الفصل الثامن
تسلُّط الوثائقية على الرواية
لنرجعْ مرةً أخرى إلى ردِّ فِعل المتفرِّج في دار العَرض، وذلك لسبب بسيط وهو أنَّ
الفيلم
الشعبي الأمريكي لا يصبو إلا إلى الاستفادة برد الفعل هذا، بأكبر قَدْر ممكن من الفاعلية،
وأنا موقنٌ شخصيًّا بأنَّ هذه القاعدة المعهودة على أية حال، والمتَّبَعة في كافة الفنون
الشعبية، لا تطبَّق بقوةٍ غير مألوفة إلا في مجال السينما الهوليودية. وقد سبق أنْ تبيَّن
لنا أنَّ الإفراط في الواقعية، المميِّز للفيلم الأمريكي، هو الذي يؤمِّن له تلك الفاعلية
الفريدة وذلك التأثير البالغ في تاريخ السينما، من خلال ردِّ فعلِ روَّاد السينما. وبوُسع
القارئ الرجوع إلى أفلام أمريكية حديثة العهد؛ لكي يتَّضح له بسهولةٍ إلى أيِّ حدٍّ ترتبط
ردود فِعْل الممثلين، وبالتالي ردود فِعْل القارئ نفسه، إزاء واقعِ الأوضاع والبيئة.
وكل
منهما يكاد يكون تسجيليًّا صرفًا؛ فالأفلام الخاصة بفيتنام تكشف لنا تلك الواقعية المفرطة
بشكلٍ خاص. ولْنُلقِ نظرةً على آخِر أفلام تلك السلسلة، ألَا وهو فيلم صباح الخير يا فيتنام
(إخراج باري ليفنسون، ۱۹۸۷م)؛ فنجم الفيلم روبي وليامز، الذي يؤدِّي دور أدريان كروناور
مقدِّم البرامج الشهيرة، ممثِّلٌ بارع في التقليد. وقد تعرَّفنا على مواهبه في مجال
الكوميديا في المسلسل التليفزيوني المسمَّى مورك وميندي (۱۹۷۸–۱۹۸۲م)
وكذلك في فيلم بوباي (إخراج روبرت ألتمان، ۱۹۸۰م). على أنني لا أنوي التنويه بالذات بأداء
روبي وليامز المتميز في صباح الخير يا فيتنام؛ فالأمر الذي يعنينا هنا في المقام الأول، كما
تعودنا، هو ردود الفعل إزاء أداء النجم، وهي بهذه المناسبة ردود فعل الممثلين المحيطين
بمقدِّم البرامج، ومنهم بالأخص الكابتن جارليك الزنجي، وكذلك ردود الفعل التسجيلية
المُستقاة من واقع حياةِ كلٍّ من سكَّان البلاد ذوي الأصل الآسيوي والعسكريين الأمريكيين.
وهو واقعٌ يهيمن عليه صوتُ مقدِّم البرامج وموسيقى الروك التي يمتطي صهوتها ويُلهِب
ظَهْرها.
ولْنَقُل أولًا مع بداية تحليلنا إن صباح الخير يا فيتنام، الذي يختتم مسلسل أفلام «الحرب
القذرة» التي تبرِّئ الأمَّة الأمريكية من تلك الجريمة، يقدِّم نموذجًا للواقعية التي
تعمل
في خدمة لقطات رد الفعل؛ ولذا يتعيَّن أن نفحص ذلك عن كثب.
فروبين ويليامز، المؤدي لدور أدريان كروناور، لا يتواجد وحده أبدًا. ونشاطه كمقدِّم
برامج، الذي يشكل في حدِّ ذاته ردَّ فِعلٍ هائل وفظٍّ إزاء حرب فيتنام، يعتمد باستمرار
ويرتكز على جملة من ردود الفعل الموزَّعة ابتداءً من اللقطات المقرَّبة للغاية، حتى اللقطات
البعيدة؛ ومن اللقطات الكبيرة الفردية وتلك الجامعة التي يشترك فيها عدَّة أشخاص، مزودًا
باللقطات المتوسطة لبعضهم. غير أنَّ ردود الفعل المنتظمة بشكلٍ خاص والمتكرِّرة في لقطاتٍ
كبيرة إزاء أداء أدريان كروناور وتعليقاته الإذاعية أساسًا، تأتي من جانب الكابتن جارليك
الزنجي اللطيف المَعشر، صاحب الجسم الضخم والمفتقِد للمهارة والمتفتِّح في الوقت نفسه،
الذي
ألحقتْه الإدارة العسكرية بخدمة مقدِّم البرامج. ويُفتتح الفيلم بجارليك كما ينتهي به.
فنحن
ننتظر النجم في مطار سايجون بصحبة الكابتن جارليك، كما نبقى معه، ونستمع في حضوره أيضًا
لآخِر رسالةٍ لبطلنا بعد طرده من فيتنام. وطوال أحداث الفيلم، منذ وصول البطل وحتى رحيله،
ينشط جارليك في ظلِّ كروناور، مؤديًا مهمَّة إبراز قيمة الأخير. وقد تكفَّل مصوِّرو الفيلم
ومنفِّذو المونتاج بعمليةِ توظيفه؛ لإبداء ردودِ فعلٍ متميزة وإيجابية للغاية، فهو يبتسم
ويُطلق القهقهات وينظُر باغتباطٍ ويصفِّق متجاوبًا بذلك مع أداء النجم، الذي تتواصل ردود
فعله المناهِضة لحرب فيتنام والضباط العِظام المؤمنين بها والعاكفين على مواصلتها. ويقوم
الكابتن جارليك هنا، بالنسبة لكروناور، بنفس دور إد ماكماهون بالنسبة لجيمي كارسون، ونانسي
بالنسبة لرونالد ريجان.
أمَّا اختيار زنجي لتنفيذ لقطات رد الفعل في هذا الفيلم، فهو نابعٌ من الاستراتيجية
التجارية والسياسية العليا؛ ففي العديد من الأفلام الأمريكية الحديثة، ومنها روكي ٣، يتولَّى زنجيٌّ مهمَّة مساعدة البطل الأبيض على القيام بمشاريعه. بل إنه يصِلُ إلى
حدِّ
تأنيبه عندما يتقاعس وتخونه شجاعته، ويسمح لنفسه بتلقينه بعضَ الدروس في الوطنية. ونحن
هنا
بعيدون عن الشخصيات المرموقة التي كان ستانلي كرامر يكلِّف سيدني بواتييه بأدائها في
سنوات
التمرد التي راج فيها شعار «الأسود جميل»، ممَّا كان يتطلَّب أن يبدي الأبيض إعجابه بالجنس
الزنجي بُغية امتصاص غضب السود وتبرئة الأغلبية البيضاء في نفس الوقت.
