الفصل السادس

مضمون أداء الممثل

قال ستراسبرج في محاضرته بمعهد شيروود أوك: «لقد اكتسبَت السينما عندنا بكلِّ تأكيد شيئين عن طريق الأداء المتكامل للممثِّل؛ فقد أصبحت أمريكية حقًّا، كما أنَّ قدرتها على إبهار المتفرِّجين في العالَم بأَسره غدتْ طاغيةً وأكيدة.»

ومن خلال الاستماع إلى تعليقات ستراسبرج البارعة والمسئولة، مع إعادة تتبُّع المشاهد العديدة للأفلام الممتدة عبرَ عدَّة عقود، حيث كانت تتحدَّد معالِم الأداء الأمريكي للممثِّل — ألَا وهو تقمُّص الشخصية ذاتها للممثِّل، الذي راح يتحرَّر شيئًا فشيئًا من تمثيل الأنماط — والأخذ في الاعتبار أيضًا الأسئلة العديدة التي طُرحت في النصف الثاني من الندوة من جانب الحضور، وأغلبهم من طلبة وطالبات الفنون التمثيلية؛ بدأتُ أُدرك مدى سلامة النقطتَين اللَّتين ذَكَرهما المحاضر: أداء الممثل الذي بدأ يتأَمْرَك، وتزايد نفوذ السينما الأمريكية على المتفرِّجين.

فالممثل الذي يقطع صِلاته مع النجم الموجود خارج المجال، والذي يستوعب الشخصية التي يمثلها لكي يجعلها في متناول يده، ويهدِّئ له التقنيون المجالَ لكي يتمكن من عمله ويتحرك فيه بحرِّية؛ مضطرٌّ بكلِّ وضوح إلى التحلِّي بالأصالة. ومن المؤكَّد أنَّ ستراسبورج، الذي عمِلَ دائمًا من أجل إزالة الفروق بين أداء الممثل على خشبة المسرح أو أمام الكاميرا، قد أدرك أن الحلَّ يتمثَّل في تجسيد ذلك الكائن الطيفي الذي خلقتْه السينما؛ فهو القائل بأنه «لا فرْقَ بين خشبة المسرح والسينما». ولعله فكَّر هو أيضًا في الظاهرة الغريبة التي تلاحِق وودي ألن؛ فالممثل المسرحي يكون حاضرًا على خشبة المسرح، بينما المتفرِّج حاضرٌ في القاعة، أمَّا في السينما فيكون الممثل حاضرًا (أثناء التصوير) بينما المتفرِّج غائب، كما أنَّ الممثل يكون غائبًا (أثناء العَرْض)، بينما المتفرج حاضرٌ في القاعة. ولعل العمل السينمائي الذي يتمحور أساسًا حول لقطة ردِّ الفعل، لا يسعى في نهاية المطاف إلا إلى هدفٍ أوحد، ألَا وهو جعْلُ المتفرج حاضرًا وتجسيده بإدخاله في إطار الشاشة. وعلى أيَّة حال، ورغم أنَّ تعميق البحث من ناحية المسرح لفهم ما يتمُّ على الشاشة قد يكون مثيرًا للاهتمام، إلا أنه من الواضح تمامًا للعِيان أن «منهج» ستراسبرج يرمي إلى ضمان وجود الممثل على الشاشة، ودعم هذا الوجود ومضاعفته. وهذا الحضور الراسخ والمواكِب لأحداث الفيلم، يبدو حقيقةً واقعة ومتفرِّدة (ويجب أن يُعطي هذا الحضور الانطباعَ بأنه لم يحدُث أبدًا من قبل). حتى إن المتفرِّج الجالس في القاعة، يقطع هو أيضًا روابطه مع الممثل الغائب، الذي كان يُنيب في الماضي صورته ليديم تواجده، وكذلك مع الشخصية التي لم يعُد هناك مبرر لوجودها ما دام الممثل قد استردها. وقد بلغ نظام الوجود الهوليودي الكلاسيكي حدًّا جعله يبدو وكأنه ينقلب مثل القفاز، فمن خلال التواجد الحقيقي للممثل السينمائي يتبين النجم المنبثق منه. فبعد نجاح فيلم شروط العاطفة (إخراج جيمس بروك، ١٩٨٣م) أبدى البعض أسفهم في برنامج تليفزيوني مذاع على الهواء؛ لأنَّ جاك نيكلسون أصبح في الواقع «مدمِنًا»، و«سِكِّيرًا»، و«وقحًا»، و«يائسًا». وفي برنامج آخَر، من نفس النوع، تساءل البعض عن مدى تعرُّض سلفستر ستالوني شخصيًّا للأحداث التي ألمَّتْ بروكي بالبوا. وفي الآونة الأخيرة، تقدَّم عددٌ من المواطنين، بعد فيلم روكي الرابع، بعريضةٍ يطالبون فيها بمنح ستالوني وسامَ أكبرِ ملاكِم، لا في القِصص السينمائية، ولكنْ في تاريخ أمريكا الحقيقي.

