الفصل التاسع
الرقابة الصارمة المفروضة على البطل
كان لمسلسل روكي، ولا يزال، تأثيرٌ هائل على الشباب، عن طريق البثِّ
التليفزيوني. وقد امتدَّ ذلك على مدى عَقد، كما أنَّ حلقات هذا المسلسل ظلَّت تظهر على
التوالي مرةً كلَّ ثلاث سنوات: روكي ۱ (م۱۹٧٦)، روكي
۲ (۱۹۷۹م)، روكي ۳ (۱۹۸۲م)، روكي
٤ (١٩٨٥م) (ملحوظة: تم إنتاج روكي ٥ بعد صدور هذا
الكتاب بالفرنسية، بعد ست سنوات، في عام ۱۹۹۱م). وقد حقَّق روكي ۱
نجاحًا كبيرًا في قاعات العرض، في فترةٍ راح يتزعزع فيها مركز أفلام الكوارث. وهذه السينما
التي تعرضنا لها جزئيًّا، من خلال سلسلة أفلام المطار، أطلق عليها بعض
النقَّاد الفرنسيين تسميةَ «سينما التشبث بالحياة». وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ هذه التسمية
تعكس المحاولات التي بذلها عبثًا أبطالُها المنهَكون والطاعنون في السنِّ، لإنقاذ ما
يمكن
إنقاذه والحفاظ على شذرات عالَم لا يعرف إلى أين يتَّجه، وساهمتْ في زعزعة أركانه أفلام
الهيبيز المتمرِّدة على التقاليد. أمَّا أفلام سلفستر ستالوني، فقد أحيتْ من جديدٍ البطلَ
الخالص والبسيط، واستعادت له مركزه فهو البطل الذي يحقِّق الوحدة عبْرَ الأفلام الأربعة،
ويقتفى أثر الرواد الأوائل، وينطلق مثل الجواد الجامح حتى يبلغ الأراضي السوفييتية.
ولقد سبق أن تناولتُ في محاضرة ألقيتُها في ندوةٍ نظَّمها اتحاد كيبيك للدراسات
السينمائية، سلسلةَ أفلام روكي من منظور أسطورة الحدود والاندفاع نحو
«الغرب»، الذي قال عنه فريدريك جاكسون ترنر في بداية مؤلَّفه القيِّم الحدود وتاريخ أمريكا:
«إنه يلقي الضوء على تاريخ الولايات المتحدة.» وأودُّ أن أتوسَّع هنا في بعض الأطروحات
التي
عرضتُها آنذاك؛ بُغيةَ معالجة لقطةِ رد الفعل بوصفها حيلةً لفرض الرقابة على البطل. ففي
بداية المسلسل، يكون روكي بالبوا مجرَّد ملاكِم قليلِ الشأن يشارك في معارك الشوارع
بالأحياء المشبوهة في فيلادلفيا. ولم يكُن اختيارُ ستالوني مدينةَ فيلادلفيا، كموقعٍ
تدور
فيه أحداث فيلم روكي، ابنَ الصُّدفة؛ فهي مركز الانطلاقة الكبرى، فسُميت لذلك «أثينا أمريكا
المستوطنة»؛ لأن الدستور الأمريكي تمَّت صياغته فيها.
ويتعيَّن أن نلاحظ إلى أي مدًى تكشف المَشاهد الأُولى من روكي ۱، حيث يتعامل البطل مع
العالَم المشبوه المحيط به، عن الانحراف المصاحِب للاندفاع نحو الغرب. فهذه الحركة التي
تتغذَّى بديناميتها، تنحرف بالشعور القومي لصالح الفردية ليس إلا. وعصابات السطو والنهب
—
الحقيقية منها والسينمائية، سواءٌ عصابة ريتشارد نيكسون، أو عصابات القيصر الصغير (١٩٣٠م)،
وعدو الشعب (۱۹۳۱م) — هي الشرُّ الذي لا مفرَّ منه وسطَ التقدُّم المنشود والديمقراطية، في
خِضَم الصحاري الموحِشة والانطلاق نحو «الغرب». وبعبارةٍ أوضح، فإنَّ عقلية السطو
المتغلغِلة في صفوف العصابات الأمريكية، ترجع إلى الفردية المفرِطة في أنانيتها والمناقِضة
للمُثُل العليا الأمريكية، التي تجسدها فرديةٌ أخرى متأقلِمة مع المجتمع. ويتعرَّض بالبوا
في بداية المسلسل لخطرِ التردد في تلك الفوضوية التي يتمسَّك بها خصمه في روكي ٣، الذي
سيتغلب على بطلنا في منتصف الفيلم. إنه ملاكم متوحِّش يعتبره المدرب ميكي «سفَّاحًا»
و«سُبَّة في جبين محترفي الملاكمة» وفردًا منعزلًا لا تلقى النتائج التي يحقِّقها أي
تشجيع.