بيْدَ أنَّ الأحوال تغيَّرت فأعادت شخصياتٌ مثل جارليك وأبولو كرييد (المكلَّف بإبراز
روكي بالبوا في روكي ٣) الأقليَّة الزنجية إلى وضعها التاريخي والأيديولوجي بتكليفها بمهمة
التعرف على البِيض العِظام، الذين يعبِّرون عن قيم الأمة المعرَّضة للأخطار ويساندونها
في
مسيرتها نحو النصر.
والمتفرِّج على فيلم صباح الخير يا فيتنام، مربوطٌ بقوة بالشاشة من خلال ردود فِعل جارليك
الزنجي، التي تزيد من تألُّق روبن ويليامز في دور مقدِّم البرامج أدريان كروناور. ونحن
هنا
بصدد المستوى الأول لربط المتفرِّجين بالشاشة، وهو مستوى يمكن أن يحقِّقه المسرح بشكل
محترم. غير أننا بصددِ السينما، والسينما الأمريكية بالذات التي برعت في فنِّ توحيد الأحياز
البعيدة للغاية بعضها مع بعض. فجارليك — القريب جدًّا من النجم ليتجاوب مع حركاته
البهلوانية وتعليقاته الوقحة ومحاكاته لنيكسون وجونسون وكروتكايت — ينوب عنه باستمرارٍ
أشخاصٌ آخَرون أصابهم الذُّهول هم أيضًا، وراحوا يتطلَّعون ويستمعون إلى مقدِّم البرامج
عن
بُعد إلى حدٍّ ما في خلفية الشاشة وراء زجاج استوديو التسجيل، أو ينوب عنه مستمعون مجهولون
للبرنامج الإذاعي، خارج الحيز المتميِّز الخاص بالبطل، ومنهم الفيتناميون في شوارع سايجون،
والجنود الأمريكيون في ثكناتهم أو في ساحات القتال. كما أن المحاكاة المضحكة من جانب
ويليامز، وبالأخص مونولوجاته الصاخبة التي تجمع وتكرَّر مرارًا وتصرخ بمشاعر فيتنام
المكبوتة، تنتقل إلى المتفرِّجين (وفي مقدمتهم المتفرِّجون الأمريكيون) عن طريق سلسلةٍ
من
لقطات رد الفعل المتشابِكة والمتوالية باستمرار والمصوَّرة من أقرب المسافات حتى أبعدها.
وتجاوُبنا الحميم مع بطلنا (فنحن نحبُّ مقدِّم البرامج أدريان كروناور تمامًا كما يحبُّه
أصدقاؤه المحيطون، كما أننا نكره خصومه من كوادر الجيش، تمامًا كما يبادلونه هم الكراهية)،
انطلاقًا من تلك المواقع المتميزة التي تدور فيها الأحداث؛ يجعلنا جزءًا من تلك اللقطات
الجامعة لواقع فيتنام.
ولْنلاحظ أنَّ أداء مقدِّم البرامج المثير للضحك، وتعليقاته اللاذعة، وكذلك قصة حبِّه
الصغيرة والمغامرات المرتبطة بها، تصِلُ إلينا بشكلٍ غير مباشر عن طريق ردود فِعل الذين
يرونه وهو يتصرَّف من أجلنا ومثلنا. ومن جهةٍ أخرى، يصيب الأداء الشفوي لبطلنا بشكلٍ
مباشر
ومتوازٍ فيتنام، بلد سكان المدن والقرى الأصليين، وفيتنام الجنود الأمريكيين في ثكناتهم
وأثناء العمليات العسكرية. وصور فيتنام التي نشاهدها على الشاشة، ونستمع من خارج مجالها
إلى
صوت مقدِّم البرامج (بطلنا الحميم)، عبارة عن نُسَخ طِبق الأصل لصور «الحرب القذرة» التي
تتوالى منذ ثلاثين سنةً على شاشاتنا الكبيرة والصغيرة. إنها مجرَّد كليشيهات ونماذج مكرَّرة
لم تعُد لها قيمةٌ متميزة، وانحصر دورها في أن تكون إشاراتٍ صرفة للتعرف على الواقع.
فهذه
الصور لا تؤدي إطلاقًا إلى تعميق ما نرى ونسمع من جانب بطلنا. فهي لا تنقلنا، مثل الأعمال
الفنية ممَّا هو معروف بقَدْرٍ أكبر إلى ما هو معروف بقَدْرٍ أقل ومن المفرد إلى الجمع،
على
حدِّ قول أمبرتو إيكو، الكاتب الإيطالي المتخصص في علم الإشارات والرموز ودلالاتها. وهي
تكتفي بتعزيز ما نعرف أصلًا وتحصره في تلك الحدود وتعتبره أمرًا مفروغًا منه.
وهؤلاء الفيتناميُّون والأمريكيون المتفرِّغون للقيام بأعمالهم في لقطاتٍ جامعة تسجيلية
صرفة، بينما تنهال عليهم تعليقات مقدِّم البرامج مصحوبةً بإيقاع الموسيقى الروك، لا يعرفون
ويليامز. وهم يكدُّون في الحقول أو يتجوَّلون في شوارع سايجون الزاخرة بالمعروضات، ويحاربون
في الأدغال أو يخيِّمون في العراء. والحق أننا نشاهد في العديد من اللقطات الجامعة ونصف
الجامعة عسكريِّين أمريكيين يتجاوبون مع مقدِّم البرامج وهم يستمعون إليه من خلال
الترانزستورات، ويهزُّون رءوسهم تعبيرًا عن التأييد على إيقاع كلماته، أو يُعلنون استحسانهم
بصوتٍ مرتفع. غير أنهم محصورون في حدودِ ردود الفعل المجهولةِ الهُوية للأغلبية الصامتة.
وهم لا يرون بطلهم هذا، ولا يلتقون معه في حيِّزه. ولذا فإنَّ نظراتهم لا تشارك في تغذية
ردود فِعل الجمهور في القاعة؛ فهم خارج الرواية ذاتها، قابعون في الجانب التسجيلي، حيث
لا
علاقة بين المشاهَد (بفتح الهاء) والمشاهِد (بكسر الهاء). غيرَ أنَّ من المفارقات حقًّا،
أنَّ تلك الأبعاد التسجيلية في فيلم صباح الخير يا فيتنام، هي التي تجعل السرد الروائي
والعلاقة بين الشاشة والقاعة جذَّابةً للغاية بشكلٍ لا يقاوَم. فهؤلاء الذين لا يشاركون
في
التمثيل، العامة في الشوارع الفيتنامية والمعسكرات وساحات الحرب، لا يعرفون — في الواقع
—
شيئًا عن بطلهم هذا، وإن كانوا يسمعون صوته الذي يشوِّهه أزيزُ ترانزستوراتهم أو ذبذبات
مكبِّرات الصوت. أمَّا نحن، المتفرِّجين في قاعات العرض، فنحظى بخصوصيتنا الوثيقة مع
بطلنا
عن طريق ردود الفعل بالطبع، ونعيش معه دواعي قلقه ومشاعره العاطفية وأفكاره الخاصة
ومغامراته المجنونة، وكل ذلك بدرجةٍ أكبر بالمقارنة مع الأشخاص القريبين منه. فهم يظهرون
في
لقطاتٍ بعيدة، بينما نحن معه في اللقطات الكبيرة التي تصل إلى حدِّ الاندماج. ولذا فإنَّ
نظرتنا إليهم أبويَّة للغاية.
