الفصل الرابع

وجه جانيت ماكدونالد

لكي نتفهَّم على خير وجهٍ ظاهرة نظام النجوم الذي يحتلُّ مركز الثقل في تفكيرنا، وتبرز من خلال كافة التحليلات، علمًا بأنني أرى أنَّ لقطة رد الفعل هي العنصر الأساسي في هذا النظام؛ يجب أن نميِّز بدقَّة، ولكن باختصار، بين حقبتَين للسينما الهوليودية: الأولى التي سبقت الحرب العالمية الثانية، والثانية التي جاءت في أعقابها. ويتفق المؤلفون على أنَّ الثلاثينيات كانت عهد السينما الهوليودية الكلاسيكية، كما يقرُّون أيضًا بأن هذه السينما تميَّزت بتمكُّنها التقني المدهِش، وفقًا لقواعد واضحة شبه مقدَّسة، وتولَّت إنتاجها بروعة استوديوهاتٌ لا نزاعَ في كفاءتها. وهُمْ يلاحظون أيضًا التماسك المتناغِم الذي ساد في موضوعات الأفلام وأمزجة الرأي العام والنُّقاد والمتفرِّجين. كما راحوا يكرِّرون بلا مللٍ إشادتهم في كتاباتهم بسلاسة المونتاج ومرونة التعامل مع المجال والمجال المقابل حتى إنه كان يتمُّ دون أن يفطن له أحد.

غيرَ أنَّ ما يهمُّنا أن ننوِّه به بالأخصِّ فيما يتعلق بالسينما الهوليودية الكلاسيكية، هو تواجد نجوم الشاشة في كل الأفلام، فعلى سبيل المثال شارك كلارك جيبل في ۲۷ فيلمًا وجانيت ماكدونالد في ١٤ فيلمًا وذلك في الفترة الممتدة بين ۱۹۳۱ و۱۹۳٥م أمَّا كاري جرانت وميكي روني فقد مثَّلا على التوالي ۷ و۸ أفلام في غضون سنةٍ واحدة. وكانت الاستراتيجية التي تلجأ إليها الاستديوهات في تلك الحقبة ﻟ «تسويق النجوم»؛ تتضمَّن أولًا اكتشاف مواهب شابَّة ثمَّ الترويج لها لدى أقلام الصُّحف اليومية الكُبرى والمجلات الشعبية والإذاعات، وأخيرًا عَرْضها في دُور السينما أكبرَ عددٍ ممكن من المرَّات خلال أقصر مدَّة. وعندما يشاهد المرء من جديد أفلام الثلاثينيات يندهش على أيَّة حال لمدى اتِّزان التقنية في قيامها بخدمة النجوم. وأقول «على أيَّة حال»، لأنَّ رواد السينما كانوا يترقَّبون بالتأكيد ظهور النجوم على الشاشة. ولكنَّ الاندماج الموفق بين مختلف العناصر، كان يحقِّق ذلك بشكلٍ غير ملحوظ. ويتعيَّن بالطبع أن نأخذ في عين الاعتبار أنَّ القاعدة الذهبية في السينما الهوليودية الكلاسيكية، كانت تقضي بأن تكون التقنية (المونتاج وحركة الكاميرا بالأخص) غير مرئية. غير أنَّنا يجب بتلك التقنية التي كانت مُلزِمة بالتخفي، أنه ما كان لها أن تستعرض عضلاتها، شأنها في ذلك شأن النجوم الذين لم يكونوا في حاجة إلى مَن يقدِّمهم. وكان بوُسع التقنية أن تبقى في الكواليس. وعلى أيَّة حال، كانت اللَّباقة تدعو إلى عدم استعراض التقنية وإخفاء استراتيجيتها؛ لترك الأمر للمعجبين لكي يتولوا بأنفسهم عملية تحويل الممثِّلين الرئيسيِّين إلى نجوم. وفيما يتعلَّق بتخفِّي التقنية، يحضرنا هنا حدس كريستيان ميتز: إذا كان موقع المتفرِّج هو المجال الخارجي للشاشة، هل يمكن أن تكون هناك استراتيجية أشدُّ حذقًا من ترك المواهب الشابَّة لوسائل الإعلام قبل ظهورها في مجال الشاشة؟ والواقع أنَّ الاحتفاء بالنجوم خارج إطار الشاشة وصُنع شهرتهم بعيدًا عن الأفلام، كان في صالح النظام السينمائي؛ فالمشاهِدون ينتظرون في قاعة السينما المظلِمة قدومَ النجوم لينضموا إليهم عبر الشاشة، ويؤدوا أدوارهم على غرار ما يحدث على خشبة المسرح.

واللقطات الأُولى لفيلم سان فرانسيسكو (إخراج فان دايك ١٩٣٦م) نموذجٌ واضح لتلك الرصانة الاستراتيجية. فمع أنَّ كلارك جيبل لا يتباطأ في الظهور في الفيلم، وذلك بعد دقيقةٍ ونصف من مقدمة الفيلم، إلا أنَّ تلك المدة القصيرة للغاية عامرةٌ مع ذلك بالعديد من اللقطات المقرَّبة (٣٣ لقطةً) التي تتدفَّق على الشاشة. إنَّها لقطاتٌ للمحتفِلين بقدوم العام الجديد ١٩٠٥م في شوارع سان فرانسيسكو: لقطات مُقرَّبة للصدر في غالبيتها، ومليئة حتى الحافة بأفرادٍ غير معروفين يغنُّون ويحتسون المشروبات، ويتبادلون التهاني، ولقطات في الليل تتميَّز بإضاءتها الجزئية، ولقطات لأشخاص لا ينظُر بعضهم لبعض، ولا تعتمد على بنية المجال والمجال المقابِل، والمُشاهِد/المُشاهَد، ولقطات ترِدُ الواحدة منها إلى جانب الأخريات، وجميعها في مجال الشاشة، دون أن تأتي إحداها من المجال الخارجي؛ فجميعها لقطاتٌ لا تُقحِم المتفرِّج، ولا تسعى إلا إلى تقديم مشهدٍ لمدينةٍ تحتفل بالمناسبة المذكورة آنفًا. وسنرى فيما بعد عندما سنتعرض لفيلم صباح الخير يا فيتنام، أننا بصدد الصفة المميِّزة للأفلام الوثائقية؛ حيث المجال الخارجي لا وجودَ له وإلا انزلقنا نحو الخيال الروائي. ومع ذلك تنجح تلك اللقطات في جَعْل عمليات التقطيع البالغ عددها ٣٣ قَطعًا عن طريق المونتاج، غيرَ مرئية، بالرغم من غياب المجال/المجال المقابِل؛ وذلك لسببٍ بسيط، ألَا وهو اللجوء باستمرار إلى قَطْع الحركة والاختفاء التدريجي للَّقطات، وهما وسيلتان جيِّدتان برعَت السينما الكلاسيكية في استخدامهما لتعزيز الأساطير الأمريكية بأسلوبٍ ناعم لا يتكشَّف لأحد. وأودُّ أنْ أُشير من الآن إلى أنَّ التقنية ليستْ بريئةً أبدًا بأيَّة حال من الأحوال، وأنَّ تواريها يشكِّل استراتيجيةً تتبعها الأسطورة؛ لكي تُغلغل في الفيلم وتُبحث في «الداخل» على نحوٍ أفضل، كما كان يقول رولان بارت. وعلينا أن نفكِّر بمزيدٍ من العمق في هذه المسألة عندما نكون قد جمعنا معطياتنا.

وتستقبل اللقطة الثالثة والثلاثون النجم، وهي تشبه اللقطات السابقة لها، ولا تتميز عنها سواء في نسيجها أو حجمها أو إضاءتها. ولكنَّ هناك، مع ذلك، فارقًا كبيرًا؛ فهي تنفتح على الجدار الرابع، أيْ في مواجهة الصالة، حيث نرى كلارك جيبل من الظَّهر وهو يتقدَّم ليدخلها، ويدخل القصة في نفس الوقت وهو يجرُّ وراءه في خِضمِّ الزِّحام، المتفرِّجين الذين كانوا ينتظرون تلك اللحظة. وهذه اللقطة الأخيرة من المشهد الأول للفيلم، هي الوحيدة التي تبدأ من خارج المجال؛ وذلك لسببٍ واضح وهو أنَّها تتضمَّن النجم الذي يحبُّ أن يظهر عن طريق الحيِّز الذي يوجد به المتفرِّج المترقِّب لحضوره. وهذه اللقطة الأخيرة في المشهد الأول، هي بالطبع اللقطة التي ستستهلُّ أفضلَ بنية خيالية للفيلم؛ إذ إنها اللحظة التي يتعرَّف فيها المتفرِّج على نجمه المحبوب. وهناك أيضًا في نفس اللقطة متفرِّج آخَر، داخل الكادر، يتعرَّف هو أيضًا عليه، كرَجْع صدى للقاعة. وبعد بُرهةٍ نجِدُ في اللقطات التي ستأتي في أعقاب ظهور النجمة جانيت ماكدونالد، حوالي عشر شخصيات جاءت لتؤكِّد وتعزِّز تعرُّفنا على البطل كلارك جيبل عن طريق لقطة رد الفعل.

ولْنُلقِ نظرةً على ظهور جانيت ماكدونالد على مسرح الأحداث؛ فهو ظهورٌ عامِرٌ بالدروس حول السينما الهوليودية الكلاسيكية؛ إذ إنَّه يتمُّ من خلال لقطةٍ واحدة، لقطةٍ نصفِ جامعة تتحرَّك فيها الكاميرا (ترافلنج) من الجانب الأيمن إلى الجانب الأيسر، مع انفتاحٍ نصفي على القاعة، حيث نرى النجمة وهي سائرةٌ وسطَ الحشد المَرِح في شوارع المدينة. لكننا لا نلاحظ حركةَ الكاميرا لسببَين؛ أولًا: لأنَّ الجمهور هو نفسه يتحرك، بينما تكتفي الكاميرا بتسجيل حركته وبإبرازها بالتراجع جانبًا؛ لتُفسح له المجال حتى يتَّجه نحونا. وثانيًا: وبالأخص لأنَّنا تعرَّفْنا على جانيت ماكدونالد في نفس اللحظة التي بدأتْ فيها اللقطة، عِلمًا بأنَّها تتقدم نحونا انطلاقًا من الشاشة (بينما ظهَرَ كلارك جيبل على الشاشة من خلال دخوله من خارج المجال، أيْ قاعة العرض). ولذا فإنَّ الأنظار تركِّز عليها تمامًا. وبالطبع فإنَّ صيغة الجمع الخاصة بالمتكلِّم مقصودٌ بها المتفرِّجون في ذلك العَهْد، أولئك الذين أُتيحتْ لهم فرصةُ مُشاهَدةِ النجمة والاستماع إلى أغانيها في أكثر من خمسة عشر فيلمًا منذ عام ۱۹۲۹م.

