الفصل الخامس

جسم مارلون براندو

كانت التقنية الخفيَّة جزءًا لا يتجزَّأ من نظام النجومية، الذي يتوقَّف إلى حدٍّ كبير على مدى شهرة النجم. ومن الجليِّ أنَّ السينما التجارية الأمريكية حاولت دائمًا، شأنها شأن كافَّة السينمات التجارية الأخرى، أنْ تخفي معدَّاتها الأساسية والتقنيات المتفرِّعة منها (ويذكِّرنا ذلك بالمروءة الساذجة التي أبداها بعض السينمائيين اليساريين، معتقدين أنهم يكشفون أسلحةَ البُرجوازية السريَّة باستعراضِ المعدَّات السينمائية الأساسية في أفلامهم). فاللجوء إلى نظام الفنِّ الشعبي المتمثِّل في الثلاثي: السرد – التقديم – الصناعة، كما تشرح ذلك كلودين آيزكمان؛ أو رواية الحكايات على طريقة جوستاف فلوبير «كما لو لم يكُن موجودًا بها» لإثبات أن إخفاء التقنية ليس ابتكارًا جديدًا تنفرد به السينما، يرمي إلى محاولة خلق ظاهرة الواقعية وجعل ما يدور على شاشة السينما شبه حقيقيٍّ، و«الإقناع بما يبدو أنه حقيقي»، حتى تظلَّ عينا المتفرِّج متشبِّثتَين بالشاشة.

غير أنَّ الأيام السعيدة في ظِل نظام الحماية الانعزالية، حيث كانت كلُّ الأمور تنساب بيُسر وبلا عقبات، وكانت الاستوديوهات المُهيمِنة على الصناعة السينمائية تشتري المواهب وتعظِّمها لتحوِّلها إلى نجومٍ وتجعلها تتقمَّص شخصياتٍ محدَّدة المَعالِم يعتاد عليها المتفرِّجون، هذه الأيام ما كان يمكن أن تدوم إلى ما لا نهاية. فالحرب التي قضتْ على الأوضاع القديمة وخلطَت الأوراق وأجبرَت العالَم على تغيير قواعد اللعبة؛ زعزعتْ في الوقت نفسه تواصُل الكون الهوليودي الكلاسيكي، الذي ما كانت تشُوبُه أيَّة شائبة؛ فقد ظهر منذ السنوات الأولى التي أعقبت الحرب العالمية الثانية اتجاهٌ سرعانَ ما قَطَع أشواطًا جبَّارة لا رجوع عنها، حتى وصل إلى لمحات الفيديو Video-Clip، وراح يستند أكثر فأكثر على تفرُّد كلِّ فيلم، وعلى الوحدة الفيلمية المستقلة ذاتيًّا والنجومية، أكثرَ من اعتماده على الأنماط المتسلسلة التي تربط الأفلام بعضها ببعض. وبعد ثلاث سنوات من انقضاء الحرب، لم يكُن هناك في هوليود استوديو واحدٌ قادر على أن يصنع بنفسه نجومَه الخاصة لكي «يبيعها للجمهور»، باعتبارها أغلى رصيدٍ لديه. وعلاوةً على الحرب التي ألحقَت الضرر بالحلقات القديمة المترابِطة، كانت هناك أيضًا حملاتُ «مطاردة السحرة»، التي شنَّتْها لجنة النشاطات غير الأمريكية السيئة الصيت، تحت قيادة السيناتور جوزيف ماكرثي، فأفسدت نظم الاستوديوهات وأشاعت الفرقة في صفوفها، هذا فضلًا عن ظهور التليفزيون الذي زعزع النفوذ الذي كانت تتمتع به هوليود حتى ذلك العهد.

ومن الأعراض التي كشفت بقدرٍ أكبر عن حقيقة الأوضاع، صدور قانون عام ١٩٤٨م المُناهِض للاحتكار، الذي أجبر الاستوديوهات الكُبرى على التخلِّي عن قاعات العَرض السينمائي التي كانت تمتلكها. وبوُسعنا أن نتصور بسهولة مدى فداحةِ الهزيمة التي لحقت بتلك الاستوديوهات. فمنذ عام ١٩١٨م، وعلى مدى ثلاثين سنة، كانت شركات الإنتاج السينمائي تخوض الصراع فيما بينها للسيطرة على دنيا السينما في العالَم بأَسره، وبالأخص للاستحواذ على دور السينما؛ لكي تستأثر وحدها بحريَّة توزيع إنتاجها كما يروق لها والانفراد بالتالي بالحيز الخيالي للمتفرجين. ومن خلال العديد من المغامرات والكوارث المعهودة في عالَم المنافسة، والتي نقَلَ إلينا تفاصيلها العديدُ من رجال الاقتصاد ومؤرِّخو السينما، سادت النشوة في منتصف عام ۱۹۲۹م بين الاستوديوهات الخمسة الكبرى التي شكَّلت احتكارًا فعليًّا (مترو-جولدوين-ماير، بارامونت، وارنر براذرس، فوكس، راديو كوربوريشن أوف أمريكا). كانت هذه الشركات، تمتلك في جنوب كاليفورنيا مصانع إنتاج فريدة من نوعها في العالَم، وتتحكَّم في نظام التوزيع الذي انتشرت فروعه في كافَّة أنحاء الكرة الأرضية، نظرًا لانفرادها بتقديم العروض الأُولى في آلافٍ من دُور السينما التي تملكها وتروِّج لأساطيرها عن طريقها.

ومن الواضح أنَّ الصراع الشَّرس، الذي خاضه «الخمسة الكبار» خلال ثلاثة عقود لامتلاك قاعات السينما، كانت تكمن وراءه المصالح المالية في المقام الأول؛ إذ إنَّ استوديوهات هوليود الكبرى كانت، أولًا وقبل أيِّ شيء، مؤسساتٍ ماليةً تعمل في عهد الرأسمالية الهمجية وفقًا لقوانين العرض، التي يتعيَّن عليها إجبار الطلب على التكيُّف مع متطلباتها؛ فالاستوديو الذي يمتلك أكبر عددٍ من دُور العرض، كان يجتذب أكبر عددٍ من مستهلكي إنتاجه. وبالطبع لا توجد أيَّة علاقةٍ للدوافع الاقتصادية بالبراءة؛ فالقانون الرأسمالي الذي يحكُم سوق الأفلام، يقوم هو أيضًا على الأسس غير المرئية للتقنية الخفية، التي تعرَّفنا على مدى تأثيرها على المتفرِّج.