ويقول لنا ستراسبرج: «لم تعُد هناك حاجةٌ لأنْ يكون المرء نجمًا كبيرًا لكي يتقبَّله الجمهور. فالمطلوب بكلِّ بساطة أنْ يكون المرء تمامًا كما هو، وأن يكون واثقًا من نفسه.» وقد استشهد لي ستراسبرج، الذي أكَّد مِرارًا على أنَّ منهج استوديو الممثِّل مدرسةٌ للثقة بالنَّفْس، استشهد بقول الشاعر الإغريقي بينداروس: «عليك أن تكون كما أنت.» وقد تناولَت الأمسياتُ الثلاث التي أعقبتْ محاضرةَ ستراسبرج، في إطار نفس الندوة، مسألةَ الأداء السينمائي. وكان المحاضرون المدعوون من الممثِّلين والممثلات: سيسي سباسك، وديفيد كاراداين، وروبرت كاراداين (الأمسية الأُولى)؛ وسلفستر ستالوني، وتاليا شاير، وبرت يونج (الأمسية الثانية)؛ وروبرت دي نيرو (الأمسية الثالثة). وقد عبَّروا جميعًا عن نفس الفلسفة، ألَا وهي الثقة بالنفس. وأودُّ أن ألخِّص بعضَ الأقوال التي وردتْ على ألسنة هؤلاء المحترفين في مجال التمثيل السينمائي. وسيقودنا ذلك مباشرةً إلى أسطورة الواقعية، التي تُعتبر الأداةَ الرئيسية النفوذ السينمائي الأمريكي، والتي لا تعمل أبدًا على خير وجهٍ إلا إذا استُخدمتْ بواسطة لقطاتِ ردِّ الفعل. وكانت المصطلحات والعبارات التي كرَّرها المحاضرون المدعوون ردًّا على أسئلة المستمِعين من طلبة وطالبات الفنون التمثيلية، المهتمين بمعرفة خبايا مهنة التمثيل، كما يلى: «كنْ واثقًا من نفسك»، «كنْ على سجيتك»، «اندمجْ»، «لا تمثِّلْ»، «كنْ مسترخيًا».

وقد أوضحتْ سيسي سباسك (ومن الأفلام التي شاركتْ فيها: كاري، أرض الأشرار، ثلاثُ نساء) أنَّها تقدِّر بشكلٍ خاص أسلوبَ براين دي بالما في الإخراج؛ لأنه «يدَعُ للممثلين حرِّيةَ التصرف إلى حدٍّ كبير. فالبنية العامة للفيلم واضحةٌ تمامًا في رأسه، ولكنه يُطلعنا على مضمونه ويترك لنا حرِّية التصرف». وردًّا على سؤالٍ من النوع الذي يتمُّ توجيهه بخصوصِ خير وسائل «تعليق» المتفرِّج، أجابت سيسي سباسك قائلةً: «عندما تشترك في فيلم لا تكون هناك سوى دقائقَ عشْرٍ كلَّ يوم، لها أهميتها. ويتعيَّن أن تكون هذه الدقائق التي سيتم تسجيلها على الشريط السينمائي الخام، أصدقَ اللحظات في يومك، فهذا هو المهم.»
