الفصل السابع

أداء روبرت دي نيرو

كان فيلم سائق التاكسي (إخراج مارتن سكورسيسي، ١٩٧٦م) عملًا مهمًّا للغاية ونموذجًا للإنتاج السينمائي الشعبي الأمريكي الذي يؤثِّر بقوة على الجمهور. فالفيلم يتنقَّل على طول مَشاهِده الأربعة والخمسين مع روبرت دي نيرو، الذي يؤدي دورَ سائق تاكسي في نيويورك يُدعى ترافيس. والفيلم في حدِّ ذاته مثالٌ فيما يتعلَّق بمرحلتَي التشبُّع والتحوُّل؛ فروبرت دي نيرو لا يتخلَّى عن موقفه السلبي، بل والمتبلِّد، إلا في المشهد الثاني والثلاثين، أيْ في النصف الأخير من الفيلم، حيث يقرِّر التصرُّف فيتناول مسدسًا ويقتل رجلًا أسود. وحتى مجيء تلك اللحظة المصحوبة بردِّ الفعل الساحق، يقتصر أداء دي نيرو أساسًا على تنفيذ ما لا يمكن أن يكون سوى تعليماتِ سكورسيسي، أيْ أنْ يترك نفسه ينغمس لقطةً بعد لقطة ومشهدًا بعد مشهد في حياةِ مدينة نيويورك الليلية، وهو مُطالَب هنا بالالتزام بثلاثةِ أشياء: أنْ يظلَّ يقِظًا، وذلك أمرٌ سهل بالنسبة له؛ فهو يقول: «أنا لا أستطيع أن أنام في الليل.» وأن يلتقط الزبائن وهو يقود سيارته ببطء: «أنا أذهب إلى المكان الذي يُطلب مني، في حي برونكس أو بروكلين أو هارلم، فكلُّ هذه الأحياء عندي سواءٌ.» وألَّا يفوته شيءٌ ممَّا يحدث: «أسجِّل كلَّ ما يجري في يومياتي.» أمَّا المخرِج والمصوِّر ومهندس الصوت وطاقمه، فيتكفلون بالباقي ويُمطرون عينَيه وأذنَيه بكلِّ المطلوب؛ فهُمْ يريدون منه، باختصارٍ أن يتشبَّع مثل الإسفنج بما يرى ويسمع في تلك المدينة الغارقة في الفوضى، ليسجله في يومياته. ما كان يمكنهم أن يعثروا على أيِّ ترافيس أفضلَ من روبرت دي نيرو، الذي يرصد في كافَّة الاتجاهات كلَّ ما يتحرك ويلمع، ليتحمله ويستوعبه. ولنتذكرْ ما قاله في ندوةِ الممثلين في مؤتمر لوس أنجلوس: «أنا أتَّجه يمينًا ويسارًا في آنٍ واحد … وأُراوغ.»

وأودِّ أن أُلقي الضوءَ هنا على خاصيَّتَين تميَّزتْ بهما المَشاهد الإحدى والثلاثون المكرَّسة للتشبُّع؛ وذلك لأنَّهما تحكمان، في رأيي، إشكاليتنا: سلوك دي نيرو المتفرِّج، فكلُّ ما يبدو منه قبل أن يخرُج عن طَوْره ليقتل رجلًا أسود، يدخل في نطاق السلبية وعدم التحرُّك. فهو جالسٌ في أغلب الوقت: في المطعم مع زملائه في العمل، أو مع بتسي أو إيريس (اللَّتَين تحومان حوله)، أو أمام الطاولة في غرفته ليسجِّل يومياته، أو في قاعة سينما تعرض أفلامًا إباحية. ولكنه جالسٌ بالأخصِّ في سيارة التاكسي التي يقودها في أنحاء المدينة، وذلك موقعٌ مثالي لمشاهدة المدينة والاستماع إلى الأصوات الصادرة عنها. ومن المهم أن نلاحظ أنَّ ذلك هو وضعنا نحن المتفرِّجين، الذين نرى ونسمع في نفس الوقت معه ما يدور في نيويورك ليلًا، من خلف منكبه وهو يقود السيارة. كما أننا نتجوَّل في نفس الوقت معه؛ لأنَّ الفيلم يتميَّز بخلوِّه من أيَّة لقطة للمدينة؛ نراها وحدها في غياب الممثل. فهو موجودٌ في كلِّ تلك اللقطات كما لو كان مندوبًا عنَّا وشاهدًا، بل وامتدادًا للمتفرِّج إلى حدٍّ ما؛ ممَّا يستدعي أن تزوَّد صور المدينة بمعدلٍ مرتفع من الواقعية، وأن يتلقَّاها المتفرِّج لا من خلال نظرات وتصرفات دي نيرو فحسب، ولا من خلال مشاركته مع المتفرِّج من حينٍ إلى آخَر، ولكنْ ليتعرف المتفرِّج عليها فورًا وبشكلٍ مباشِر بوصفها انعكاسًا صادقًا لتسجيلٍ وثائقي لمدينة نيويورك في الليل. وأقوى صور الفيلم، هي تلك التي نراها بواسطة تاكسي ترافيس؛ لأنها تلغي المسافة بين السائق والمتفرِّج في قاعة العَرض. وبهذه الصور يبدأ الفيلم وينتهي، وهي تتوالى أمامنا وتتسرَّب إلى أفئدتنا في نفس الوقت، مع انطباعها في عينَي ترافيس ومخيِّلته، وذلك حتى التحوُّل الذي سيخصُّنا نحن أيضًا.