وإذا كان من الواضح أنَّ سطوة المال هي التي دفعَت الشركات الكبرى إلى الاستحواذ على قاعات العرض، فإنه من الجلي أيضًا أن تحكُّم منتجي الأفلام في المجال الذي يشكِّله المتفرِّجون يضاعف من نفوذ هذه الشركات. ويترابط كلُّ شيء هنا وفقًا لمنطقٍ حصين: فالاستوديو يشتري المواهب المضمونة، وكتَّاب الأعمدة في المجلات والصحف اليومية ورجال الدعاية، ويشتري السيناريوهات ودُور العرض لبيع إنتاجه السينمائي. وامتلاك قاعة العرض، أي المجال الخارجي الذي «يجلس» فيه المتفرِّج يؤكِّد للاستوديو المزيدَ من السيطرة. لنتدارس تلك العملية بتفاصيلها: يخلق الاستوديو النجمة، ويقيِّدها بعَقد ملزِم، ويرفع أجرها الأسبوعي حسب شعبيتها وسط الجمهور، وتعويضًا لها عن الأدوار التي يُلزمها الاستوديو بأدائها، ولكي يبعد المنافسين. والاستوديو الذي يروض النجمة يثريها ويُكسبها الشهرة، ويستمتع المعجبون بها بالمرور بعد ظُهر يوم الأحد أمام مَسكنها الفخم أثناء تجوالهم في شوارع مشاهير بيفرلي هيلز. وينتظر المتفرِّجون في القاعة المُظلِمة التي حرص الاستوديو على زخرفتها، حتى تُضاء الشاشة التي سينضمُّ إليهم من خلالها نجمُهم المفضَّل في دَورٍ متناسِق ومسلسَل وتكراري. وحالة ميكي روني نموذجية في هذا المجال؛ لقد صنعتْه شركة مترو-جولدوين-ماير، وحكمتْ عليه بأداء دورِ الطالب العفيف طوالَ خمس سنوات، ممَّا أتاح له إمكانية القيام بنفسِ دور هذه الشخصية، وتبوَّأ مركزَ الممثِّل الأمريكي الأكثر شعبية في عام ۱۹۳۹م نتيجةً لحاجة روَّاد دُور السينما الدائمة إلى مشاهدته من جديد.

أمَّا صدور قانون مكافحة الاحتكار الذي نزل على رقاب «الخمسة الكبار» مثل المقصلة في أواخر الأربعينيات، ليفصل قاعات العرض عنهم؛ فقَدْ أدَّى إلى تقسيم النظام السينمائي. فهل أدَّى ذلك إلى تجميد الانسياب بين قاعة العرض والشاشة المضيئة؟ يبدو لي — وإن كان ذلك هشًّا ويحتاج إلى شرحه — أنَّ اللقاء بين قاعة المتفرِّجين واللقطات الكبيرة، هو الذي يصبح مجالًا للأخذ والرد ويصعب تدبُّره. وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ وجوه الممثلين المفصولة عن أجسامهم، ورءوسهم المطبوعة على الملصقات «رءوسهم الكبيرة في القاعة الصغيرة» (كما قال أندريه مالرو) قد تُجازف بكشف خدعةِ علاقتهم بالمجال والمجال المقابِل. ويعود السبب في ذلك إلى أنَّ قاعة العرض التي لم تعُد مرتبِطةً بنفس الطريقة بالشاشة، ستكون من الآن فصاعدًا أقلَّ قابليةً لأنْ تنزلق أسفلَ وجوه النجوم المحبوبة؛ لتقدم صورةً لأجسادهم الرائعة، حرصت الاستوديوهات على إبقائها حتى ذلك الوقت خارج الكادر.

وبناءً على ذلك، أصبح مجال الشاشة شيئًا فشيئًا الموضعَ الوحيد لرسوِّ النجوم. غير أنَّ هؤلاء النجوم ما كان يمكنهم الاستمرار في الاكتفاء بعرضِ وجوههم فقط في الروايات، والظهور في لقطاتٍ كلاسيكية وجهًا لوجه، وتعيَّن عليهم أن يظهروا بكاملِ كيانهم من قمَّة الرأس حتى أخمص القدمَين في مجال الشاشة، خاصة وأنَّ الاستوديوهات باتتْ تحدُّ شيئًا فشيئًا من نظام المسلسلات ذات النوعيات المقرَّرة، الذي كان يغذِّي في الوقت نفسه المجالَ الخارجي عند المتفرِّج. كما أنَّ التخلي عن ربط اللقطات الكبيرة بشهرتهم خارج الكادر التي تولَّت الاستوديوهات صُنعها لهم في الماضي، استدعى لجوء الأخيرة بأسرعِ ما يُمكن إلى خلقِ طرازٍ آخَر من المجال الخارجي، سواءٌ لهم أو للمتفرجين، يحتلُّ في هذه المرة المركزَ الأول على الشاشة.

ألَمْ تمثِّل فكرةُ لي ستراسبرج العبقرية في إدراكه في اللحظة المناسبة أن وجه النجم لم يعُد من الممكن أن يظلَّ منفصلًا عن بقيَّة جسده؟ ومَن هو النجم الذي حقَّق ذلك الاندماج على الشاشة على خير وجه إن لم يكن مارلون براندو؟ لقد مثَّل ذلك الدمج بين اللقطة الكبيرة والجسم في مجموعه الهدفَ الأخير «لمنهج» استوديو الممثل الذي أسسَّه لي ستراسبرج في نيويورك في عام ١٩٤٨م، وتولَّى إيليا كازان تدريسه وعكف على تطبيقه. وقد أكَّد إيليا كازان مرارًا أنَّ «براندو أعظم ممثل في العالم». وفي رأي لي ستراسبرج أنَّ براندو جدَّد السينما الأمريكية؛ لأنه دشَّن شخصية التمثيل التي تقضي بألَّا يتقمَّص الممثل الشخصية التي يمثِّلها، بل أن يجعل هذه الشخصية تتقمَّصه. ولنفحص ذلك عن كثَبٍ دون أن يغيب عن ذهننا هدفُنا الذي يتمثَّل في إثبات أنَّ السينما الشعبية الأمريكية لا تسعى إلا إلى دفع قاعة العرض داخل الشاشة المضيئة. لقد استهلَّ مارلون براندو عَقْد الخمسينيات وأثبت منذ أفلامه الأُولى: الرجال (١٩٥٠م)، وعربة ترام اسمها اللذة (١٩٥١م)، ويحيا زاباتا (١٩٥٢م)، ويوليوس قيصر (١٩٥٣م)، والمتوحِّش (١٩٥٤م)، وعمَّال الميناء (١٩٥٤م)؛ أثبت أنَّه فعَّال بشكلٍ ملحوظ في عملية خلقِ طرازٍ جديد من المجال الخارجي، للحفاظ على انتقال الفُرجة من المجال إلى المجال المقابِل وذلك بإدخال جسمه في مجال الشاشة، بُغية دفْعِه إلى مساندة، وضمِّ وربط بل وتجسيد نظراته هو في لقطاتٍ كبيرة.

