أداء روبرت دي نيرو
وأودِّ أن أُلقي الضوءَ هنا على خاصيَّتَين تميَّزتْ بهما المَشاهد الإحدى والثلاثون المكرَّسة للتشبُّع؛ وذلك لأنَّهما تحكمان، في رأيي، إشكاليتنا: سلوك دي نيرو المتفرِّج، فكلُّ ما يبدو منه قبل أن يخرُج عن طَوْره ليقتل رجلًا أسود، يدخل في نطاق السلبية وعدم التحرُّك. فهو جالسٌ في أغلب الوقت: في المطعم مع زملائه في العمل، أو مع بتسي أو إيريس (اللَّتَين تحومان حوله)، أو أمام الطاولة في غرفته ليسجِّل يومياته، أو في قاعة سينما تعرض أفلامًا إباحية. ولكنه جالسٌ بالأخصِّ في سيارة التاكسي التي يقودها في أنحاء المدينة، وذلك موقعٌ مثالي لمشاهدة المدينة والاستماع إلى الأصوات الصادرة عنها. ومن المهم أن نلاحظ أنَّ ذلك هو وضعنا نحن المتفرِّجين، الذين نرى ونسمع في نفس الوقت معه ما يدور في نيويورك ليلًا، من خلف منكبه وهو يقود السيارة. كما أننا نتجوَّل في نفس الوقت معه؛ لأنَّ الفيلم يتميَّز بخلوِّه من أيَّة لقطة للمدينة؛ نراها وحدها في غياب الممثل. فهو موجودٌ في كلِّ تلك اللقطات كما لو كان مندوبًا عنَّا وشاهدًا، بل وامتدادًا للمتفرِّج إلى حدٍّ ما؛ ممَّا يستدعي أن تزوَّد صور المدينة بمعدلٍ مرتفع من الواقعية، وأن يتلقَّاها المتفرِّج لا من خلال نظرات وتصرفات دي نيرو فحسب، ولا من خلال مشاركته مع المتفرِّج من حينٍ إلى آخَر، ولكنْ ليتعرف المتفرِّج عليها فورًا وبشكلٍ مباشِر بوصفها انعكاسًا صادقًا لتسجيلٍ وثائقي لمدينة نيويورك في الليل. وأقوى صور الفيلم، هي تلك التي نراها بواسطة تاكسي ترافيس؛ لأنها تلغي المسافة بين السائق والمتفرِّج في قاعة العَرض. وبهذه الصور يبدأ الفيلم وينتهي، وهي تتوالى أمامنا وتتسرَّب إلى أفئدتنا في نفس الوقت، مع انطباعها في عينَي ترافيس ومخيِّلته، وذلك حتى التحوُّل الذي سيخصُّنا نحن أيضًا.
وترجع قوة هذه الصور إلى سببٍ آخَر، له سحره الناجم عن الإبهار السينمائي؛ فسكورسيسي يدرك تمامًا أنَّ فيلمه لتلك السيارة التي تجوب المدينة ليلًا، يوفِّر له خيرَ الفُرص لربط المتفرِّج نفسه بالشاشة، وإشراكه في قصته بمصاحبةِ ممثِّله الرئيسي. وهو يلجأ إلى العجلات المطاطية التي تدور بانسيابٍ وعلى مهلٍ؛ لكي تتسرَّب إلى نفوسنا خلسةً: حركة الكاميرا (الترافلنج) الحالمة. فهذه الحركة تعتبر خلاصةَ السينما المتسلِّطة على المهندسين الفنَّانين منذ مولدها، والمنتصرة في المونتاج الخفي المُواكِب لسينما هوليود الكلاسيكية، ممَّا دفَعَ آيزنشتاين إلى قَطْع صِلته بالحركة المسرحية المحدودة. بيد أنه يتعيَّن علينا ألَّا نبتعد عن موضوعنا، وسنتحدث فيما بعد عن آيزنشتاين؛ لكي نبيِّن كيف أنَّ حركة الترافلنج كانت تُبهره، فبذل جهوده لكي يسدَّ الطريق أمام الانسياب الأمريكي والشفافية البُرجوازية، ويستخدم مسار الكاميرا بشكلٍ آخَر وفقًا ﻟ «توجُّه طبقي». وسنرى أنَّ ثورته هذه لم تدُم طويلًا؛ إذ سرعان ما لصق الأمريكيون الأجزاء ببعضها، وجذبوا إلى تيارهم الواقعيين-الاشتراكيين الستالينيين، في ذلك المسار الخطي اللانهائي.