وهذه البنية الثنائية القائمة على التسجيلات والرواية التي نصادفها بشكلٍ واضح ومُتقَن
في
صباح الخير يا فيتنام، نجِدُها في كلِّ أفلام السينما الأمريكية الشعبية نصفَ متواريةٍ أو
متخفِّية بين ثناياها. وقد نجحت تلك البنية، في مقدمة عدَّة عناصر أخرى، في جذب المتفرج
لمشاهدة أفلام الكوارث التي راجتْ في السبعينيات، وطبعتْ ذلك العَقد (إذ كان يتعين إعادة
الأبطال الإيجابيين إلى مراكزهم السابقة بعد التخلي عنهم في الستينيات). ولقد انطلق ذلك
العقد بفيلم المطار (۱۹۷۰م)، ليجنح إلى الهزل مع فيلم مجانين في الجو (۱۹۸۰م). وقد شملتْ
هذه البنية المزدوجة أفلام المطار الأربعة؛ فخلقتْ بطريقةٍ نموذجية الحركةَ بين مقاعد
المسافرين وقمرةِ قائد الطائرة؛ لتحلق بالمتفرِّج على جناحي الرواية، وذلك هو التردد
جيئةً
وذهابًا بين العالَم الدارج والقوم المتميزين، وبين اللقطات العامة للمسافرين مجهولي
الهوية
الذين لا دراية لهم بما يحدث واللقطات الخاصة والمتفردة لقمرة القيادة، حيث يجلس أحد
المتفرجين مع أبطاله القباطنة أمام أجهزة قيادة البوينج … والرواية. ولْنتمعن عن كثبٍ
في
تلك اللقطات الخاصة بالركَّاب الجالسين على مقاعدهم داخل الطائرة. إن أمرهم يعني بشكلٍ
مباشر المتفرِّجين في قاعة العَرض، بمعنى أنهم يُسهمون في نقل هؤلاء المتفرِّجين إلى
قمرة
قيادة الرواية. ولن ألجأ هنا إلى تحليل مَشاهدِ أحد الأفلام الأربعة لذلك المسلسل بطريقةٍ
منتظمة؛ لأني لا أسعى إلا إلى تسليط الضوء على الاسترايجية الأساسية المتَّبعة في الأفلام
الأمريكية الشعبية، والتي اتَّضحت بكلِّ جلاء في دراستنا لفيلم صباح الخير يا فيتنام، ممَّا
يُتيح لنا إمكانية ملاحظة ذلك في أفلام الكوارث. فلْنعد إذن إلى البوينج ٧٤٧؛ لنرقب
المسافرين على متنها.
عندما تتوفَّر إمكانية تقديم لقطات للركاب عن بُعد، بحيث تتلاشى ملامحهم وسطَ جمْعِهم
ويتعذَّر التعرف عليهم شخصيًّا، أو تصوير لقطاتٍ لهم من زوايا تُخفي هوياتهم؛ لا يتردد
المنتجون في استخدام أرشيفات التسجيلات أو تصوير ركَّاب حقيقيين في طائرةٍ حقيقية. وفيما
يتعلَّق بالصور الداخلية في لقطاتٍ جامعة، يتم اللجوء إلى نفس الطريقة المتَّبَعة بالنسبة
للصور الخارجية للمطار أو للطائرة وهي محلِّقة في السماء. وهنا لن يتردد المنتجون في
استخدام التسجيلات بشكلٍ مباشر. وهكذا نعود مرةً أخرى إلى المركز العصبي للواقعية
السينمائية الأمريكية، التي تسيطر عليها فكرةُ الالتصاق تمامًا، وإلى أقصى حدٍّ ممكن،
بالواقع الأمريكي ذاته، حتى إن هذه الواقعية تنتمي إلى اللقطات التسجيلية أكثرَ من انتمائها
إلى الرواية. وعندما يتعذَّر الالتقاط المباشِر لصور طائرةٍ حقيقية على الفيلم الخام
—
نظرًا لعدم توفُّر المال أو الوقت اللازم لانتظار سماء صافية، أو عاصفة رومانتيكية، لزوم
ضمِّها إلى نسيج القصة — يتمُّ اللجوء إلى آل ويثلوك، وهو أحد أكبر خبراء هوليود في مجال
الخدع السينمائية منذ ما يربو على أربعين سنة. وقد الْتقيت مع آل ويثلوك في ورشته باستوديو
شركة يونيفرسال في هوليود، في الفترة التي كان يعمل فيها لحساب فيلم المطار ۷۷. ويلتزم
ويثلوك تمامًا بتقاليد المصوِّرين الأمريكيين، أسلاف المصوِّرين الفوتوغرافيين الذين
كانوا
يستخدمون نسخةً شديدةَ الشَّبه للنموذج؛ حتى يصبح من الصعب التمييز بينهما. وقد عرض عليَّ
نموذجًا لبوينج ۷۰۷ صَنَعه لهذا الفيلم بالاعتماد على صورةٍ مكبرة للطائرة، كان طول الطائرة
قدمَين فقط، ولكنها منفَّذةٌ بدقَّةٍ شديدة للغاية. وقد علَّقها في الورشة بأسلاكٍ غير
مرئية، وخلف هذه النسخة المصغَّرة للطائرة، كانت هناك سحاباتٌ صغيرة مصنوعة من مادةٍ
سيلولوزية أشبه بالقطن ومعلَّقة هي أيضًا، ومن الممكن جعْلُ هذه الطائرة والسحابات
المصاحِبة لها، تنساب خلسةً في الفيلم عند تصويرها مع خلفيةٍ زرقاءَ باهتة؛ لإعطاء الانطباع
بأنها تطير في جوٍّ صافٍ. ومن الواضح أنه لا يتمُّ اللجوء إلى خدمات خبراء، مثل ويثلوك،
إلا
كحلٍّ لا مناصَ منه؛ فهي الملاذ الأخير بالنسبة للمنتجين الذين استنفدوا كافة إمكانات
الواقعية. وما كان يمكن أن يطلب إيرفينج آلن من ويثلوك، أن يصنع له نموذجًا لهليكوبتر
لا
يكلِّف سوى بضع مئات من الدولارات؛ لكي يفجِّره في اللحظة المناسِبة في لقطةٍ كبيرة في
فيلم
الجحيم الملتهِب (١٩٧٤م). لو كان بوُسعه أن يدمِّر هليكوبتر حقيقيَّةً يبلغ ثَمَنها عدَّةَ
ملايين من الدولارات. وبوُسعنا أن نتصوَّر فرحةَ كوبولا الغامرة؛ إذ تمكَّن من تحقيق
حُلمه
في فيلم نهاية العالم (۱۹۷۹م)، حيث أقام جسرًا حقيقيًّا وسط الأدغال تكلَّف مليونَي دولار،
لا لشيءٍ سوى أن يفجِّره فعلًا في سياق أحداث الفيلم.