ولْنتوغَّل في تحليل تلك اللقطة الفريدة لظهور جانيت ماكدونالد. فإذا كنَّا قد تمكَّنا من الاستدلال على نجمتنا المحبوبة من الوهلة الأُولى، واستبعدنا في نفس الوقت الجمهورَ المحيط بها من مجال نَظَرنا، فقَدْ وجَّهْنَا أيضًا أنظارنا نحو كلارك جيبل، الذي يأتي إلينا من المشهد السابق من خلال التداخل التدريجي، فينساب بلا ضجة داخلَ لقطةِ جانيت ماكدونالد، ويسير خلفَها لبُرهةٍ وهو يشقُّ طريقَه وسطَ الحشد؛ ليَصِل إلى مستواها ثم يتجاوزها ويخرُج من إطار الشاشة من جِهتها اليسرى دون أن يتعرَّف عليها. وما نحن هنا إلا بصدد وصفٍ مختصَر للَّقطة التي ندرسها، بغيةَ تحديد مسارها، ممَّا يُشعِرنا هنا بمدى الحذق الاستراتيجي الذي تعامَلَ به فان دايك مع تلك اللقطة. ولْنذكُر بهذه المناسبة أنَّ سيلزنيك، المنتِج السينمائي الكبير في سنوات ازدهار هوليود المتخفِّية، كان يعتبر فان دايك أستاذَ ألفريد هيتشكوك في مجال استخدام التقنية، غيرَ أنَّه يتعيَّن أن نسترسل في هذا المجال؛ لكي ندرك مدى أهمية تلك اللقطة الخاصة باللقاء الفاشل في تهيئة المتفرِّج في القاعة وجَذْبه لكي يكون ردُّ فعله طبيعيًّا، عن طريق تبادل النظرات بين نجمَيه المفضَّلَين. وهذه اللقطة الترافلنج غير المحسوسة، التي تقدِّم للمتفرِّج جانيت ماكدونالد وهي تتجوَّل وسطَ جمهورِ سان فرانسيسكو الصاخب، تستغرق ٢٧ ثانيةً (٦٧٠ صورة). غيرَ أنَّه لم ينقضِ أكثر من عشْرِ ثوانٍ بعد بداية اللقطة، وهي بالطبع عشْرُ ثوانٍ للتأمُّل في الممثِّلة، حتى تنجذب أنظار المتفرِّج إلى يمين الشاشة؛ لتستقبل كلارك جيبل، الذي راح يدخُل مجالَ الشاشة. وابتداء من تلك اللحظة حتى نهاية اللقطة التي لم يتمَّ خلالها تبادُل النظرات بين النجمَين لكي يتعرَّف كلٌّ منهما على الآخَر، ستنتقل نظرات روَّاد قاعة العرض بشكلٍ غير محسوس بين جانبَي الشاشة الأيمن والأيسر. إنه نوعٌ من المجال/المجال المقابِل يضطلع به المتفرِّجون، ويحدَّد إيقاع اللقطة بتوزيعِ أنظارهم بين اليسار (حيز جانيت ماكدونالد) واليمين (حيز كلارك جيبل)، خاصة وأنَّ كلًّا من مضمون هذه اللقطة بأسْرها وسلوك بطلَي الفيلم، لا يرمي إلا إلى إثارة تردُّد نظرات المتفرِّجين من خلال لعبة كرة الطاولة البصرية هذه.

وعلينا أنْ نحكم بأنفُسنا؛ فكلارك جيبل القادم من يمين الشاشة، مهدَّدٌ بأن يجبر على التقهقر كلَّما مالتْ مشيته المتعجِّلة إلى قَطْع المسافة التي تفصله عن الممثِّلة. وقد تمَّ ذلك مرتَين بالأخص: في المرَّة الأُولى، عندما اجتاح مجالَ الشاشة من اليسار إلى اليمين جمْعٌ من البحَّارة المَرِحين والصاخبين، ممَّا اضطر الممثِّل إلى التراجع، حتى إنه اختفى عن أنظارنا لبضعة ثوانٍ، وبالذات في اللحظة التي كاد أن يلحق فيها بمجال الممثِّلة على اليسار، وفي المرة الثانية عندما أقبلَت امرأةٌ بَدينةٌ ومتحمِّسةٌ، فسدَت الشاشة تمامًا بظَهْرها، وحجبَت الممثِّل وعرقَلَت حركته، مع أنَّه كان على مقربة من الممثِّلة في وسط الشاشة، أيْ في حدود موقعٍ يمكن أن يتمَّ فيه اللقاء. ومن الملاحَظ أنَّه في كلِّ مرة، يعطِّل فيها مسارَه ضغطُ الجمهور. حتى إنه يختفى عن الأنظار، هناك أناس يحيُّونه أو ينادونه أو يتعرَّفون على شخصٍ تحت اسم بلاكي.

أمَّا جانيت ماكدونالد التي تشغل يسار اللقطة، فتسير كما لو كانت منوَّمة (يبدو عليها الإنهاك وهي تائهةٌ وسط زحام عامة الناس). وهي على وشك الاختفاء بشكلٍ متواصِل خارجَ مجال الشاشة، خاصة في كلِّ مرة يصبح فيها كلارك جيبل على مقربة منها بينما تُعيده إلى يمين الشاشة موجاتٌ متتالية من الناس. أما جانيت ماكدونالد التي لا يعرفها أحدٌ من جمهور سان فرانسيسكو ولا ينظُر إليها، فهي معروفة تمامًا لروَّاد قاعات السينما الذين يعبدونها ويُحيطونها بنظراتهم المنبهِرة. وممَّا يزيد من تشوُّقهم إلى رؤيتها انتظارُ اللقطة التي تظهر فيها، خاصة منذ عَرْض الصُّوَر الأُولى لمقدمة الفيلم، التي أعلنتْ عن قُدومها بالأسلوب البرَّاق الذي كانت تتَّبعه استوديوهات الثلاثينيات.

(شعار الأسد)

مترو-جولدوين-ماير

يقدِّم

كلارك جيبل

و

جانيت ماكدونالد

في

سان فرانسيسكو

ويتعيَّن أن نذكُر الكاميرا وعينَي المتفرِّج تتحرك في ترافلنج رأسي لالتقاط تلك الرمزة الساحرة: الأسد الشهير، شعار الاستوديو الكبير، ثمَّ اسما النجمَين؛ لكي تستقرَّ بعد ذلك على عنوان الفيلم وهكذا ندفع صراحةً إلى الإقرار بأنَّ هذا الاستوديو القدير يرسل لنا من علياء سمائه المرصَّعة بالنجوم نجمَين لامعَين يُشركهما في هذا الفيلم المتميِّز. ولْنلاحظ أيضًا أنَّ اسمَي النجمَين لا يهبطان أحدهما تلوَ الآخَر بل معًا، كما لو كان كلٌّ منهما يُمسك بيَدِ الآخَر، أو كما لو كان كلٌّ منهما يوجِّه نظَرَه للآخَر في نفس اللقطة.

والمشاهِدون الذين كانوا يترقَّبون ظهورَ النجمة التي تحمل لقب «معبودة أمريكا»، كانوا ينتظرون في الوقت نفسه بطلَ هوليود الكبير الذي أطلقوا عليه لقب «الملك»، غيرَ أنَّهم استقبلوا كلارك جيبل بسرورٍ بالِغ؛ لأنه دخَلَ في الفيلم من قبل، من باب قاعة العَرْض، كما سبَقَ أنْ ذكَرْنا، مندوبًا عن المتفرِّجين؛ لكي يأتي بعد ذلك بقليلٍ من الجانب الأيمن للَّقطة، أيْ من خارج مجال الفيلم، ليلتقي بجانيت ماكدونالد. إنَّها النجمة التي تكفي نظرةٌ واحدة من بطلِ الفيلم لكي ندرك (نحن الذين لا حول لنا ولا قوة) أنَّنا نعرف منذ بداية اللقطة أنَّها في حاجة ملحَّة إلى مَن يُغيثها.

وقد رتَّب المصوِّرون والمتعاونون معهم كلَّ شيء لكي يُفرِز المتفرِّج في داخل نفسه بِنية لقطة رد الفعل، قبل أن تترسَّخ بصفةٍ دائمة على الشاشة. ومن هنا، يتبيَّن لنا بشكلٍ أفضل السببُ العميق وغيرُ المُعلَن لتقنية اللامرئي، لكونها تتحقَّق دون أن ندري. فهذه التنقية تتخفَّى بطريقةٍ نموذجية في بداية فيلم سان فرانسيسكو، بينما لم يصبح الممثِّلون بعدُ شخصياتٍ معروفةَ الهُوية تؤدِّي أدوارًا محدَّدة، وذلك لكي تترابط العمليات التقنية من داخلنا نحن، وتصبح جزءًا من كِياننا كمتفرِّجين، و«من رُوحنا.» كما قال إدجار موران. وبعبارةٍ أوضح، لكي تعمل حركاتُ الترافلنج والتوجُّه نحو اليمين أو اليسار و«الزُّوم» المقرِّب حتى بلوغ اللقطات الكبيرة المبهِرة، دون أن ندري وفي لاوعينا. والأهمُّ من ذلك، أنْ ينمو لدينا الانطباع بأننا نخلُق بأنْفُسنا البِنية الأساسية للمجال والمجال المقابِل، عندما سيستدعي الأمرُ ظهورَ تلك البِنية، أي ابتداءً من اللحظة التي سنعرف فيها هُوية الممثِّلين وأسماءهم لكي يؤدُّوا أدوارهم في الرواية. وبعبارة أخرى، يجب أن يتمرَّن المتفرِّج على بِنية المشاهِد/المشاهَد من خلال النجمَين قبل أن يتقمَّص كلٌّ منهما شخصيته ويعكفان على تبادُل النظرات. ولمزيدٍ من الإيضاح، يتمُّ ذلك من أجل الحفاظ على خدعة تخفِّي التقنية وتحقيق ذلك الانطباع العجيب بواقعيةِ الرواية.