وسرعان ما يسلك روكي الطريق المستقيم المؤدِّي إلى التقدم، من خلال الصراع المشروع
الذي
يؤيده المجتمع ويتحمس له. وابتداء من اللحظة التي انتزع فيها الملاكِم نفسه من الشوارع
الضيِّقة والمُعتِمة في أحياء فيلادلفيا السيئة السمعة، وتولَّى فيها المدرِّب الرسمي
مهمةَ
الإشراف على تمارينه وفقًا لقواعد واضحة ومعترَف بها من الجميع. ستظلُّ ردود الفعل على
الشاشة ابتداءً من الثلث الأول من أول أفلام المسلسل، وبلا انقطاع حتى المشهد الأخير
من
روكي ٤، مكرَّسةً لمساندته في صراعه من أجل الفوز ببطولة العالَم
في الملاكمة. ويتحتَّم بالتالي أن يحقِّق أداء روكي البطل تقدُّمًا مستمرًّا لقطةً بعد
لقطة
ومشهدًا بعد مشهد، بحُكم ردود الفعل المتعددة والمتنوعة التي تُبديها شخصيات الشاشة المحيطة
به. وكلُّ ذلك في خطٍّ مطَّرد ونموذجي يستبعد أيَّة فجوة كانت بين العلة وانعكاسها المباشر.
وعليه، فإن ردود الفعل إزاء ما يُقدِم عليه روكي، تتنقل على الدوام بين اللقطات الكبيرة
المتميزة لزوجته أدريان، واللقطات الجامعة الجمهور، مرورًا باللقطات المقرَّبة للمدرب
ميكي،
وزوج أخت البطل بولي والخصم الذي لا بد وأن يسقط طريحَ الأرض في الحلبة؛ مما يضفي قدرًا
من
المسئولية الاجتماعية والقومية على إنجازات البطل وانتصاراته. ويخيَّل لي أنَّ نظام المجال
المقابِل المخصَّص لردود الأفعال التي تؤمِّن المصداقية لمجال البطل، يشكِّل في صميمه
نظامًا للرقابة المشدَّدة. والواقع أنَّ لقطات رد الفعل تفرِّغ أعمال البطل فيما يشبه
العَقد الاجتماعي؛ إذ إنَّ تلك الأعمال تسجَّل له في إطار تقييم المجتمع لها وتصديقه
عليها.
ويتأكَّد هنا ما سبق أن عرضتُه، وهو أنَّ العلاقة بين المجال والمجال المقابِل هي التعبير
السينمائي عن الفردية السينمائية الأمريكية، التي يتوجب قسرًا أن يحدَّ من غلوائها كلٌّ
من
المساعدات المتبادَلة ووشائج حُسن الجوار. فلولا الفوز في ظِل تكافؤ الفُرَص، في ظِل
تعدُّد
الأجناس في الولايات المتحدة، لمَا أمكن بناء صرح الأمة، والبديل هو التردي في فوضى
الهمجية.