وهكذا يمكننا أن نفهم لماذا يعتبرون البديلَ الذي يحلُّ محلَّ البطل في اللحظات المحفوفة
بالمخاطر؛ دخيلًا يُستحسن الاستغناء عن خدماته، وضربًا من الجُبن يتفاخر مخرِجون شُجعان،
مثل راءول والش، بعدم التردي فيه أبدًا، وغشًّا لا يرتضيه كبرياءُ نجومٍ مثل بلموندو
وستالوني. وفي أحد مَشاهد الجحيم الملتهِب المشتعِلة والخطِرة للغاية، دفَعَ جون جيلرمين،
وهو أحد مخرِجي الفيلم، دفَعَ روبرت فاجنر إلى أقصى، حدود إمكاناته وسطَ الجمر تقريبًا
قبل
أن يلجأ إلى بديلٍ يحلُّ محلَّه، بحيث لا يتمكَّن المتفرِّج من أن يرى شيئًا سوى النار
المشتعِلة. ولا تتمُّ الاستعانة بخبراء في الخدع السينمائية من أمثال ويثلوك لاستنساخ
الواقع إلا عند استحالة التصوير الواقعي. وقد طلب ويليام فراي، منتج المطار ۷۷، من ويثلوك
أن يرسم له مبنى البيت الأبيض بكلِّ دقَّة؛ لكي يحلِّق أمامه النموذج المصغَّر للبوينج،
لا
لسببٍ سوى أنَّ الحكومة الفيدرالية في واشنطن رفضت التصريح له بتصوير طائرة بوينج ۷۰۷
حقيقيةٍ فوقَ البيت الأبيض الحقيقي.
وباختصارٍ، تتسلَّط الوثائقية التي لا تشارك في التمثيل على الأداء الهوليودي. فالغاية
بالنسبة للممثل، خاصة منذ عهد ستراسبرج، هي ألَّا يمثِّل «وعليه ألَّا يكتفي بعدم الظهور،
بل وأن يتلاشى تمامًا»، على حدِّ قول جودار في فيلم راع يمينك. وسأوافيكم أخيرًا بما رُحت
أبحث عنه في الصفحات السابقة: إذا كانت الرواية السينمائية الأمريكية طبيعيةً إلى هذا
الحدِّ؛ فذلك لأنَّ لقطات ردِّ الفعل التي تتخلَّلها هنا وهناك، تعزِّزها باستمرار اللقطاتُ
الوثائقية وعمليات إعادة بناء الواقع بأقصى قَدْر من الدقَّة.
ولنُعمِلْ تفكيرنا مرةً أخرى حول تلك الظاهرة، ونستكمل ما جاء في الصفحات الأخيرة
قبل أن
نعود من جديدٍ إلى صباح الخير يا فيتنام؛ لكي يتكشَّف لنا المشهد الأهمُّ والورقة الرابحة
التي تستحوذ تمامًا على المتفرِّج وتدفع به في صميم الرواية وهو مسلوب الإرادة. فهذه
السينما لا تحاول أن تلعب أو تتلاعب بالواقع، أو أن تبتكر انطلاقًا منه، بل لا يهمُّها
سوى
شيءٍ واحد ألَا وهو التشبُّث به، وتضييق الخِناق حوله حتى تزهق روحه.
ولنعُد إذن للمرة الأخيرة لسلسلة أفلام المطار، والمجال والمجال المقابِل، وصفوف المقاعد
في الطائرة وقمرة قائدها. ويتعيَّن على المتفرِّج أن يندسَّ كالشبح داخل الطائرة وهي
محلِّقة في السماء؛ ليكون مع الركَّاب ويسري ذلك أيضًا على ممتطي صهواتِ الخيل في أفلامِ
رُعاة البقر والمتسابِقين بالسيارات أو القطارات. ومن المستحسَن — استراتيجيًّا — إشراكُ
عددٍ من النجوم مع الركَّاب الحقيقيين، ومن الأفضل أن يكونوا غيرَ معروفين لهم. فالنجوم
موجودون أصلًا في حيِّزهم الخاص على مقربة منا، في قمرة الطائرة ولكنْ بعيدًا عن أنظار
الركَّاب العاديين. وعادةً ما يُطلب من الكومبارس أن يتصرَّفوا كركاب عاديين، بغضِّ النظر
عن مضمون الفيلم (دون أن ينظروا إلى الكاميرا، كما يقال). وعندما يتعذَّر تصوير ركَّاب
حقيقيين في لقطاتٍ داخلية «بديكور طبيعي» في طائرة بوينج حقيقية؛ يتمُّ اللجوء إلى كومبارس
يُطلب منهم أن ينصرفوا تمامًا كما يتصرَّفون في الواقع، ولكن هذه المرة داخل مقصورة طائرة
تمَّ بناؤها في الاستوديو. ولكي تتحقَّق الخدعة على أكمل وجه، ولا يلاحظ أحدٌ الانتقالَ
من
الواقع إلى نسخةٍ منه، يجري تصوير صعودِ الركَّاب في طائرةٍ حقيقية، وسطَ حركة المرور
في
مدرَّج المطار.
ومن المفيد أن نُشير بهذه المناسبة إلى تقاليد السينما الأمريكية الراسخة في مجال
الواقعية المصوَّرة؛ فعلى سبيل المثال كان راءول والش (أحد روَّاد الإخراج السينمائي
الهوليودي، بدأ نشاطه كمساعدٍ لديفيد جريفث) يلجأ دائمًا إلى رعاة بقرٍ حقيقيين ككومبارس
في
أفلام الوسترن العديدة التي أخرجها. وإذا كان المخرج التعبيري الألماني فريتز لانج، قد
نجح
في التشبع بالواقعية السينمائية الأمريكية؛ فإن ذلك يعود إلى كونه قد تبنَّى في إنتاجه
الألماني قبل الأخير، ميم الملعون (۱۹۳۱م)، المعالجة التصويرية الهوليودية المفرِطة في
واقعيتها. فقد استخدم في عدَّة مشاهد رجالَ عصابات حقيقيِّين من برلين، حتى إن الشرطة
اضطرت
إلى مداهمة الاستوديو ثلاثَ مرَّات أثناء تصوير الفيلم. ومن المفيد أن نذكر أن فريتز
لانج
كان يمهِّد، وهو يخرج هذا الفيلم في بدايات عهد النازية، للانتقال إلى الغرب وبالذات
إلى
لوس أنجلوس. وكان فيلمه هذا بمثابة جواز سفر صالحٍ تمامًا للحصول على تأشيرة
لهوليود.