ويحلو للنقَّاد السينمائيين عندما يتعرَّضون لفيلم عمَّال الميناء أنْ يحلِّلوا مشهدَ اللقاء بين مارلون براندو وإيفا ماري سانت في الحديقة، بعد خروجهما من الكنيسة، وهم محِقُّون في ذلك، وقد سبَقَ أن أشرتُ إلى هذا المشهد، وينمُّ أداء براندو هنا عن «منهجِ» ستراسبرج بشكلٍ خاص. فتحرُّجه والمشاعر التي يحسُّها ويحاول إخفاءها تعبِّر عنها حركةُ أصابعه غير المبالية بشكلٍ مبالَغ فيه، وهي تعبث بالقفَّاز الذي تركتْه الشابَّةُ يسقط. ولم يلجأ إيليا كازان ومصوِّره بوريس كوفمان إلى تقديم لقطةٍ كبيرة ليدَي براندو، بل حرصا على أن يتمَّ ذلك بحيث تكون تلك الحركة منفصِلة عن جسم الممثِّل، كما أنهما تجنَّبا فصلَ اللقاء بينهما عن موقعِ الحديقة. فكأنهما أرادا إثباتَ التوافق التالي: أن يدَي الممثِّل بالنسبة لجسده يقابلهما جسده بالنسبة للحيز المحيط به.

إلى أي حدٍّ كان المصوِّر بوريس كوفمان يخصُّ صورَه بقَدْر من التوجُّه التسجيلي كأثرٍ للعهد الذي كان يصوِّر فيه أفلامَ أخيه دزيجا فيرتوف؟ وهل يتعيَّن أن نذهب إلى مدًى أبعد فنتساءل: هل يحقُّ لنا أن نبيِّن في إشراك جسم الممثِّل في مجال الشاشة نوعًا من تأثير ميير هولد، المُخرِج الكبير في المسرح السوفييتي وخصم ستانيسلافسكي، الذي شدَّد على الأداء الجسدي للممثِّل؟ وعلى أيَّة حال، فإنَّ ما يهمُّنا هو استخلاص مغزى هذا الأسلوب الجديد في التمثيل السينمائي، وتقييم تأثيره على المتفرِّج.

ولنتوسعْ في التحليل؛ فقد أجبر براندو الكاميرا على التقهقر عندما جعَلَ يدَيه تؤديان حركةً يشوبها الالتباس (فهي حركةٌ لا تنمُّ بوضوحٍ عن الحياء والاضطراب، تظهر كما هي في اللقطة الكبيرة) وذلك حتى يمكن إدراك مغزى الإيماءة بربطها بمجموعِ جسد الممثِّل. والواقع أنَّ براندو يحتاج إلى حيِّز يتحرك فيه جسده وتتداول فيه يداه أشياءَ ملموسة. وعلى نفس المنوال يلعب سلفستر ستالوني، وهو مقلِّد لبراندو، بكرةً صغيرة من المطاط في فيلم روكي (وستتاح لنا فرصةُ دراسة سلوك ستالوني بالتفصيل في الفصل التاسع) فبراندو في حاجةٍ إلى حيِّز لكي يمثِّل بنظراته، على طريقته هو، ويجذب معه المتفرِّج بأسلوبه الجديد. ونحن هنا في المركز العصبي لمنهج ستراسبرج. ولننظرْ في ذلك عن كثب بالرجوع إلى أفلام مارلون براندو. ففي بداية فيلم السوبرمان (إخراج ريتشارد دونر، ۱۹۷۸م) يظهر براندو لفترةٍ وجيزة، ولكنها كافيةٌ للكشف عن تقنية استوديو الممثِّل. فهو يؤدي دور عضوٍ بالمجلس الأعلى لكوكب كريبتون، الذي يعيش اللحظات الأخيرة قبل وقوع الكارثة، ويتعيَّن عليه أن يُجيب على أسئلة أقرانه الذين يعارضون اقتراحه الداعي إلى الجلاء عن الكوكب قبل وقوع الانفجار الأخير؛ لعلمه أنَّه محتومٌ ووشيك الحدوث. وهناك لقطةٌ نصفُ جامعة تتيح لنا رؤية جسم براندو بالكامل. وممَّا يلفت النظر الاقتصاد في إيماءات الممثِّل، والمفارقة بين الحركة والسكون: فبراندو يرفع ساعدَيه ببطءٍ على امتداد جسده الذي لا يتحرك، ويضع يدَيه على ظَهر الشِّعار الإمبراطوري للكوكب المطبوع على ثوبه الفضفاض عند الصدر. وهو يضمُّ الشعار بقبضتَيه اللتين تتوقفان عن الحركة، ويرتفع فجأةً جفناه كما لو كانا ينوبان عن حركة اليدين المتصلِّبة، وأخيرًا تظهر نظرته التي تتثبتْ على أعضاء المجلس. ومن الواضح أنَّ هذا النوع من الأداء الذي يستخدم فيه الممثل جسده، إذا جاز القول كطاولةِ مونتاج، يستدعي أن يظلَّ هذا الجسد بأكمله في المجال، أيْ طوالَ الوقت الذي تستغرقه عملية التكوين. فالنظرة التي يُلقيها براندو على خصومه، لم يعُد من الممكن أن تكون صادرةً في الواقع عن وجهٍ مُنفصِل؛ لأنها (أي النظرة) لا تكتسب معناها وحيويتها وتألُّقها إلا في ارتباطها في الوقت نفسه بحالة السكون الكاملة للجسم، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى مع حركة الساعدَين، ثم اليدَين اللَّتَين ستكفَّان عمَّا قليلٍ عن الحركة (وتتحرَّر النظرة من الجفن الذي يرتفع، لينوب عن ثباتِ اليدَين في مكانهما).

ونحن بعيدون هنا عن اللقطة الكبيرة لرأس كلارك جيبل، وهو ينظر إلى جانيت ماكدونالد. ولنتذكرْ أننا نحن الذين كنا نُعير أجسامنا في ذلك الزمان لتلك الوجوه، وعيوننا لتلك النظرات؛ لكي نتوصَّل بأسرعِ ما يمكن إلى نجومنا المحبوبة. بيْدَ أنَّ براندو لم يعُد يعتمد على القاعة، أيْ على المجال الخارجي للقاعة المُظلِمة، لدعم نظرته وتوجيهها؛ فهو الذي يصوغ نظرته في مجال الشاشة نفسه بهزِّ منكبه واختبار جسده. فنظرته يجب أن تنبثق من جسده كما هو معروضٌ على الشاشة. ولكنْ يجب ألَّا نتعجَّل الأمورَ؛ فقبلَ أنْ نتوغل في معاني ذلك الأداء الجسدي للممثِّل بالنسبة للشاشة والقاعة، علينا أن نعود إلى تحليلِ المشهد ونستخلص منه بعضَ المعلومات.