واعترف ديفيد كاراداين (أفلام: التطلع إلى المجد، بيضةُ الثعبان، الدائرة الحديدية) بأنَّه وجَدَ أسلوبَ برجمان (بيضة الثعبان) صعبًا للغاية: «كان يقودني من يدي ويحدِّثني عمَّا يجب أن أفعل، وكان عليَّ أن أحاكيه بينما الكاميرا قريبةٌ منَّا للغاية. وكنتُ أرى إيماءاته في لقطاتٍ كبيرة، فيبدو لي أنه يريد أن يكون معي داخل الكادر. وعندما أقرأ نصًّا وأرتاح منذ البداية الشخصية؛ أُواصل القراءة، وإلا تخليتُ عنه. وخيرُ وسيلةٍ للولوج إلى الشخصية، أن يتوغَّل المرءُ في نَفْسه؛ فالشخصية هي أنا نفسي، وليس هناك ما هو أفضل من أن أكون أنا. ويجب أن يكِنَّ الممثل تقديرًا كبيرًا لشخصه.» ويبدو أنَّ ديفيد كاراداين، أراد أن يثبت عمليًّا أهمية التلقائية؛ فأحضَرَ معه في ندوة الممثلين طفلَه البالغ الرابعة أو الخامسة من عمره، وتركه يدور ويقفز حوله، كما كان يتقبَّل بسرورٍ ملحوظ مقاطعاته العديدة والمباغِتة (وسنرى بعد قليلٍ أنَّ دي نيرو كان يصطحب هو أيضًا ابنه معه على المنصة).
وأوضح روبرت كاراداين، أخو ديفيد غير الشقيق (رعاة البقر، الشوارع الخلفية، العودة إلى الوطن) أنَّ السينما لم تعُد تسعى إلى الإقناع كما كان الحال في الماضي؛ «فهي أقلُّ اعتمادًا، إلى حدٍّ كبير، على الأنماط والصيغ الهوليودية التي كانت شِبه مقدَّسة، فإذا كان عليك أن تقوم بعملٍ بطولي في الفيلم، فلا تتظاهر بالبطولة لأنَّ ذلك لن يُجدي؛ فالإفراط في الإعداد وفي استخدام التقنية، يقضيان على السلوك الطبيعي والمظهر المعتدِل للأداء. وأنا لا أتأثر إطلاقًا بأداء الممثلين المفرِطين في إعداد أنفُسهم من الذين يشاركونني التمثيل».
أمَّا سلفستر ستالوني (فيلم قبضة اليد، أفلام روكي الأربعة، ومن بعدها روكي ٥ في ۱۹۹۱م، علمًا بأنَّ هذا الكتاب نُشر في عام ١٩٨٩م، وفيلما رامبو، الذي كانت شعبيته لا تزال حديثة العهد، كان ذلك بعد فترةٍ قصيرة من نجاح فيلم روكي ۱)، فقَدِ استُقبل بحفاوةٍ شديدة، ثم انهالتْ عليه أسئلةُ الشباب المستمع المتشوِّق إلى النجاح. ولمَّا كان مقتضبًا في حديثه، فقد اعتمد على ردود فعلٍ تنمُّ عن التعجب، وهزَّ كتفَيه عدَّة مرَّات، ولجأ إلى إضحاك الحاضرين، وأجاب بإسهابٍ على سؤالَين أو ثلاثة: «عندما بدأتُ في كتابة سيناريو روكي، تساءلتُ حول ما يودُّ الناسُ أن يروا على الشاشة اليوم؛ فقلتُ لنفسي إنه ما أريد أنا أن أرى. وعليه، فقَدْ كتبتُ شيئًا بسيطًا للغاية، تمامًا كما أفكِّر وأحسُّ. وعلى أيَّة حال، فأنا أقول لنفسي نفسَ الشيء تمامًا: الممثِّل لا يحتاج لأنْ يكون ذكيًّا أو متعلمًا؛ فما عليه إلا أن يثق في نفسه. وأنا أتمرَّن على التمثيل الصحيح بمشاهدة الممثِّلين الذين يثيرون إعجابي، ثم أحاكيهم طويلًا أمام المِرآة.»