وإذا كان الأمر يتطلَّب أن يتسرَّب بعض الكومبارس إلى الطائرة التي تمَّ بناؤها في
الاستوديو، دون أن ندري، لزوم الواقعية، فمن الضروري أيضًا أن تَبدُر منهم وهم جلوسٌ
في
مقاعدهم داخل الطائرة بعضُ الإيماءات البسيطة في مقدمة اللقطة، دون أن يخِلَّ ذلك بالخلفية
الواقعية في مجموعها. ولْنقترب الآن من الحيز المتميِّز بالنسبة للمتفرجين ألَا وهو قمرة
طاقم الطائرة، مع الالتزام بمراحل ذلك الاقتراب. يجب أن نلاحظ في هذا الصدد سلوكَ المضيفات
وهنَّ عادةً مضيفتان في أفلام المطار. وحيزهما هو الممرُّ الفاصل بين مقاعد الركَّاب،
وبالأخصِّ بينهم وبين الحيز المغلَق الخاص بقمرة القيادة، حيث يقود النجوم الطائرة ويشدُّون
المتفرِّجين إلى الرواية. والمضيفات هنا ممثلات يشاركنَ في أحداث الرواية، وبالتالي فإنَّ
نظراتهنَّ المعبِّرة عن ردود أفعال تلقَّت التدريبَ اللازم. وهذه النظرات ليست سريعةً
مثل
نظراتنا ونظرات الركاب المجهولي الهوية، بل نظراتٌ حَرصَ السينمائيون على تحديدها بدقَّة،
لأنه يجب «أن تستقرَّ طويلًا وتتثبَّت» كما كان يقول لوتشينو فيسكونتي وهو يدرِّب كلوديا
كاردينالي في فيلم الفهد. لقد تعرَّفنا على أولئك المضيفات مقدَّمًا، قبل دخول قاعة
السينما، وكان لنا حظُّ رؤيتهنَّ على حِدَة في بداية الفيلم، من خلال مَشاهدَ قصيرة،
وقبل
المسافرين الذين لم يصادفوهنَّ إلا عند دخولهم الطائرة والمضيفات يلاحظنَ بعض الركَّاب
المتميِّزين، مع حرصهنَّ في الوقت نفسه على أن يضعنَ أنفسهنَّ في خدمة سائر الركاب، وعلى
أن
يكُنَّ على صلةٍ وثيقة بالجمع الوثائقي المجهول الهوية. ولذا سنكون — نحن المتفرِّجين
—
خلفهنَّ عندما يدخُلنَ مِحرابَ النجوم، الذين يتقرَّر مصيرنا الروائي على أيديهم، وفي
صحبتنا صور الركَّاب التي تؤكِّد الطابع «الحقيقي» لأدائهنَّ. وعندما سيتقدم النجمان
—
القبطان ومساعده — معًا، أو كلٌّ منهما على انفراد (شارلتون هستون، دين مارتن، جاك ليمون
…
إلخ) وسط الركَّاب من أجل إحداث التحول؛ ستكون قد انقضتْ فترةُ تشبُّعٍ سبقتْ ذلك اللقاء
ومهَّدت لوقوعه.
وبعبارةٍ أخرى (ومع تجنُّب التمسك بالتعاقب الزمني)، فإنَّ واقعَ المطار الذي تمَّ تصويره
بشكلٍ مباشِر، ينتقل من مجاله العام «التمهيدي» إلى النطاق المخصَّص لركوب البوينج
وإقلاعها. وبمجرد استقرار جميع الركَّاب المجهولي الهوية في أماكنهم داخل الطائرة، يظهر
وسط
هذا التصوير الوثائقي الناطقون باسمهم، الذين يؤدُّون أدوارهم الثانوية في إطارِ الأداء
المتخصِّص للمضيفات الجويَّات، اللاتي يتزوَّدنَ بسلوك المتفرِّجين من الركَّاب ويذهبن
لملاقاة أبطال قمرة القيادة باسمهم. وعلى أثر بضعة تمارين للتدريب على التصرف وعلى ردود
الأفعال، وأمام لوحة القيادة التي أعيد بناؤها بدقَّةٍ شديدة، يكون القباطنة مستعدِّين
للالتقاء بالركَّاب، خاصة عن طريق أداء المضيفات الذي مهَّد لذلك اللقاء (الذي لن ندرسه
في
مجموعة أفلام المطار، ولكننا سنجِدُ بنيتَه النموذجية في صباح الخير يا فيتنام) المعتمِد
على نظام المُشاهِد والمُشاهَد والمؤدي دورَه بشكلٍ مكثَّف. ولْنقُل إجمالًا إنَّ الجانب
الروائي يندمج دائمًا مع الخلفية الوثائقية (أي دون أي ردود فعل). ويجدر بنا أن نلاحظ
أننا
يجب ألَّا نعتبر هذا الوصف عمليةَ تطوير زمني تُجرى من العام إلى الخاص، ومن الخارج إلى
الداخل، ومن الوثائق إلى الرواية، وفقًا لعلاقةٍ سببية أوتوماتيكية، وبلا أيَّة نقيصة،
كما
هو الحال مثلًا في المشهد الأول من فيلم اضطراب (إخراج هيتشكوك ١٩٦٠م): مدينة غير معروفة في
لقطةٍ جامعة، وحي في المدينة، ومجموعة بيوت، ونافذة وغرفة ندخلها ومنها تبدأ الرواية.
إنها
بِنيةٌ عامة، أودُّ أن ألقي الضوء عليها؛ لأنها تشمل السينما الشعبية الأمريكية وترسم
حدودها.