ولعلَّ مارلون براندو أتقَنَ على خيرِ وجهٍ أداءه في فيلم يوليوس قيصر (إخراج جوزيف مانكييفتش، ١٩٥٣م) الذي عالج سينمائيًّا مسرحيةً لشكسبير. وهو يقوم بدور مارك أنطونيو الذي يفاجئ قتَلَة يوليوس قيصر فورَ اغتياله والسيوف في أيديهم، وهو في وضعٍ محفوف بالمخاطر؛ فقَدْ تمَّ القتل باعتباره أحدَ الطقوس الجماعية للتضحية، بينما لم يشارك هو فيه. وهو يظهر أمامنا وحده في لقطةٍ متوسِّطة وجسده منحنٍ قليلًا ورأسه مائلٌ نحو جثَّة يوليوس قيصر الموجودة خارج الكادر. وتنساب الكاميرا ببطءٍ على جسم براندو في حركة بانورامية رأسية تتَّجه من أعلى إلى أسفل؛ لكي نتمكَّن من رؤية ما يراه هو: جثمان قيصر الممدَّد أسفلَ الجانب الأيمن من الكادر، وذلك دون أن يبعد براندو عن أنظارنا؛ إذ يظلُّ طرْفُ ردائه ظاهرًا عند الحافة اليسرى للكادر. ثم ينسحب جسم براندو لتحلَّ محلَّه على الشاشة لقطةٌ لرأس الممثل حتى منكبَيه متمشِّية تمامًا مع انحناءة جسمه في اللقطة السابقة. ويبدو وجه براندو في انحناءته نحو جثَّة قيصر، التي نُحيتْ خارج الكادر، وكأنَّه أحدُ «تفاصيل» لوحةٍ فنية مستنسخة في ألبوم. ونظرته لا تنمُّ إطلاقًا عن التأثُّر، بينما عيناه مطرِقتان، لا يراهما المتفرِّج. ومن هذا الوجه المتحجِّر المحافِظ على جموده طوال المشهد، ترتفع فجأةً نظرته المخيفة نحو القتلة الموجودين خارج مجال الشاشة، ثم تتخلَّى الرأس ببطءٍ عن وضعها المُطرِق؛ لكي تتبع مسار النظرة، لتعضِّدها وتعزِّزها. وقد عمدت، وأنا أكتب هذه السطور، إلى شرح هذه الحركة المزدوجة التي أقدَم عليها براندو؛ لكي أوضِّح بدقَّة ذلك الحضور القوي الذي صوَّرتْه اللقطة.

ما هو الهدف من تلك الاستراتيجية التي تنتقل من الجسم بأكمله إلى الرأس التي سبق أن أطلعتْنا على الجسم عن طريق تلك الحركة البانورامية، وراحت الآن تقوده في مسيرتها؟ إنه بلا شكٍّ فرَضَ وجودَ الممثِّل على روَّاد القاعة عن طريق الغزو المنظَّم والانفراد باحتلال مجال الشاشة. وسندرك على نحوٍ أفضل مغزى تلك الاستراتيجية وتأثيرها برؤية المشهد التالي، الذي يتضمَّن مواجهةَ مارك أنطونيو لقتَلة القيصر، الذين درسنا لهم — قبل قليل — لقطتَين. إنه خطاب أنطونيو أمام شعب روما، بعد أن تعيَّن عليه ألَّا يتصدَّى لمجموعةٍ صغيرة من القتَلة أيًّا كان نفوذهم وكانت خطورتهم، بل مواجهةُ عامَّةِ أهل روما الذين استثارهم موتُ القيصر وراحوا ينادون بالثأر.

هناك بعض المعلومات المختصرة والمفيدة لكي نتمكن من متابعة التحليل بلا معوقات؛ لقد نجَحَ أنطونيو بالتواطؤ والدهاء (مجازفًا بذلك بحياته) في الحدِّ من ريبة أقرانه الذين تتألَّف منهم تلك المجموعة الصغيرة من قتَلَة يوليوس قيصر، ومن بينهم بالأخص بروتوس وكاسيوس اللَّذين يتمتعان بسلطانٍ يفوق نفوذه هو في الإمبراطورية ووسط الشعب. لذا فقَدْ أسندوا إليه شرف إلقاء خطابِ تأبين يوليوس قيصر، علمًا بأنَّ ذلك قد يكون فخًّا نصبوه له. ومع أنَّ ارتياب المتآمرين قد خفَّ إلى حدٍّ ما، إلا أنَّه لم يتبدَّد تمامًا. ولذا يحدِّد بروتوس نقطتَين لأنطونيو تحسُّبًا لأيِّ خطرٍ يمكن أن يتعرَّض له المتآمرون: أنَّ بروتوس هو الذي سيقدِّمه للشعب ليوضِّح مسبقًا أنَّ الخطيب مفوَّض في ذلك من جانبِ أقرانه، وأنَّ المجموعة ستظلُّ في الكواليس أثناءَ خطاب التأبين لكي لا يراها الشعب، بينما تسمع هي ما سيتفوَّه به.

والمشهد مهمٌّ للغاية وممتدٌّ؛ إذ يستغرق اثنتَين وعشرين دقيقةً ويتضمَّن أربعًا وثمانين لقطةً وبنيته بأَسرها تشكِّل في الواقع ضربًا من المبارزة والمواجهة بين قوتَين متعارضتَين: القوة المنفردة للخطيب مارك أنطونيو، والقوة الجماعية للعامة في روما. وأودُّ أن أشير هنا، على أن أرجع إلى ذلك فيما بعدُ، إلى أنَّ المشهد لا يشتمل على أيَّة لقطةٍ للمتآمرين الذين نعلم مع ذلك أنَّهم متربِّصون ومستمِعون خارج المجال. كما أشير أيضًا، لكي أُطمئن القارئ المتعجل، أنه لا مجال لأنْ أقدِّم تحليلًا مفصَّلًا لذلك المشهد، كما أقدمتُ على ذلك في فيلم سان فرانسيسكو؛ فأنا لا أسعى هنا إلا إلى استخلاص بعض الثوابت التي يمكن أن تساعدنا على إدراك مدى فاعلية استراتيجية ممثِّلٍ مثل مارلون براندو بالنسبة للمتفرِّج. واللقطات الأربع والثمانون التي يتكوَّن منها المشهد موزَّعة على النحو التالي:
أنطونيو وحده أنطونيو مع الجمهور الجمهور وحده
٣٠ لقطة ۲۲ لقطة ۳۲ لقطة