ولو درسنا جيدًا تلك اللقطة الفريدة المتمثِّلة في عدم وقوع نظَرِ جانيت ماكدونالد وكلارك جيبل، كل منهما على نظَرِ الآخَر؛ لأدركنا إلى أيِّ مدًى تقوم الإضاءة بدورٍ كبير للغاية، حتى يبدو أنَّها أثارتْ قضيةَ نظريةِ التقنية الخفيَّة. وسنلاحظ في هذه اللقطة نصفِ الجامعة حرصَ الكاميرا على أن يكون كلٌّ من النجمَين بعيدًا عن الآخَر في ظِل عدم تعارفهما وهما في الشارع. وإذا كان المونتاج لا يتدخل لإبراز أيٍّ منهما، إلا أنَّه يتبيَّن لنا أنَّ وجهَيهما مُضاءان بقدْرٍ أكبر بالمقارنة مع الشخصيات الأخرى المحيطة بهم. ويشعُر المرءُ بذلك عندما يفحص تلك اللقطةَ على المافيولا أو بواسطة الفيديو. غيرَ أنَّ ذلك التدخُّل التقنيَّ يمرُّ دون أنْ يلحظه أحدٌ عندما نشاهد اللقطةَ في الظروف العادية، في قاعة العرض؛ وذلك لسببٍ بسيط، وهو أننا نرجو كمتفرِّجين أن يهلَّ علينا ذلك اللمعان الخاص والمجسَّد على الشاشة المضيئة.

وهكذا نكون مُهيَّئِين للانتهاء من لقطة عدم تحقيق اللقاء بين الممثِّلين؛ فبعد المحاولتَين الفاشلتَين اللَّتَين أقدَمَ عليها كلارك جيبل للانتقال إلى يسار الشاشة، كما سبق أن رأينا، أصبح أخيرًا خلفَ جانيت ماكدونالد مباشرة، نتيجةَ ضغوط الحشد واندفاعاته، فاقترَبَ منها حتى كاد أن يلمسها، بل إنه استند إليها برفقٍ وهو يمدُّ مرفقه نحوها. وهو يواصل سيره بجوارها لبضعِ ثوانٍ ثمَّ ينجح في الإفلات من الزِّحام بالتحول يسارًا نحو وسط الشاشة، بينما يجرف المتزاحمون جانيت ماكدونالد نحو الاتجاه المضادِّ في خلفية اللقطة. وطوال تلك المناورة، لم تلتقِ نظراتُ النجمَين ولو لِلحظةٍ واحدة، حتى إننا نلحظ أنَّ كلارك جيبل تعمَّد ألَّا يتَّجه نظَرُه نحوَ الجانب الذي توجد به النجمة، بناءً على تعليمات المُخرِج؛ لكي لا نُحرم من دورنا كمتفرِّجين محظوظين في تلك المرحلة الحاسمة. ونحن نؤدِّي هذا الدور بالطبع في تلك اللحظة المباركة التي أصبح فيها النجمان جنبًا إلى جنب، على غِرار اسمَيهما عندما ظهَرَا في مقدمة الفيلم، ولكن كما لو كان الأمر مجرَّد مصادفةٍ ناجمة عن ازدحام الشارع، فأصبحا يحتلَّان وسطَ اللقطة، فضلًا عن أنَّ وجهَيهما باتا مُضِيئين خلسةً في تلك اللحظة بالذات. ومن الواضح أنَّ المتفرِّج كفَّ هو أيضًا عن التَّجوال بنظره من اليسار إلى اليمين ومن اليمين إلى اليسار، وأنَّه بلغ هدفه الذي استقرَّ على النجمَين وقد أصبحا قريبَين للغاية من بعضهما، بل وكادا أن يتلامسا، ولم يعُد ينتظر سوى أن يتحقَّق على الشاشة ما أعدَّه هو بنفسه ودبَّرَه وسطَ ظَلامِ قاعة العَرْض الدامس، أي تبادلهما للنظرات. ولكن المتفرِّج لا يريد ذلك الالتقاء، وتلك هي الحيلة السينمائية الماكرة، لأنه يريد اللقاء بين شخصيتَي الرواية، لا اللقاء بين النجمَين. فهو يتطلَّع إلى القصة بكلِّ جوارحه كمتفرِّج. وعندما يبتعد النجمان، كل منهما عن الآخر، في نهاية اللقطة، بعد أن كانا متقاربَين للغاية، يشعُر المتفرِّج بالاطمئنان، دون أنْ يدري، ربما أيضًا عن طريق اللاوعي الجماعي، فهو سيحصل على حقِّه لقاءَ ما دفع سلفًا في شبَّاك السينما. لقد ظهر النجمان بما فيه الكفاية، وآن الأوان لأنْ يؤدِّيا دورهما في الفيلم.

تعتمد السينما الكلاسيكية الهوليودية بأسرها على التحول غير المرئي للنجم إلى شخصيةٍ تؤدي دورها من خلال تواطؤ المتفرِّج معها (وفي رأيي أنَّ هذه السينما تشكِّل جوهر الفن السينمائي). وتلك هي الظاهرة التي حاولتُ أن أتفهَّمها قبل ذلك ببضع صفحات، فأوضحتُ أنَّ المسار الأفقي لمجريات القصة في خطٍّ متصل من خلال المجالات والمجالات المقابِلة يتحوَّل تدريجيًّا إلى مسارٍ رأسي للشاشة مع القاعة.

ولنعُد إلى تحليلي، نحن نعلم الآن اسم الشخصية التي يستعدُّ كلارك جيبل لأدائها في سان فرانسيسكو، ذلك الفيلم المتميِّز. فمنذ بداية ظهوره وحتى اللقطة التي تعرَّضنا لها، كانت شخصياتٌ ثانوية عديدة قد تعرَّفت عليه في الطريق وحيَّتْه في أغلب الأحوال باسم بلاكي، وأحيانًا باسم السيد نورتون. وجرَت تلك التحيات بقدْرٍ كبير من الودِّ والاحترام. فبلاكي هذا شخصيةٌ مهمَّة في المدينة، تحظى بحبِّ معارفها. ولذا فهو يصبح إلى حدٍّ ما بالنسبة للشخصيات التي يصادفها في الفيلم، نَفْس ما يشعُر به المتفرِّجون إزاءه في قاعة العرض. وهكذا تحوَّلت الشاشة فيما يتعلَّق بشخصه إلى مِرآة للقاعة.

أمَّا جانيت ماكدونالد، فهي غير معروفةٍ بالمرة لأهل المدينة الذين يُزاحمونها، وذلك على عكس كلارك جيبل. وهكذا تبدو الشاشة في تعارُضٍ تام مع قاعة العرض، ممَّا يعني أنَّ هذه النجمة السينمائية معروضةٌ بشكلٍ مُباشِر على المتفرِّجين وحدهم؛ لكي تصبح فريسةً لأنظارهم، وحتى يتدرَّبوا على مشاهدة النجمة. والواقع أنَّ سَيْرها وسطَ جمهورٍ دون أن يلحظها أحدٌ، يؤجِّج نظرةَ القاعة إليها، كما أنَّ جهل كلارك جيبل شخصيًّا بجانيت ماكدونالد هذه، شأنه في ذلك شأن جمهور الشاشة الذي لا يدري شيئًا عن دورها المهم في الرواية، مع أنَّه ما جاء في الفيلم إلا ليصحبها في أحداثه، يُثير حاجتنا إلى النظر إليها ويحدِّد نهائيًّا وفي نفس الوقت وضْعَنا كمُشاهِدين. ولكنْ لِنذهبْ إلى أبعدَ من ذلك، فماذا تكشف لدينا عنها مع بداية تعرُّفنا عليها؟ أنَّها مُتعَبة وهشَّة. والواقع أنَّه يبدو عليها أنَّها لم يعُد لديها القوة لمواصلة الطريق، وأنَّها تركَت الأمرَ لجمهور المحتفِلين الذين يزاحمونها ويدفعونها من كافَّة النواحي في آنٍ واحد. ونحن لسنا فقط أولَ مَن استقبل هذه النجمة على الشاشة، ولكنها تظهر أمامنا ضعيفةً قابلةً للنَّيل منها، حتى إنه عندما اعتمد عليها كلارك جيبل بنفس الطريقة التي اتَّبعها آخَرون للتخلُّص من الزِّحام؛ فإنَّ ردَّ فِعلنا الغريزيَّ يكون تصحيحَ حركة البطل ومساندةَ البطلة حتى لا يُغمى عليها.

وهكذا أدركنا، نحن المتفرِّجين، أننا الوحيدون الذين تعرَّفوا على جانيت ماكدونالد عند ظهورها لأول مرة في الفيلم. وقد جرى ذلك لكي يتكوَّن لدينا الانطباع بأننا حظينا بأولوية رؤيتها، بل إننا مشاهِدوها الوحيدون إلى أن يتوجَّه بلاكي بناظِرَيه نحوها، لكي لا تبعُد بعد ذلك عيناه عنها حتى نهاية الفيلم. وسيُسهم ذلك في أن يخلق لدينا، في كلِّ المشاهد التالية، الإحساسَ بأننا ننظُر إليها من خلال نظرة بلاكي. ويتعيَّن بالضرورة أنْ تستبق نظرتُنا إلى جانيت ماكدونالد في كلِّ لقطةٍ من لقطات الفيلم، نظرةَ النجم المدعوِّ بلاكي إليها. ويجب أن نلاحظ أننا نتمتع بميزة كبيرة بالنسبة لبلاكي منذ البداية، وهي ميزة اختلقها الاستوديو وراح يستغلُّها إلى أقصى حدٍّ؛ فهذه الفتاة التي ستغدو بعد قليلٍ ماري بليك في عينَي بلاكي، لن تكون سوى ذلك بالنسبة له. بينما ستظلُّ دائمًا في أعيُننا جانيت ماكدونالد، النجمة العظيمة، «معبودة أمريكا» ذات الوجه الملائكي والصوت الذهبي.

