الشامل الطائش.
ويبدو لي أنه يتعيَّن أن نسبر غَورَ ذلك المستودع العجيب والمثير للقلق، الذي يتمثل
في
السينما التعبيرية الألمانية في عهد جمهورية وفيمار (۱۹۱۹–۱۹۳۳م). فقَدْ جاء في أعقاب
هذه
الجمهورية مباشرةً الرايخ الثالث الذي قضى على تلك السينما التعبيرية باعتبارها «فنًّا
منحطًّا ومتعفِّنًا». وهكذا يمكننا أن نتفهَّم على نحوٍ أفضل الحنين الألماني إلى الوحدة
القومية، وأنْ نتوصَّل إلى حلِّ شفرة فيلم انتصار الإرادة بوعي؛ لكونه
التتويج السينمائي لليوتوبيا الجرمانية. وأرجو ألَّا يثير ذلك الاستطراد قلقَ القارئ؛
فنحن
لا نزال على صلةٍ وثيقة بموضوعنا، وغاية الأمر أننا نبحث عن معطيات جديدة تُسانِد فكرتنا
الخاصة بانتصار لقطةِ ردِّ الفعل. ولْنلاحظ بدءًا أنَّه لا توجد حقًّا في الفيلم التعبيري
الألماني علاقةُ ترابُط بين المُشاهَد (بفتح الهاء) والمُشاهِد (بكسر الهاء)، أي أنَّه
لا
يوجد وفقًا للمفهوم السببي، ردُّ فعلٍ لشخص يتفرَّج يرتبط فورًا وقسرًا بمجال الشخص موضوعِ
المُشاهَدة. وهذه السينما التي يتفق الباحثون على أنَّ أركانها مدموغةٌ بالجزع والاضطراب،
تعطي الانطباع بأنها مهيَّأة لكافَّة الاحتمالات. ولكنْ لِننظرْ إلى المسألة عن
كثَب.
فالأمر المُلفِت للنظر بالأخصِّ في الأفلام التعبيرية الألمانية، هو نظرة شخصياتها.
إنَّها نظرةُ حالم يحدِّق في الأفق كما لو كان يتراءى له كائنٌ غريب أو شيء يتعذَّر التوصل
إليه، وبشِعٌ في أغلب الأحوال، ولا يمكن أن تتبيَّنه العين المجرَّدة. وهو ليس تمامًا
النظرة المُفزِعة للطفل المنير في فيلم المضيء (إخراج ستانلي كوبريك،
۱۹۸۰م) تلك النظرة الملقاة بدِقَّة على موضوعه الغامض، وفقًا لقواعد الإبصار. إنها بالأحرى
النظرة الجاحظة لممثِّل فيلم صرخة (إخراج مونخ)، الذي أصابته بشاعة العالَم بالذهول.
وعلى أية حال، لا تمتُّ تلك النظرة بصِلةٍ إلى نظراتِ المجال/المجال المقابِل في السينما
الكلاسيكية، وهي نظرات سينمائية تعبِّر عن التماسك الاجتماعي المعروف لنا؛ لكونها تربط
شخصيات الفيلم بعضها ببعض في إطار زمنٍ واحد ومكان مشترك، وتوثِّق جوانب المشهد بالحفاظ
عليه في إطار الشاشة، وتدفع القصة إلى الأمام. إنَّها القصة التي يتم سردها بأسلوب هيتشكوك
المخرِج الفريد في فنِّ توزيع النظرات.
أمَّا شخصية الفيلم التعبيري الألماني فلا تنظُر إلى مَن يقف بجوارها أو إلى مَن
يتبادل
معها الحديث. إنها «ترى» من خلال الآخَر، وفيما وراءه، و«ترى» شيئًا آخَر خِلافه. وكان
لوت
إيسنر يقول: «إنَّ التعبيريين لا يرون، بل لديهم رؤى.» وكثافة نظرة الشخصية التعبيرية
وثباتها تُثيران ابتسامةَ المتفرِّج الحديث (فرانسيس في فيلم كاليجاري، وماريا وفريد
في
متروبوليس، وهوتر ونينا في نوسفراتو
ومارجريت في فاوست، ورابي لوي في الجوليم،
ومابوز في الدكتور مابوز المُخادِع، وكريمهيلد في
نيبلونجن). فهي في تصوِّر المُشاهِدَ المعاصر لنا أشبهَ بالأداء
«الطنَّان»، الذي كانت تقتضيه السينما الصامتة. ويتغاضى هذا الأسلوب في الرؤية عن المغزى
الخفي للتعبيرية السينمائية الألمانية، وهو المغزى الذي سأحاول إلقاءَ الضوءِ عليه في
الصفحات التالية، بغية فهْمِ الفيلم الفاشي الذي تغلَّب على التعبيرية، وسَبر أغوار البِنية
الشكلية والسياسية لِلَقطة ردِّ الفعل.
فشخصية نينا وزوجها هوتر جديرةٌ بالتحليل في فيلم نوسفراتو (إخراج
ويلهم مورناو، ۱۹۲۲م) فعندما تُلقي نينا نظرتها على هوتر بعينَين متَّسِعتَين للغاية
نتيجةً
للرعب الذي انتابها؛ نجِدُ أنَّ نظرتها تذهب إلى أبعد من الإدراك العادي والواقعي. فهي
«ترى» من فوق ظَهْر هوتر، من خلال الظَّلام غير المرئي المرتسم خلفه، على مسافةٍ كبيرة
تتعدَّى إطار الشاشة، فلا تسمح للكاميرا بإظهاره. علمًا بأن ذلك الظلام قد يخفي الصنو
المناقِض لزوجها، أي نوسفراتو مصَّاص الدِّماء. والحركات المسرحية الصادرة عن تلك الشابة
في
الفراغ، تطيل نظرتها الجاحظة أمام نافذتها المفتوحة عندما تمدُّ ذراعَيها للأمام وهي
تستنشق
هواء البحر الذي يحرِّك ستائر غرفتها. إنها أنفاس مصَّاص الدماء القوية التي تستقبلها
وتتركها تتغلغل فيها.