ويتَّضح من هذا الجدول أنَّ أنطونيو متواجد في مجال الشاشة اثنتَين وخمسين مرةً (٣٠ مرةً وحده، و۲۲ مرةً مع الجهور). ولننطلق من يسار الجدول باتجاه الوسط، ثم من يسار هذا الجدول باتجاه الوسط مع الإشارة مقدَّمًا إلى أنَّ وقوع كل اللقطات التي تضمُّ أنطونيو مع الجمهور وسط الجدول ليس محضَ مصادَفة. فهذه اللقطات، هي تلك التي سيحاول أنطونيو كَسْبها لصفِّه، وهي الحيز الذي يتطلَّع إلى شَغْله باستدراج عامَّة روما ومن بعدهم المتفرِّجين من روَّاد قاعة العرض. وهذه اللقطات هي نفسها التي يحاول الجمهور اجتياحها بحركته الجماعية الغريزية. وجميع لقطات هذا المشهد التي لا يشارك فيها أنطونيو بحضوره والمقتصرة على الجمهور وحده، يقرِّرها أنطونيو بنفسه. إنها لقطاتُ ردِّ الفعل لكلماته وإيماءاته. والعديد من تلك اللقطات، يعكس ردود الفعل الشفوية لخطاب أنطونيو (خاصة في اللقطات الأخيرة من المشهد)، وبعضها يتعلَّق بتفكير الجمهور فيما يرِدُ على لسان أنطونيو، غير أنَّ أغلب اللقطات تخصُّ الجمهور وهو يستمع إلى الرثاء الذي يشرف عليه من خارج الشاشة. ومن الواضح أنَّ كافة تلك اللقطات الخاصة بالجمهور وحده، والتي تستبعد أنطونيو من مجال الشاشة، لا ترمي في الواقع إلا إلى تجسيده هو (وذلك جزء من تراث السينما الكلاسيكية الذي لا يزال مقبولًا)، وتأكيدِ صوته القادم من خارج الشاشة، وبثِّ المزيد من الحياة فيه؛ حتى يحتل المجال بقوة عندما يعود إليه.

وهناك جوانب أربعة في اللقطات الخاصة بالجمهور لها أهميتها بالنسبة لمقصدي: إنها أولًا لقطاتٌ قصيرة أشبه بالومضات (أربع ثوانٍ في المتوسط)، ولقطات جامعة أو نصف جامعة مقرِّبة لبعض أفراد الجمهور، وجميعها لقطاتٌ كلاسيكية كردِّ فِعلٍ للنشاط المركزي للنجم. وثانيًا: هذه اللقطات الخاصة بالجمهور مصوَّرة في الثُّلثين الأولين من المشهد، من أعلى إلى أسفل (وهذا ما سنشرح سببه بعد قليل)، من منظور أنطونيو الذي يتكلَّم من أعلى درجات سُلَّم الكابيتول. وثالثًا: هناك عددٌ من الأفراد، لا يتغيَّرون ويبدو من تصرفاتهم أنهم من القادة، وهم يظهرون عادةً في أسفل الكادر، حيث يحتلُّون موقعًا متميِّزًا في اللقطات نصف الجامعة، وخاصَّة في اللقطات المقرَّبة، عندما تعبِّر عن ردود الفعل الشعبية. ورابعًا، وهذا هو الأهمُّ: تتَّجه كلُّ لقطات الجمهور تدريجيًّا، كما لو كانت تحت تأثيرٍ مغناطيسي نحو الحيز الأوسط بين ساحةِ عامَّة الشعب ومنصة الخطيب، حيث أرقد أنطونيو بدهاءٍ جثمانَ يوليوس قيصر، ونجَحَ بعد ذلك في اجتذاب الشعب، ثم نزل لينضمَّ إليه في الثُّلث الأخير من المشهد. ولكنَّ الانتقال إلى اللقطات التي لن يكون الجمهور فيها وحده، بل بصحبة أنطونيو، يتطلَّب منا أن نضع أنفسنا على يمين الجدول لدراسة اللقطات التي يوجد فيها أنطونيو وحده في مجال الشاشة.

وإذا كان عدد اللقطات التي يظهر فيها على انفرادٍ ولقطات الجمهور وحده متساويةً تقريبًا عدديًّا (٣٠ لقطةً مقابل ۳۲) إلا أنَّ ذلك لا ينطبق على مُددها. فالوقت الذي يقضيه لشغل المجال وإلقاء خلابه، يستغرق وقتًا يعادل ما بين ستة وعشرة أمثال ما تستغرقه ردود فِعل الجماهير. والواقع أنَّ أنطونيو هو النجم، وهو الذي يتكلَّم؛ ولذا يتعين أنْ يشاهَد وهو يُلقي خطابه. وقد يحتجُّ المرء بأنه من المستحسن أيضًا أن يُترك له قدْرٌ أقلُّ من المجال للاستماع مدةً أطول له، وبالأخصِّ مدة أطول لوقْعِ كلماته على قسمات وجوه مستمعيه، خاصة وأنَّ الرهان يتمثَّل في تحويل شكوك الشعب وعدائه إلى ثقةٍ كلُّها إعجابٌ ممَّا يتطلب أن نكون شهودًا لذلك التحول الشعبي الصعب الذي استغرق مدَّةً طويلة. غيرَ أنَّ أنطونيو يجب أن يكون، حسب منهج ستراسبرج، هو صانعُ كلِّ ذلك التأثير على مستمعيه؛ ولذا فإنَّ التعرُّف على ردِّ الفعل الشعبي يجب أن ينعكس على وجهه وجسده، وأن نطَّلع عليه عن هذا الطريق. وهكذا يتصدر أنطونيو الموقف. ويبرع براندو في بسط سحره الذي يفتن به كلًّا من المتفرِّجين وعامَّةِ الشعب أمام الكابتول. وقد مهَّد له مانكييفيتش الطريقَ بكلِّ سخاء لكي يحقِّق ذلك بجسمه الثابت وذراعَيه اللَّتين ترتفعان نحو الجمهور بُغية أن يكون شاهدًا على ولائه، ورأسه التي تنحني نحو الأرض لتعبِّر عن احترامه وتبجيله ليوليوس قيصر … ويترك له المُخرِج المجال؛ لكي يتجول أمام الحضور الذي يراه أحيانًا في وضعٍ جانبي، أو من الخلف، ثم يميل بجسده ليجثو بلا حراك، ويلوِّح بوصيَّة قيصر، ويركع بجانبِ جثمانه المسجَّى ليرفع فجأةً الكفنَ الذي كان يحول دون أن يراه الشعب. وهناك وسط اللقطات الجامعة لجسم براندو، وكذلك وسط الخطاب، لقطاتٌ أخرى له، أغلبها لمستوى المَنْكبين، يتبلور حولها الأداء الجدلي للجسم الثابت والإيماءات الدينامية: فوجه الممثِّل جامدٌ بشكل ملحوظ، ولونه أبيض، وتناسقه كامل، وسطحه أملس؛ وفجأةً يرتفع الجفن لتنطلق منه نظرةٌ نارية مثبتة على الجمهور. وطوال الثُّلثين الأولين من هذا المشهد، تم تصوير كافَّة اللقطات الخاصة ببراندو سواءٌ المقرَّبة أو الصورة عن بعد، من أسفل إلى أعلى، من منظور الجمهور الذي يتطلَّع إليه. وعليه، فإنَّ اللقطات الخاصة بالجمهور وحده، والتي تعرَّضنا لها منذ قليل، تشكِّل تمامًا المجال المقابِل للقطاتِ براندو وحده. وفيما يتعلق باللقطات المقرِّبة لبراندو، هناك سمة يتعيَّن أن نوضِّحها؛ فكلٌّ منها يشكِّل استكمالًا كاملًا للَّقطة المتوسطة أو الجامعة التي سبقتْها، ممَّا يمكِّن براندو من أنْ يعكس ويلخِّص في وجهه، في آنٍ واحد، ما دأب جسدُه على بنائه من قبل. ويتعيَّن أن نحلِّل بإسهابٍ أكبر اللقطاتِ الخاصة ببراندو في هذا المشهد، والتي تصوِّره لنا وهو يراقب همهمةَ الجمهور الذي بدأ يميل إلى تأييده؛ فهي لقطةٌ مُقحَمة تُقرِّبنا إلى أقصى حدٍّ ممَّا شاهدنا توًّا في لقطةٍ نصف جامعة، مع احترام محور التصوير.