فالوثائق هي التي تغذي إذن الروايةَ السينمائية الأمريكية، أيْ أنَّ الواقعية التي
لا
تمتُّ بصلةٍ إلى التمثيل، هي التي تواصِل الأداء الروائي للمجال والمجال المقابِل،
وبالأخصِّ لقطات رد الفعل. وعليه، إذا كنَّا أولَ وأقربَ مَن ينظرون إلى أبطال الشاشة
بوصفنا المتفرِّجين؛ فنحن لا نستطيع أن نتمعَّن حقًّا في وجوههم إلا لأنَّ هناك خلفنا،
في
الدرجة الثانية، أفرادًا آخَرين على الشاشة، جاءوا من الخارج. وهؤلاء لا يتركوننا، مع
أنَّ
نظراتهم غير محدَّدة وموزَّعة، ومتَّفقة مع الواقع الخارجي. وهم يرسلون مندوبين عنهم
لدى
أبطالنا؛ لكي يعبِّروا بكلِّ دقَّةٍ وواقعية ممكنة عن احتياجاتهم. أمَّا أبطالنا فلا
يتوغَّلون بشكلٍ طبيعي للغاية في أدوارهم إلا لأنَّهم مرتبطون باستمرار بالجمع المجهول
الهُوية عن طريق مَن يمثلونه. وهكذا تتداخل حركةٌ مزدوجة تدفع المتفرج. فالحقيقة الدارجة
والمبتذلة تصعد على مراحلَ متتالية نحو النجوم، بينما تنزل النجوم لكي «تنغمس» بانتظامٍ
في
الواقع. أمَّا المتفرِّج في القاعة فهو جزءٌ من الواقع اليومي ويحلم بعالمٍ آخَر مثالي؛
فهو
يشارك في المسار المزدوج الذي يمكن أن يكون الحركة السينمائية الأساسية. وهذا ما يحدث
فعلًا، فنحن في صفِّ الأبطال؛ لأننا نودُّ أن نتميز عن الجمع دون أن نقطع أبدًا روابطنا
معه. وتعود قوة الفيلم عند هيتشكوك، إلى كونه يحرص على أن يعرض علينا فردًا عاديًّا
منغمِسًا في خبراتنا الزمنية والمكانية، ولكنه يصادف أشياءَ غير مألوفة. وممَّا يدلُّ
على
أنَّ هيتشكوك نجح في اكتشاف لغز السينما، أنَّ السينمائيين الباحثين عن صيغٍ رابحة عكفوا
على محاكاته منذ حوالي نصف قرن. فرومان بولانسكي، الذي فقَدَ إلهامه بعد فيلم الحي الصيني
(١٩٧٤م)، حاول مؤخَّرًا أن يستعيد مركزه بشكلٍ يدعو إلى الرثاء في فيلم فرانتيك الهتشكوكي
البنية.
لقد سبق لنا أن حلَّلنا الدورَ الذي يؤدِّيه الكابتن الزنجي جارليك نيابةً عنَّا
في فيلم
صباح الخير يا فيتنام، بردود فِعله المتلاحِقة إزاء أداء مقدِّم البرامج وبمدِّه الجسورَ
بين الواقع البعيد والرواية. غيرَ أنَّ المهمة الأساسية لمندوبنا جارليك، التي تتمثَّل
في
المقام الأول في عملية «الربط»، تؤدِّي دورها بالأخصِّ في نفس اللحظة التي يقرِّر فيها
روبن
ويليامز الامتناع عن الاضطلاع بدوره كمقدِّم للبرامج الإذاعية. فعندما تتوقف الرواية
عند
هذه النقطة، يأتي رد فِعل جارايك في أقوى صورة؛ إذ يعكف على مواصلتها (أي الرواية) باللجوء
إلى الواقع التسجيلي. لقد نشب نزاعٌ علني بين كروناور وعددٍ من أصحاب الرُّتب الكبيرة
في
الجيش، يحلو لهم أن يفرضوا الرقابة على نشاطه. ويقدِّم كروناور استقالته بعد أن أعيتْه
مقاومته لهم. وعندئذٍ يعرض علينا المشهد الكلاسيكي للبطل الذي دبَّ اليأسُ في نَفْسه،
فراح
يتعاطى الخمور حتى الثمالة في أحد البارات. وهكذا يتوجب على جارليك أن يلجأ إلى أقوى
ردٍّ
فَعَله؛ فهو يوبِّخ أدريان كروناور ويعنِّفه ويلقي عليه المواعظَ مذكِّرا إيَّاه بارتفاع
معدلات الاستماع إلى برامجه، وبالحُب الذي يكِنُّه له الجيش والمستمعون مجهولو الهُوية،
وبإعجابهم بشخصه وتأثيره غير المألوف على الجنود الأمريكيين. بَيْد أنَّه يُشير إليه
بالأخصِّ، إلى أنَّه لا يحقُّ له أن يتنحَّى؛ لأنَّ هناك مسائل أساسية وتاريخية عليه
أن
يكشف النقاب عنها، وإنه لمِن الجُبن أن يتخلَّى عن رسالته وينزوي خارج المجال، بينما
العالم
بأَسره يتطلَّع إليه وينتظر كلمته. ويواصل جارليك المهمَّة الموكولة إليه، فيأخذه معه
في
سيارته «الجيب» ليجوب بها شوارع هانوي المزدحِمة، ولكن أين سيذهب الكابتن الزنجي ببطلنا؟
قد
نتصوَّر أنه سيُعيده إلى موقعِ عمله في محطة الإذاعة. غير أنَّ هذا التصرف قد يتناقض
مع
سيكولوجية الطرفَين؛ فجارليك ليس من النوع الذي سيُجبر كروناور على التصرف على عكس مشيئته،
كما أنَّه لا يتمتَّع بالسُّلطة التي تؤهِّله للتدخُّل على هذا النحو. لا، فجارليك يصحب
معه
نجمنا، بعيدًا عن الرواية، وباتجاه الوثائقية.
وهكذا ينتزع زمام المبادرة من جارليك، بعد بضع لقطات قاد فيها سيارته الجيب وبجواره
كروناور. وفجأةً تعجز السيارة عن التقدم في طريقها نتيجةً لتكدُّسٍ فظيع لشاحنات الجيش
الأمريكي التي عطَّلت حركة المرور، بسبب المناورات التي تُجريها. وسرعان ما يجتاح الواقع
العسكري كلَّ مجالنا الروائي. فكأنَّ الجنود الذين شاهدناهم من قبل — ولكن على بُعدٍ
وخارجَ
نطاقنا — وهم منفعِلون بصوتِ مقدِّم البرامج، قد قرَّروا الالتقاء معًا في هذا الحشد؛
لكي
يتمكَّنوا أخيرًا من رؤية بطلنا. وقد تمَّت تهيئةُ كلِّ ما يلزم لتحقيق ذلك اللقاء؛ إذ
توقفتْ فجأةً الشاحناتُ بحمولاتها من الجنود، وباتت تُحيط بالسيارة الجيب التي يستقلُّها
النجم. وجرى توزيع المشاهِدين الخاصين بالشاشة في المحيط المباشِر للمُشاهَد (بفتح الهاء)
الرئيسي، حسب المصطلحات السينمائية، استعدادًا للاعتماد على لقطات رد الفعل. وتلك هي
البنية
التداولية للمَشاهد التي تضمن التوصُّل إلى الهدف بكلِّ تأكيد. وقد برع بشكلٍ خاص في
استخدام تلك البنية والت ديزني، المصاب بهوس لقطات رد الفعل. ولعلَّنا نذكُر جميعًا
الحيوانات التي خرجتْ من كلِّ فجٍّ في الغابة المسحورة في فيلم الأميرة والأقزام السبعة
(۱۹۳۸م) لتتحلَّق حول البطلة وترنو إليها معًا بحدب، وكذلك كلٌّ منها على حِدَة. وسيُعيد
ذلك إلى أذهاننا أيضًا مختلفَ النظرات التي أملوها على مارلين مونرو.
ووفقًا لمَا تقتضيه متطلبات الرواية، يتولَّى جارليك المتخصِّص في إلقاء النظرات على
بطلنا، يتولَّى مهمة إجراء التعارف بين مقدِّم لبرامج والجنود، فيقف داخل السيارة ويرفع
عقيرته ويضاعف من حركاته؛ لكي يتعرف الجنود على النجم الذي اقتحم مجالهم دون أن يدروا.