وأوضحتْ تاليا شاير، شقيقة كوبولا (الأب الروحي ۱ و۲، أفلام روكي الأربعة، النبوءة) أنَّها تأثرت بستانسلافسكي «المعدَّل» يد ستراسبرج، وأردفتْ قائلةً: «لقد نشأتُ في بيئةٍ مؤمنة بالعقيدة الكاثوليكية؛ ولذا فأنا أحكي لنفسي خطاياي كما لو كنتُ على كرسي الاعتراف، مما مكنني من الاهتداء إلى سلوكياتٍ عميقة. فأنا ألاحظ باهتمامٍ تصرفاتِ الناس في الشوارع، وأحاول العثور عليها على الشاشة وأنا أسير أو أتكلم أو آكل؛ فمن السهل أن يصيح الممثل أو أن يصرخ أو يبكي، ولكنْ من الصعب أن يعبِّر المرء عن كلِّ ذلك وعن كلِّ ما يقدِم عليه الناسُ في حياتهم اليومية بالطريقة المناسبة وغير المرئية تقريبًا. وهذا ما أتمرَّن عليه.» ومن بين النجوم السبعة الذين حضروا ندوةَ الممثلين، كانت تاليا شاير الوحيدة التي تميزتْ من بين زملائها بعقليتها النقدية وباستعدادها للتغيير، مع تمسُّكها بنفس الفلسفة الواقعية التي تبنَّاها هؤلاء. وقد شجبَت «النزعةَ الطبيعية المفرطة لدى الممثلين الأمريكيين، وعدم شعورهم بالمسئولية» تجاه فنِّهم. ومن جهة أخرى، كات تاليا شاير خيرَ مَن ألقى الضوءَ على أمْرَكة ستانسلافسكي على يد ستراسبرج. فعندما حدَّثتنا عن اهتمامها في المقام الأول بإحياء ذكرياتها الشخصية؛ كشفتْ عن استراتيجية «الذاكرة العاطفية»، وهي أحد الأركان الأساسية التي يعتمد عليها منهج استوديو الممثل، الذي يعتبر أنَّ الأهمَّ بالنسبة للممثل أن يتذكَّر ظروفَ حياته الخاصة والعواطف والانفعالات التي صاحبتْها، لا أن يحاول جاهدًا أن يتصور ويحسَّ من جديدٍ ظروفَ الشخصية التي يمثِّلها.
ومن بين المحاضرين الذين وجِّهت إليهم أسئلة، بدا برت يونج (أفلام روكي الأربعة)، أكثرهم على سجيته «ورجل شارع»، فقال: «لي ستراسبرج أحسن أستاذ عرفتُه. لقد ساعدني على استنباط خيرِ ما لي من أصالة، وبِتُّ ممثلًا جيدًا بأن أصبحتُ أنا نفسي؛ إذ نجحتُ في الجلوس مسترخيًا على مقعدٍ مريح. وعندما أقرأ نصًّا، أدوِّن ما يحدث لي وما أشعُر به والحركة التي أشرع في إتيانها بلا وعي.»
وقد خصِّصت الأمسيةُ الأخيرة لروبرت دي نيرو وحده (سائق التاكسي، نيويورك نيويورك، الثور الهائج). وكما ذكرنا من قبل، جاء دي نيرو لمقابلة المستمعين مع ابنه الذي يقارب في السن ابن ديفيد كراداين، وظلَّ محتفظًا به بين ذراعَيه طوال الحديث الذي دار معه. هل كان يريد أن يظلَّ رابطَ الجأش، أم كان يسعى إلى ضمان تعاطُف الجمهور معه منذ الوهلة الأُولى؟ وعلى أيَّة حال، فمن المؤكَّد أنَّ وجود الطفل معه كان يضطره إلى سلوكٍ وحديث متقطِّعَين ومعقَّدَين؛ بسبب مطالب الطفل، خاصة وأنَّه كان يحاول الاستجابةَ في آنٍ واحد لتوقعاتٍ متعارِضة ومتناقضة، بعضها خاص وبعضها الآخَر عام. والواقع أنَّ دي نيرو جعَلَ نفسه، عن وعي أو غير وعي، في وضعٍ يعكس بشكلٍ ملحوظ ما قاله بخصوص أداء الممثل الأمريكي: «لقد أصبح جسم الممثل مهمًّا بشكلٍ متزايد اليوم؛ فأنا أتحرك كثيرًا عندما أمثِّل، ولا أواجه أبدًا أيَّ بطل بشكلٍ مباشر بتثبيت نظري عليه هو فقط (ويقصد بذلك أن يثبِّت نظرَه خارجَ المجال) وأنا لا أعمل في خطٍّ وأصوِّب نظري يمينًا ويسارًا وأُخادِع. وأنا في حاجةٍ إلى حيِّز للتمثيل وأحاول دائمًا تأجيلَ كلمة «ستوب» التي يُطلقها المخرِج، أطولَ مدَّة؛ فالتحدث والتحرك بقدْرٍ أقلَّ يكون أكثرَ فعاليةً من الإفراط في ذلك. فإذا كانت زوجتي تغتصب في مشهد، لا يجوز أن يكون ردَّ فعلي على غرار ما كان يحدث