ويلاحق عالَم نيويورك الليلي ترافيس والمتفرِّج المقيَّد معه في سيارة التاكسي، التي غدتْ بمثابة غواصةٍ حقيقية. وينساب ذلك العالَم الخاص على يميننا ويسارنا عبْرَ الزجاج الجانبي، وينقضُّ علينا عند مقدِّمة السيارة ويبتعد وراءنا مؤقَّتًا من خلال المِرآة العاكسة، بل إنَّ هذا العالَم يقتحم أيضًا مجالنا بشكلٍ خطير، فوق الأريكة الخلفية للسيارة. ويخيَّل لي أنَّ قوة تأثير صور نيويورك، تعود أساسًا إلى ثلاثة عوامل، يعزِّز كلُّ عاملٍ منها العاملَين الآخَرين بالتبادل: الحركة الانسيابية والمتعددة الأشكال لتلك الصور ممَّا يزيد من تهديدها وعدوانيتها، وأسلوب دي نيرو الطبيعي في التشبُّع بها مثل الإسفنج، وبالأخصِّ واقعية تلك الصور ذات الطابع الوثائقي. ويتعيَّن أن نركِّز تفكيرنا من الآن فصاعدًا على ذلك العامل الأخير؛ لأنَّه هو الذي يغذِّي ويقرِّر عملية التحوُّل وفقًا لمنهج استوديو الممثِّل، وتعتمد عليه بالتالي السمات المميِّزة للسينما الأمريكية وفعاليتها وقدرتها على الإبهار. ولكنَّ المتفرج لا يرى شوارع نيويورك في الليل، ولا يسمع الأصوات الصادرة عنها، كما يراها ويسمعها المخرِج وفقًا لحالته النفسية أو تصوراته، ولا عبْرَ سلوك النجم مهْمَا كان طبيعيًّا للغاية ومتجاوبًا تمامًا، بل يتعيَّن أن تُعرض عليه تلك الشوارع بشكلٍ مباشر وبلا لفٍّ أو دوران، وبمعزِلٍ عمَّا يتصور رجال السينما والممثلون من خلال تجربتهم المباشِرة لواقع نيويورك في الليل. وتلك هي الفلسفة التي سارع المنتجون الأمريكيون بتوضيحها للمخرِجين التعبيريين الألمان بمجرَّد وصولهم إلى هوليود؛ لكي يفلتوا من براثن النازية، وعلى رأسهم فريتز لانج. ولو أنَّ فلليني استسلم لعروض الاستوديوهات الأمريكية المُغرية، كما فعَلَ غيره، لأُصيبتْ قدراته الخلَّاقة بالشلل التام؛ ففلليني يتطلَّع إلى خلقِ صورٍ سينمائية، على غرار تلك التي يراها مشوَّهة أو غائمة من خلال نافذة سيارته، التي تقطع طُرُق إيطاليا؛ لأنه لا يصوِّر الواقع، بل «الأطيافَ التي تنشأ في مخيِّلته»، والتي يبذل كل الجهد لتجسيدها على الشاشة. فهو لا يسعى إلى تقديم صورةٍ طبق الأصل للواقع لكي يلاحظه بعد ذلك خلْفَ الزجاج. ولم يخطر على بال فلليني أن يصور فيلم روما في شوارع روما نفسها، أو أن يصوِّر فيلم أتذكر في الميدان الرئيسي بمدينة ريميني. وعندما كان يحتاج إلى تصوير أفلامه في استوديوهات شينه شيتا (مدينة السينما)؛ فإنه لم يُقدِم على ذلك لبناء ديكوراتٍ تطابِق بدقة الواقعَ، الذي تطلق عليه صفة الموضوعية، ولكنْ لكي يهيئ لنفسه كلَّ الفرص لتجسيد ما يدور في مخيِّلته.
وهكذا فإن ما عُرض علينا — نحن المتفرِّجين — من خلال زجاج تاكسي ترافيس ومِرآته العاكسة، أصبح أشبه بفيلمٍ تسجيلي لنيويورك المشبوهة ليلًا. والواقع أننا لم نعُد تقريبًا في حاجةٍ للتعرف على سلوك النجم وردود فعله إزاء ما يدور أمام عيوننا ونسمع من خلال الصور والأصوات التي تكتسب مصداقيتها وتتفق مع توقعاتنا. وهذه الصور تحمل في طياتها قدْرًا من القوة وجرعة من «المصداقية» يولِّدان لدينا الإحساسَ بالتعرف على ما سبق أن رأينا في الواقع، أو في أفلامٍ أخرى، أو في تسجيلات تليفزيونية عن نيويورك. وعندئذٍ يصبح من العسير أن نتبين مَن الذي يبادر بردِّ الفعل الأول، هل هو المتفرِّج أو الممثل؟ وأيهما يجرُّ الآخَر في مساره؟ خاصة وأننا تعرَّفنا على شوارع المدينة في نفس الوقت مع سائق التاكسي، على أننا نستطيع أن نقول بكلِّ بساطة إن دي نيرو أصبح مضطرًّا إلى اتِّباع سلوكٍ مماثل لسلوكنا؛ وإلى التفاعل تمامًا كما نتفاعل نحن خفية في القاعة، وفقًا لإيماءاتٍ لا تزيد ولا تقلُّ عن مستوى إدراكنا للأوضاع. فنحن جالسون في الواقع في مكانه، أمام مِقود السيارة، وذلك هو أساس تقمُّص الشخصية للممثل.