كما أنَّ سلوك هوتر هو أيضًا لا يقلُّ غرابة. فقَدْ أصاب الذهولُ ذلك الشابَّ عندما
اكشَفَ في قبوِ قصر الكونت أورلوك القائم في أغوار غابة الكارابات، حقيقةَ هُوية الكونت؛
فأورلوك هو نوسفراتو. ولا ينظر هوتر إلى جسد مصَّاص الدماء المسجَّى في تابوته، بل يثبت
نظراته بكثافة على الجدار القائم أمامه كما لو كان يرى عبْرَه، وقد استبدَّ به هلعٌ يفوق
الوصف، وهو يتراجع زاحفًا نحو سُلَّم القبو حتى يصل إلى الحاجز الحجري فيدفعه بظَهْره
كما
لو كان يريد اجتيازه. لم يعُدْ نظام المجال والمجال المقابل يعمل هنا لصالح المُشاهَد
(بفتح
الهاء) والمِشاهِد (بكسر الهاء) وفقًا للمفهوم الواقعي. لقد توصَّل هوتر إلى ذلك الاكتشاف
المريع والساحر في نفس الوقت لصنوه الشيطاني، وكان يتعيَّن عليه أن ينزل إلى مدفن القبو،
وإلى دخيلة نفسه، حيث لا يكون هناك أيُّ وزنٍ للمراجع العادية والمُطمْئنة، لكي يدرك
تلك
الحقيقة.
ويقلُّ عن فريتز لانج؛ إنه كان المخرج المدقِّق والمتمكِّن من الفراغ. وقد قال عنه
جان
لوك جودار، الذي تفحَّص أفلامه تحت عدسةٍ مكبِّرة، إنه «كان يستخدم الكاميرا وكأنها بندقيةٌ
مزوَّدة بمِنظار تلسكوبي». على أنَّه يتعيَّن ألَّا ننسى، ونحن نتعرَّض لسينما لانج،
أنَّ
دقة تصويب تلك «الكاميرا البندقية» التي تتجلَّى سينمائيًّا في ثبات النظرة على هدف
يحتلُّ
وسط الصورة، لا تبلغ ذلك القَدْر من الكثافة والدِّقة إلا لأنَّ ما «يرى» المتفرِّج،
عبارةٌ
عن كيانٍ غريب لا يمكن تحديد هويته. وعندما تتراجع ماريا، بينما تحدِّق بعيونٍ مجنونة
من
الهلع في مواجهة روتوانج، المخترع الشيطاني في فيلم متروبوليس، فهي
«ترى» من خلال المُطارَدة التي تتعرَّض لها مدى بشاعةِ اندفاعها المحتوم، نحو تحوُّلها
إلى
إنسان آلي. أمَّا روتوانج، الذي لم يكفَّ عن تصويب نظرة المنوِّم المغناطيسي إلى ضحيته،
فيتلذَّذ سلفًا بالتحوُّل المؤذي الذي سيُخضعها له.
وسنصادف دائمًا في الأفلام الألمانية المنتمية إلى هذه الحقبة، تلك «النظرة التعبيرية»
المحمومة، التي يرى كراكاور في مؤلَّفه الشهير من كاليجاري إلى هتلر،
أنَّها نظرةٌ مرَضيَّة غير قادرة على أن تقع على موضوعها لكي تستريح، أو أن تقع على شاهد
لها. ومثل هذه النظرة غير مقبولة لدى مُخرِج واقعي مثل كراكاور، وذلك أنَّ احترام قواعد
الإدراك الطبيعية والمعترَف بها من وجهةِ النظر الواقعية، ضروريٌ؛ حتى يكون هناك اعترافٌ
بالعالَم «كما هو قائم». ولذا يتعيَّن ألَّا تُشحن النظرة بطاقةٍ تفوق ما يستدعيها الشخص
أو
الشيء المنظور. ونحن نعلم أصلًا مدى ضرورة الْتزام لقطة ردِّ الفعل بتلك القواعد إذا
أراد
كسْبً رضا المتفرِّج.
وتتضح لنا من خلال النظرة التعبيرية صعوبةُ الانتماء إلى ألمانيا، ظِل جمهورية فيمار.
حتى
إن التعبيرية هي في حدِّ ذاتها خيرُ تعبيرٍ عن «الروح الألمانية»، روح ألمانيا أبدًا،
«ألمانيا الأمس والمستقبل دون أن تكون أبدًا ألمانيا اليوم». وهي تمكِّننا من أن نتفهَّم
على نحوٍ أفضل السعي الميئُوس الذي ينضح من النظرة التعبيرية، وبالأخص نظرة نوسفراتو.