ولذا فقد استغرق ذلك بعضَ الوقت — ثلاثة مشاهد في الواقع — لكي تتقمَّص جانيت ماكدونالد شخصيتها في الفيلم وتفصح لنا ولبلاكي في نفس المناسبة عن اسمها مصحوبًا بإفادة مختصرة عن سيرتها الذاتية. ومن مصلحة الاستوديو أن يترك الفيلم في حالةِ «مَحلَّك سِرْ» حتى يهيِّئ الفرصة للقاعة لكي تسعد وحدها بمشاهدة جانيت ماكدونالد، والتمتُّع بأنْ تترع عينَيها برؤيتها، وذلك على حساب جمهور الشاشة اللامبالي، وتلك هي الحيلة المثالية للتستُّر على التقنية ولإثارة الإحساس الأبوي لدى جمهور القاعة.

ويعود شرف إلقاء النظرة الأُولى على معبودتنا جانيت ماكدونالد، إلى الساعد الأيمن لبلاكي، الرجل المسئول عن استِتْباب النظام في المَلهى الليلي المسمَّى «بارادايس»؛ لكي يُسند إليها رسميًّا دَورها في قصة الفيلم. وسرعان سيتبيَّن لنا أنَّ هذا الشخص يشكِّل عنصرًا كوميديًّا، لا يتردَّد في التعامل بصراحة؛ فقَدْ سبَقَ أنْ رأيناه وهو يطرد من المَلهى عميلًا غير مرغوب في وجوده، بعد أن شلَّ حركته بلَكمةٍ مباشِرة تلقَّاها في فكِّه. أمَّا نظراته المصوَّبة إلى جانيت ماكدونالد فهي مباشِرة وسُوقية. ومن الواضح أنَّ الفتاة تروق له، كما أنَّه من الجلي أيضًا أنَّ ما يعجبه فيها ليس إلا جانبًا ضئيلًا، وقليلَ الشأن بالمقارنة مع مزاياها العديدة، التي لا يعلمها أحدٌ سوانا نحن المتفرِّجين. ويجدر بنا أن نلاحظ بخصوص النظرات الأُولى المُلقاة على النجمة، أنَّها وإن كانت موجَّهة بكلِّ صراحةٍ ووضوح من جانب الساعد الأيمن لبلاكي، إلا أنَّها ليست مُتقَنة تمامًا من الناحيةِ الفنيَّة. فهي لقطةٌ واحدة مقرَّبة للصدر محايدة وثابتة، تظهر فيها الشخصيتان من الجانب: جانيت على يمين الصورة والفُتوَّة على يسارها. وذلك بُغيةَ إفساح المجال لأول حوارٍ حقيقي في الرواية.

ويتعيَّن أن نوضِّح نقاطًا ثلاثًا بخصوص هذه اللقطة: أولًا، لم تقترب الكاميرا من الشخصيتَين إلا لكي نتمكَّن من سماع ما تقولان وسطَ ضجيج المَلهى، وبالأخص ما تقوله النجمة. وتلك هي المرة الأُولى التي نستمع فيها منذ بداية الفيلم إلى صوت جانيت ماكدونالد الشهير (وهكذا يجري تشويقنا بسماع صوتها قبل أن تقدِّم لنا أغانيها)، وعليه تمرُّ تلك اللقطة المقرَّبة دون أن نلاحظها. ثم إنه لا مجالَ للتعريف بهُوية الشخصيتَين في هذه اللحظة باستخدام اللقطة الكبيرة للمجال والمجال المقابِل؛ نظرًا لأنَّ فتوَّة المَلهى ليس سوى مرْءُوسٍ لا يمكن أن يعتبره المشاهِد شخصيةً مهمَّة، فهو مجرَّد همزةِ وصلٍ مناسِبة لنظرات المتفرِّجين. ممَّا يحول دون تعارُض ذلك مع القاعدة الذهبية لتخفِّي التقنية؛ فلا مجال إذن لأنْ يحظى بلقطةٍ كبيرة كمشاهِدٍ للنجمة. وأخيرًا، كانت النجمة تحاول طوال تلك اللقطة الوحيدة أن تشرح للفتوَّة أنَّها لا تريد شيئًا سوى مقابَلة صاحب الملهى ومديره، بينما كان محدِّثها الذي بدا مشدوها، بكلِّ وضوحٍ إزاءَ جمال جسدها، يُجيل بصره من وجهها حتى ساقَيها أربعَ مرَّات، ويتفحَّصها بشكلٍ صارخ مثير للسخرية.

وبوُسعنا الآن معالجة الجزء الأخير من تحليلنا والخوض في معالجة اللقطات الكبيرة للمجال والمجال المقابِل، واللقطات ولقطات ردِّ الفعل، وهي التقنية التي تشكِّل، كما نعرف، البنيةَ الأساسية لنفوذ الفنِّ السينمائي، مع حرصها على أن تظلَّ غيرَ مرئية، كما هو مقرَّر في السينما الهوليودية الكلاسيكية.

وقبل اللقاء الأول بين ماري (جانيت ماكدونالد) وبلاكي، الذي ظهر في بداية الفيلم لكي ينتظرها معنا، هناك لقطتان تمتزج إحداهما بالأخرى بيُسرٍ وتواصُل رائع مع اللقطة التي درسناها من قبل. فالفتوَّة الذي يفشل في إقناع البطلة بالجلوس معه حول مائدةٍ لمشاركته في احتساء مشروب، يوافق على مطلبها ويقودها بكلِّ همَّة بين موائد المدعوِّين، إلى المكان الذي يوجد فيه بلاكي، صاحب المَلهى. وتكتفى الكاميرا هنا بالالتفاف من اليسار إلى اليمين. ومن اليمين إلى اليسار لتصحبهما في جولتهما؛ فتلغي بذلك حركتها الجانبية بالترافلنج. غيرَ أنَّ ما يدفع بالأخصِّ إلى إلغاء انتقال الكاميرا من مكانها، يتمثَّل في رغبة الجمهور التي لا تقاوَم في التقدُّم نحو الموقع الذي سيتم فيه اللقاء بين النجمَين. ولكنْ ينمحي القَطْع مع اللقطة التالية بطريقةٍ غير ملحوظة؛ فإنَّ الكاميرا تسبق إلى حدٍّ ما حركةَ الشخصيتَين المتجِهتَين نحو مكانِ صاحب المَلهى، وتتوقف بعد ذلك. وهنا يتم القَطْع عند الغرفة الصغيرة المؤدية إلى مقصورةِ بلاكي، والتي تُستخدم كقاعةِ انتظار (انتظارنا نحن). وهذا القَطْع غيرُ ملحوظٍ في واقع الأمر؛ فنِصْفُ ثانيةٍ لِلَقطة الغرفة الخاوية، تكفي مع ذلك لكي يتكوَّن لدينا الانطباع بأننا نستقبل — نحن المشاهدين — الشخصيتَين اللَّتَين دخلتا للتوِّ. ولا مجالَ للشكِّ في أنَّ هذا الانطباع يعود إلى كوننا نتعجَّل ذلك اللقاء بنفادِ صبرٍ وتشوُّق يفوق توقعات النجمة، ولذا فإننا نتقدَّم بسرعةٍ أكبر من سرعتها، حتى إننا نسبقها إلى الغرفة الصغيرة وننتظرها هناك.

وقبل الانتقال إلى اللقاء بين النجمَين أقترح على القارئ لمحةً قصيرة حول لقطة المقصورة، بخصوص ما يمكن أن نسميه الحيز المسموح لنا به — نحن المتفرِّجين — قبل دخول الممثِّل. وما علينا إلا أن نفكِّر في أيِّ فيلم آخَر (باستثناء فيلمٍ لجودار) لنَجِد أنَّ تلك البنية متوفِّرة بكثرة وشائعة على أوسع نطاق، حتى بات بوُسعنا أن نعتبرها جزءًا أساسيًّا من النظام السينمائي، شأنها تقريبًا شأن لقطةِ ردِّ الفعل. وسيتبين أنَّا بعد لحظة، أنها في جوهرها من نفس النوع. وربما كان مورناو، الذي يقال عنه إنه أحد أجداد السينما التجارية، أولَ مَن استخدم هذه اللقطة بانتظام، وأكسبها ذلك الشكل الذي يدفع المشاهِد إلى التواجد مسبقًا في المكان، حيث ينتظر قدوم الممثِّل. ففي فيلم فاوست (إخراج مورناو، ١٩٢٦م) نجِدُ أنَّ العالم العجوز ينتابه الرعب أمام مفيستوفلس، الذي أوجده هو بنفسه؛ فيلوذ بالفرار نحو مسكنه. وتتخلل مشهدَ الفرار لقطاتٌ فارغة تُعرض أمامنا قبل وصوله إليها: جزءًا من الطريق، واجهة البيت، بئر السُّلَّم، باب المكتب. وهكذا نكون قد سبقنا فاوست، ولمَّا كنَّا على درايةٍ بالأماكن التي نعلم أنه سيَفِد إليها؛ فإننا نستمتع مقدَّمًا بما نتوقَّع من مواقفَ وتصرفاتٍ عرفناها أصلًا من خلال الصور الأُولى. وهكذا يخيَّل لنا نحن المشاهِدين أننا تبادلنا أماكننا مع الممثِّل، لكي نسوقه على نحوٍ أفضل إلى مجاله؛ لنربطه به، أي باختصار، لكي نجعل مسار الرواية محتومًا بقَدرٍ كبير. ونحن نعلم أنَّ مورناو لم يعمل، شأنه شأن لانج على أيَّة حال، على تنفيذ هذا النوع من المونتاج لمجرَّد جعْلِ القَطْع غيرَ مرئي، وبالتالي لربط المتفرِّج بسير أحداث الرواية. فهذا المونتاج كان يرمي إلى التعبير عن ضحية المصير المَأسَويِّ الذي كانت تعاني منه ألمانيا في عهد جمهورية فيمار.