وحلبة الملاكمة هي المحور الذي يدور حوله مسلسل أفلام روكي. ولقد
تجلَّت هنا الغريزة الفريدة التي تميَّز بها سلفستر ستالوني، كاتب السيناريو والمخرِج
والممثِّل الرئيسي. والحقُّ أننا بصدد «غريزة» فيما يتعلَّق بستالوني. ألَمْ يكرِّر مِرارًا
في أحاديثه أنَّه لا يعمل بالسينما إلا لأنَّ ذلك يسعده، مع اقتناعه في الوقت نفسه بأنَّ
ما
يُسعِده سيسعد الجميع بالضرورة؟ وتتبلور في حلبة الملاكمة كافَّة مَشاهِد أفلام روكي وهي
تلملم هزائم وانتصارات البطل في حياته اليومية وفي فترات تدريبه الشاقِّ والمتراخي؛ ففي
كلِّ مشهد من مشاهد الملاكمة في الحلبة، وبالأخص المشهد الأخير من كلِّ فيلم من الأفلام
الأربعة، نجِدُ المرحلتَين اللَّتَين تحدِّدان إيقاع المسلسل بأَسْره: المرحلة السلبية
التي
يتلقَّى فيها البطل الضربات (مرحلة التشبع)، والمرحلة الإيجابية التي يكيل فيها الضربات
(التحوُّل). فالحلبة هي الموقع الذي يتحقَّق فيه جوهر البنية الثنائية الأمريكية للمجال
والمجال المقابِل، وكذلك فإنَّ الشخصيات المتميِّزة (أدريان وميكي وبولي) المتواجِدة
على
مشارف الحلبة، تشكِّل في الواقع بردود أفعالها مندوبينا الأقدر على إقناعنا. لقد لاحظنا
آنفًا الخطرَ الذي يتهدَّد روكي في بداية المسلسل، ألَا وهو أن ينساق وراء لاشرعية العصابات
المتخفِّية بعيدًا عن الأنظار. ويجب أن نشير بهذا الصَّدد إلى أنَّ الأمة ليست في حاجةٍ
فقط
إلى عرض وإبراز الغرائز الهمجية عند البطل، ولكنها تحتاج أيضًا إلى نقلها وإعادتها إلى
حيز
رحب، أركانه متفتحة تحت سمع وبصرِ المجتمع كلِّه. ومع أنَّ الإطار السينمائي لحلبة الملاكمة
يعتبر إلى حدٍّ ما حيزًا محدودًا، بل ومغلقًا، إلا أنه — في الواقع — حيزٌ اجتماعي. فحلبة
الملاكمة مجالٌ يبرر لنا همجية البطل؛ لأنها همجية خاضعة لرقابة الأمَّة من خلال المجال
المقابِل. فالضربات التي يكيلها روكي لها انعكاساتها عند الجمهور من خلال مندوبينا الذين
يمهرونها بالختم الرسمي والديمقراطي.
وينصبُّ الجهد الرئيسي للقطاتِ رد الفعل، في كلِّ المسلسل، على ترويض همجية البطل
واستئناس «نظرة النمر» التي يتميَّز بها. والحق أنَّ اختيار تسمية «عين النمر» كعنوانٍ
ثانوي للنسخة الفرنسية من روكي ۲ كان موفَّقًا. ويتضح لنا بالتحليل أنَّ الأفلام الثلاثة
الأخرى، وليس الفيلم الثاني وحده، تشكِّل في مجموعها ترويضًا حقيقيًّا لنظرة البطل عن
طريق
لقطات رد الفعل. كما يتعيَّن أن نستخلص بعضَ سمات الطبيعة الهمجية المميِّزة لتلك الأفلام،
ومقابلها المتمثل في براءة البطل الفطرية. فسيتيح ذلك الفرصةَ لتحديدٍ أفضلَ للمجال الذي
يعيش فيه روكي، قبل التطرُّق إلى تحليل لقطات رد الفعل المكلَّفة بمهمَّة نقْلِ البطل
إلى
داخل ذلك المجال.
فهناك مجموعة من الحيوانات مرتبطةٌ بشخصية بالبوا: الكلب الضَّال المصاحِب للملاكِم
الذي
يوجِّه له الحديث، والنمر المرسوم على ظَهْر الصِّديري الذي يرتديه، ونَمِر حديقة الحيوان
الحقيقي البادي وراء ظَهْره والذي يستشهد به في اللحظة التي يطلب فيها الزواج من أدريان،
والسلحفاتان اللتان يحتفظ بهما في مسكنه وأسراره التي يسِرُّ بها إليهما. وهناك أيضًا،
وقبل
المواجهات في الحلبة، رجوعه إلى ماضيه في البرِّية، وتلك «تِيمة» متواتِرة في السينما
الأمريكية، خاصة في أفلام رُعاة البقر والحرب؛ نجِدُ أنَّها «لازمة» في سياق أفلام فرانك
كابرا. وهكذا تعرض علينا من خلال مونتاجٍ سريع صُورًا متداخِلة أشبه بالكليشيهات، تربط
بينها موسيقى عسكرية؛ لإفادتنا بأنَّ روكي ينتمي أصلًا إلى تقاليد الروَّاد الأوائل،
فهو
يقطع الأشجار ويحمل على كتفه كُتل الخشب، ويحرث الأرض، ويخوض في المستنقعات، ويتخطَّى
العوائق ويتسلَّق الجبال. غيرَ أنه توجد لدى هذه الشخصية سماتٌ تتجاوز الأُلفة التي تجمع
بينه وبين الحيوانات، أو إحساسه بالحاجة إلى استطلاع الأرض والتغلُّب على الطبيعة
المُوحِشة. فهناك خلْفَ القناع الهادئ والمُرَوض لوجهه الجامد (فمارلون براندو هو النموذج
بالنسبة لستالوني) يكمن غضبٌ مكبوت، سيتراكم في نظراته تحتَ التأثير المزدوج للضربات
التي
يكيلها له خصومه في حلبة الملاكمة، ولقطات رد الفعل في المجال المقابل لمجاله، وينصبُّ
بوحشية على الخصم الذي يتحتَّم التغلب عليه. وهذا الغضب هو الذي يحدِّد تحرُّكه قدمًا
ويقرِّره، كما يقرِّر أيضًا التواصلَ بين اللقطات والمَشاهِد.