وترجع قوة هذه الصور إلى سببٍ آخَر، له سحره الناجم عن الإبهار السينمائي؛ فسكورسيسي يدرك تمامًا أنَّ فيلمه لتلك السيارة التي تجوب المدينة ليلًا، يوفِّر له خيرَ الفُرص لربط المتفرِّج نفسه بالشاشة، وإشراكه في قصته بمصاحبةِ ممثِّله الرئيسي. وهو يلجأ إلى العجلات المطاطية التي تدور بانسيابٍ وعلى مهلٍ؛ لكي تتسرَّب إلى نفوسنا خلسةً: حركة الكاميرا (الترافلنج) الحالمة. فهذه الحركة تعتبر خلاصةَ السينما المتسلِّطة على المهندسين الفنَّانين منذ مولدها، والمنتصرة في المونتاج الخفي المُواكِب لسينما هوليود الكلاسيكية، ممَّا دفَعَ آيزنشتاين إلى قَطْع صِلته بالحركة المسرحية المحدودة. بيد أنه يتعيَّن علينا ألَّا نبتعد عن موضوعنا، وسنتحدث فيما بعد عن آيزنشتاين؛ لكي نبيِّن كيف أنَّ حركة الترافلنج كانت تُبهره، فبذل جهوده لكي يسدَّ الطريق أمام الانسياب الأمريكي والشفافية البُرجوازية، ويستخدم مسار الكاميرا بشكلٍ آخَر وفقًا ﻟ «توجُّه طبقي». وسنرى أنَّ ثورته هذه لم تدُم طويلًا؛ إذ سرعان ما لصق الأمريكيون الأجزاء ببعضها، وجذبوا إلى تيارهم الواقعيين-الاشتراكيين الستالينيين، في ذلك المسار الخطي اللانهائي.