ولْنفحص الآن اللقطة التي سيتمُّ فيها اللقاء بين النجمَين الكبيرَين ومواجهة كلٍّ منهما للآخَر، ذلك أنَّ الفيلم يستعدُّ في الواقع لتعويدنا على المجال/المجال المقابِل. وتعتبر هذه اللقطة إحدى روائع تخفِّي التقنية. ولْنُعِد إلى الأذهان بقدرٍ من التفاصيل اللقطةَ التي سبقتْها. فنحن في الغرفة الصغيرة المؤدية إلى المقصورة التي يوجد بها بلاكي (خارج مجالنا، إذن في صحبة جانيت ماكدونالد والفتوَّة). ومن الجدير بالملاحظة، أنَّ الفتوَّة يؤدِّي هنا مهمَّةً مناقِضة لوظيفته المعتادة؛ فهو لا يخلِّص المَلهى من الدُّخلاء، بل يُحضر جانيت إلينا (لكلارك جيبل) وهو يشير إليها بالانتظار قليلًا، ثم يضع حقيبتها التي حملها عنها على الأرض، ويزيح ستارًا على يمينها وهو ينهض ليهمَّ بالدخول في مقصورة بلاكي. وفي هذه اللقطة بالذات، يتمُّ القَطْع لتليها اللقطة التي سيتمُّ فيها اللقاء. إنه قطع في الحركة غير ملحوظ إطلاقًا؛ لأنَّ الكاميرا المركَّزة على الستار من زاوية المقصورة، تضمُّ بلاكي في مسارها وتستقبل الفتوَّة الذي يظهر فيها. ومع أنَّ القَطْع تمَّ أثناء الحركة، لكي لا يكون مرئيًّا، إلا أنَّ زاوية التصوير انقلبت تمامًا، بحيث أصبح تغيير المكان أمرًا جديدًا. ويجب أن نعترف بأنَّ هذا القطع جريء. وإذا كنَّا لا نلاحظه فإن ذلك يرجع إلى لُجوئه مرةً أخرى إلى نموذجِ الحيز المتوقَّع مثولُ النجمة فيه، ولكنْ بطريقةٍ واضحة وملحَّة. فقد أتاح ذلك القَطْع الفرصةَ لإحالة النجمة، التي نتعجَّل لحظةَ ظهورها إلى جانب جيبل مباشرة إلى خارج المجال؛ ممَّا يؤجِّج رغبتنا في مشاهدتها بسبب ابتعادها فجأةً عن أنظارنا، حتى إننا نكاد نفقد صبرنا. لقد تغيَّر الوضع تمامًا فلم يعدَّ جيبل غائبًا ونحن نسوق إليه بسرعة جانيت ماكدونالد. بل إنَّ جانيت نفسها هي التي اختفت في مجال الشاشة، بينما كنا ننتظر ظهورها من جديد في صحبة جيبل الذي لحق بنا في مجال الشاشة. ولنوضح، رغم ما قد يكون في ذلك من تكرار، أنَّ انتظار جانيت ماكدونالد في مقصورة بلاكي الذي سيستغرق عشر ثوانٍ، كان قد تمَّ الإعداد له بلباقةٍ شديدة عن طريق لقطةِ غرفة الانتظار التي سبقنا إليها الممثلةَ بنصف ثانيةٍ قبل دخولها.

ويجب أن نتفهَّم جيدًا أنَّه من الضروري أن نكون قد انتقلنا إلى حيز بلاكي لاستقبال جانيت ماكدونالد لكي تؤدي دور ماري بليك؛ فنحن في مقدمة المعنيين بتلك القصة التي بدأت أحداثها تتلاحق. كما أننا نحن الذين نصوِّب نظراتنا (مشاهدين ومشاهدات) إلى النجمة من خلال نظرات بلاكي.

وعلى أيَّة حال، فإنَّ لقطة اللقاء أعِدَّت بكلِّ عناية (ونقصد هنا أيضًا وبشكلٍ خاص التخطيطَ الزماني والمكاني لها)؛ فبلاكي جالس وحده أمام طاولةٍ على يسار الكادر. وهو يتابع بنظرةٍ جانبية ما يدور في الحانة خارج إطار الشاشة … والفتوَّة الواقفُ خلفه يقول له في أذنه، بعد أن أصبح نصف جسمه في المقصورة: «يا بلاكي، هناك فتاة تطلب عملًا … وهي تستحقُّ أن تلقي عليها نظرة.» وهو يمسك الستار بيمناه كما لو كان يستعدُّ للانصراف. أمَّا بلاكي الذي استدار نحو الفتوَّة في لحظة ظهوره في المقصورة؛ فيُسهم بذلك في استبعاد القَطْع، ويردُّ بعد لحظةِ تردُّد بإعادة توجيه نظرة جانبًا نحو منظر الحانة ويقول له: «أدْخِلْها.» وعندئذٍ ينسحب الفتوَّة وراء السِّتار؛ ليفسح الطريق أمام جانيت ماكدونالد، التي تظهر أمامنا مرةً أخرى بعد ثانيةٍ واحدة ولأول مرَّة بالنسبة لبلاكي (وقد استغلَّ جوني كارسون فيما بعد فكرةَ الستار هذه على نطاقٍ واسع، كما سبق أن شاهدنا ذلك) فتتَّجه نحو الحيز الوحيد الخالي، على يمين المقصورة، حيث تقف بلا حراك. أمَّا الفتوة الذي انسحب لإفساح المجال لدخول النجمة فيظهر لنا من جديد من خلال فتحة الستار، بين المشاهَدة (بفتح الهاء) والمشاهد، ويعوق بذلك تبادل النظرات بين الطرفَين، لكي يقدِّم الشابة إلى بلاكي قائلًا: «السيد بلاكي، صاحب الملهى.» ويترك المقصورة. وليس هناك أيُّ قَطْع في الثواني العشرين التالية، ولا أيَّة حركة لمعدَّات التصوير. فلقطة المقصورة تستمرُّ كما كانت أصلًا، ويظلُّ بلاكي على يسار الكادر، أي الركن الذي شغله أيضًا الفتوَّة في اللقطة الوحيدة للقائه الشابَّةَ. وبقاء بلاكي جالسًا في مكانه يشكِّل وضعًا مهمًّا بالنسبة لمجرى الأحداث. أمَّا جانيت ماكدونالد، فتظلُّ متسمِّرة في مكانها على يمين الكادر. ونحن هنا بصددِ لقطةٍ دارجة وروتينية في المرحلة الأُولى، صالحة للتفوُّه بكلماتٍ كلُّها استخفاف، وللنظرات اللامبالية التي يُلقيها بلاكي على الشابَّة. وفي المرحلة الثانية، تكون اللقطة نصفَ جامعة لإتاحة الفرصة للمتفرِّج؛ لكي تتنقل عيناه بين النجمَين، ويواصل في ألفةٍ نفسَ الحركة التي تمَّت في اللقطة الخاصة بجمهور المحتفلين التي درسناها من قبل.

لقد تعرَّف المتفرِّج بما فيه الكفاية على بلاكي في المشهد الذي سبق مباشرة استقبالَ الفتوة لجانيت، كما توفَّر له متسعٌ من الوقت لملاحظة سلوكه مع النساء. وقد تمَّ تدبير هذا المشهد لإفادتنا بأنَّ بلاكي يحظى بشعبيةٍ بين النساء اللواتي يلتفِفْنَ حوله ويحاولْنَ لفْتَ أنظاره، ولكي نتعرَّف على خليلته بين بيتي الواقعة تحت سيطرته والمستسلِمة لنزواته رغم معاناتها من تعنيفه، كما لو كانت فتاةً صغيرة في مواجهة أبيها.

وهكذا، فإننا لا نُدهش في الواقع لمَسلك بلاكي في المقصورة، فهو لا يبالي بتلك المجهولة التي جاءت تستجدي عملًا، ولا يتكرَّم حتى برفع رأسه، ويترك عينَيه مسدلتَين بإهمال عند مستوى ساقَيها. وهو يشرِّفها بهذه المناسبة بنظراتٍ مختصرة نحو ساقيها، لا لسببٍ سوى إصداره أمرًا لها بأن تُطلعه عليهما … وتكرِّر له جانيت مرَّتَين أنَّها مغنية، وأنها لم تأتِ لعَرْض خدماتها كراقصة. ومن الواضح أنَّ بلاكي لا يستجيب لتلك الإفادة، ممَّا يضطرها في نهاية المَطاف إلى تنفيذ أمره والكشف عن ساقَيها اللَّتَين يرى أنهما نحيفتان للغاية بالنسبة للمَلهى الليلي الذي يمتلكه. ويقرِّر بلاكي بنفس اللامبالاة والازدراء أن يتحقَّق من مزاعمها. ولمَّا كان قد تنبَّه إلى أنَّ الجوقة الموسيقية بدأت في عزف مقطوعة، جاءت في الوقت المناسب، فإنَّه يسألها ما إذا كانت تعرفها، ويطلب منها أن تغنِّي فتَرُد عليه بالإيجاب. وهنا تبدأ اللقطة الكبيرة.

ولكنْ قبل أنْ ندرس هذه اللقطة، ولكي ندرك على نحوٍ أفضل مدى تأثيرها، نسوق كلمةً أخيرة حول اللقطة التي استغرقت عشرين ثانية، وشهدت اللقاء بين جانيت ماكدونالد وكلارك جيبل. فجلوس النجم أمام النجمة الواقفة له أهميته الاستراتيجية، وذلك لسببين، ولنفحصْ أحد السببين ونترك الآخَر لِلَحظة عندما نعود إلى اللقطات الكبيرة. فجلوس كلارك جيبل يهيِّئ كلَّ الحيز فوق رأسه لجانيت ماكدونالد، ويوفِّر للمتفرِّج في نفس الوقت متَّسعًا من الوقت ليحملق فيها. ومن جهةٍ أخرى، تتَّجه أنظارنا رغمًا عنَّا نحو الحيز الذي تحتلُّه الممثِّلة وتستقرُّ عليه بقوة، خاصة وأنَّ كلارك جيبل، الممثل الشهير والمشاهد الرسمي والمتميز، مصِرٌّ على أن يؤدي دور بلاكي الجافِّ المشاعر الذي لا يلاحظ مدى جاذبية جانيت الصارخة. فعيوننا مرفوعةٌ باستمرار نحو النجمة لتعويض غياب نظرات بلاكي … ونحن نثبت أنظارنا على وجه جانيت ماكدونالد؛ لأنَّ ذلك الوجه المرتسم على يمين الكادر وفوق رأس بلاكي، يحتلُّ المركز المتميِّز الذي تنجذب إليه الأنظار بشكلٍ طبيعي، ثم لأنَّه الموضعُ الذي سيأتي منه الغناء الذي انتظرناه طويلًا واقترحت جانيت علينا وعلى بلاكي أن نستمع إليه، بينما تتبدد نظرات كلارك جيبل بحماقةٍ ناحية ساقيها.