ولْنعُد إلى التاكسي. ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ مارتن سكورسيسي سقَطَ في فخِّ الواقعية؛ فقَدْ سجَّل لنا بإتقانٍ الحياةَ الليلية في بعض الأحياء السيئة السمعة في مدينته (وقد درَّب مصوِّره مايكل شامبمان على التصوير مباشرةً في قلب المدينة) ودفَعَ دي نيرو إلى جعْلِ سلوك سائق التاكسي، وكذلك نصوص يومياته التي يقرؤها ويتلوها بصوتٍ عالٍ، طبيعيةً للغاية ومناسِبةً تمامًا؛ فباتتْ تعبِّر عن ازدرائنا لفوضى المدينة ونفورنا منها، وجعلتْنا نتشبَّع من مشهدٍ إلى مشهد بواقع نيويورك، في نفس الوقت مع ترافيس ومن خلاله؛ فأصبحنا نتطلَّع معه، من أجْلِنا ومن أجله، إلى وقوع التحول. ويتعيَّن أن ننوِّه هنا بأنَّ واقعية صُوَر نيويورك تتكثَّف عن طريق عاملَين يؤثِّر كلٌّ منهما على الآخَر بالتبادل، والعامل الأول سينمائي، بمعنى أنَّ «السينما تغذِّي السينما» وفقًا للفكرة التي يحلو لبوب روزن، أستاذ نظرية السينما بلوس أنجلوس، أن يكرِّرها. وقد عَمدَ سكورسيسي إلى إضفاء صبغاتٍ وألوانٍ مثيرة بابتذال على صور عالم نيويورك السفلي، كما كان شائعًا في أفلام الشوارع خلال الأربعينيات؛ فأضاف بذلك نوعًا من «الحقيقة» التذكيرية إلى واقعية الصور. أمَّا العامل الثاني فهو أيديولوجي الصبغة، ويعتمد على الخوف من الفوضى الكامن لدى كلِّ إنسان، ولكنه متأصِّل في صميم تكوين المتفرِّج الأمريكي.
ويتبدَّى تمامًا أوضحُ تدخُّل من جانب المخرِج في اللقطة الأُولى من مشهد الحشد الانتخابي حول بالانتاين. فهذا التدخل الذي قُلْنا عنه إنه أقوى تدخُّل في الفيلم؛ كان يتعيَّن أن يدفعنا وفقًا لاستراتيجية سكورسيسي، إلى مراجعة تعاطُفنا مع ترافيس، بحيث يتحوَّل إلى نوعٍ من الارتياب بل والنفور. فبالانتاين المرشَّح لمنصب رئيس الولايات المتحدة، يقف خلفَ المنصة في مواجهة الجمهور استعدادًا لإلقاء كلمة، والكاميرا مثبتة أولًا على شخصه وفريقه المحيط به، ثم تلجأ بنَقْلةٍ ملحوظة إلى حركةٍ بانورامية بطيئة من اليسار إلى اليمين، حيث تنساب على الجمهور مع الْتزامها طوال هذا المسار بأن تكون عند مستوى الخصم، حتى إننا لا نرى أيَّ وجه في مجال الشاشة، ثم تتوقَّف الكاميرا في لقطةٍ كبيرة على صدر شخص غير معروفٍ لنا يرتدى سترةً كاكية اللون، وتظلُّ ثابتة في ذلك الوضع طوالَ الوقت اللازم لكي تظهر يدا مجال الشاشة، يدا هذا الشخص، لكي تتمكنا من فتْحِ علبةٍ صغيرة من المعدن والْتقاط قرصٍ منها. وأخيرًا، تنطلق الكاميرا فجأةً في حركةٍ بانورامية رأسية، لنجِدَ أمامنا ترافيس وهو يبتلع القرص في لقطةٍ كبيرة. وهكذا تعهَّد سكورسيسي بأنْ يُحضر لنا ترافيس يصعب التعرُّف على معالِمه، ويعرضه علينا أولًا عن طريق الحركة البانورامية الممتدَّة عبر الجمهور، ثم من خلال الحركة البانورامية الرأسية حتى وجهه. ويبدو لنا السائقُ في شكلِ هنديٍّ من قبيلة الموهوك، رأسه حليق فيما عدا خصلةً من الشَّعر تتدلَّى من قمَّة رأسه إلى قفاه، وتُرسم على وجهه ابتسامةٌ مُقلِقة تجمع بين الرضا والغرور.