ويتطرَّق ذهني هنا بالطبع إلى مصَّاص الدِّماء الشهير، الذي ابتدعه مورماو، كي يتطرَّق
أيضًا إلى مصَّاص الدماء الذي أراد هيرزوج أن يُعيده إلى الحياة مرةً أخرى بكلِّ إجلال
بعد
ستٍّ وخمسين سنة؛ تكريمًا للمخرِج الأستاذ القديم. ويقول هيرزوج: «نحن بلا آباء، لدينا
أجداد فقط.» معبِّرًا بذلك عن رفضه أبوَّة كافَّة مُخرِجي الرايخ الثالث. والعجيب في
الأمر،
أن نظرة نوسفراتو عند هيرزوج مشحونةٌ بحُزن لا نهائي، لا نجده بنفس الدرجة حتى في عيون
نوسفراتو المُخرِج مورناو. فكأنَّ هيرزوج أراد أن يُثبت الأصل الجرماني للتعبيرية من
خلال
إعادة إخراج نوسفراتو، وأن يُزيح الحجاب في الوقت نفسه عن الحقيقة المأساوية لتلك النظرة
الظمأى دومًا والمحكوم عليها باجتياز كافَّة الفراغات دون أن تتمكَّن أبدًا من أن تسقط
على
أي مكان. وقد سعي هيرزوج بهذه الطريقة إلى إرجاع غايته وخَلْقه إلى تلك الحقبة الفريدة
والمثيرة للدُّوار، التي الْتقت خلالها طلائع الإخراج على مدى عشرين عامًا؛ لكي تُعيد
النظر
في العالَم وتؤسِّسه من جديد على ركائزَ مستحدثة، لا حصرَ لها ومتعدِّدة الأشكال وشديدة
التنوع. ونحن على درايةٍ (وهذا ما استشعره التعبيريون) بمصير كلِّ تلك الأحلام الجميلة؛
فالإحساسان المتناقِضان المتمثِّلان في الشعور بعدم الرضا المقرون بالتطلُّع إلى مُثُل
عُليا للحرية المستحيلة التحقيق، ما كان يمكن أن تعكسهما النظرةُ التعبيرية على خير وجهٍ
إلا في عهد جمهورية فيمار. وقد تحقق تمامًا شعور نيتشه السابق بأنَّ ألمانيا «لن تكون
أبدًا
ألمانيا اليوم»؛ فالألمان يُكِنُّون كراهيةً شديدة لواقعهم الحاضر. ويجب أن نعترف بأنَّ
الواقع الألماني لم يكُن أبدًا مَدعاةً للابتهاج، وبالأخص في تلك الحقبة؛ إذ كانت بنود
معاهدة فرساي مُهينة للغاية لألمانيا. فقد قضتْ بانتزاع عُشر أراضي وثُمن سكان تلك الأمَّةِ
التي عانت الأمرَّين من أجل تحقيق ما يُشبه الوحدة، ولم يعُد من حقِّها إعادةُ تشكيل
جيشها،
كما أُلغِي الزِّي العسكري الرسمي العزيز لدى الألمان. وأصابت الأزمة الاقتصادية الكبرى
ألمانيا في الصميم وأشاعت البؤس في كلِّ مكان. والأهمُّ من ذلك، أن الانقسامات الاجتماعية
والنزاعات الأيديولوجية احتدمتْ في ذلك العهد وأجَّجت في الأفئدة مشاعرَ الإحباط التاريخية
إزاء استحالة تحقيق الوحدة. وفي ظِل تلك الأزمة الاجتماعية والاقتصادية، زاد من تفاقمها
ذلك
الاستعداد الطبيعي لدى الألمان لرفض الحاضر كواقع؛ فكان من الطبيعي أن تتجلَّى النزعة
التشاؤمية في أقصى صُورها من خلال النظرة التعبيرية.
وأودُّ أن أقدِّم مثَلًا آخَر لتلك النظرة التعبيرية قبل أن نتعرَّض للنظرة المظفرة
للزعيم «العظيم» في فيلم انتصار الإرادة. ويتعلَّق ذلك المثال بفيلم
آخَر لمورناو، ذاعت شعبيته في عهد جمهورية فيمار، ويمكن أن يوصف عن حقٍّ بأنَّه واقعي،
وأقصد بذلك فيلم آخِر الرجال (١٩٢٤م)، الذي يحكي قصة حاجبِ فندقٍ فخم في برلين، تقدَّمتْ
به
السِّن حتى بات عاجزًا عن أداء عمله، وتعيَّن عليه أن يستبدل الزيَّ الخاص بتلك الوظيفة
بالرداء الأبيض للمكلَّفين بتنظيف دورات المياه. لقد دبَّ اليأس في نفْسِ الرَّجُل حتى
كاد
أن ينتحر لولا إصرار المنتج، إريك بومر، على أن يختلق مورناو نهايةً سعيدة مصطَنَعة.
وتدور
كلُّ أحداث الفيلم، حول محورِ زيِّ الحاجب المضطلِع بالدور الرئيسي. ويتعيَّن أن نضيف
في
أعقاب لوت إيسنر أنَّه لا يمكننا أن نفهم هذا الفيلم إذا لم نكُن نعلم أنَّه بالرغم من
ثراء
التطلُّعات الرومانسية الكبرى وتعدُّد أشكالها في ألمانيا إلا أنَّ «الزيَّ الرسمي، هو
الملك» للأسف في هذا الفيلم. فكلُّ تصرفات الحاجب وبالأخصِّ نظراته ونظرات الآخرين يقرِّرها
الزي. فعندما يكون الحاجب في موقعه الرسمي، مرتديًا زِيَّه، تكون حركاته متَّسقةً، ونظراته
للمحيطين به ونظرات هؤلاء له مترابِطةً بشكلٍ طبيعي. كما أنَّ نظرات أهل الحي الشعبي
الذي
يقيم فيه وكذلك نظرات روَّاد الفندق أصحاب المقامات الرفيعة تتلاقى معًا في ذلك الاعتراف
بمركز كلِّ طرَف واحترام وضعه. وعلى النقيض من ذلك، تنقلب الموازين عندما يفقد الحاجب
زِيَّه، فيصبح سريعَ التأثر بالبرد وهشًّا ونهبًا للخوف؛ فيعتصم بدورة المياه ويضطر إلى
سرقة الزي المعتبَر ليرتديه عندما يعود إلى حيِّه في المساء. وهو يحدِّق بنظراته الذهانية
في الناس، بعد أن بات يناصِبهم العَداء. إنه لم يعُد يرى بل تتراءى له أوهام. وهكذا يكتسب
الزيُّ أبعادًا خرافية تُصبِح منقذَ الحاجب والأداةَ السحرية التي ستحلُّ التناقض المستعصي
بينه وبين العالَم، بين الطبقات الاجتماعية المتمثِّلة في روَّاد الفندق الفخم وسُكان
الحي
الشعبي. والواقع أنَّ حدسَ مورناو كان صائبًا على الصعيدَين السينمائي والتاريخي؛ فهو
يعرض
بسخريةٍ قاسية نظرةَ الحاجب المتفرِّسة، التي ينساق وراءها رواد قاعة السينما، مع أنها
نظرةٌ تفتقد الإحساس بتعقُّد العالَم ونسبيته، وتتركَّز تمامًا على الشيء الذي تتمحور
حوله
كرامته. أما من الناحية التاريخية، فإنه ينبئ بمجيء الزعيم الذي ستوجِّه إليه ألمانيا
المتوحِّدة النمط، عيونَها المنبهرة.