ولذا فإنَّ ظهور أول لقطة كبيرة في الفيلم، خصِّصت بالطبع لوجه جانيت ماكدونالد، لم يكن مفروضا علينا عن طريق التقنية أو مقصِّ المونتير؛ بل هو نتاج لمشاعر المتفرِّجين التي انعكست، بلا تردُّد على الشاشة وتتواصل اللقطة الكبيرة طوال اثنتي عشرة ثانية، وهي مدَّة تعادل ما بين ثلاثة وستة أمثالِ مدَّةِ أيَّة لقطةٍ كبيرة أخرى في هذا المشهد. وفي هذه اللقطة، تستجيب الشابة لدعوة بلاكي الروتينية لاختبار صوتها؛ ممَّا يرضي رغبتنا المكبوتة طويلًا في رؤية وجه النجمة عن قُرب والاستماع إلى غنائها، ولذا تتواصل نظرتنا إلى جانيت ماكدونالد، وتتجاوز نظرتنا إلى كلارك جيبل أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وهكذا ندرك من الآن فصاعدًا أنَّ تخفِّي التقنية يعود — إلى حدٍّ كبير — إلى تأخُّر نظرة مشاهِد الشاشة بالمقارنة مع المشاهِد في القاعة.

ويتعين أن نفحص تلك اللقطة الكبيرة الأولى عن كثب؛ لأنها تحدِّد اللقطات الأخرى الكبيرة في المشهد، وتلقي الضوءَ على تضمُّنها مجالًا مقابِلًا في الرِّواية، كما أنها تحيطنا علمًا بالطريقة البارعة للغاية، إن لم تكُن مضلِّلة، التي دسَّها علينا بعض المؤسِّسين الأمريكيين ذوي السمعة الأسطورية. وقد سبق أن أوردتُ أحد السببين اللذين دفعا إلى اختيار وضع الجلوس بالنسبة لبلاكي في مقصورته، أمَّا السبب الآخَر فهو أنَّ اللقطة الكبيرة التي تظهر فيها جانيت ماكدونالد تمَّ تصويرها، إلى حدٍّ ما، من أسفلَ إلى أعلى من وجهة نظر بلاكي. وهكذا يبدو أن الجالس على كرسيه، هو الذي يرفع رأسه ليرى وجه الشابة، ويتبين له مدى القلق المرتسم على محيَّاها، ويتعاطف مع ترددها، ثم يستمع إلى صوتها وسط نشوتنا. بَيْد أننا نعلم أنَّ بلاكي غير معنيٍّ بالشابة وأنَّه يعتقد أنها تتصنَّع السذاجة لأنها تريد أن تستغلَّه (وسيعرب عن ذلك بوضوحٍ في المشهد الذي سيلي مشهد المقصورة). ولذا فهو أبعد من أن ينظر إليها كما لو كان بصره مركَّزًا عليها، بل إنه لا يتفضل عليها بنظرةٍ شخصية، إلى حدٍّ ما، ويظلُّ رأسه غيرَ مرفوع وعيناه مثبتتَين على يدَيه المعتمدتَين على الطاولة.

وقد يتبادر إلى أذهاننا في الوهلة الأولى أننا بصدد تناقُض مع تقنية المونتاج المتخفِّي؛ فالتمسك بقاعدة تخفِّي التقنية كان يقتضي من بلاكي أن يرفع رأسه على الأقل ثم جفنَيه نحوها في نهاية اللقطة نصف الجامعة، حتى ولو كان غير مهتمٍّ بها، وذلك ليمهِّد الطريق أمام اللقطة الكبيرة التي تليها؛ بُغيةَ توفير الانسياب من حركةٍ إلى حركة، حتى تبدو وكأنها زهرةٌ تنبثق من عودها. غير أنَّه يتبيَّن لنا من التدقيق في الأمر، أنَّ التقنية المتخفية تعمل على خيرِ وجهٍ رغم غياب التواصل بين اللقطتَين. فنحن المعنيُّون بالنظر إلى جانيت ماكدونالد التي ستغنِّي، كما أننا لم نكفَّ في الواقع عن مدِّ أنظارنا نحوها منذ لحظة دخولها المقصورةَ؛ حيث أصبحت لأول مرَّة في متناول عيوننا. وما كان يمكن أن يكون الأمرُ على خلاف ذلك؛ لأننا نحن الذين أنتجناها، ونحن الوحيدون الذين نعرف حقيقة هويتها منذ بداية الرواية، وننتظر بصبرٍ نافد في ظَلام القاعة الاستماعَ إلى صوتها الذهبي. إنها بالذات لقطةٌ كبيرة تتجاوز رأس بلاكي ونظرته وترضينا نحن، ولكننا نسوق بلاكي في الوقت نفسه في مسارنا، وإلا لمَا كانت هناك قصةٌ سينمائية، اللهم إلا إذا رفَعَ الممثِّل الوسيط رأسه وفتَحَ عينَيه مثلنا ومعنا. والواقع أنَّ الأمر قد يبدو غريبًا في نهاية المطاف، ولكنْ بعد أن قبلنا أن يأتي إلينا كلارك جيبل شخصيًّا — ولكن في صورة بلاكي — أصبحنا مكلَّفين، على ما يبدو، بالعمل طوال الفيلم من أجل أن تعود شخصية بلاكي من جديد كلارك جيبل ذاته. فنحن الذين نخلق بأنفسنا النجوم ونحن قابعون في مقاعد القاعة المظلِمة أمام الشاشة.

وبناءً على ذلك، يهمُّنا إذن أن تتمهَّل جانيت ماكدونالد وأن تؤخِّر قيامها بتمثيل شخصيتها في الفيلم. ومن خلال تقمصنا لشخصها دون عِلم بلاكي، نسوق هذا الأخير خلْفَها (وخلفنا أيضًا). ولكن هذه اللقطة الكبيرة لجانيت ماكدونالد، التي تفتح فمها لا للتحدث ولكنْ لكي تغنِّي، يجب ألَّا يرضى بها المتفرِّج إلى حدِّ الرغبة في أن يستمرَّ ذلك، دون أن يشاء أيَّ شيءٍ آخَر. ولا مجال بالطبع للخوف من هذه الناحية، فنحن في السينما التي تفرض طبيعتها أن يكون المجال متلازمًا في صميمه مع المجال المقابل. ونظرًا لأنَّ هذه اللقطة الكبيرة لجانيت ماكدونالد تحتلُّ كلَّ حيز الشاشة وتطرد خارج حدودها كلَّ ما كان يحيط بها من أشياءَ وأشخاص، وبالأخص بلاكي، الذي كان جالسًا على راحته في اللقطة السابقة، دون أن يؤدي بشكلٍ سليم دوره كمشاهِدٍ للنجمة؛ فإنه كان يتعيَّن أن تكون هذه اللقطة الكبيرة قصيرةَ الأجَل، وأنْ تنزوي أمام ردِّ فِعل بلاكي، وبالأخص لكي يأتي رد الفعل هذا ويحتل بدوره كل المجال. ومعنى ذلك أننا عندما ننظر إلى الممثلة وهي تغني في اللقطة الكبيرة، فإننا نُحلُّ مؤقتًا نظرتنا مَحلَّ نظرةِ بلاكي الغائبة بشكلٍ صارخ. فنظرتنا نحن نظرةٌ بالنيابة. ولمَّا كان ذلك يتمُّ دون أن ندري، فإننا لا نلاحظ القَطْع بين اللقطة نصف الجامعة واللقطة الكبيرة. ومع أننا نتأمَّل جانيت التي تغني من أجلنا؛ فإننا نعلم لاشعوريًّا أنَّها تغنِّي من أجل بلاكي الذي تريد أن يعجبه غناؤها؛ حتى يُلحقها بالعمل في ملهاه. ومن جهة أخرى، فإننا مأسورون مقدمًا بجمال صوتها (وهو اعترافٌ منَّا بما كنَّا نعلم أصلًا) ولذا ننتظر بكل جوارحنا ردَّ فِعل بلاكي في لقطةٍ كبيرة، حتى يمكننا أن نقرأ على وجهه مدى تأثير المغنية عليه.

غير أنَّ اللقطة التالية ليست لقطةً كبيرة لبلاكي، بل لقطةٌ نصف جامعة بنفس حجم ومعدن لقطةِ اللقاء في المقصورة، التي جاءت قبل لقطة جانيت. والواقع أنَّ هذه اللقطة تستعيد لقطةَ المقصورة ولكنْ بشكلٍ معكوس. فجانيت ماكدونالد لا تزال واقفة ومندمجة في الغناء، ولكن على يسار الكادر، وقد أوْلَت ظَهْرها لنا، بينما لم يغيِّر بلاكي جلسته، وهو يحتلُّ يمين الكادر ويواجه جانيت والمشاهِدين. وفي منتصف الكادر تظهر الموائد وراقصات الملهى. واللقطة مصوَّرة من أعلى إلى أسفل بقدرٍ محدود، وتتناقض بذلك مع اللقطة نصف الجامعة الأُولى للمقصورة التي كانت مصوَّرة من أسفل إلى أعلى بقدرٍ قليل. وبينما كانت اللقطة الأولى نصفُ الجامعة معروضةً على المشاهِد لكي يتأمَّل جانيت ماكدونالد؛ فإذا اللقطة الثانية نصف الجامعة لنفس المقصورة تقدِّم لنا بلاكي، لكي يتمكن بدوره، وعلى أثرنا، من رفْعِ عينَيه نحوها، وبالأخص لكي نتمكن من رؤيته وهو يشاهدها.