ويلاحق عالَم نيويورك الليلي ترافيس والمتفرِّج المقيَّد معه في سيارة التاكسي، التي غدتْ بمثابة غواصةٍ حقيقية. وينساب ذلك العالَم الخاص على يميننا ويسارنا عبْرَ الزجاج الجانبي، وينقضُّ علينا عند مقدِّمة السيارة ويبتعد وراءنا مؤقَّتًا من خلال المِرآة العاكسة، بل إنَّ هذا العالَم يقتحم أيضًا مجالنا بشكلٍ خطير، فوق الأريكة الخلفية للسيارة. ويخيَّل لي أنَّ قوة تأثير صور نيويورك، تعود أساسًا إلى ثلاثة عوامل، يعزِّز كلُّ عاملٍ منها العاملَين الآخَرين بالتبادل: الحركة الانسيابية والمتعددة الأشكال لتلك الصور ممَّا يزيد من تهديدها وعدوانيتها، وأسلوب دي نيرو الطبيعي في التشبُّع بها مثل الإسفنج، وبالأخصِّ واقعية تلك الصور ذات الطابع الوثائقي. ويتعيَّن أن نركِّز تفكيرنا من الآن فصاعدًا على ذلك العامل الأخير؛ لأنَّه هو الذي يغذِّي ويقرِّر عملية التحوُّل وفقًا لمنهج استوديو الممثِّل، وتعتمد عليه بالتالي السمات المميِّزة للسينما الأمريكية وفعاليتها وقدرتها على الإبهار. ولكنَّ المتفرج لا يرى شوارع نيويورك في الليل، ولا يسمع الأصوات الصادرة عنها، كما يراها ويسمعها المخرِج وفقًا لحالته النفسية أو تصوراته، ولا عبْرَ سلوك النجم مهْمَا كان طبيعيًّا للغاية ومتجاوبًا تمامًا، بل يتعيَّن أن تُعرض عليه تلك الشوارع بشكلٍ مباشر وبلا لفٍّ أو دوران، وبمعزِلٍ عمَّا يتصور رجال السينما والممثلون من خلال تجربتهم المباشِرة لواقع نيويورك في الليل. وتلك هي الفلسفة التي سارع المنتجون الأمريكيون بتوضيحها للمخرِجين التعبيريين الألمان بمجرَّد وصولهم إلى هوليود؛ لكي يفلتوا من براثن النازية، وعلى رأسهم فريتز لانج. ولو أنَّ فلليني استسلم لعروض الاستوديوهات الأمريكية المُغرية، كما فعَلَ غيره، لأُصيبتْ قدراته الخلَّاقة بالشلل التام؛ ففلليني يتطلَّع إلى خلقِ صورٍ سينمائية، على غرار تلك التي يراها مشوَّهة أو غائمة من خلال نافذة سيارته، التي تقطع طُرُق إيطاليا؛ لأنه لا يصوِّر الواقع، بل «الأطيافَ التي تنشأ في مخيِّلته»، والتي يبذل كل الجهد لتجسيدها على الشاشة. فهو لا يسعى إلى تقديم صورةٍ طبق الأصل للواقع لكي يلاحظه بعد ذلك خلْفَ الزجاج. ولم يخطر على بال فلليني أن يصور فيلم روما في شوارع روما نفسها، أو أن يصوِّر فيلم أتذكر في الميدان الرئيسي بمدينة ريميني. وعندما كان يحتاج إلى تصوير أفلامه في استوديوهات شينه شيتا (مدينة السينما)؛ فإنه لم يُقدِم على ذلك لبناء ديكوراتٍ تطابِق بدقة الواقعَ، الذي تطلق عليه صفة الموضوعية، ولكنْ لكي يهيئ لنفسه كلَّ الفرص لتجسيد ما يدور في مخيِّلته.

وصُوَر شوارع نيويورك في فيلم سائق التاكسي واقعية، وليست من تدبير السينمائيين لكي تكون عرضًا لنظرة ترافيس الفردية لتلك الشوارع في الليل، وذلك رغم أنَّ الحالة النفسية المرضية التي تعاني منها شخصيته كانت تهيئ وضعًا مثاليًّا لكي تكون تلك الصور انعكاسًا لحالته. وهذا ما كان مفترَضًا من باب أَولى من جانب كاتب السيناريو بول شرادر، الذي تأثَّر أصلًا بالمخرِجَين الفرنسيَّين بول بريسون وجان لوك جودار، وتلقَّى تربيةً صارمة وفقًا للتقاليد البروتستانتية الهولندية، وتوفَّر له كلُّ ما يلزم لإبراز كابوس شوارع نيويورك. غير أنه تبنَّى تقاليد السينما الواقعية الأمريكية المتميزة بالالتزام بدقَّة بالنموذج، ابتداء من النحت والتصوير وحتى السينما، مرورًا بصُوَر الأفراد والتصوير الشمسي. فهو يقدِّم نسخةً طبق الأصل لموضوع دراسته ويصِفُ بكلِّ أمانة أبسطَ تفاصيل ضجيج المدينة وسلوك المتسكعين في الشوارع والسكارى ومدمني المخدرات وعنف السوقة والمشاغبين والقوَّادين. وقد سار مارتن سكورسيسي في أعقاب كاتب السيناريو، وضاعف من الانطباع الواقعي، وشدَّد من الإيهام به.