لقد انتقلت ألمانيا فجأةً من جماليات الهزيمة المُنكَرة التي لا بد من التعبير عنها،
مع
معالجة الواقع المتعدِّد الجوانب، إلى جماليات انتصار الإرادة الذي لا
يعوَّض. ومشاهدة هذا الفيلم النازي الكبير للمُخرِجة رييفنستال بعد استعراض الأفلام
التعبيرية، لها وقع الصدمة. إننا بصدد حاجبِ فندق أتلانتيك المغلوب على أمره وقد هبَّ
واقفًا على قدمَيه بزِيِّه العسكري الجديد المثير للإعجاب. إنه لم يعُد حاجبَ المُخرِج
مورناو الذي اضطره المُنتِج إلى تعديل نهاية الفيلم المتشائمة باللجوء إلى نهاية مفتعَلةٍ
حوَّلت الحاجب إلى وريثِ مليونير أمريكي، بل أدولف هتلر، مُخرِج الرايخ الثالث الذي حوَّل
السينما التعبيرية بعصاه السحرية إلى سينما آريَّة جعلتْ من آخِر
الرجال، الرجلَ الأول في الكون.
والحقُّ أنَّه ما من عنوان فيلم تَوَافق إلى هذا الحدِّ مع موضوعه بقَدْرِ ما توصَّل
إليه
انتصار الإرادة الذي جسَّده هتلر – جوبلز – رييفنستال؛ فكلُّ شيء
في هذا الفيلم مستقيمٌ ومحكم ومشدود إلى أقصى حدٍّ: أجسام الرجال والوجوه التي لا حصْرَ
لها
في لقطات كبيرة، والجماهير، والاستعراضات العسكرية، والخطب الطنَّانة، والمباني العامة
الشاهقة. والتماثيل والبيارق والرايات المرفرِفة؛ فكلُّ ما تلتقطه عدسات الكاميرات ويعدُّه
المونتاج واضحٌ ودقيق ومتميِّز ومعقَّم وقاطع.
وفي هذا العالم الجديد لا يوجد سوى السطح البرَّاق والمظهر الخارجي للأفراد والأشياء،
كما
تمَّ التخلُّص تمامًا من أدنى بادرةٍ تعبِّر عن الرُّوح القَلِقة أو المُلتاعة، الشائعة
في
السينما التعبيرية. ففي هذا العالم الصُّلب، لا بد وأن تتلاشى من الآن فصاعدًا الأنا
الداخلية والليونة. فكأنَّ قسوة العالَم الخارجي المحيط بالناس لم تعُد غريبةً أو غيرَ
مألوفة أو بشِعة أو مخيفة … بل ألمانية، جرمانية، تتميَّز بقوتها وصلابتها. لم نعُد بعدُ
بصددِ قوقعةٍ يتكوَّر فيها المرء يائسًا، بل إزاءَ درعٍ يستخدمه للانقضاض على
الآخَرين.
فانتصار الإرادة يشكِّل حقًّا انتصارًا للمُشاهَد (بفتح الهاء)
وانقيادَ المتفرِّج، أيْ لقطة ردِّ الفعل بكلِّ تأكيد. فنظرة الشخصية التعبيرية الفزِعة
والمحدِّقة من هول الخوف من الغول الخيالي ذي الهُوية المجهولة، تقع أخيرًا على ضالتها،
الفوهرر الذي يجسِّد رُوح ألمانيا الأزليَّة. ولا توجد سوى بنيةٍ واحدة موظَّفة في
انتصارِ الإرادة، تعمل بصفائها الأصيل والأسطوري والديني والصوفي
إلى حدٍّ ما. وهذه البنية الثنائية القائمة على نظرة الطرفَين تحقِّقُها ألمانيا التي
توحَّدت أخيرًا وللمرة الأُولى في تاريخها، بعد أن اكتشفت أخيرًا الطريقَ المُضيء، وراحت
تتأمَّل وضعَها الجديد في نشوةٍ عارمة. فطوال ساعات العرض الثلاث لا نرى سوى شخصيةٍ واحدة،
هتلر، الممثِّل والمُخرِج وقائد الأوركسترا الأوحد. أمَّا الشخوص البائسة والذليلة التي
كانت تتسكَّع شاردةَ الذِّهن في ظُلمات التعبيرية؛ فترفع رأسها الآن وترى أمامها طريقَ
الخلاص.
وقد تم تجميع مشاهدَ للجماهير من كافَّة أنحاء ألمانيا، عن طريق المونتاج؛ لتوحيدها
في
تزامُن يصبُّ في بؤرةٍ واحدة: الفوهرر. إنه القِبلة المنيرة التي ترسَّخت في أفئدة الشعب
الأسمى. ويظهر هتلر من كافَّة الزوايا في آنٍ واحد، بواسطة ثلاثين كاميرا: من الأمام
والخلف
ومن الجانب بزوايا مختلفة، وعن قرب وعن بُعد، ومن فوق لتحت ومن تحت لفوق. وقد اعترفَت
مُخرِجة الفيلم، التي وجَّهت تصويباتِ المصوِّرين نحو الهدفِ الأوحد، بأنَّها كانت في
حالةٍ
من النشوة والغِبطة البالغة أثناء التصوير.