ومن الواضح أنَّ سكورسيسي أراد أن يفاجئ المتفرِّج بتدخُّله لفترةٍ وجيزة (هذه اللقطة التي تشكِّل المشهد بأَسْره لا تستغرق سوى ثلاثين ثانية). وهو ناجحٌ بلا شك على هذا المستوى، خاصة وأنَّ المشهد السابق قدَّم لنا ترافيس وهو يستعدُّ للتحول الصاعق في غرفته، مع حِرصه على ألَّا يشي بما يضمره؛ حتى لا يُفسد بذلك متعتنا بالكشف مقدَّمًا عن الوجه الجديد لبطله. لقد قرَّب الكاميرا بحيث نتمكَّن من رؤية بعض الشذرات المبكِّرة للاستعدادات التي يُجريها ترافيس بإشراك جزءٍ فقط من جسمه فيها: زيت التلميع الذي يقوم بتدفئته لتليينه، وحذائه وهو يعدُّه ويضعه في قدمَيه، والزهور الجافَّة التي أعدَّتْها له بتسي وقد راح يحرقها وكأنه يقطع بذلك صِلته بسلوكه السابق الرومانسي وغير المُجدي، والسلاح الآلي الذي يثبتُه في حزامه أو يُخرجه من غِمده المعلَّق بساقه، والسكين التي يشحذها وهو مُمسِكٌ بها عند مستوى الخصر. أمَّا ملامح الهندي الموهوك فلا يعُدُّها ترافيس أمامنا، بل يُهيِّئها المخرِج سرًّا في المجال الخارجي، بعيدًا عن أنظارنا، لكي يقذف بها في وجوهنا في اللحظة المطلوبة. ولا بد أن يفاجَأ المتفرِّج بالطبع؛ لأنه ما كان يتوقَّع أن يرى رأس بطله وقد تحوَّل على هذا النحو. ولكنْ هل تكفي تلك المفاجأة لتغيير نظرة المتفرِّج، «وتصحيح» رؤيته، وكبح ما ينتظره من بطله، وحاجته إلى التحول المنتظَر في نهاية الفيلم، أيْ دَفْع المتفرِّج لأنْ يقول لنفسه: «هذا الشخص الذي جعلتُ منه وسيطي ومرشدي، والنائب عني وبشيري، والمعبِّر عن ردود فعلي المعترفة بجميله في خِضمِّ عنفِ نيويورك في الليل؛ اتَّضح لي فجأةً أنه مجنونٌ، وأنه سيكون من الحمق أن أواصِل مساندتي له ومساندته لي!»
أبدًا، لأنَّ كل الأمور تعود إلى وضعها الأول بمجرَّد زوال المفاجأة التي لا تدوم سوى ثوانٍ معدودات؛ فالكتابة تصبح غير مرئيةٍ من جديد، أيْ أنَّ صاحبها يتصرَّف كالمعتاد «كما لو لم يكُن هناك». وتلك هي بالضبط الاستراتيجية الواقعية، لكي تتواصل الرواية من جديد. وزدْ على ذلك، ما هو مصير هذه المفاجأة، إذا تمعَّنا حقًّا في الأمر؟ لقد تمَّ الإعداد لها مقدَّمًا ودُبرت بعناية، بحيث تحوَّل عدم توقعها، الذي كان لا بد منه لضمان وقْعِها وتأثيرها، إلى مجرد خدعة. لقد عوَّدنا سكورسيسي تدريجيًّا وبطريقةٍ ماكرة على سلوك ترافيس الغريب وعنفه المكبوت. والحق أننا لم نكُن نتوقَّع أن نرى وجه ترافيس على هذا النحو. ولكنَّ المونتاج الفظَّ الذي وصفتُه توًّا، والذي كان يعدُّ فورًا لظهوره، يثير في نفوسنا الرغبةَ في أن نرى ترافيس وقد تحوَّل وكفَّ أخيرًا عن مواصلة تسكُّعه، وراح يستعدُّ للتحرك. ويعود ذلك إلى سببَين كلاسيكيَّين للغاية في السينما أودُّ أن أتعرَّض لهما باختصار؛ لأنَّهما يضاعفان من واقعية الفيلم.
ولكنَّ الرأس الغريب للهندي الموهوك، الذي ينتحله سائق التاكسي، لا يتفق مع المستوى. فنحن متأهِّبون تمامًا، بل ويكاد صبرُنا ينفد ونحن ننتظر أن يتمِّم بطلُنا تمريناتِه وينضمَّ إلينا، وأن يكون رأسه ملائمًا بالذات لكي يقودنا معه نحو «الانفجار» المتمثِّل في المذبحة الختامية.