وهكذا فإن ما عُرض علينا — نحن المتفرِّجين — من خلال زجاج تاكسي ترافيس ومِرآته العاكسة، أصبح أشبه بفيلمٍ تسجيلي لنيويورك المشبوهة ليلًا. والواقع أننا لم نعُد تقريبًا في حاجةٍ للتعرف على سلوك النجم وردود فعله إزاء ما يدور أمام عيوننا ونسمع من خلال الصور والأصوات التي تكتسب مصداقيتها وتتفق مع توقعاتنا. وهذه الصور تحمل في طياتها قدْرًا من القوة وجرعة من «المصداقية» يولِّدان لدينا الإحساسَ بالتعرف على ما سبق أن رأينا في الواقع، أو في أفلامٍ أخرى، أو في تسجيلات تليفزيونية عن نيويورك. وعندئذٍ يصبح من العسير أن نتبين مَن الذي يبادر بردِّ الفعل الأول، هل هو المتفرِّج أو الممثل؟ وأيهما يجرُّ الآخَر في مساره؟ خاصة وأننا تعرَّفنا على شوارع المدينة في نفس الوقت مع سائق التاكسي، على أننا نستطيع أن نقول بكلِّ بساطة إن دي نيرو أصبح مضطرًّا إلى اتِّباع سلوكٍ مماثل لسلوكنا؛ وإلى التفاعل تمامًا كما نتفاعل نحن خفية في القاعة، وفقًا لإيماءاتٍ لا تزيد ولا تقلُّ عن مستوى إدراكنا للأوضاع. فنحن جالسون في الواقع في مكانه، أمام مِقود السيارة، وذلك هو أساس تقمُّص الشخصية للممثل.

والحق أنَّ منهج ستراسبرج، الذي يميل إلى حثِّ الممثل على أن «يكون كما هو»، يدفع بالضرورة منتجي الأفلام والمصوِّرين ومهندسي الصوت ومنفِّذي المونتاج والمزج، إلى استنساخ الواقع بالضبط والْتقاطه بشكلٍ مباشِر؛ لكي يتوافق إلى أقصى حدٍّ مع الأداء الطبيعي للممثلين. وعندئذٍ يكون من اليسير بالنسبة للممثل أن يصبح كما هو في عالَمٍ روائي يعكس الواقع. ولا يتردَّد منتجو الأفلام الأمريكيون في ربط رواياتهم بالمعطيات التسجيلية، خاصة في الأفلام الواسعة الانتشار. فقد استعانوا في فيلم المطار ٧٧، وهو الفيلم الثالث في تلك السلسلة بقوَّات البحريَّة الأمريكية في قاعدة سان دييجو، التابعة لمركز التنسيق التكتيكي للبحرية، لتعويم الطائرة البوينج «الملفَّقة» التي أُصيبت وغطستْ وسط المحيط، وإنقاذ ركَّابها المعرَّضين لخطر الموت، وبالأخصِّ لربط الناحية الخيالية بالواقع بواسطة كابلات سميكة. لقد تكفَّل حقًّا محترفون حقيقيون من رجال البحرية الحربية، تحت قيادة ضباط حقيقيين طوالَ ما يزيد قليلًا عن ساعة (أكثر من نصف مدة الفيلم) وفقًا لتقنيات مهنتهم (فهم لا يمثِّلون للسينما) لكي ينتشلوا في عُرض المحيط هيكلًا حقيقيًّا لطائرة من طراز بوينج ٧٤٧. وسلوك هؤلاء الرجال المتمرِّسين، الذين يؤدُّون مهمتهم دون المبالاة بالكاميرات، يحدِّد خطَّ السَّير ويوجِّه إيماءات وحوارات الممثلين المشترِكين في الفيلم ويعكسها. فعلى سبيل المثال، نجِدُ أنَّ جيمي ستيوارت الواقف فوق سطح الباخرة وسطَ ضبَّاط وبحَّارة مُنهمكين حقًّا في عملية الإنقاذ، يصبح مدفوعًا إلى تصعيد واقعية تمثيله المعبِّر عن قلقه على حفيده رهين الطائرة. فالإيماءات الفردية تنبثق كالزهرة من الإيماءات الملموسة التي تحفُّ بها. وينطبق ذلك على فيلم جورج هدسون، وأنا لا أتعرَّض لهذا الفيلم بنية السخرية؛ إذ إنه تعيَّن على الممثلين أن يحاكوا سلوك قِرَدة حديقة الحيوان في لوس أنجلوس بإتقانٍ بلَغَ حدَّ الكمال، بنَقْلهم وسطَ الأدغال وإلباسهم جلود قِرَدة وتوزيعهم وسط قبيلةٍ حقيقية من الشامبانزي، حتى استحال على المتفرِّجين التمييز بين الإنسان والقرد، تمامًا كما كان قرود الشاشة لا يدرون ذلك مثلنا.
وبوُسعنا أن نواصل الآن فكرةَ دولوز حول التشبُّع التي يتعيَّن بمقتضاها على ممثلي استوديو الممثل الالتزام بها؛ ففاعلية تشبُّع الممثل لا تؤدي وظيفتها على خير وجه إلا بقَدْر ما يتحقَّق ذلك أيضًا في نفس الوقت لدى المتفرِّج. والفيلم الثاني من مسلسل روكي، الذي أخرجه ستالوني شخصيًّا في عام ١٩٧٩م، يُفصح بشكلٍ خاص عن التأثير الواقعي المتبادَل بين الشاشة والقاعة؛ لقد تنبَّه المنتِجون إزاءَ الاستقبال الجنوني الذي صادف روكي ١ (فقَدْ حقَّق أكبر الإيرادات في عام ١٩٧٦م) من جانب شبابٍ يفيض حماسًا ويصفِّق بشدَّة في العديد من مَشاهد الفيلم. ولذا فقَدْ قرَّروا عند إنتاج روكي ۲ تضمينه مشهدًا يُحيِّي فيه الشبابُ معبودَهم ويصاحبونه في تمارين الركض عبْرَ شوارع فيلادلفيا وهم يُطلقون صرخات الإعجاب به. إنه تصرُّف شبيه بارتداد البومرانج، حيث تمَّ الْتقاط ردِّ فِعلٍ حقيقي صدر عن قاعات السينما لنَقْله للشاشة التي تكفَّلت بدورها بردِّه إلى القاعة.