والهمجية التي يتشرب بها روكي لكي يتدرب، تردِّنا إلى نقيضها المتمثل في الحضارة؛
فالبطل
الذي كان على وشكِ التردي والانسياق وراء اللصوص ومعارك الشوارع، مُعرَّض الآن للانغماس
في
البذخ عن طريق المعارك الكبرى التي يحقِّق فيها النصر. ولذا فإنَّ نظرات كلٍّ من المقرَّبين
إليه في اللقطات الكبيرة والمحيطين به في اللقطات المتوسطة والجمهور الصاخب في اللقطات
الجامعة، تقوم بدورٍ رقابيٍّ مزدوج، فهي مكلفة بالانفعال بحيث لا يتمكَّن من ترك مجاله،
لا
من أسفل، في المجال الخارجي الذي تحتله البهيمية الأنانية والفاجرة؛ ولا من أعلى، في
المجال
الخارجي للرفاهية والاستكانة. ولقطات رد الفعل مهيَّأة له طوال الوقت اللازم سواءٌ في
مشاهد
الليل أو النهار؛ لكي يظلَّ يقِظًا وفي كامل لياقته البدنية. ولمَّا كانت الوحشية ونقيضتها
الحضارة تتنازعان روكي في آنٍ واحد، فإنه يتعيَّن عليه أن يتوصَّل إلى طريقٍ وسط بينهما.
ويخضع روكي خلال الأفلام الأربعة لرقابة شخصيتَين، كلاهما مندوبٌ له الأولوية بالنسبة
للمتفرِّجين. فهناك من جهة المدرب (ومثله على التوالي: ميكي، ثم أبولو كريد، وأخيرًا
دوك
المدرب الزنجي السابق لأبولو). وهو يتميَّز بقسوةِ سلوكه وخشونة ألفاظه بالرغم من تباهيه
بالتمسك بقواعد الملاكمة، ويجتذب البطل نحوَ الوحشية البربرية، ومن الجهة الأخرى بولي
—
شقيق زوجته المعبودة — الذي يجتذبه نحو الحضارة المقيتة ببدانته المترهِّلة وجلسته الخائرة
ونزوعه إلى إدمان الخمور. وتقف هناك في الزاوية الأخيرة للمثلث، بين زاويتَي الوحشية
والحضارة وأمام روكي، كملاذٍ أخير في مواجهة المتفرِّج؛ الزوجةُ أدريان التي ستنجح في
تحاشي
بربرية الوحشية والاستسلام للحضارة بحبِّها له ونظراتها المشجِّعة، وبالطفل الذي لا تزال
تحمله في أحشائها في روكي ١، والذي سيكون عونًا لها في اللحظات
العصيبة في الأفلام الثلاثة التالية. وهكذا ستنجح أدريان في تمرين «عين النمر» على
الاستقرار بشكلٍ لائق «وأمريكي»، وتجنُّب بربرية الوحشية أو الارتماء في أحضان الحضارة.
وقد
سبق أن شاهدنا تلك البنية الثلاثية التركيب في فيلم سان فرانسيسكو.