وبينما تتَّجه أنظار الجموع في خطٍّ مستقيم نحو المُشاهَد (بفتح الهاء) الوحيد، تتلاشى
في
الوقتِ نفسه أزقَّة التعبيرية المتعرِّجة لتُفسح الطريق أمام شوارعِ نورمبورج المستقيمة،
وتتحول الجدران الكئيبة التي تضمُّ في جُنباتها المساجين إلى واجهاتٍ مُزدانة بالبيارق
المظفَّرة، وتختفي الأبواب المفخَّخة وتُفتح النوافذ المُعتِمة على مصراعَيها؛ لتطلَّ
منها
مجموعاتٌ من الأفراد المتشوِّقين إلى مشاهدة العَرض المسرحي. وهكذا تبدو النازية المظفَّرة
في هذا الفيلم وكأنَّها الملاذُ المتحرِّر من النظرة التعبيرية المتعطِّشة والمُنهكة.
ولكنَّ الفيلم يريد على ما يبدو، أن يقضي على الشرود والتسكُّع على غير هدًى، وبلا مأوًى
أو
مستقرٍّ، وبدون تلك الوحدة القومية التي تحتلُّ موقعَ الرُّوح بالنسبة للرومانسية
والتعبيرية الألمانية. إنه قضاء على ما تُفرزه ألمانيا وتَمقُته في صميمها، وما تشارك
به
السامية التي لا وطنَ لها. وهكذا تقتل ألمانيا ما هو يهودي في داخلها.
أمَّا الليل، المقابِل الشرير للنهار في السينما التعبيرية، فلا أثرَ له في
انتصار الإرادة. فلَمْ يعُد هناك سوى نهارٍ دائم في زمنٍ خيالي.
وعندما يحلُّ الظَّلام أثناء اجتماع المؤتمر النازي في نورمبورج؛ تخترق الظَّلامَ آلافُ
المَشاعِل في كلِّ مكان، كما لو كانت تبغي نَسْفه؛ فألمانيا الواقعة في براثن النازية
تقضي
الليلَ «سَكرَى مترنِّحة» وفقًا لتعبير الكاتب الفرنسي روبير برازيلاخ الموالي للنازية،
والذي أُعدِم بعد تحرير فرنسا. فهذا الفيلم أقوى تعبيرٍ عن فاشيةِ النازية، وهو يسجِّل
انتصارَ الإنسان على الزمن التاريخي الذي كان يتفتَّت في الأفلام التعبيرية ويجرُّ ضحاياه
من فراغٍ مفخَّخ إلى فراغٍ آخَر مفخَّخ هو أيضًا. وهكذا لم تعُد هناك سوى لحظةٍ أزلية
واحدة
متحرِّرة من كل الشرور ومُحكَمة تمامًا. إنه مجالٌ يحقِّق تطلُّع الألمان المحموم والشامل
بلا انقطاع منذ أيام مارتن لوثر. ولكن تلك الوحدة الشاملة و«الشمولية»، ليست سوى أسطورة،
ولا يمكن أن تتواجد هذه الشمولية بالتالي إلا من خلال بنيةٍ نظرية متكرِّرة، تعتمد على
الحشو والإبهار.
وقد قدَّم ستيف نيل في مجلة سكرين الإنجليزية تحليلًا مفصَّلًا لِلَّقطات المائة
والثلاث
عشرة الأولى في فيلم
انتصار الإرادة، وأُثبتت بشكلٍ غير مباشر أن
الدقائق العشر الأُولى من هذا الفيلم ليست سوى ردِّ فعلٍ واحد من جانب جماهير ألمانيا
بأَسرها تجاه الفوهرر (الزعيم الأوحد). فطائرة هتلر الخاصة تُزيح السُّحب عن السماء
الجرمانية، وتحلِّق فوق نورمبورج التي غدت صورةً مصغَّرة للأمَّة بأَسرها؛ فالمدينة ترفع
كلَّ رأسها نحو السماء متطلِّعة إلى الزعيم الذي ينظُر إليها من علٍ. ويتبادل «الفوق»
و«التحت» النظرَ مَليًّا؛ فيرى كلٌّ منهما نفْسَه في الآخَر. وهكذا تستقرُّ النرجسية
الصِّرفة منذ بداية الفيلم؛ فتتخلص من جهة من المجال المُعادي الذي حاول التعبيريون ترويضه
عبثًا، وتحدِّد من جهة أخرى إيقاعَ ما سيأتي به الفيلم، أيْ تبادُل اللقطات بين الشعب
المتفرِّج والفوهرر محطِّ الأنظار. وتحلِّق الطائرة في السماء في سكون مُطبِق؛ لأن
المُخرِجة حرصَت على عدم تسجيل ضجيجِ محرِّكها، بغيةَ أن تتجلَّى وحدها، وفي إطار من
الخشوع، الرسالةُ الموجَّهة إلى الأمَّة الجديدة والمدوَّنة بحروفٍ من نار تحت الطائرة
المروحية المحلِّقة فوقَ جموع الشعب المختار:
في الخامس من سبتمبر ١٩٣٤م، عشرون سنةً بعد بداية الحرب العُظمى، وست عشرة سنةً
من استشهاد ألمانيا، وتسع عشرة سنةً من بداية النهضة الألمانية؛ يطير أدولف هتلر
إلى نورمبورج لكي يستعرض مواكِبَ المؤمنين به.
وبمجرد هبوط طائرة الزعيم النجم، تحلُّ البنية الثنائية الأفقية التي تشمل أراضي ألمانيا،
محلَّ البنية الرأسية المتمثِّلة في اللقطات المتبادَلة بين الزعيم المحلِّق في السماء
والأمَّة المنتظِرة على الأرض. وتتضمَّن المَشاهِد التي حلَّلها ستيف نيل: هتلر في المطار،
وهتلر واقفًا في سيارته التي تجوب شوارع نورمبورج، وهتلر عند وصوله لفندقه، وهتلر في
الشُّرفة. لقد تمَّ التلاعب استراتيجيًّا بواسطة المونتاج الذي أعدَّته المُخرِجة رييفنستال
اعتمادًا على الصور التي الْتقطها المصوِّرون الثلاثون ومعهم سبعة عشر أخصائيًّا في
الإضاءة، بغية توحيد هُوية الجماهير الألمانية في فردٍ أوحد، ولكي يتقمَّص جسدَ ألمانيا
بتلك الرُّوح. فالألمان يشكِّلون جسدَ بلادهم، وهتلر هو رُوحها الحيَّة، وكلُّ مواطِنٍ
ألماني جزءٌ مقدَّس من هذا الجسد، الذي يبثُّ فيه هتلر الحياة.