ولكنْ لو كان ذلك سببَ تلك اللقطة؛ لبدا لنا أنه غير مُجدٍ، ولكان من حقِّنا أن نتساءل: لماذا لم ينتقل المخرِج مباشرةً إلى لقطةٍ كبيرة لبلاكي وهو ينظر إلى جانيت، خاصة وأنَّ ردَّ فِعل بلاكي مُنتظَر من جانبنا بشدَّة؛ نظرًا لأنَّها أمتعتْنا وفتنتْنا وهي وحدها في الكادر، وبالتالي فإنَّ القَطْع بين لقطتَين كبيرتَين كان سيمرُّ دون أن نلاحظه. لماذا إذن تلك اللقطة الوسيطة بين الطرفَين؟ لأنَّه وإن كان صحيحًا أنَّ على الممثل أن يحقِّق رغبات القاعة، إلا أنَّه يتعيَّن عليه أن يؤدي دوره كاملًا كما لا يجوز أن يتلقَّى الأمرَ بتأديةِ الدور من جانب المتفرِّج. وشخصية بلاكي محدَّدة بالنسبة لنا، نحن الذين نرى جانيت ماكدونالد الآن، وهي تغنِّي على خشبةِ مسرحِ مَلهى بارادايس (نراها من الخلف، كما لو كانت متوجِّهة إلى رواد الملهى) وهي تواجه في نفس الوقت بلاكي الذي لا يعرف تلك الفتاة، التي تزعم أنها مغنية ويتعيَّن عليها أن تثبت ذلك. ويجدر بنا أن نلاحظ أنَّ هذه اللقطة، المصوَّرة من أعلى إلى أسفل، تقدِّم لنا بلاكي وهو جالس في خلفية الكادر على اليمين، وإلى حد ما في عمق المجال؛ وبالتالي في موقعٍ منخفض بالنسبة لجانيت الواقفة أمامه عند الحافة اليُسرى للكادر. وهكذا يتعيَّن عليه أن يرفع عينَيه نحوها (ونحونا) لكي يراها. وتستغرق هذه اللقطة خمس ثوانٍ.

ومن الطبيعي والمنطقي، لو كان ما قلته منذ لحظات صحيحًا، أن تكون اللقطة التالية لقطةً كبيرة لجانيت؛ لكي نعرف جيدًا أننا لسنا الوحيدين الذين ينظرون إلى المغنية وأنَّ بلاكي انضمَّ إلينا وراح يتطلَّع إليها مثلنا بنفس القَدْر، وكذلك لكي يجعل نظرته مواكِبة لنظرتنا بعد أن ترَكَنا نُحضر إليه الممثلة جانيت ماكدونالد (ولنُعِد إلى الأذهان أننا تطلَّعنا إليها وحدنا في القاعة خلال معظم الثواني العشرين التي استغرقتها اللقطة الكبيرة الأُولى) وراح يدفعنا وراءه لاكتشاف شخصية ماري بليك. وتدوم تلك اللقطة الكبيرة أربع ثوانٍ وهي تتواصل تمامًا بصريًّا وصوتيًّا مع اللقطة الأُولى الكبيرة للممثِّلة.

وأخيرًا، أصبح من حقِّنا أن نشاهد اللقطة الكبيرة لردِّ فِعل بلاكي التي تستغرق ثانيتَين، وتكاد تكون مجرَّد همزة وصلٍ تنقل إلينا وتجسِّم ما رأيناه من جانب بلاكي في اللقطة نصف الجامعة في المقصورة. إنها لقطةٌ كبيرة توفِّر الاقتراب المطلوب في لحظة، وتقدِّم لنا تفاصيلَ نظرته المشتهاة. وهذه النظرة متنبِّهة، ولكنْ باردة، ولم تلحق بعدُ بنظرتنا إلى جانيت ماكدونالد وإن بادرتْ بإظهار نجومية هذه الشابة المسمَّاة ماري بليك، والتي دخلتْ في حياته منذ لحظات، أيْ بعبارةٍ أخرى نظرة دفعت الممثِّل إلى اللحاق بالنجمة وساقتْنا معه في مجرى أحداث الفيلم.

وهذا التحليل المطوَّل للصُّور الأُولى في فيلم سان فرانسيسكو، أتاح لنا الإمكانية لكي نفهم بشكلٍ أفضل ظاهرةَ نظام النجومية الأمريكي في عهدِ ازدهار السينما الهوليودية الكلاسيكية. وهناك جانبان رئيسيان برزا بوضوحٍ في تلك المرحلة: صيت النجوم الواسع النطاق خارج المجال السينمائي، والتقنية الخفية التي تجعلهم يتغلغلون خلسةً في نفوسنا في نفس الوقت مع الرواية. وقد سبق أن ذكرتُ مباشرةً قبل انطلاقي في تحليل سان فرانسيسكو كيف أنَّ التقنية الخفيَّة توقفتْ إلى أيِّ مدًى على شهرة النجوم خارج الأفلام، وإلى أيِّ درجة كان ذلك يغذِّي أحاسيس المتفرِّج الذي يحتلُّ مكانه خارج المجال. وسنرى بمزيدٍ من الوضوح، مدى متانة الصلة بين تلك العلاقات عندما سنتطرق فيما بعد إلى اضطرار الاستوديوهات إلى خلق واصطناع نجومٍ تحظى بإعجابِ الجمهور. ولنواصل الآن تفكيرنا المتعلِّق بالتأثير الأيديولوجي للتقنية الخفية التي بدأنا في معالجتها في مستهلِّ تحليلنا لفيلم سان فرانسيسكو.
لقد تزايد تأثير السينما مع بلوغ التقنية أقصى درجات تخفِّيها. فالمزيد من تخفي التقنية يقابله المزيد من التأثير الأيديولوجي على المتفرج. فإذا كان همفري بوجارت يقنعنا خلسةً بشخصيته كبطلٍ متحرِّر من الأوهام في فيلم كازابلانكا (الدار البيضاء)، وإذا كان يؤدي دوره بإتقان؛ فإنما ذلك يرجع أساسًا إلى التقنية الخفية المستخدَمة بأستاذيَّةٍ ملحوظة، حلَّلها بحماسٍ روبرت راي الأستاذ بجامعة فلوريدا في كتابه اتجاه معين في سينما هوليود (يجب أن نذكر أنَّ فيلم كازابلانكا تمَّ إنتاجه في عام ١٩٤٢م؛ ممَّا يوضِّح تمامًا أنَّ السينما الكلاسيكية الهوليودية لم تنحصر في عقد الثلاثينيات وحده، بل إنَّها تهيمن على كل الإنتاج السينمائي الأمريكي). وقد حلَّل روبرت راي شفرة بعض مشاهد فيلم كازابلانكا، واستخلص بدقَّة الأيديولوجية التي يروِّج لها الفيلم، وهو يعتبرها مِرآةً للخلط الفكري الأمريكي في تلك الحقبة، أي العودة إلى الانعزالية والإحجام بشدة عن أيَّة مشاركة فعليَّة في الحرب (البطل ريك، الذي يمثِّل شخصيته همفري بوجارت، يضحي بنفسه ولكنَّه متمسِّك بموقفه المتباعد والمستخفِّ إزاء النزاع الذي يهدِّد مستقبل أوروبا) بَيْد أنَّه أهمل في رأيي أهمَّ ما في هذه الظاهرة التي درسها، وأعني بذلك بثَّ الأيديولوجية في ذهن المتفرِّج عن طريق تأثير التقنية الخفيَّة.
وهذا الجانب الأيديولوجي أو الأسطوري الذي تبثُّه الأفلام في نفوسنا يهمُّني في المقام الأول في هذا الكتاب المكرَّس لدراسة تأثير السينما الأمريكية المهيمن. فالتحليل الذي قدَّمتْه اللقطات الأُولى لفيلم سان فرانسيسكو، لم يهدف إلا إلى توضيح النفوذ الهائل الذي اكتسبتْه السينما الأمريكية عن طريق نجاحها في إخفاء تقنياتها الأساسية؛ فقصة الحُب البسيطة بين بلاكي نورتون وماري بليك التي يحكيها لنا نجمانا المحبوبان، لا تكتفي بأن تنقل إلينا الأساطير الشعبية الأمريكية الكبرى عن طريق شاشات دُور العرض، بل تتغلغل في نفوسنا من خلال التقنية الخفيَّة وبنيتها وحركتها الحيَّة. فالمجال والمجال المقابِل اللذان يتم توزيعهما ليخفيا ويظهرا البطل والبطلة كل بدَوره، كما شاهدنا ذلك من خلال التقدُّم الحثيث نحو اللقطة الكبيرة، وكذلك المجال وخارج المجال (خارج الكادر)، أصبحا يحكمان إيقاع الفيلم وطبْعًا بنيته الازدواجية بل والمانوية (نسبة إلى عقيدة الفارسي ماني القائمة على مبدأي الخير والشر).

فهذه الحركة الخفيَّة على الشاشة التي يسوقها إلينا المجال والمجال المقابِل، تحدِّد لنا إيقاعاتِ ردود الفعل المتبادَلة بين النجمَين، والتي تشكِّل أيضًا ردودَ فِعلنا نحن، كما سَبَق أنْ رأينا. وعندما يتم ذلك التردد المكوكي مبكِّرًا في الفيلم بين حيِّزَين محدَّدَين بوضوحٍ ومتعارِضَين أيديولوجيًّا: ملهى بارادايس الليلي الشعبي والأمريكي الأصل الذي ينمُّ عن فردية بلاكي البدائية والشعبية من جهة، وأوبرا تيفولي الخاص بالنخبة والغريب عن القيم الأمريكية، من جهةٍ أخرى، حيث يحتلُّ فيه مركز الصدارة الشرير بورلي المعتمد في نفوذه وتراثه على المشاريع الاقتصادية الكبيرة التي لا تعرف الرجعة، فإن عالم بارادايس المألوف هو المنتصر من خلال ردود أفعالنا العديدة إزاء بلاكي. ومع أنَّ المتفرِّج يعيش فوق مقعده مع بلاكي وملهاه الليلي؛ فهو مدعو، هو وبلاكي (وهذا ما تؤكِّده لقطة المقصورة المخطَّطة كما يجب)، إلى رفع ناظرَيه وتوجيههما نحو الركن الذي تسوقهما إليه جانيت ماكدونالد، وهذا الحيز الأيديولوجي الذي يستقطب المتفرِّج ومعه في مساره بلاكي، الذي تقرَّر له أن يتقمَّص شخص كلارك جيبل، ليس البارادايس ولا التيفولي، بل الجمع السينمائي والجدلي للاثنين معًا.