وبالطبع لا يمكن أن تكون النهاية السعيدة من نصيب خصوم روكي؛ فالملاكِم الزنجي في
روكي ۳ وحشٌ يعيش على انفراد فارضًا نفسه على الرياضة المشروعة
دون رقابة أو موافقة المجتمع، فهو إذن في صفِّ الوحشية البربرية. أما الملاكم الروسي
دراجو
في روكي ٤، فهو إنسانٌ بلا قلبٍ؛ نِتاج للحضارة السوفييتية.
ويتعيَّن أن نتعرَّض في عُجالة لموضوع الحضارة. فهناك خوفٌ غريزي في البرجزة (نسبةً
إلى
البُرجوازية)، يوجِّه أفلام الملاكمة الأربعة نحوَ المفاهيم التطهُّرية الأمريكية الحريصة
على التقشُّف والمتمسكة بالأخلاق القومية؛ فخوف البطل روكي من التراخي الذي يضع حدًّا
لمواصلة مسيرته بالركون إلى الرفاهية والثراء، مع أنهما النِّتاج المشروع للانتصارات
التي
سجَّلها في حلبة الملاكمة، يتمشَّى تمامًا مع ما نجِدُه في نصوص الروَّاد الأوائل بخصوص
التعرُّض لعدوى الانحطاط الأوروبي. وهذا ما نجِدُه برمَّته حتى الآن في مواعظ الأصوليين
الأمريكيين الحاليين؛ فالمسافة الشاسعة التي كان المحيط يساهم بها في الماضي، في الفصل
بين
طهارة العالَم الجديد وفساد العالم القديم، لا تزال قائمةً في رأي المؤسسات المتزمِّتة.
وإذا كان المتوجِّس من الحضارة، لا يزال شائعًا في الولايات المتحدة، فإنما يرجع ذلك
إلى
اعتماد الرأسمالية المثالية الأمريكية في مبادئها على أفكار روسو وداروين والمسيحية،
بل
ويسوع نفسه الذي دعا تلاميذه إلى أن يتركوا ثرواتهم ويتَّبعوه. وقد تحولتْ هذه الدعوة
وغيرها، كما كتب يقول رودريك ناشئ في مؤلَّفه «البرية والعقلية الأمريكية»: «عندما تنقضُّ
عليك أنوار الحضارة، ارحل إلى الغابة المتوحشة.» وفي كلِّ مرة يميل فيها روكي إلى التمتع
بالرفاهية التي توفِّرها له الإمكانات المادية وتركن عيناه إلى الراحة، يأتي فورًا ردُّ
فعلِ مندوبينا المراقبين المتربِّصين. وعندئذٍ تكون من نصيبنا بضعُ خطبٍ قصيرة لحثِّ
بطلنا،
مدعومة بنظراتٍ قوية موجَّهة إليه، ويلقي هذه الخطب تارةً المدرِّب الذي يُدرك تمامًا
أنَّ
مواصلة التدريب غدتْ مهددة، وتارةً أخرى الزوجةُ التي تحسم الموقفَ بكلماتها القليلة
المفحِمة، وتدفع الملاكم بالطبع إلى مواصلة أداء رسالته لصالح المجتمع. وهذه الخطب المصحوبة
بلقطاتِ رد الفعل تحاصر معها مجالَ البطل من كافة الجوانب، وتجيء في الوقت المناسِب؛
لتوقظ
نظرته التي كانت قد خبَتْ مؤقَّتًا، وراحت تدور من اليمين إلى اليسار في حركةٍ بانورامية
لتتفحص الأثاثَ الفاخر أو المدينة الضَّالة. وستسترد هذه النظرة بريقها تدريجيًّا، بل
ستقسو
وستتركز على الأفق دون أن يطرف لها جَفن، بينهما تنتفخ عضلاته من جديد استعدادًا للمواجهة
المرتقَبة في الحلبة.
وتترادف مع هذه المواعظ الأخلاقية والأيديولوجية لقطاتٌ جامعة تستعرض بذخَ بيت البطل
البرجوازي «الواصل»، كما أنَّها تغدو في الواقع مجالاتٍ مقابِلةً مخالفة للمألوف، غريبة
في
نظَرِه، ومتناقِضة مع المجال الوحيد الذي يجب أن يشغله. وتوحي تلك اللقطات الجامعة للبذخ،
بالخطر الذي يتهدَّد روكي؛ لأنها تحاول أن تجتذبه لتروِّضه (والسينما الشعبية الأمريكية
كثيرًا ما تلجأ إلى ذلك النوع من اللقطات المتناقِضة) كما أنَّها تتضمَّن قدْرًا من
الازدراء لمحتواها، على عكس البذخ الاستعراضي الملاحَظ بهذه المناسبة في العديد من اللقطات
العامة للثراء المتكلَّف في الأفلام الفرنسية.