وبوُسعنا أن نعاين الآن اللقطاتِ التي تجمع بين الجمهور وبراندو. والحقُّ، كما سبق أنْ قلنا ورأينا، فإنَّها بمثابة المَرسي الذي تلجأ إليه كلُّ اللقطات الأخرى في المشهد، سواء اللقطات الخاصة بالجمهور وحده، أو تلك الخاصة ببراندو على انفراد. ولنستخلص النقاط السائدة في تلك اللقطات الدامجة. فهذه اللقطات في الثلثين الأولين من المشهد، سواءٌ أكانت من منظورِ الجمهور أم منظور براندو، أو من منظور محايد ووسيط بينهما، لقطات جامعة أو لقطات كبيرة جامعة تستدعي وتسترجع المواجهة بين الخطيب المتحدِّث والجمهور المستمِع، وبين الساحة والمنصة، والأسفل والأعلى. وهذه التقنية التقليدية الجيدة التي تتيح إمكانية ترويج الدراما وتمنح الممثِّلين الفرصةَ للحمحمة وتهيِّئ بعض اللحظات لكي ينظر بعضهم لبعضٍ بغضب. غير أنَّه توجد، فضلًا عن ذلك، بعضُ اللقطات من أعلى إلى أسفل، أي مصوَّرة من وجهةِ نظر براندو الذي نراه من الظَّهر، حيث لا نرى إلا رأسه فقط على الشاشة، بينما الحيز كله مِلكٌ للجمهور، وأخرى ملتقطة من أسفل إلى أعلى، أي من منظور الجمهور، الذي يحتل الشاشة، بينما براندو مُبعد في أعلاها، وهذان النوعان من اللقطات يوضحان أنَّ مهمَّة البطل ليست سهلة، وإن كانت أغلبيةُ تلك اللقطات الاثنتين والعشرين تترك حيِّزًا فارغًا وسط المجال، بين براندو والجمهور. وهذا الحيز الأوسط الذي يريد براندو أن يحتلَّه، كما سبق أن قلنا، هو الخاص بيوليوس قيصر؛ حيث يرقد جثمانه، وهذا الحيز يشكِّل كامل رهان خطاب براندو. ومن المهم أن نختتم تحليلنا بكلمةٍ عن التأبين، ولكي نفهم في نهاية المطاف الترابط بين الأنواع الثلاثة من اللقطات: الخاصة ببراندو على انفراد، والجمهور وحده، والطرفَين معًا.

في الثلثين الأولين من الخطاب، يحاول أنطونيو إقناع جمهور روما بأنَّ يوليوس قيصر لم يكُن طموحًا. والمحاولة محفوفةٌ بالمخاطر؛ فقد أوضَحَ بروتوس للشعب قبل أن يترك الكلمة له، أنه اضطر هو ومجموعة المخلصين الصغيرة إلى قتْلِ قيصر؛ لأنَّ طموحه الفائق الحد أصبح ضارًّا بالإمبراطورية، وكان بروتوس محبوبًا من أهل روما، وقبل أن يتكلَّم براندو كانت تتردد في الأسماع جُمل من النوع التالي: «الويل لأنطونيو إذا تجاسر وتكلَّم ضد بروتوس!» وسط الجلبة وهمهمات الجمهور. ولذا حرص المؤبِّن في البداية، وفي أطول مدَّة من الخطاب على جعل المناقشة تتجاوز الاغتيال وتتعدى جثمان قيصر، وراح يُعيد إلى الأذهان الأعمال الباهرة التي أنجزها الفقيد من أجل روما. ولجأ في ختام كلِّ عودة إلى وقائع تاريخية، إلى طرح نفس السؤال: «هل كان ذلك طموحًا؟» مصحوبًا بردٍّ بالإيجاب، وهو يتكرَّر باستمرار حتى بات شيئًا فشيئًا تهكميًّا، أولًا بأول مع التحول الذي يطرأ على موقف الجمهور: «ومع ذلك فلا يمكن أن يؤخذ شيءٌ على بروتوس!» وبقدْرِ ما يقترب التذكير بماضي قيصر البطولي (وهو صلب التأبين: من الأحداث الراهنة، وبالتالي من الاغتيال) سيميل براندو إلى الانحناء بجسمه وغضِّ الطرف وتوجيه نظرةٍ نحوَ جثمان قيصر المسجَّى عند قدمَيه، وستتَّجه حركة الشعب، من جانبه وبدافع المحاكاة، نحوَ نفس الحيز.