ولْنعُد إلى التاكسي. ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ مارتن سكورسيسي سقَطَ في فخِّ الواقعية؛ فقَدْ سجَّل لنا بإتقانٍ الحياةَ الليلية في بعض الأحياء السيئة السمعة في مدينته (وقد درَّب مصوِّره مايكل شامبمان على التصوير مباشرةً في قلب المدينة) ودفَعَ دي نيرو إلى جعْلِ سلوك سائق التاكسي، وكذلك نصوص يومياته التي يقرؤها ويتلوها بصوتٍ عالٍ، طبيعيةً للغاية ومناسِبةً تمامًا؛ فباتتْ تعبِّر عن ازدرائنا لفوضى المدينة ونفورنا منها، وجعلتْنا نتشبَّع من مشهدٍ إلى مشهد بواقع نيويورك، في نفس الوقت مع ترافيس ومن خلاله؛ فأصبحنا نتطلَّع معه، من أجْلِنا ومن أجله، إلى وقوع التحول. ويتعيَّن أن ننوِّه هنا بأنَّ واقعية صُوَر نيويورك تتكثَّف عن طريق عاملَين يؤثِّر كلٌّ منهما على الآخَر بالتبادل، والعامل الأول سينمائي، بمعنى أنَّ «السينما تغذِّي السينما» وفقًا للفكرة التي يحلو لبوب روزن، أستاذ نظرية السينما بلوس أنجلوس، أن يكرِّرها. وقد عَمدَ سكورسيسي إلى إضفاء صبغاتٍ وألوانٍ مثيرة بابتذال على صور عالم نيويورك السفلي، كما كان شائعًا في أفلام الشوارع خلال الأربعينيات؛ فأضاف بذلك نوعًا من «الحقيقة» التذكيرية إلى واقعية الصور. أمَّا العامل الثاني فهو أيديولوجي الصبغة، ويعتمد على الخوف من الفوضى الكامن لدى كلِّ إنسان، ولكنه متأصِّل في صميم تكوين المتفرِّج الأمريكي.

ولقد برع سكورسيسي في تلك الواقعية، ولكنه قرَّر في بداية الثلث الأخير من الفيلم أن يتدخَّل شخصيًّا من خلال الإخراج واستخدام الكاميرا (إذ لا تزال تؤرِّقه بعض النوايا البريختية) وأن يتخلَّى عن بطَلِه فيحطِّم بذلك تقمُّصنا له، ويقول لنا إنَّ سائقنا المكلَّف باصطحابنا معه في جولاته بشوارع نيويورك، ما هو في الواقع سوى إنسانٍ مريض نفسيًّا وخَطِر. وقد تدخَّل سكورسيسي بقوة في بداية المشهد الذي يحاول فيه ترافيس قتل بالانتاين، المرشَّح لرئاسة الولايات المتحدة قبل انتهاء الفيلم بعشر دقائق؛ ليبرز لنا جنونَ بطله المدمِّر ويزعزع استسلامنا وغفوتْنا التقمصية، فكأنَّ مُخرِجنا شَعرَ بأنه يتعيَّن عليه أن يضرب بقوة لكي يجعل المتفرِّج يفلت قبل وقوع التحول الصاعق. ويوضح روبرت راي في مؤلفه «اتجاه معيَّن في سينما هوليود»، إلى أيِّ مدى تحتلُّ بداية هذا المشهد موقعًا مهمًّا في فيلم سائق التاكسي؛ فهو يعتبر هذا الفيلم، على نقيض وجهة نظري «الفيلم الشعبي الذي أجرى أفضلَ تصحيحٍ في السينما الأمريكية منذ المواطِن كين». فوفقًا لافتراض راي يكون سائق التاكسي فيلمًا «تمَّ تصحيحه»؛ لأنه يتيح الفرصة للمتفرِّج لكي يتخلَّص من آنٍ إلى آن من انبهاره بالقصة ويتَّخذ موقفًا موضوعيًّا، ويبدي رأيًا انتقاديًّا بخصوص اغتراب الإنسان في مجتمعٍ أصبح نهبًا للعنف. ويبدو لي — على العكس — أن تدخُّل المخرِج الصريح في بعض مقاطع الفيلم للحُكم على ترافيس لا يؤثِّر كثيرًا؛ لأن المتفرِّج يواصل تقمُّصه لشخصِ بطله، خاصة وأنه يشعُر بقُرب وقوع التحول الذي يريد بالأخصِّ ألَّا يفوته.