وفي ظِل اللقطات الكبيرة والعديدة للوجوه المتطلِّعة، التي شُفي غليلها، والمنبهرة؛
لا
يوجد أحدٌ يحاول أن يبحث أو يفكِّر ما دام الجميع عثروا. لقد قَلبَ انتصار
الإرادة ظهْرَ المِجَنِّ للتعبيرية، ولم يعُد هناك بالتالي أيُّ مجالٍ لطرح
التساؤلات ولا لِلَحظات الحيرة أو المناقشة أو التمرُّس. وباختصارٍ لم يعُد هناك تاريخ،
واقتصر الأمر على غياب التفكير. وتلك هي الفاشية في حقيقة الأمر. وبعبارةٍ أخرى، لم يعُد
هناك مكان أو زمان، ولكنْ كُتل جرمانية مفارِقة وقرينها المُؤلَّه، الذي ترنو إليه بلا
كللٍ
أو مَلل. وقد أُلغي إلى الأبد أيُّ فراغٍ غريب أو مُنذِر بالخطر؛ فالانتصار الشامل أكيدٌ
من
خلال الفوهرر، ولا توجد أيَّة فجوة، بين الكتلة البشرية والزعيم، قد ينبثق منها أيُّ
تفكير.
فالفراغ مُترَعٌ حتى حافته بفيضٍ من الصُّلبان المعقوفة والبيارق والأعلام الصغيرة
الخفَّاقة والشِّعارات والرسومات الرمزية للجماهير وقائدها. إنه أعظم انتصارٍ لنظامٍ
خرافي
يتسلَّط عليه وسواس التهرُّب من حقائق التاريخ، كما قال ليفي ستراوس.
ويتوافق المونتاج مع إيقاع الخطوات العسكرية للزعيم النجم ومقابلة الجمهور. فهتلر
يرفع
هامته ورءوس الجماهير تشرئب نحوه، وهتلر يتطلَّع إلى الأفق (وهو لا ينظُر إلى الكتل
البشرية) ولكنَّها تصوِّب نظراتِها إليه. وهو لا يحيِّي الألمان، ولكن ألمانيا في صورتها
المجرَّدة. والجماهير الملموسة توجِّه إليه تحياتها وعواصف تصفيقها، وهو مُنتصِب القامة
في
سيارته المكشوفة السقف والمنسابة وسط الجماهير. بينما تسجِّل الكاميرات لقطاتٍ لآلاف
السواعد الممدودة والمتجاوِبة معه. والأهمُّ من كلِّ ذلك، هتلر وهو يُلقي خطابه وردود
فِعل
الجمهور المنبهِر والمُترَع بكلماته. وتلك هي البنية الأساسية لانتصار
الإرادة؛ حيث يكون المتفرِّج في خدمة المُشاهَد (بفتح الهاء) مع انصياعه
التام لأيَّة إشارة أو نظرة من الأخير. ولكي تعمل تلك البِنية بشكلٍ مطلَق وتحقِّق الانبهار
التام، يجب ألَّا يكون هناك فراغٌ كما أشرنا إلى ذلك من قبل. ممَّا يستدعي اللجوء بشكل
منتظِم، إلى لقطات فردية كبيرة موزَّعة على طول الفيلم؛ لمَلْء الفراغات في اللحظة
المناسبة: نَسْر مبسوط الجناحَين، صليب معقوف، امرأة، تمثال المحارب، طفل يلمع وجهه تحت
الأضواء، جندي على رأسه خوذة في وضعِ الاستعداد للقتال … إنَّها في الواقع صوَرٌ بليغة،
لها
دلالة إرشادية تعبِّر عن ألمانيا المدنية، التي تشقُّ طريقها نحو التوحُّد العسكري. وهناك
العديد من اللقطات الأخرى، التي تظهر بنفس القَدْر من الانتظام وتمثل الجماهير وهتلر
يتوسَّطها، وهتلر أمام الجماهير، وهتلر فوق المنصة في خلفية الشاشة وتحت قدمَيه الجماهير
المصطفَّة في تشكيلاتٍ عسكرية. إنَّها لقطاتٌ جامعة تنضح بالتوحُّد والشمولية سعيًا إلى
النهاية المحتومة، ألَا وهي انتصار الإرادة، وتُفصح عن المغزى الأيديولوجي للعلاقة بين
المُشاهِد والمُشاهَد؛ فقد اندمجتْ ألمانيا جسدًا ورُوحًا في الرايخ الثالث.
والحقُّ أنَّ الصدمة شديدةٌ عندما نرى ذلك الانقلاب الجذري في الأوضاع؛ فالفرد الذي
كان
يتراجع لكي ينزوي في الظَّلام، يتقدَّم من الآن فصاعدًا تحت الأضواء الساطعة. غيرَ أنَّ
التدقيق في ذلك التحوُّل والتمعُّن فيه، يكشف لنا في الواقع أننا لسنا بصدد صدمةٍ ثقافية.