عادةً في السينما المسرحية والمأساوية والشكسبيرية، كما كان يفعل ليونيل باريمور؛ بل يجب أن يكون ردُّ فعلي أقربَ إلى ردِّ فعل رجلٍ عادي يواجه نفس الوضع. فهدف الممثل هو الإيهام بالحقيقة والصدق، وعليه أن يتدرب على بعض التقنيات: السير في المجال، في شارع مدينةٍ أو قرية، في دهاليز مبنًى يضمُّ مكاتب، في مختلف غُرَف بيت، والتحدث والأكل والشرب وممارسة الرياضة والفنون، ولكنْ كل ذلك على السطح، مع إعطاء الانطباع بأنه متخصِّص في كلِّ ما يفعل. فعلى الممثل في فيلمٍ روائي، أن يوحي بأنَّه يعيش في فيلمٍ تسجيلي يتم تصويره بكاميرا خفيَّة. والتمثيل في فيلمٍ كتب المخرِجُ نصَّه، وسيلةٌ جيدة لكي يكون الممثل «حقيقيًّا» في السينما. فالمخرج في هذه الحالة، يعرف ماذا يفعل والنصُّ الذي كتبه يكون في أغلب الأحوال ضمنيًّا لا تفسيريًّا، ممَّا يتيح للممثل إمكانيةَ العيش داخل النص وفقًا لوضعه فيه. وأقدِّم لكم حيلةً أخرى: إذا كانت العلاقة بين البطلَين مقتصرة في النَّص على الصداقة فقط؛ يجب ألَّا تتجاوز ذلك، بل عليك أن تبقى في هذه الحدود طوالَ مدَّة التصوير، حتى لا تُسيء إلى مصداقيتك على الشاشة.»

ولقد أدركتُ من خلال الأيام الأربعة التي قضيتُها في مؤتمر الممثلين بشيروود أوك، حسب رأيي المتواضع، بعض الأسباب الأساسية لنفوذ السينما الأمريكية، وذلك على نحوٍ أفضل من كافة الكتب التي كنتُ قد قرأتُها من قبل حول هذا الموضوع. فماذا كشفتْ لنا الوصفات التي حاول هؤلاء الممثلون السينمائيون السبعة أن يقدِّموها بشكلٍ مبسَّط للغاية، لذلك الشباب المبهور الذي ما كان يتطلَّع إلا إلى اقتفاءِ أثرهم؟ شيءٌ واحد أساسي عمومًا، وهو واقعُ الأمور أو بالأحرى حقيقة أمريكا التي لا جدال فيها، ألَا وهي التوافق الذي يؤدي إلى استخدام الكلمات. واللجوء إلى التصرفات الصحيحة والملائمة، وإلى ردود فعلٍ تتناسب تمامًا مع المضمون. فأحسن مديح يُزجيه معلم أمريكي لأهلِ طفلٍ نشَئوا خارج الولايات المتحدة، ولم يتخلصوا بعدُ من لهجتهم الأجنبية، هو أن يقول لهم إن ابنهم متجاوِب مع الواقع.

وقد أوضح عالِم الاجتماع الأمريكي ريتشارد هوفستادار، بطريقةٍ ناجحة، الأهميةَ الجوهرية للتكيُّف عند الأمَّة الأمريكية. وقد استوحى فكرةَ الرسَّام الأمريكي ماكس فيبر، فميَّز بوضوحٍ بين الإنسان الذكي والإنسان المفكِّر، وبين الذكاء والفكر. ففي رأي هوفستادار أنَّ الذكاء هو «القدرة على التكيف»؛ لأنَّ الذكاء يستوعب ويتداول ويعيد التنظيم، وهو قادر على التطبيق، ويعمل داخل إطارٍ محدود. «وهو المقابل للغريزة لدى الحيوان». أمَّا الفكر فهو «ملكةٌ خلَّاقة، ونظرةٌ انتقادية» تفحص وتتساءل، وتقيِّم وتُعيد النظر في الأمور، وتتخيَّل وتبتكر. وحسب رأي هوفستادار، فإن الذكاء يدرك المعنى المباشر للأشياء في ظرفٍ معيَّن، ويحدِّد تقديره لأبعادها؛ أمَّا الفكر فيقيِّم التقديرات ويحاول اكتشاف المغزى العام للظواهر. والذكاء إقليمي وقومي، أمَّا الفكر فعالمي. واستخلص هوفستادار من ذلك، أنَّ الذكاء يحظى بالإعجاب في الولايات المتحدة، ويسعى الناس إليه باعتباره هدفًا ضروريًّا. أمَّا الفكر فهو مثيرٌ للشكوك ويستوجب الحذر؛ لأنه قد يفرز آراءً هدَّامة غريبة وخطيرة على تلاحُم الأمة وترابُطها. وسنرى في فصلٍ لاحق كيف أنَّ مونتاج المنوعات والأفكار في أفلام آيزنشتاين، يمكن أن يكون غريبًا بالنسبة للسينما الأمريكية، بل وخطيرًا بسبب طاقته الثورية؛ ممَّا يستدعي احتواءه.