ويتبدَّى تمامًا أوضحُ تدخُّل من جانب المخرِج في اللقطة الأُولى من مشهد الحشد الانتخابي حول بالانتاين. فهذا التدخل الذي قُلْنا عنه إنه أقوى تدخُّل في الفيلم؛ كان يتعيَّن أن يدفعنا وفقًا لاستراتيجية سكورسيسي، إلى مراجعة تعاطُفنا مع ترافيس، بحيث يتحوَّل إلى نوعٍ من الارتياب بل والنفور. فبالانتاين المرشَّح لمنصب رئيس الولايات المتحدة، يقف خلفَ المنصة في مواجهة الجمهور استعدادًا لإلقاء كلمة، والكاميرا مثبتة أولًا على شخصه وفريقه المحيط به، ثم تلجأ بنَقْلةٍ ملحوظة إلى حركةٍ بانورامية بطيئة من اليسار إلى اليمين، حيث تنساب على الجمهور مع الْتزامها طوال هذا المسار بأن تكون عند مستوى الخصم، حتى إننا لا نرى أيَّ وجه في مجال الشاشة، ثم تتوقَّف الكاميرا في لقطةٍ كبيرة على صدر شخص غير معروفٍ لنا يرتدى سترةً كاكية اللون، وتظلُّ ثابتة في ذلك الوضع طوالَ الوقت اللازم لكي تظهر يدا مجال الشاشة، يدا هذا الشخص، لكي تتمكنا من فتْحِ علبةٍ صغيرة من المعدن والْتقاط قرصٍ منها. وأخيرًا، تنطلق الكاميرا فجأةً في حركةٍ بانورامية رأسية، لنجِدَ أمامنا ترافيس وهو يبتلع القرص في لقطةٍ كبيرة. وهكذا تعهَّد سكورسيسي بأنْ يُحضر لنا ترافيس يصعب التعرُّف على معالِمه، ويعرضه علينا أولًا عن طريق الحركة البانورامية الممتدَّة عبر الجمهور، ثم من خلال الحركة البانورامية الرأسية حتى وجهه. ويبدو لنا السائقُ في شكلِ هنديٍّ من قبيلة الموهوك، رأسه حليق فيما عدا خصلةً من الشَّعر تتدلَّى من قمَّة رأسه إلى قفاه، وتُرسم على وجهه ابتسامةٌ مُقلِقة تجمع بين الرضا والغرور.