وعندما يضم براندو حركةَ جسمه إلى حركة رأسه، ونظرته في الثلث الأخير من خطاب التأبين لينزل نحو جثمان قيصر ويدفع الجمهور إلى نفس الاتجاه، يكون التعارض الذي تجلَّى عن طريق التصوير من أعلى إلى أسفل، والعكس بالعكس قد اختفى بين الخطيب ومستمِعيه. وسيلتقي الطرفان في لقطاتٍ للمجال والمجال المقابِل وكذلك في اللقطات التي يظهران فيها معًا، على نفس المستوى والحيز، في لقطاتٍ مقرَّبة وقد تحلَّقا حول الفقيد، حيث تعمل في نفوس كلٍّ منهما نفس المشاعر ونفس الرغبة في الانتقام من القتلة. وبينما ينزل براندو نحو جثمان قيصر قبل أن يلتحم مع الجمهور في نفس الحيز، ومباشرة قبل أن يزول التعارض بين اللقطات المصورة من أعلى إلى أسفل، واللقطات المصورة من أسفل إلى أعلى، تتردد عباراتٌ تنطلق من كافة الأرجاء: «هؤلاء القوم الذين لا عيب فيهم، خوَنَة!» فالشعبُ يستدعي ويؤيِّد نزول براندو إلى حيز قيصر الذي أصبح ضحيةً لخيانةٍ عُظمى. بل إنَّ استراتيجية المجال والمجال المقابِل التي شكَّلها براندو وصاغها منذ بداية خطاب التأبين، ترتدُّ لدى الجمهور الذي يتبناها، لكي يعكس معناها وفقًا لتلميحات الخطيب، من خلال الجملة الرئيسية المتكرِّرة على طول التأبين: «ومع ذلك لا يمكن أن يؤخذ شيء على بروتوس!» وبعبارةٍ أوضح، فإنَّ الجمهور كان يتفاعل، في كل المشاهد التي ظهر فيها، مع كلمات براندو وسلوكه، حتى بات يعتب على بروتوس ورفاقه العمل الذي كان يعتبره في البداية أمرًا لا يؤاخذون عليه.

ولقد عمدتُ إلى توضيح الترابط بين المستويات الثلاثة في هذا المشهد الرئيسي، لكي أبيِّن أنَّ براندو يحتلُّ الحيز بأكمله وهو يؤدي دورَ أنطونيو؛ فمن الجلي أنه لا توجد لقطةٌ واحدة من بين كافة لقطات هذا المشهد غاب عنها براندو. فاللقطات التي ظهر فيها الجمهور في المجال المقابِل، لم تكُن إلا صدًى لمجال براندو الفريد والمتميز، حتى إنه يمكن استبعادها عن رؤيتنا، والاكتفاء بشريط الصوت الخاص بها، القادم من خارج المجال الذي يحتله براندو، خاصة وأنَّ الأخير يحدِّد ويوجِّه مختلف ردود فعل الجمهور باستقبالها ومدِّها عن طريق خطابه ولحظات صمته ونظراته وإيماءاته.

من الواضح أنَّ تواجد براندو طاغٍ بالرغم من الاختلافات الضخمة والتناقضات الصارمة، ومنها على الأقل جمود وجهه والإخراج الدرامي المفروض عليه. وهذا الطغيان شبيهٌ بأداء جوني كارسون الذي يتضمَّن ردودَ فعلٍ بصريةً وسمعية للمتفرجين. كما يذكِّرنا أداء براندو بتمثيل مايكل كين الذي وصَفْنا بعضَ سماته، ونجِدُ أيضًا ذلك التشابه لدى روبرت دي نيرو وسلفستر ستالوني اللذين سنتعرض لهما بعد قليل. ويحاول براندو أن يحتلَّ كلَّ المجال بكامل كيانه ولأطول مدَّة ممكنة، حتى إنه يجبر المصوِّر على استنفاد أفلامه الخام من أجله، ويحلُّ بنفسه محلَّ المونتير من خلال تمهُّله، كما لو كنا بصدد التصوير البطيء، من جسمه حتى وجهه، ومن وجهه حتى عينَيه. وتحرص استراتيجية براندو على استثمار لقطة رد الفعل وجعلها ضربًا من الحشو: على صورته هو وشبيهٍ له. وبعبارةٍ أخرى، فإن الفكرة المتسلِّطة على براندو هي الْتهام المجال الخارجي عن طريق انفراده هو باحتلال المجال الذي يجب أن يتلاقى عنده كلُّ شيء كما سبق أن رأينا.

ولذا فقَدْ أطلق العِنان لبراندو؛ لكي يشغل مجالَ الشاشة بشكلٍ متواصِل، حتى إننا لم نشهد ردودَ فعْلِ قتلة قيصر طوال الاثنتين والعشرين دقيقة التي استغرقها ذلك المشهد. ومع ذلك، فقَدْ علِمْنا — نحن المتفرِّجين، وأنطونيو، وكذلك جمهور روما — بالتخمين، أنَّ بروتوس ورفاقه قابعون خلفَ ستارٍ أو في مكان مهيَّأ يسمح لهم بإرهاف السمع وتتبُّع كلماتِ التأبين، وربما أيضًا بإلقاء نظرةٍ على المناورة التي لجأ إليها أنطونيو. وقد نتساءل بالطبع: لماذا حرم مانكييفيتش نفْسَه من لقطات رد الفعل الموجودة تحت تصرُّفه وتنتظره خارج المجال مباشَرة، ممَّا يتيح إضفاء المزيد من القوة على المشهد، بل وعلى أداء براندو أيضًا؟ وبوُسعنا أنْ نتصوَّر بسهولة لقطاتِ ردِّ فِعل بروتوس ورفاقه، مع توفُّر إمكانية توزيعها على مدى خطاب التأبين وفقًا للخط الانفعالي التالي: الثقة، التوجُّس، الغضب، الخوف، الهزيمة، أي ما يتناقض بالتالي؛ وعلى لقطات ردِّ فِعل الجمهور. ومن جهةٍ أخرى، بوُسعنا أن نُدرك مبرِّرَ عدم تصوير تلك اللقطات الخاصة بالمجال الخارجي وحده، أو على الأقل سببَ استبعادها من جانب المونتير. فهذه اللقطات المستقلة ذاتيًّا، رغم قُربها من المجال المركزي الذي يحتلُّه البطل أو الجمهور أو كلاهما معًا، خاصة من خلف ظَهر براندو، أي بدون علمه وبلا ردود فعل من جانبه، ما كان يستطيع أن يعتمد عليها لرسم خطواته، وربما كان بوُسع هذه اللقطات أن تعظِّم أداءه ولكن بطريقةٍ مصطنعة؛ فهي مفروضةٌ عليه من الخارج دون أن يتمكَّن من المشاركة فيها أو التحكم فيها، خاصة وأنها تستبعد تواجده الشخصي ونظراته. أمَّا لقطات الجمهور، فهي لا تخرج عن مجال براندو، كما اتضح لنا، فضلًا عن أنها ليست مجاوِرة لحيزه، بل هي جزءٌ لا يتجزَّأ من مجاله الحيوي، خاصة وأنَّ الجمهور نفسه مرتبِط بكلِّ ما يجيش في دخيلته بحيِّز براندو.