والواقع أنَّ جارليك يعمل جاهدًا ﻟ «ربط» الوثائقية بلقطة ردِّ الفعل؛ لكي تسير الرواية
قدمًا على خير وجه. ولم تكُن الحركة الهزلية، التي طبعتْ شخصية الكابتن بطول الفيلم،
بريئةً
في حدِّ ذاتها؛ لأنها كانت أيضًا مسألة «ربط»، فمن عادات جارليك السيئة التي لا يتمكَّن
من
التخلُّص منها، أن يُدير مفتاح تشغيل محرك السيارة، مع أنَّ المحرك يدور أصلًا؛ ممَّا
يثير
موقفًا كوميديًّا بسبب الصرير الناجم عن هذه العملية. ولو تمعَّنا في الأمر لاتَّضحتْ
لنا
حقيقةُ دور جارليك في القصة المقدمة لنا. إنه دورٌ تافه في الواقع؛ لأنَّ المحرك يواصل
دورانه والسيناريو يؤدي مهمته ومقدِّم البرامج مهيمن على الموقف بنبراتِ صوته وبالصور
والموسيقى، دون أن يكون لجارليك أيُّ دور في ذلك. فعلى صعيد العناصر الأساسية التي تحكُم
تعاقب الأحداث، ما كانت القصة لتفتقد أيَّ جانبٍ مهمٍّ منها لو لم يكن جارليك موجودًا،
وهو
شيء مثير للحرج؛ لأنَّ جارليك زنجي. غير أنَّ جارليك يصبح مهمًّا للغاية من المنظور
السينمائي (وفقًا لنظام السينما الأمريكية بالطبع) لاستدراج المتفرجين نحو السيناريو
وربط
الشاشة بالقاعة، وفي المقام الأول لدعم الجانب الروائي بالواقع الوثائقي، ممَّا يؤكِّد
على
أيَّة حال أنَّ الزنوج يواصلون أداءَ دور السيور المتحركة التي تحقِّق النفوذَ الأبيض
في
مجال الفنون السينمائية والاستعراضية.
وعليه، يحاول جارليك جذْبَ أنظار الجنود الأمريكيين، دون أن ينجح في البداية. وفيما
عدا
المتفرجين في القاعة الذين يحتاجونه للعثور على بطلهم، لا يبدي أحدٌ اهتمامه بجارليك،
لا
مقدِّم البرامج المنطوي على نفسه وهو قابعٌ في مقعده وعيناه غافلتان، ولا العسكريون
الجالسون في صفوفٍ على دكك الشاحنات، دون أيَّة فكرةٍ عن تواجُد النجم على مقربةٍ منهم.
ويتعيَّن على جارليك أنْ يتمادى؛ فيجبر كروناور على إطلاق صيحته الإذاعية التي جعلتْ
شهرته
تطبِّق الآفاق: «جود … مور … ننج ﻓﻴﺘ … ﻨﺎم!» لكي تنطلق العصا السحرية للقطات رد الفعل
السينمائي. وعلى الفور، يتعرف الجنود على بطلهم؛ فيشتركون معنا في الرواية وتنصبُّ أنظارهم
على كروناور، أولًا في كُتلٍ متجمِّعة، ثم في حمولاتِ الشاحنات، ثم موزَّعين في لقطاتٍ
فردية كبيرة. وبمجرد اتجاه أنظار الجنود نحو البطل الذي استدلُّوا عليه، سيميل جارليك
إلى
الاختفاء بعيدًا عن حركة ردود الأفعال التي ستحكم إيقاع المشهد. وهو لا يظهر إلا في لقطاتٍ
قليلة صامتًا ومستقرًّا في مكانه، إلى جانب بطله الذي استعاد نشاطه. لقد أدَّى دوره كتابعٍ
مكلَّف بمواصلة السرد، وبإسعاد المتفرجين في القاعة، وبُوسعه الآن أن يترك المجالَ ليعود
إلى مقعده في السيارة قريرَ العين وسعيدًا بقسمته.
لقد تسربت الدقائق العشر التي استغرقها لقاءُ مقدِّم البرامج مع العسكريين داخل الرواية،
وتميزت باستراتيجيتها المثيرة للإعجاب وبفاعليتها السينمائية؛ فسيهيمن النجم على مجالنا
من
خلال مسلسل نظرات المعجبين المحيطين به في مجال الشاشة، حتى إن الواقع العسكري سينصهر
مع
أدائه. فعلى أثر صيحة «صباح الخير يا فيتنام» تنتظم حركتان متوازيتان، كلٌّ منهما مقابِلةٌ
للأخرى، ثم سرعان ما تختلطان معًا: حركة الواقع العسكري الذي تخلَّى منذ لحظات عن لامبالاته
الوثائقية، وحركة الرواية التي أفاقتْ من سُباتها المؤقَّت (حيث كان النجم في غفوة) لتتصل
بالواقع. وبقَدْر ما تتميز ردودُ فِعل الجنود الأمريكيين إزاء نجمهم بتفرُّداتها حسب
أصولهم، بقدر ما يندمج النجم أكثر فأكثر في دوره كمقدِّم برامج. ومع تخلُّص الأفراد من
هُويتهم الوثائقية المجهولة واكتسابهم وزنًا واحتلالهم مجال اللقطات وبروز ردود أفعالهم،
بمشاركتهم في الرواية، تتصاعد انطلاقةُ النجم ويزداد تألُّقًا في أدائه.
والحقُّ أنَّ روبن ويليامز لم يؤدِّ أبدًا دورَه كمقدِّم برامج على مثل هذا المستوى
المتفوِّق، إلا في ذلك المشهد الذي تدور أحداثه خارج استوديو التسجيل الإذاعي وفي حضور
المستمعين. فهو يعوم في مياهه، كما تتوفر له إمكانية تحقيق حُلم كلِّ ممثل سينمائي مؤمن
بمنهج ستراسبرج، أي تجنُّب الانزواء في إطار الشاشة، وكسر الحائط الرابع والتشبث بواقع
القاعة. فبإمكان ويليامز امتطاء صهوة هذا الواقع، وإظهار مهارته في القفز والتشقلُب.