وما يقوله هوفستادار عن الذكاء العملي الأمريكي، يفسِّر لنا تمامًا أقوال النجوم الذين لخَّصنا طريقتهم في التمثيل السينمائي. ويدلُّ ذلك على أنَّ منهج استوديو الممثِّل الذي أبدى الممثلون السبعة اعتزازهم به، ليس في الواقع إلا أمْرَكة للتمثيل السينمائي. وهكذا يتبلور في حيِّز الشاشة المجهودُ الضروري والمتجدد أبدًا لدى الأمة الأمريكية للانصهار في بوتقةٍ واحدة؛ حتى تكتسب هويتها الخاصة. وهذا ما أكَّده النظام الجديد (النيو ديل) الحمائي الذي دعا إليه رئيس الولايات المتحدة فرانكلين ديلانو روزفلت في خطابه إلى الأمة أثناء حملةِ انتخابات الرئاسة في عام ١٩٣٣م. والواقع أنَّ هذا الخطاب كان ردًّا من بين أمورٍ أخرى، على تطلُّع الألمان الملحِّ إلى وحدتهم فيما وراء الأطلنطي، وذلك بالدعوة بحرارة إلى التشبُّع الذاتي. وكان يقول إجمالًا للأمريكيين الأصلاء: إننا لم نعُد إيطاليين أو يونانيين أو إسبانًا مُنحوا الجنسية الأمريكية؛ بل إننا «أمريكيون مائة في المائة». وسينما جون فورد، تؤكِّد على ذلك التشبع الذاتي وتلك الثقة بالنفس الضروريين، في رأي روزفلت، للتصدي للأزمة الاقتصادية والاجتماعية. فهناك العديد من المهاجرين الصغار في أفلام فورد، من الشخصيات الثانوية، بجوار كبار الممثلين الأمريكيين الأصلاء، يرطنون بلغةِ بلدهم الجديد، ويفتِّشون عبثًا عن الكلمة أو الإشارة المناسبة، وهم يلوِّحون بكلِّ اعتزاز ببطاقة الهوية الجديدة، التي جعلتْهم أمريكيين حقيقيين! ويحضرني بهذه المناسبة، ذلك المهاجِر اليوناني في آخِر أفلام رعاة البقر من إخراج جون فورد، الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس (١٩٦٢م)، الذي يواظب بكلِّ حماس على حضور دروس الحضارة والمؤسسات الأمريكية وقد ارتدى ملابس الأعياد، وعيناه تبرقان وهو يتباهى بالوثيقة الرسمية التي تصرِّح له بالمشاركة في اجتماعٍ عام سياسي.