ومن الواضح أنَّ سكورسيسي أراد أن يفاجئ المتفرِّج بتدخُّله لفترةٍ وجيزة (هذه اللقطة التي تشكِّل المشهد بأَسْره لا تستغرق سوى ثلاثين ثانية). وهو ناجحٌ بلا شك على هذا المستوى، خاصة وأنَّ المشهد السابق قدَّم لنا ترافيس وهو يستعدُّ للتحول الصاعق في غرفته، مع حِرصه على ألَّا يشي بما يضمره؛ حتى لا يُفسد بذلك متعتنا بالكشف مقدَّمًا عن الوجه الجديد لبطله. لقد قرَّب الكاميرا بحيث نتمكَّن من رؤية بعض الشذرات المبكِّرة للاستعدادات التي يُجريها ترافيس بإشراك جزءٍ فقط من جسمه فيها: زيت التلميع الذي يقوم بتدفئته لتليينه، وحذائه وهو يعدُّه ويضعه في قدمَيه، والزهور الجافَّة التي أعدَّتْها له بتسي وقد راح يحرقها وكأنه يقطع بذلك صِلته بسلوكه السابق الرومانسي وغير المُجدي، والسلاح الآلي الذي يثبتُه في حزامه أو يُخرجه من غِمده المعلَّق بساقه، والسكين التي يشحذها وهو مُمسِكٌ بها عند مستوى الخصر. أمَّا ملامح الهندي الموهوك فلا يعُدُّها ترافيس أمامنا، بل يُهيِّئها المخرِج سرًّا في المجال الخارجي، بعيدًا عن أنظارنا، لكي يقذف بها في وجوهنا في اللحظة المطلوبة. ولا بد أن يفاجَأ المتفرِّج بالطبع؛ لأنه ما كان يتوقَّع أن يرى رأس بطله وقد تحوَّل على هذا النحو. ولكنْ هل تكفي تلك المفاجأة لتغيير نظرة المتفرِّج، «وتصحيح» رؤيته، وكبح ما ينتظره من بطله، وحاجته إلى التحول المنتظَر في نهاية الفيلم، أيْ دَفْع المتفرِّج لأنْ يقول لنفسه: «هذا الشخص الذي جعلتُ منه وسيطي ومرشدي، والنائب عني وبشيري، والمعبِّر عن ردود فعلي المعترفة بجميله في خِضمِّ عنفِ نيويورك في الليل؛ اتَّضح لي فجأةً أنه مجنونٌ، وأنه سيكون من الحمق أن أواصِل مساندتي له ومساندته لي!»

أبدًا، لأنَّ كل الأمور تعود إلى وضعها الأول بمجرَّد زوال المفاجأة التي لا تدوم سوى ثوانٍ معدودات؛ فالكتابة تصبح غير مرئيةٍ من جديد، أيْ أنَّ صاحبها يتصرَّف كالمعتاد «كما لو لم يكُن هناك». وتلك هي بالضبط الاستراتيجية الواقعية، لكي تتواصل الرواية من جديد. وزدْ على ذلك، ما هو مصير هذه المفاجأة، إذا تمعَّنا حقًّا في الأمر؟ لقد تمَّ الإعداد لها مقدَّمًا ودُبرت بعناية، بحيث تحوَّل عدم توقعها، الذي كان لا بد منه لضمان وقْعِها وتأثيرها، إلى مجرد خدعة. لقد عوَّدنا سكورسيسي تدريجيًّا وبطريقةٍ ماكرة على سلوك ترافيس الغريب وعنفه المكبوت. والحق أننا لم نكُن نتوقَّع أن نرى وجه ترافيس على هذا النحو. ولكنَّ المونتاج الفظَّ الذي وصفتُه توًّا، والذي كان يعدُّ فورًا لظهوره، يثير في نفوسنا الرغبةَ في أن نرى ترافيس وقد تحوَّل وكفَّ أخيرًا عن مواصلة تسكُّعه، وراح يستعدُّ للتحرك. ويعود ذلك إلى سببَين كلاسيكيَّين للغاية في السينما أودُّ أن أتعرَّض لهما باختصار؛ لأنَّهما يضاعفان من واقعية الفيلم.

فمن جهةٍ يشكِّل استعداد ترافيس للمعركة في غرفته أحدَ المشاهد التقليدية، بل والطقوسية المتوفِّرة بغزارة في الأفلام الشعبية الأمريكية منذ نشأتها. ولا عجَبَ في ذلك؛ لأنَّ تلك الطقوس تتلاقى مع خبرتنا الذاتية في مجال الاستعداد البدني والنفسي للقيام بأيِّ عملٍ كان. وبوُسعنا أن نتدارس العديد من الأفلام الهوليودية الناجحة، ومنها بالأخصِّ مسلسل أفلام روكي (التي سنعكف على أيَّة حال على حلِّ شفرتها)، ابتداءً من مشاهد التدريب على الملاكمة التي تقيم جسرًا بين مَشاهد التشبُّع والتحول. ومن جهةٍ أخرى، قدَّم لنا المخرِج باستطالة، وفي لقطات مكبَّرة وفي مركز الشاشة، القوَّاد ماتيو، شرير الفيلم السافل حقًّا، الذي يحتضن فريسته الشابة إيريس ويُرهبها قبل مشهد استعداد الممثِّل الرئيسي للمعركة؛ حيث عرَضَه سكورسيسي على المتفرِّج، ولكن من وراء ظَهْره، دون أن نرى وجهه. إنه الحيز السابق على المشهد الطقوسي الذي تكلَّمنا عنه بخصوص فيلم سان فرانسيسكو وهو يقدَّم للمتفرج على انفراد، قبل دخول الممثِّل في ذلك الحيز. وهكذا تظلُّ تسيطر علينا — نحن المتفرِّجين — صورةُ ماتيو، القوَّاد الذي يتعيَّن القضاء عليه، طوال الوقت الذي تستغرقه استعدادات ترافيس، بينما انتقل ماتيو إلى خارج المجال، إلى حيزنا المتميِّز حيث نستمتع مقدمًا بالانتقام منه. ولا يترك سكورسيسي الأمر للمصادَفات، ويذهب إلى أبعد من ذلك، بجعل ماتيو رهينةً للمتفرِّج، بينما يتأهَّب البطل للقتل «حقًّا». بل إنه يسمح رمزيا للقاعة بأنْ تطلِق النار مقدَّمًا على السافل. ففي نهاية المشهد الذي تصبح فيه إيريس عاجزةً عن التحرك، تظهر لنا صورة ماتيو من الظَّهر في لقطةٍ كبيرة تتحوَّل عن طريق الطباعة المزدوجة إلى لوحةِ مرمى حقيقية في قاعة للرماية يتدرب فيها ترافيس. وقد يقول جودار عن سكورسيسي بهذا الخصوص إنه تعلَّم من فريتز لانج (فقد قال عنه فريتز لانج إنه يدفع المصوِّر إلى تسديد الكاميرا نحو شخصياته بدقَّةٍ تامة، كما لو كان يستخدم بندقيةً مزوَّدة بجهازِ تصويب إلكتروني). وعلى أيَّة حال، فإنَّ ما تصورته بولين كايل بالحدس بخصوص سائق التاكسي، وأشرنا إليه من قبل، كان يقوم فِعلًا على أساسٍ متين.

ولكنَّ الرأس الغريب للهندي الموهوك، الذي ينتحله سائق التاكسي، لا يتفق مع المستوى. فنحن متأهِّبون تمامًا، بل ويكاد صبرُنا ينفد ونحن ننتظر أن يتمِّم بطلُنا تمريناتِه وينضمَّ إلينا، وأن يكون رأسه ملائمًا بالذات لكي يقودنا معه نحو «الانفجار» المتمثِّل في المذبحة الختامية.

وكان لا بد وأن يندفع رأس الموهوك فجأةً بلقطةٍ مكبَّرة من المشهد، كما لو كنَّا بصددِ مهرِّج ينطلق من عُلبته، لكي يستدرج المتفرِّج نحو التخلي عن تضامُنٍ مع البطل المجرِم، الذي يمسك على أيَّة حال بزِمام الرواية. ولنا أن نتساءل: هل استخدم رأس الموهوك هذا كتقنيةٍ لتحرير المتفرِّج الذي لا يمكنه أن يتباعد عن بطله إلا ليتردَّى، دون أن يدري، في النفور العنصري؟ الحقُّ أنَّ المتفرِّج لا يتمكَّن من «تصحيح» علاقات التواطؤ بينه وبين الشاشة، إلا بقَدْر ما تجعله الأخيرة في مواجهةِ التشويه السمعي والبصري للحقيقة. وممَّا يدعو للدهشة أن روبرت راي، الناقد المحنك اعتبر سائق التاكسي «الفيلم الذي أجرى أفضل تصحيح في السينما منذ المواطن كين». أيمكن أن يكون قد غاب عنه أنَّ شهرة فيلم أورسون ويلز، تعود من وجهة نظر الاستراتيجية المقدسة الهوليودية، إلى أنه أكثر الأفلام مناهضةً للأمركة لدى استوديوهات كاليفورنيا الكبرى؟ ولكنْ هل لم يتبيَّن أبدًا لأورسون ويلز أنه أقدم على عملٍ مناهِض بصراحة للأمركة، أم أنه أدرك ذلك جيدًا ولكنَّه رَكبَ رأسه وصنَعَ ما راق له؟ على أن جريج تولاند، المصوِّر الذي أجاد تصوير هذا الفيلم للسينما، تعرَّضَ لانتقاداتِ حفَظةِ التقاليد الأرثوذكسية للفنِّ السابع الأمريكي لتهجُّمه على «الذات الواقعية»، حتى إنه قضى بقيةَ سنوات حياته المهنية في إعادة النظر في موقفه، وفي تصحيح «لقطات المنظور الملتوية، والظلال الكثيفة، وزوايا التصوير المنافية للواقعية» في فيلم المُواطن كين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