ومع أنَّ السينمائيين التعبيريين كانوا يسيرون في رَكبِ الفنانين الثوريين في العشرينيات،
كما سبق أن ذَكَرنا، وأنَّهم كانوا يحاولون بالتالي تخليصَ السينما من التذرُّع الهوليودي
بالواقعية بطريقتهم الخاصة (والمختلفة عن طريقة الشكليين الرُّوس)، بُغيةَ شدِّ الأنظار
نحوَ أبعادٍ أخرى خِلاف «الواقع الحاصل» إلا أنَّ أفلامهم كانت مدموغةً بتضخُّم العين
والخِداع البصري. والواقع أنَّ المسافة بين السينما التعبيرية والسينما النازية ليست
كبيرةً
كما تصوَّر الكثيرون، حتى إنَّه قد لا تكون هناك حقًّا مسافةٌ بينهما، وأنَّ الأمر يقتصر
على كون كلٍّ منهما عكسَ الآخَر، وأنَّ الظَّهْر أصبح «الوجه». لقد كانت رييفستال معجَبة
بأعمالِ فريتز لانج ودرست عددًا من أفلامه، منها بالأخصِّ متروبوليس
ونيبلونجن قبل أن تبدأ في صُنع فيلمها. غير أنَّ رييفنستال كانت مُفرِطة في
تفاؤلها بقدْرِ ما كان أستاذها مسرِفًا في التشاؤم. ففي فيلم انتصار
الإرادة، تحوَّلتْ عقدةُ النقص عند المُواطِن الألماني إلى شعورٍ واهم
بالسمو والتفوق. لقد انحسرت براثنُ صنوه الشرير والخفي الذي كان يطارده لمصِّ دمائه،
وتحوَّل إلى منقِذٍ يمدُّ له يدَه لينتشله من الهاوية. وهذا الفوهرر الذي تتطلَّع إليه
ألمانيا المظفرة، ليس شخصًا مختلفًا ابتكره الخيال الجماعي، مثل سيجفريد، بل القرين الواقعي
لألمانيا الحقيقية. فانتصار الإرادة ليس فِيلمًا خياليًّا بل
وثائقيًّا؛ إذ إنَّ المصورين الذين عملوا تحت إشراف رييفنستال، سجَّلوا الواقع الذي تحوَّل
إلى مَشاهدَ مترابِطة. غيرَ أنَّ حقيقة تلك الوحدة القومية المكتسبة، راحت السينما تضاعِفها
وتعظِّمها، حتى باتتْ وهمًا لا يقلُّ عمقًا عن التعبير الخيالي لانفصام الشخصية والانقسام
الاجتماعي السابقَين. وبعبارةٍ أخرى، كان ذلك انحدارًا من السيئ إلى الأسوأ؛ فقَدْ تخلَّصتْ
ألمانيا من الأوهام المُحبِطة والمؤسَّسة العاجزة عن التعايش مع تعدُّد وجهاتِ النظر؛
لتتردَّى في الواقع الذي تشوِّهه الأسطورة. فألمانيا فيمار وألمانيا الرايخ، كلٌّ منهما
صنو
الآخَر، ونفس النظرة المصابة بالتضخم، مع فارقٍ واحد؛ ففي ألمانيا التعبيرية، لا يظهر
المُشاهَد (بفتح الهاء)، وبالتالي يصبح المتفرِّج فريسةَ التصورات الخادعة، فلا «يرى»
أشباحًا مشوَّهة الخِلقة. وفي ألمانيا النازية، نجَدُ المُشاهَد (بفتح الهاء)، ذلك الزعيم
«الذي تصبو إليه الأمم»، قائمًا بشحمه ولحمه؛ ممَّا يُتيح للمتفرِّج إمكانيةَ رؤيته
والارتياح لوجوده.
لكنَّ الفارق بين النظرة التعبيرية اليائسة، التي لا تجِدُ لنفسها مستقرًّا، ونظرة
النازية التي عثرتْ على هدفها؛ ليس سوى خدعة. فالنظرات المنبهِرة المثبَّتة على أدولف
هتلر
في انتصار الإرادة، حقيقة وثائقية ولكنَّها لا تتركَّز في الواقع على مستشار الرايخ بقدر
أكبر ممَّا كانت تتركَّز على الشخصيات التعبيرية. ولكنَّ المشاهِدين يرون من خلال أدولف
هتلر وعبْرَه، الرَّجُلَ الذي يوحِّد ألمانيا، وذلك فضلًا عن إلغاء المسافة بين المتفرِّجين
وشخصه الأوحد؛ ما يعزِّز الإحساس بتلك الوحدة. ومع ذلك، وهذا هو صميم المسألة، فإنَّ
هذا
الزعيم الذي يلقي خطبةً من فوق المنصات، كان في الواقع بُرجوازيًّا صغيرًا إلى أبعد مدى،
كما صوَّرَه لنا هانز يورجن سيدبرج في هتلر، فيلم من ألمانيا (۱۹۷۷م).
وبعبارة أخرى، فإنَّ تلك النظرة المتضخِّمة التي تكلَّمنا عنها، ليست مع ذلك سوى قِصَر
نظَرٍ؛ إنه ذلك النزوع الغريب والمُقلِق للخلط بين الدالِّ والمدلول، وبين الخاصِّ والعام،
والملموس والمجرَّد، والحقيقة والأسطورة. وعلينا أن نقرأ ما يقوله الباحث الأمريكي ليونيل
روثكروج حول التلهُّف إلى المطلق الذي يدفع الألمان إلى المواجهة المباشرة. وقد درَسَ
روثكروج ٨٧٥ مزارًا يحجُّ إليه الناس في ألمانيا قبل حركة مارتن لوثر الإصلاحية. وقد
لاحظ
من جهةٍ أنَّ عدد المزارات في شمال ألمانيا وشرقها أقلُّ بكثيرٍ ممَّا هي في بقيَّة أنحاء
البلاد (۱۷۸ بالمقارنة مع ٦٩٧ من الجنوب والغرب)، كما لاحَظَ من جهةٍ أخرى أنَّ أغلبية
تلك
المزارات، لم تكُن مكرَّسة لقديسين محليِّين. وقد استخدم روثكروج تلك البيانات، إضافةً
إلى
إفادات أخرى، ليؤكِّد بلا مواربةٍ أنَّ أهالي شمال ألمانيا، كانوا لوثريِّي العقلية أصلًا؛
فقد اعتادوا التوجُّه إلى الله بلا وسطاء، ووجهًا لوجه، كما أنَّ السُّلطة لديهم لها
طابعٌ
مقدَّس ومصطنَع ومثيرٌ للقلق. وقد قابلتُ الأستاذَ روثكروج واقترحتُ عليه أن يشاهد فيلم
انتصار الإرادة، الذي كان لا يعلم عنه شيئًا. وقد أذهلتْه صور
رييفنستال، وقال لي: «هذا الفيلم يفسِّر كلَّ شيءٍ.» غير أنَّه قد يتعيَّن أن نرجع إلى
برخت، «الأب برخت، الذي يجب ألَّا ننساه» على حدِّ قول جودار. والواقع أنه يبدو أنَّ
كون
برخت، المنظِّر والفنان العظيم المنادي بالتباعد، مُواطِنًا ألمانيًّا لم يكُن محضَ صدفة.