ومن أفضال المنظِّر والمحلِّل جيل دلوز، أنه أجمَلَ في كلماتٍ واضحةٍ المغزى الفنيَّ والثقافي العميق للتيارات السينمائية الرئيسية، وهذا ما فعَلَه بخصوص منهج استوديو الممثل. ففي كتابه سينما ١: الصورة المتحركة، يُثبِت دولوز، بالاعتماد على نظرية السلوكية وتطبيقاتها، الواقعيةَ الشديدة التي يتَّسم بها أداءُ الممثِّل السينمائي الذي يطبِّق المنهج. وقد كتب يقول بهذا الصدد: «من جهةٍ، يجب أن يطبع الوضع الشخصيةَ بعمقٍ وبشكلٍ مستمر، وأن تنطلق الشخصية المندمجة في الحركة، على فتراتٍ متقطعة.» ويستطرد دولوز بعد بضعة سطور في نفس الفقرة، وهو يستوحي فكر الفيلسوف الفرنسي ميرلو بونتي فيقول: «البنية بيضة، بها قطبٌ نباتي أو مُنبِت، وآخَر حيواني.» ثم يستطرد قائلًا إن هذه البنية «أصبحت مسألةً منهجية في استوديو الممثِّل، وفي سينما إيليا كازان». وبعبارةٍ أخرى: فإن سلوك الممثل المُشايع لمنهج ستراسبرج، ليس مجرَّد استجابةٍ لمنبِّه؛ إذ إنه يصبح تجاوزًا لكلِّ المضمون المباشِر «المختزَن» داخله، بل إنه أكثر وأفضل من السلوكية البسيطة «أي ما يظهر على السطح»؛ لأنه ما يجري داخل الممثل، «عند ملتقى الوضع الذي تشبَّع به والعمل الذي سيفجِّره». وهناك سمة أخرى مميِّزةٌ للأداء الأمريكي مستوحاةٌ من «المنهج»، أبرَزَها دولوز، وهي سمةٌ مضمَرة فيما سبق أن جاء هنا، كما أشرتُ أنا إليها من قبل عندما ذكرت مثالًا كلاسيكيًّا أسْرَف في استخدامه مفسِّرو الأفلام (ومن بينهم دولوز) وأقصد بذلك القفاز، الذي يعتصره مارلون براندو في فيلم عمَّال الميناء، فهو يربط إيماءاتِ الممثل بأشياءَ مألوفةٍ تشغل المحيط المباشر له. وتفصح تلك السمة عن مدى أهمية جسم الممثل وفقًا للمنهج، كما سبق أن أوضحتُ، وعن مدى ما تُتيحه الأشياءُ المحيطة به والتي يستردها ليدمجها في أدائه، ويدسُّ ذلك للمتفرِّج عن طريق مونتاج مألوف «وبرجوازي». وكانت هذه الاستراتيجية بمثابة هجوم مضاد على الثورة السينمائية السوفييتية، تلك الثورة الموجَّهة ضد هوليود والمرتبِطة بتمزيق المونتاج بعنفٍ لم يُعهد من قبل.

على أنني أريد أن أتوقَّف بالأخص عند ما كتَبَه دولوز بخصوص «تخزين» بل الْتهام الممثِّل للمضمون الخارجي (المرحلة النباتية) و«الانفجار» (المرحلة الحيوانية)، أو بين «التشبُّع» و«التحوُّل». فهذا هو صميم استوديو الممثِّل والمركز العصبي للواقعية السينمائية الأمريكية. فالقوة الرادعة لنظرة براندو التي تُصيب المتفرِّج بشكل مباشر، والتي سبق أن درسنا ظهورها وبريقها وحيويتها، ترجع إلى طول انتظارها وثباتها ونضوجها، سواءٌ بالنسبة للوجه أو الجسد، وذلك قبل أن ترد إلينا نحن المقيدين في مقاعدنا المخصَّصة للمتفرِّجين.

ففي فيلم الرجل الذي قتل ليبرتي فالانس (إخراج جون فورد، ١٩٦٢م)، توجد لقطةٌ كبيرة متميزة، وهي لقطةٌ نصف جامعة تبرز بشكلٍ خاص من بين كافَّة اللقطات الأخرى في هذا الفيلم، ولعلَّها أيضًا أنجحُ لقطات هذا المخرِج الكبير لأفلام رعاة البقر. وهي تقع في نهاية المشهد العاشر بشكلٍ قاطع وخاطف، مثل الزنبرك عندما ينطلق فجأةً من محبسه، ممَّا يُدخل السرورَ في نفوس المتفرِّجين. فراعي البقر الطيِّب توم دونيفون (جون واين)، يقف وسطَ قاعة طعام شعبية وحوله المدعوون الجالسون أمام الموائد، وفي مواجهة ليبرتي فالانس الشرير (لي مارفن). ويدخل من يسار الكادر أحدُ أتباع فالانس ويقترب من دونيفون. وفي اللحظة المناسبة، يرفع الأخير ساقه اليمنى جانبًا بسرعة البرق ويوجِّه بها ركلةً عنيفة تستقرُّ أسفلَ ذقن مُهاجِمه، وذلك دون أن تُبارِح عيناه فالانس، ودون أن يحرِّك جسمَه. وهذه اللقطة تستحقُّ أن تُستخرج من المشهد لتقدَّم على الشاشة باعتبارها إحدى مختارات السينما؛ فهي في الواقع كلٌّ يُلمْلِم كافَّة اللقطات السابقة عليها، بأن تضيف إليها مآلها، وتجمع كلَّ أداء جون واين. كما أنَّها النموذج المثالي لما قاله دولوز بخصوص المرحلتَين الحاسمتَين لمنهج استوديو الممثَّل، ألَا وهما: التشبع، والانفجار. فجون واين، صاحب الجسم الضخم والذي يتحرك ببطءٍ شديد يكاد يصل إلى حدِّ التسمُّر في مكانه، يظهر في هذه اللقطة لكي «يفجِّر» الموقف بحركةِ ساقه المباغِتة والصاعقة، ويلبِّي بذلك ما كنَّا ننتظره منه. فطوالَ العشرين دقيقة السابقة على تلك اللقطة والمكوَّنة من صورٍ وأصوات مرتبطة بأهالي شينبون، كان جون واين جزءًا من الديكور. ومع أنه كان يعيش خارج المدينة الصغيرة الواقعة في الغرب بجوار الصحراء القاحلة ويؤدِّي الإتاوة لأسطورة البطل الذي لم يتمَّ ترويضه، إلا أنَّ ظهوره وسطَ هذه الجماعة كان ينمُّ عن شخصيةٍ كريمة ومحترَمة تمثِّل طلعاتِ الجماعة ومثلها. وبينما يعاني أهالي شينبون من إرهاب ليبرتي فالانس وتصرُّفاته الظالمة، يظلُّ توم دونيفون رابطَ الجأش وهادئًا. ويأتي به المخرِج وسط أُناسٍ شاع بينهم الخوف والتوجس؛ حيث تنمُّ النظرات المتطلِّعة إليه عن التشبُّث به بوصفه الملاذَ الأخير في مواجهة الوحشية، وذلك في مطبخ المطعم الشعبي، ومع الفريق الصغير المكوَّن من الشخصيات الرئيسية في القصة، وفي القاعة وسط روَّادها، وفي المطعم وهو جالسٌ حول مائدةٍ مع الصحفي العجوز، قبل الركلة المباشرة. وأنا لا أتكلَّم عن الشخصية الرئيسية في الفيلم؛ فهي ليست دونيفون، ولكنْ رانس المحامي الذي أدَّى دورَه جيمس ستيورارت؛ لأنَّ ذلك سيقودنا بعيدًا، وكل ما أبغيه هو أنْ أبيِّن لماذا كانت المرحلة الحيوانية (الانفجار) معدَّة بإتقان عن طريق المرحلة النباتية (التشبُّع).

ويتَّخذ جون واين في المشاهد التي ذكرناها موقفًا سلبيًّا؛ فهو إمَّا بلا حراك من خلال سلوكٍ مدروس، مستنِدًا إلى جدار المطبخ، أو مرتكِزًا على ساقه اليسرى (كأنه يستعدُّ للتصرف باستخدام ساقه اليمني)، أو مسترخيًا فوق كرسيٍّ مريح، أو متحرِّكًا ببطءٍ وفتور عندما ينتقل من مكانٍ إلى آخَر. والواقع أنَّ واين يجرجِر جسدَه طويلًا في المكان، ويشحنه كما لو كان الدينامو الخاصَّ بواقع مدينة شينبون الصغيرة، وبردود فِعل بعضِ سكَّانها المهمين. وهو يظلُّ «محلَّك سِر» طوالَ عشرة مشاهد ويراوح في مكانه، حيث يتلقَّى ويعكس الخوفَ والتوتر الباديَين على الوجوه وفي النظرات ويتشبَّع بها. وهو يُوضِح للمحيطين به في الشاشة، ومن خلالهم للمتفرجين، عن طريقِ موقفه المساير، ومن خلال الكلمات الساخرة والمطمئنة التي يتفوَّه بها، أنَّه سيتصرف في اللحظة المناسِبة، وستتنهَّد قاعة العَرض بارتياح، كردِّ فعلٍ سارٍّ يسبق ويتجاوز بكثافته تنهُّدات مطعم شينبون الشعبي.

وهنا نقترب من صميم النفوذ السينمائي الأمريكي، ألَا وهو استراتيجية ربط الشاشة بالواقع الأمريكي. وقد حدَّدت تلك الاستراتيجية واقعيةَ شاشات الأمم الأخرى، وبالأخصِّ الواقعية الاجتماعية الروسية والواقعية الجديدة عند الإيطاليين، وهذه الاسترايجية تجعلنا نتفهَّم كيف بلغ الأمر بالأمريكيين حدَّ توقيع عَقدٍ مع ممثلٍ محترف، ليتولى منصب الرئيس في الولايات المتحدة، بل وتجديد هذا العَقد لفترةِ رئاسةٍ أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