والمشهد الأخير للفيلم، يؤكد ويبلور البيئة الأيديولوجية التي يتحتَّم على المتفرِّج أن يرتكن إليها ويرتاح لها. فبعد الزلزال الذي دمَّر البارادايس والتيفولي، ومقتل بورلي الحقير، صاحب العقلية غير الأمريكية وإفلات بلاكي من الموت؛ فإنَّ الأب تيم، القس، هو الذي يصحب الأخير إلى المكان الذي لجأت إليه ماري. فهذا القس كان راعيَ ماري طوال أحداث الفيلم. فهو الذي صان عفَّتها في البارادايس وفي التيفولي أيضًا، وتولَّى تدريجيًّا وبجدارة منصبَ مندوب المشاهِدين في قاعة العرض السينمائي؛ فقد حافظ بكلِّ وضوح على مركز ماري، سواءٌ بالنسبة لبلاكي أو المتفرِّج، باعتبارها المشاهَدة (بفتح الهاء) المتميِّزة، وراح يعدُّ لنا على نارٍ هادئة اللقطات الكبيرة لماري؛ ليقدِّمها لنا على طبقٍ من فضَّة. وفي النهاية نجد أمامنا ماكدونالد «معبودة أمريكا» وجيبل «الملك» وكلًّا منهما ينظُر للآخَر ويلتقيان في صميم قلوبنا مباشرةً مع نظرة الأب تيم المنبهر. وهكذا جاءوا إلينا وسواعدهم محمَّلة بالأساطير بعد ساعتَين من المحاولات الفاشلة وفقًا للاستراتيجية المرسومة. فهي تقف بملابسها البيضاء الملائكية، يحيط بها الأطفال أمام خيمةٍ مؤقتة (فقَدْ عادت أمريكا إلى أصولها وعليها أن تنطلق من جديدٍ من الصفر) وتغنِّي: «يا إلهي إنني أقرب ما أكون إليك يا رب.» لقد أنْقَذَت بذلك من الكارثة خيرَ ما تتضمَّنه ثقافة التيفولي النخبوية: أي جمال الفن وبطلانه. أمَّا هو فهو يرتدي لباس الاحتفالات الأسود، الممزَّق والمعفَّر ووجهه متورِّم. وقد خرج من الأنقاض، وشخصيته قد تحوَّلت بعد أن عاد الإيمان وإلى قلبه؛ فراح ينقذ الضحايا وسط الأنقاض، وأصبح إنسانًا جديدًا، قضى في نفسه على الفردية الأنانية والبهيمية؛ لكي تتولَّد منها الفردية المثالية الأمريكية التي يخفِّف من وطأتها تبادل المساعدات وحسن الجوار. وتقدِّم لنا الصورةُ الأخيرة للفيلم لقطةً واحدة (بعد أن استنفد المجال/المجال المقابل دوره) للزوجين اللذين يبشِّران بأمريكا الجديدة. فكلارك جيبل وجانيت ماكدونالد يتقدمان نحونا، جنبًا إلى جنب، كما ظهر اسماهما في مقدمة الفيلم، وقد تشابكتْ أيديهما ومن خلفهما الجمهور المتحمس الذي يرفع عقيرته بالنشيد الوطني. إنه جمهورٌ من نوعٍ جديد لم نرَه من قبل ويتكوَّن من أناسٍ عاديِّين: عمَّال وعاملات، يعكسون تمامًا جمهور قاعة العرض، وقد تجمهروا خلف البطلَين، بينما تظهر أمامنا، من خلال قَطْع جريء، جدير بمونتاج حديقة الملاهي عند آيزنشتاين وبودوفكين، مدينة سان فرانسيسكو وقد أعيد بناؤها.

والمواطنون الأمريكيون الجدد الذين يتقدَّمون في أعقاب جيبل وماكدونالد في المدينة الأمريكية الجديدة، ونحو المتفرِّجين في القاعة، فهم ليسوا من الطبقة العليا المتعجرفة والعنيدة التي تتردد على أوبرا تيفولي، والمنطوية على امتيازاتها والغريبة في نهاية الأمر عن أمريكا، كما أنهم ليسوا الطبقة السفلى لمَلهى البارادايس الليلي الفوضوية والمتردية في سراديب السوقية. ففيلم «وودي» لفان دايك يمجِّد الطبقة المتوسطة. فنحن في عام ١٩٣٦م، الحقبة التي كان يغلي فيها كلُّ شيء في البوتقة الأمريكية، والتي لم تشهد فيها من قبل العاصمةُ العالمية للفيلم مثلَ ذلك التجمع الهائل للمواهب والفنانين، وحيث كانت مصانع الأحلام، المتمثلة في كُبرَيات الاستوديوهات في لوس أنجلوس، تبذل قُصارى جهودها لربط الصوت بالصورة، وتشعر بلا ترتيب مُسبق، بأنَّها تعمل في نهاية الأمر في بثِّ التصوُّرات الموحَّدة للأمَّة. كان ذلك في عهد مترو-جولدوين-ماير المزدهر الذي كان ينافس وارنر، استوديو الطبقة الدنيا، وبارامونت استوديو الطبقة الراقية الأوروبية الطراز. لقد عاهدت مترو-جولدوين-ماير نفسها على إغراء المشاهِدين من الطبقة الوسطى وجذبهم نهائيًّا إلى قاعات العَرْض. والواقع أنَّ كل الجوانب كانت مترابطةً ومتداخلة بانسياب، ابتداءً من الاستوديو حتى موضوع الفيلم وعقلية الجمهور. ولذا أصبح من المنطقي أن تجنِّد التقنيةُ النجومَ بسلاسة لصالح الفيلم.

وعندما نشاهد اليوم أحدَ أفلام الثلاثينيات، مثل سان فرانسيسكو، لا يكون من السهل أن ندرك مدى تأثيره على متفرِّجي تلك الحقبة. ومن الواضح تمامًا، بعد مرور كلِّ هذه السنوات أنَّ التقنية المتوارية التي قلتُ عنها إنَّها تعود إلى حدٍّ كبير إلى شهرة نجوم تلك الحقبة خارج نطاق السينما، لم تعُد تؤدي نفس الوظيفة السحرية. ففي عام ١٩٧٦م، وبمناسبة الذكرى الأربعين لعرض فيلم سان فرانسيسكو، مررت بتجربة جعلتْني أدرك إلى حدٍّ ما مدى نفوذ السينما في عهد النجوم الشهيرة. كان المتحف الإقليمي للفنون في لوس أنجلوس، قد قرَّر الاحتفال بتلك المناسبة وركَّز الدعاية للفيلم على شخصية النَّجمين، وتزوَّد بنسخةٍ جديدة للفيلم، ودعا أحدَ الباقين على قيد الحياة من فريق إنتاجه، وهو جون هوفمان، أخصَّائي المؤثرات الخاصة بالزلزال. كانت قاعة المتحف الإقليمي مزدحمةً بما لا يقلُّ عن ألفَي شخص، أغلبهم من أفراد العهد الذهبي؛ فكان ذلك ملائمًا تمامًا لمشاهدة هذا النموذج الخاص بذلك العهد. فعندما أُطفئت الأنوار وظهرت على الشاشة صورة الأسد المزمجِر، شعار شركة مترو-جولدوين-ماير، كان المرء يسمع بوضوحٍ حفيف انتظارَ المتفرِّجين، وانطلقتْ عاصفة من التصفيق من كافَّة أنحاء القاعة عندما ظَهَر اسما النجمَين وهما يهبطان من أعلى الشاشة إلى أسفلها. وبالطبع يجب أن نضع في الاعتبار حنينَ تلك القاعة الماضي التي راحتْ تتستَّر على شيخوختها في الظَّلام وتتذكَّر سنواتِ الشباب الجميلة؛ فكانت في وضعٍ مثالي لتضخيم صيت نجوم الماضي إلى أقصى حدٍّ. ومع ذلك — وهذا هو إحساسي طوال مدَّة العَرض — فإنَّ هذه القاعة كانت لا تسترجع فقط غناءَ جانيت ماكدونالد الرائع من خلال عشرة مشاهد متميِّزة في الفيلم؛ بل راحتْ تعيش من جديدٍ الإيقاعَ القديم الساحر والتنفس الهادئ للمجال والمجال المقابِل. ولا أذكُر أنني شاهدتُ في حياتي مثلَ ذلك التلاحُم الوثيق بين القاعة المظلِمة والشاشة المضيئة. وعندما دخَلَ كلارك جيبل في الشاشة من الحائط الرابع بعد الثلاث والثلاثين لقطة التي درسناها، كان من الواضح تمامًا أنَّ غمغمةَ القاعة في نفْسِ تلك اللحظة، تُشير بكلِّ وضوحٍ أنه تمَّ اللحاق به. وعندما رأَت القاعةَ بعيونِ المتفرِّجين جانيت ماكدونالد، بعد ستٍّ وعشرين لقطةً لسيرها بجوار كلارك جيبل (دون أن يراها بعدُ كلارك جيبل)، كانت تنهيدة الارتياح الصادرة عنهم تؤكِّد تمامًا أنَّهم يتوقَّعون اللقاءَ بين النجمَين ويستعدُّون مقدَّمًا لاستقبال تبادُل النظرات بينهما. وأخيرًا عندما ظهرَت اللقطةُ الأُولى الكبيرة للفيلم، وهي التي تستعد فيها جانيت للغناء، صفَّقَت القاعة، لتُرشد بذلك كلارك جيبل إلى الطريق الملكي الذي امتنع عن سلوكه بسرعةٍ وإن كان قد تعيَّن عليه أن يرتاده في نهاية الفيلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