وهو لم
يعُد ملزَمًا بمحاكاة واقع الحرب ليتأكد من مدى تعرُّضه للمقاومة، كما لم يعُد مُرغمًا
على
إقحام ردود فِعل مستمِعيه من الجنود بالدقِّ على ميكروفونه والتحرك فوق مقعده والرقص
في
غرفة التسجيل، فجنود فيتنام «الحقيقيون» (الذين تسربوا عن طريق بدائلهم في لقطاتٍ كثيرة)
موجودون هنا أمامه بلحمهم ودمهم. ولمَّا كان ويليامز متعطِّشًا إلى الواقع، وفي حاجةٍ
مُلحَّة إلى الارتواء بالحقيقة المجسَّدة أمامه لكي ينطلق بالشخصية التي تقمصتْه، فإنه
لا
يكتفي بنظراتِ الإعجاب التي يحيطها به المستمعون إليه، بل يبادر بتوجيه أسئلته للجنود
ويدفع
حوالي عشرةً من بينهم إلى التقدم، كلٌّ بدوره على حِدَة؛ لكي يُعلن اسمه ويذكُر مكانَ
ميلاده، ممَّا يُفصح عن تعبيراتِ وجهه وجرسِ صوته. وهكذا يستخلص النجم من بين الجمع العسكري
خاماتٍ تصلُح لشدِّ الانتباه إليه، من خلال أفرادٍ ذوي هوياتٍ متميزة، يجذبهم لمشاركته
في
الرواية، في لقطاتٍ كبيرة يعتمد عليها ويرتبط بها، وينتشر من خلال اللقطات التي يظهر
فيها.
فهذا الجندي القادم من تكساس يوحي إليه بمحاكاة لكنة أهالي تكساس بطريقةٍ هزلية. وهو
يندمج
في ذلك للحظةٍ قصيرة ليعود إلى أدائه الأساسي، ثم يعتمد بعد ذلك على جندي من ولاية فيرجينيا
لينطلق بإيماءةٍ مضحكة بلهجةِ الجنوب الممطوطة ليهبط مرةً أخرى. وهو يستغلُّ أبرزَ جوانب
اللقطات الكبيرة التي تعدُّ له خصوصًا، كما لو كانت ثمارًا ناضجة تقدَّم له على طبقٍ
من
فِضَّة: الإعجاب الساذج من جانب أحدهم، والوطنية السليمة الطويَّة التي يُبديها آخَر،
والتهيُّب من جانبٍ ثالث. بل إنه يستغلُّ تهتهة أحد الجنود؛ لكي يقدِّم «نمرة» كوميدية
يقلِّد فيها تعبيرات وجه الجندي وطريقته في النطق.
لقد خرج الجنود الأمريكيون إذن من ثكناتهم ومن ساحات المعركة، واقتربوا من النجم الذي
يهدِّد بترك مجال الرواية؛ فهيَّئوا له، بإيعازٍ من مندوبنا جارليك، الفرصةَ للانطلاق
قدمًا
في القصة التي توقفتْ مؤقَّتًا. وتلك هي البنية التي تقوم عليها أفلام رعاة البقر، ذلك
النمط الأساسي في السينما الأمريكية. وبمجرد استعادة كراونر لمركزه كمقدِّم للبرامج،
بدعمٍ
من حوالي ثلاثين لقطة رد فعلٍ متتالية، وإثبات أنَّه مهيَّأ بما فيه الكفاية للحظةِ التحول
المنتظَرة، تبدأ الشاحنات في التحرك بضجيجها المعهود، فتجتاح المجال من جديدٍ اللقطاتُ
الجامعة في بداية المشهد. وفي خِضَم تلك اللقطات الوثائقية الجامعة، التي يعود من خلالها
الجنود الأمريكيون إلى لامبالاتهم بالرواية وينكبُّون من جديدٍ على أعمالهم، يظهر الكابتن
جارليك مرةً أخرى بوجهه الباسم والهادئ. لقد استعاد هو أيضًا دوره أمام مِقود السيارة،
وهو
يعلم كما نعلم — نحن المتفرِّجين — أنَّ بطلنا سيعود بعد قليلٍ إلى موقع عمله وميكروفوناته
لتقديم برامجه.
لقد تعرضنا هنا لأحد المشاهد الأشدِّ إفصاحًا عن الديمقراطية الشعبوية الأمريكية،
والمعبِّرة سينمائيًّا على أحسنِ وجه عن شعار: «من الشعب، وبالشعب، ومن أجل الشعب.» المنصوص
عليه في الدستور الأمريكي، والذي تشبَّث به الممثِّل الأمريكي رونالد ريجان؛ لكي تعتمد
شخصيته كرئيسٍ للولايات المتحدة. ولا يستطيع الممثِّل روبن ويليامز أنْ يعبِّر تمامًا
عن
شخصية كروناور وأن يؤدي دوره كمقدِّم للبرامج بالشكل المناسب والصحيح إلا وسط الجنود
الأمريكيين الذين يثبتون له بانفعالاتهم المتعددة أنَّه البطل الملائم الذي سيحقِّق ما
يتوقعونه منه.
لقد أعادتْنا دراسة لقطة رد الفعل السينمائية باستمرار، إلى رد فِعل المتفرج إزاء
الشاشة
أو تفاعُله معها، الذي يسوقنا بدوره إلى ملاحظة التبادلات الديماجوجية للغاية بين الواقع
والخيال. فكلُّ شيء يُسهم في نهاية المطاف في جعل ما تحقِّقه السينما الشعبية الأمريكية
إنتاجًا صناعيًّا يقيم علاقة «حسن جوار»، حسب التعبير الأمريكي الشائع، مع الواقع الأمريكي
فيحاكيه ويحميه، بل ويحتمى به أيضًا. حتى إن الفن السابع الأمريكي غدا أشبه «بالبطانة»
الأيديولوجية التي تتدثر بها الولايات المتحدة.
والمؤلَّف المهم «أمريكا المصنوعة سينمائيًّا» لكاتبه روبرت سكلار، يوضِّح لنا بالأخص
أنَّ إنتاج فيلمٍ في استوديوهات هوليود، لا يختلف أبدًا عن إنتاج سيارة في أحد مصانع
ديترويت. ولمَّا كان الفيلم الأمريكي عِبارةً عن إفراز تقني مباشر للمناخ الاجتماعي
والثقافي الأمريكي؛ فإن النجم السينمائي يتواجد بلا انقطاع في لقطات رد الفعل. وكلما
زاد
اكتساح تلك اللقطات للمجال، تضاءلتْ بالتبعية المسافةُ بين الممثل والدور الذي يؤديه.
ولقد
قال آرثر ميلر في حديثٍ إذاعي أُجري معه بمناسبة صدور كتابه «مذكرات»: «لم تكُن هناك أيَّة
فجوةٍ ولو ضئيلة بين مارلين مونرو المرأة ومارلين مونرو النجمة.»
وقد تعرضنا بإسهابٍ لتحويل الممثل إلى نجم، بواسطة رد الفعل الذي يتعيَّن أن يتغلغل
في
واقع الأحداث الوثائقية؛ لكي تظلَّ أنظار القاعة معلَّقة بالشاشة. ويهمُّنا أن نعرف الآن
أنَّ سينما لقطات رد الفعل، تحصر نفسها بحُكم بنيتها هذه في شكلٍ من المونتاج العرضي،
يسود
فيه ما أُسمِّيه رقابةً مفروضة في كلِّ لحظة على الحيز البديل الذي يستعاض به عن
النجم.