ومن جهةٍ أخرى، فإنَّ الأبحاث المنتظِمة تبيِّن إلى أيِّ مدًى يتواتر ويتأكَّد في
الرواية
الشعبية الأمريكية، وكذلك في الواقع الأمريكي، ذلك الخوف من الحضارة التي تدفع إلى
الاستكانة عن طريق الاستقرار والترويض. ويمكننا أن نلاحظ ذلك، بشكلٍ متوارٍ في ثنايا
خطابٍ
لروزفلت ألقاه، كما سبق أن أشرنا إلى ذلك، أثناء الأزمة الاقتصادية الكبرى؛ إذ قال: «لقد
بلغنا منذ أمدٍ طويل حدودنا الأخيرة. ويجب ألَّا نتوقف، بل يتعيَّن أن نواصل التقدم.»
وهذا
الخوف نفسه يتردد في خُطب ريجان، كما نجده بوضوح في روايات الكاتب الأمريكي هوراسيو ألجير،
الذي غدا فرانك كابرا وريثه الفكري المباشِر. ويتكشَّف لنا ذلك الخوف أيضًا في قصص
المغامرات التي كتبها جاك لندن. ففي رواية نداء الغابة التي نشَرَها في عام ١٩٠٣م، يعود
الكلب بوك إلى التوحُّش بعد أن كان قد تمَّ ترويضه جزئيًّا، على غرار راعي البقر في نهاية
أفلام الغرب. وإذا كانت رواية نداء الغابة قد لاقت نجاحًا شعبيًّا هائلًا، يفوق إلى حدٍّ
كبير رواجَ رواية الناب الأبيض التي صدرت بعد ذلك بثلاث سنوات، في ١٩٠٦م؛ فذلك لأنَّ
الرواية الأخيرة تتعلَّق بذئبٍ يتحول إلى كلبٍ مستأنس.
ولقد سبق أنْ قُلنا إنَّ المواطن كين يمكن اعتباره إنتاجَ هوليود الأكثرَ تعارُضًا
مع
الرُّوح الأمريكية. وكنا قد تطرقنا آنذاك إلى لاواقعية الشكل السينمائي للفيلم، غير أنَّ
التقنية التي استخدمها ويلز وتولاند، التي تشوِّه منظور الرؤية الدارجة للحيز، وتضرب
عُرض
الحائط بالتواصل الزمني والسببي؛ تعبِّر سينمائيًّا عن شخصية كين المغايرة للمألوف. فالخطأ
الأكبر الذي وقع فيه كين، بل خطؤه القاتل الذي يحُول دون أن ينطلق قدمًا، هو تمتُّعه،
على
انفراد، بنجاحه وثرواته التي يجمِّدها في قباء زانادو، دون عِلم المجتمع. وكين «غير
أمريكي»، شأنه في ذلك شأن أورسون ويلز، على أية حال؛ وعقليته تعود إلى عصر النهضة، ممَّا
يتعارض مع المثالية الرأسمالية الأمريكية. وفيلم المواطن كين خالٍ من المجالات المقابِلة
التي تصدِّق على حركة البطل الإيجابي الصاعد بمراقبتها والموافقة عليها. كما أنَّ هذا
الفيلم لا يمكنه أن يحقِّق «النهاية السعيدة» التي نعلم جميعًا أنَّها الأساس الأيديولوجي
للسينما الشعبية الأمريكية.