فَقَد استبان له أنَّ هناك نزوعًا، حتى في صميم الثقافة الألمانية إلى المُطلقية بالنسبة
لذلك النوع من الإدراك، الذي لا يستطيع أن يهيئ لنفسه وُسطاء ويجازف دائمًا بالتردِّي
في
الأسطورة.
وقد حرصتُ على التوسُّع في معالجة انتصار الإرادة ومن قبلها
التعبيرية؛ لأننا نمسُّ بذلك أجلى نموذج لاستخدام لقطة رد الفعل في تحقيق نجوميةِ فردٍ
ما.
وقد لاحظنا كيف أنَّ بنية المتفرِّجين العديدين المنصة على مُشاهَد (بفتح الهاء) أوحد،
لقيتْ كلَّ الترحاب في ظِل الأوضاع الأمريكية المتميِّزة بتعدُّد الأجناس التي ينتمي
إليها
مواطنوها، وحيث يتعلَّق تقليديًّا الخطاب السنوي الكبير لرئيس البلاد «حالة الوحدة» التي
لا
تزال هدفًا مطلوبًا تحقيقه.
ومن الواضح أنَّ لقطة رد الفعل التي تعتمد عليها بنية انتصار الإرادة في كافة مَشاهِدها
تمثِّل استثناءً يستحيل تجاوُزه؛ لأنه استنفد قوةَ رد الفعل إلى أقصى مدى، واستخدمها
على
أكمل وجه كأداةٍ للفاشية في أكمل صورها. وهي تمثل، بعبارةٍ أخرى التقنية النموذجية الفاشية
المُطلَقة؛ إذ إنها تعبِّر عن الخرافة لا كمَثَل أعلى يمكن تحقيقه، وإن كان لن يتحقق
أبدًا،
بل تحوُّل تلك الخرافة إلى حالةٍ قائمة أمام المتفرِّج.
بَيدَ أنَّ البنية السينمائية للمُشاهِد/المُشاهَد التي تجرف نظرة المتفرِّج نحو
تحويل
الممثِّل إلى نجم، تتسرَّب في كلِّ جوانب الأفلام الشعبية، مثل الجوكر وسط أوراق اللعب.
وسنرى بعد قليل أنَّ هذه البنية أصبحت رأس حربةِ السينما الكلاسيكية الهوليودية، ومن
الممكن
أن تتحول إلى سلاحٍ ماضٍ للتحكُّم في المتفرِّج. وقد رأينا من قبل كيف اتَّخذت تلك البنية
ذلك الاتجاه في برنامج جيمي سواجارت التليفزيوني وفي الربط بين ريجان
ونانسي وجمهور الحاضِرين.
وهناك العديد من الأفلام الأمريكية التي يمكن أن ندرسها لنتقصَّى فيها الحالات التي
يبيَّن فيها ردُّ الفعل المحاكي للسينما الوثائقية النازية، في فيلم انتصار
الإرادة بالذات، وكذلك أيضًا في الفيلم الروائي سوس
اليهودي (١٩٤٠م) على وجه الخصوص، وهو أكثر أفلام الرايخ الثالث مناهَضةً
للسامية، ويتميَّز بشحن أنظارنا ضدَّ سوس اليهودي بنفس المشاعر المتعصِّبة التي تدفع
إلى
تأليه هتلر. وأذكر هنا أفلامًا مثل القبعات الخضراء (جون وين، ١٩٦٨م)
ومسلسل هاري القذر، والرغبة في الموت. ولكنْ
لماذا نخاطر بالتعرُّض لأفلام صارخة ووُجِهتْ في حينها بانتقاداتٍ مُقذِعة، ممَّا قد
يُضفي
عليها أهميةً ويجازف بتصويرها على أنَّها مجرَّد هناتٍ وقعتْ فيها السينما الأمريكية؟
والواقع أننا نجِدُ ذلك الردَّ فعل المتوفِّر حسبَ الطلب، وتلك السيطرة على المتفرِّج
وأيضًا ذلك الإبهار في كلِّ مكان، متخفِّيًا في أبسط مشاهد السينما الشائعة. وهذا ما
تولَّتْ بثَّه شبكةُ إيه. بي. سي. الأمريكية بين مليارَين ونصف مليار من مشاهدي التليفزيون
أثناء الألعاب الأولمبية التي أقيمت في لوس أنجلوس في عام ١٩٨٥م. ولنلاحظ بهذا الصَّدد
أنَّ
البنية الإبهارية شِبه الفاشية التي استخدمها فنِّيُّو شبكة إيه. بي. سي. التليفزيونية
للتعظيم من شأن الرياضيين الأمريكيين، هي بالضبط البنية التي اعتمد عليها الفيلم الوثائقي
آلهة الاستاد الذي أخرجته ليني رييفنستال لتمجيد ألمانيا أثناء
الألعاب الأولمبية، التي أقيمت في برلين في عام ١٩٣٦م، مع الأخذ بالاعتبار ما توفَّر
لدى
هؤلاء الفنيين من تقدُّم تقني تحقَّق خلال ٤٧ عامًا. وما علينا إلا أن نرفع أنظارنا عن
مقعدنا المريح؛ لنجد أمامنا تلك البنية المتكررة بلا كلل أو ملل في الفقرات الإعلانية
التي
نشاهدها على شاشات التليفزيون. ولنتعرض، في غضون ذلك لصميم هذا النظام.