وباختصار، فإن النجم لا يعتمد إلا على قواه وتواجده على الشاشة؛ لضمان تأثيره على جمهور المشاهِدين في قاعة العَرْض، الذين يتابعون انفعالاته ويستمعون إليه في نفس الوقت مع جمهور روما، الوحيد الذي يرى ويستمع من داخل الشاشة. ولم نحظَ — نحن المشاهدين — بأيَّة لقطاتٍ موازية أو متميِّزة لبروتوس ورفاقه، كان من الممكن أن نعتمد عليها؛ لكي نندمج من خلالها مع النجم ونُضفي عليه المزيد من القوة. فهذه اللقطات، كانت ستقتصر على مدارنا نحن، وكان بوُسعنا أن نستمتع في هذه الحالة بمجرياتها، دون أن يعلم براندو أو جمهور روما أيُّ شيءٍ عنها.

ويعبِّر تمامًا هذا المشهد في فيلم يوليوس قيصر، عمَّا يبدو لي أنه الاستراتيجية الأساسية لمنهج ستراسبرج وإيليا كازان، ألَا وهو دفْعُ الممثِّل إلى التحكُّم في المجال بتوفير الإمكانات اللازمة له لكي يحتلَّه أطولَ مدَّة ممكنة، وهكذا تداركَت السينما، في رأيي، تراجُع شهرة النجوم خارجَ الأفلام. وبوُسعنا أن نقول من الآن فصاعدًا أنَّ النجم غدًا مرغَمًا على أن يظهر كما هو، بالنسبة لنفسه وللقاعة المطلوب كسبها. فلَمْ يعُد بمستطاعه أن يترك شخصيته في الرواية للمنتِج المخرِج والمونتير، كما كان الحال في عصر هوليود الذهبي، ويستسلم بذلك لصيته كنجم.

وقد تبدَّت من جانبِ الممثل ظاهرةٌ مهمَّة وثورية إلى حدٍّ كبير، تهدف إلى ضمان تعلُّق أنظار القاعة بالشاشة بمزيدٍ من القوة بالمقارنة مع الماضي. فعندما يتكلم ستراسبرج عن هذا الأداء الجديد للممثل باعتباره تقمُّص الشخصية له، فهو يريد أن يقول، كما عبَّر هو نفسه عن ذلك. إنَّ الممثِّل لم يعُد يؤدِّي دورًا خارجًا عن شخصه، له سمات خاصة في السيناريو أو القصة أو المسرحية، كما أنَّه لم يعُد يسعى إلى تقديم شخصية ما، كما يقال حسب المصطلح المهني الكلاسيكي، بل إنه يصبح هو نفسه تلك الشخصية، فيتصرف بشكلٍ طبيعي حسب ذلك الوضع الخاص، تمامًا كما يتصرَّف كلُّ الناس في القاعة. ونحن لم نعُد بصدد الممثل النجم الذي يتولى مهمة أداء الدور بالتواطؤ مع الجمهور للسير قُدمًا بحبكة القصة، بل بصدد ممثلٍ الْتهم الشخصية ولا يحاول أن يتمثلها لكي يمثِّلها بشكلٍ جيد، بل يقلب العملية ويدفع تلك الشخصية إلى التقيُّد به.

وكان لي ستراسبرج يقول: «بدأ عهد جديد للتمثيل السينمائي، حيث تكون الشخصية في خدمة الممثِّل، ولا تقوم بشيء سوى ما يستطيع الممثِّل أن يفعل.» وقد امتدح ستراسبرج بحماسٍ الممثلَ الأمريكي في محاضرةٍ ألقاها في ندوةٍ حول الممثل في معهد شيروود أوك التجريبي بلوس أنجلوس في مارس ۱۹۷۷م، وعرَضَ علينا فقراتٍ من أفلام تغطِّي نصف قرن من حياة السينما من العقد الثاني حتى العقد السابع، بعد أن أوصلها ببعضها لتتعاقب أمامنا، لكي ندرك مدى اندماج الممثِّل أكثرَ فأكثر في جسده وتلاحمه على نحوٍ أفضلَ فأفضل مع مجال الشاشة، حتى غدا يشعر بمزيدٍ من الثقة والقدرة على التصرُّف بشكلٍ طبيعي وأكثر واقعية، أيْ باختصارٍ أكثر «أمريكية». وقد أولى ستراسبرج اهتمامًا خاصًّا بعددٍ من الممثلين السينمائيين من بين أولئك الذين اختارهم ليعرضهم علينا، لأنهم مهَّدوا، في رأيه، للأداء الأمريكي الذي كرَّسه استوديو الممثِّل. ومن بين هؤلاء: بول موني «أول ممثِّل أمريكي داوَمَ بنجاحٍ على استخدام جسمه للتمثيل في المجال» (اقتباس من فيلم الأرض الطيبة)، وشارلي شابلن الذي كان «يقلِّد كلَّ ما يقوم بتمثيله ويندمج في الوضع ويتركه ينمو داخله لكي يتحمَّل مسئوليته» (اقتباس من فيلم الاندفاع نحو الذهب)، وبت ديفز الأولى التي «تحلَّت بالشجاعة، فقطعت صلتها بأسطورة النجمة (خارج المجال) والصيغ الهوليودية، في نفس الوقت الذي كانت تقتل فيه الشخصية لكي تعيش حياتها هي» (اقتباس من فيلم الثعالب الصغيرة). وبعد أن قدَّم لي ستراسبرج بعضَ الشروح حول تمثيل سبنسر تراسي وكاترين هبورن اللَّذَين «كانا على سجيَّتهما تمامًا وطبيعيَّين»؛ ركَّز شرحه لمدةٍ كافية على مارلون براندو، الذي بدا له أنَّه نجَحَ بشكلٍ فعَّال على نحوٍ خاص «في الحفاظ على الأداء بحضوره». وقد اختتم في نهاية الأمر العرضَ الذي قدَّمه موضِّحًا أنَّ روبرت دي نيرو، الذي قضى عامَين ونصف لاستيعاب «المنهج» (اقتباس من فيلم الأب الروحي)، وسلفستر ستالوني الذي تمرَّن طويلًا أمام المرآة لمحاكاة سلوك براندو (اقتباسات من أفلام روكي)، وكانا من الناحية الاستراتيجية ممثلَين ينتهجان مسار استوديو الممثل. ولو كان ستراسبرج لا يزال حيا لواصل تمارينه لإثبات أنَّ الممثِّلين الحديثين الشعبيين للغاية، كتوم كروم مثلًا الذي «يستنفد قواه في الأداء كما لو كان بصدد المرة الأخيرة التي يحتلُّ فيها مجالَ الفيلم» يجسِّدون ويواصلون دروسَ مدرسته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