ويبدو لي أنه من الواضح أكثر فأكثر أنَّ الحركة المستقيمة والمتقدِّمة تدريجيًّا،
بلا
ثغرات وفي خطوات وئيدة، والحركة البندولية المترددة بين المجال والمجال المقابِل التي
تتيح
الإمكانية للمجال لكي يتشرَّب بشكلٍ آلي بلقطة رد الفعل، يبدو لي أنَّ هاتَين الحركتَين
اللَّتَين شاعتا بطريقةٍ طبيعية وسط صنَّاع الفيلم الأمريكي، ليست في التحليل الأخير
سوى
التسجيل والعرض السينمائي لحركة الانطلاق نحو الغرب من خلال أسطورة الحدود. ولكنْ ربما
كان
في ذلك بعض المغالاة، وأنه يتعيَّن أن نفكر على النحو الآتي: لم يكُن من الممكن أن تتجسَّد
الحركة السينمائية الممتدَّة في خطٍّ مستقيم، بمثل هذه القوة وذلك الدأب، إلا في الولايات
المتحدة؛ حيث تقرَّر التاريخ بأَسره بالحركة نحو الغرب وأسطورة الحدود. وعلى أيَّة حال،
لا
غرابة في أن يفرض نفسه في الأفلام الأمريكية، المونتاج المتناقض بين الفرد المتحرك
والمؤسسات الجامدة. أليس ذلك الإيقاع الثنائي للوحشية والحضارة الذي يحتلُّ موقع القلب
في
حركة الانطلاق نحو الغرب؟
هناك سينمائيون أجانب أدركوا بدقَّةٍ شديدة مغزى الحضارة عند الأمريكيين. فويم وندرز
الذي
اعترف في محاضرةٍ له في عام ١٩٨٢م، بجامعة لافال (كندا)، بأنَّ الفيلم الذي كان له أكبر
الأثر في نفسه هو رجلٌ من الغرب (١٩٥٨م) للمخرج أنتوني مان، يربط حركة بطل فيلمه باريس،
تكساس (إخراج وندرز، ١٩٨٤م) الأرعن والمنطوي على نفسه، بالتكنولوجيا الحديثة وبتفكُّك
العائلة. وتحمل الشخصية الرئيسية في هذا الفيلم اسمَ ترافيس، وربما لم يكُن ذلك محضَ
مصادَفة؛ فترافيس سائق التاكسي يهيم هو أيضًا في أدغال نيويورك كالمنوَّم، وهو يجنح نحو
الجنون والإجرام، بلا مساندةٍ من المجال المقابِل الذي ينظِّم الرقابة عليه. ويعبِّر
أنطونيوني بقوة في مشهدٍ مهمٍّ من فيلم نقطة زابريسكي (۱۹۷۰م) عن تمرُّد الشباب الأمريكي في
الستينيات على التمادي في الحضارة المتمثل في المجتمع الاستهلاكي. إنه مشهد لثورة غضب
عارمة
تتخيَّل فيه البطلة أنها تستمتع بقيامها بتفجير مقرِّ سكنٍ فاخر يمتلكه مليونير، وذلك
عن
طريق حركة انتقام بطيئة. ويبلور هذا المشهد بأسلوبٍ شاعري نزعةَ تدمير مظاهر البذخ التي
تجلَّت في العديد من أفلام تلك الحقبة.
وبوُسعنا الآن أن ندرس ردودَ فِعل أدريان، زوجة البطل التي نعلم أنها توفِّر التوليفة
المتناغِمة بين التوحُّش والحضارة. والواقع أنَّ أبرز ردود الفعل إزاء روكي، تبدو من
جانب
أدريان أثناء مباريات الملاكمة، وهي أكثرها مصداقية وتعبيرًا عن المشاعر العميقة للجمهور
الماثل في الشاشة، وبالتالي فهي الأقدر علي مسِّ مشاعر المتفرِّجين في قاعة العرض
السينمائي. ويتفق ذلك مع المنطق ومع عملية تحقيق الذات؛ فأدريان هي أقرب الناس لروكي،
حتى
إنها تنضمُّ إليه في المشاهد الحميمة الخاصة بمجاله. ولكنها مضطرة إلى الانعزال والبقاء
خارج مجال زوجها أثناء مشاهد المباريات، وإلى التخلي عن مركزها الخاص؛ ليحلَّ محلَّها
المدرِّب وأخوها. والاثنان يرافقان البطل في مشاهد المباريات؛ فالمدرِّب وبولي يضمَّان
جهودهما معًا لإيقاظ مجاله أثناء المباريات لإسداء النصائح له وتشجيعه، بَيْد أنَّ ابتعاد
أدريان الاضطراري يضاعف من وجودها، على عكس ما قد نتصوَّر فذلك هو قمَّة تكتيك ردِّ الفعل
الذي أثبَتَ كفاءته مع الثنائي ريجان ونانسي، وكذلك في مسلسل المطار، وهو يتمثَّل في إبعاد
الشخص الأقرب إلى البطل، بشكل مؤقَّت وغمسه لفترةٍ وجيزة وسطَ جمهور الشاشة المجهول الهوية،
حيث تنعكس انفعالاته على ردود فِعل الجمهور وتكتسب مزيدًا من المصداقية.
أمَّا الفجوة التي نلمسها بين وحشية المدرِّب وبرجزة بولي، شقيق أدريان، والتي تدفعنا
ردود فِعل أدريان إلى تجاوزها، فلا وجود لها في مشاهد المباريات. فالمدرب وبولي يضمَّان
جهودهما معًا لإيقاظ ومراقبة غرائزه الوحشية وحثِّه على كيل اللكمات لخصمه. وهما يعبِّران
بردود أفعالهما المتأجِّجة في اللقطات المقرَّبة عن الانفعالات الشعبية في اللقطات الجامعة.
وجدير بالملاحظة أننا لا نرى إلا فيما ندر عددًا محدودًا من أفراد جمهور الشاشة نفسها
وهم
منفعلون في لقطاتٍ مقرَّبة تساند بشكلٍ مرئي الصياح والتصفيق الشعبي؛ وذلك لأنَّ
المتفرِّجين الصامتين في قاعة العرض، هم الذين يجسِّدون ذلك التدفُّق الصاخب الصادر عن
جمهور الشاشة المجهولة هوياتهم. ولو تمَّ عرض هؤلاء بالتفصيل على مشاهدي الفيلم، لكان
ذلك
بمثابة احتلالهم لمحلِّ روَّاد قاعة العرض. وعلى حدِّ قول الكاتب الفرنسي أندريه مالرو
(ووزير الثقافة في فرنسا في عام ١٩٥٨م حتى ١٩٦٩م)؛ فإننا لا نحتاج إلا لأدمغةٍ كبيرة
لأدمغتنا الصغيرة في قاعة العرض الكبيرة والمظلمة. فالشخصية التي تعرض علينا جهارًا وبشكلٍ
مباشر، هي أدريان الجالسة وسط الجمهور أو في صالون بيتها أمام جهاز التليفزيون، وهي تستجمُّ
على أثر وضع طفلها (روكي ۲). ويتعيَّن أن نُشير هنا إلى ما قالتْه تاليا شاير التي أدَّت
دور أدريان، بخصوص أسلوبها في التمثيل: «أنا ألاحظ باهتمامٍ تصرفاتِ الناس في الشوارع،
وأحاول العثور عليها على الشاشة وأنا أسير أو أتكلَّم أو آكل. فمن السهل على الممثل أن
يصيح
أو يصرخ أو يبكي، ولكنْ من الصعب أن يعبِّر المرء عن كل ذلك، وعن كل ما يُقدِم عليه الناس
في حياتهم اليومية بالطريقة المناسبة وغير المرئية تقريبًا، وهذا ما أتمرَّن عليه.»
وتتَّسم دائمًا ردود أفعال أدريان إزاء أداء البطل روكي في مشاهد المباريات بالبساطة
والتحفُّظ؛ ما يتَّفق مع ما ترتديه من أزياء يسهل التعرف عليها، فهي من اللون الأحمر
الداكن
أو الأسود أو الأبيض، وخطوطها بسيطة وبلا بَهرجة. وهناك ثلاثة أنماط لردود فعل أدريان
تتفق
مع الأوضاع الرئيسية الثلاثة التي يواجهها روكي في الحلبة. فهي تحتفظ برأسها مرفوعًا
وانتباهها مركَّزًا على أبسط تفاصيل المباراة، كما لو كانت في حالة ترقُّب، عندما تكون
لكمات روكي وغريمه متوازِنة. وهي تخفض رأسها أو تنحِّيه قليلًا وتضع يدها على جبهتها
أو
تُغلِق عينَيها قليلًا (وتلك الإيماءة بالغةُ التأثير) عندما يتقهقر روكي ويُوسِعه خصمُه
ضربًا. وهي ترفع رأسها وتبتسم وترفع ذراعَيها أحيانًا وتصفِّق، بل يصل بها الأمر إلى
حدِّ
إطلاق صرخاتٍ سرعان ما تكتمها: «هيَّا»، «اضرب»، وذلك عندما تكون الغلبة لروكي. وتجِدُ
ردود
فعل أدريان صدًى لها في الأصوات الصادرة عن الجمهور والمتوافِقة مع أصوات المدرِّب وبولي،
ولكنَّ انفعالاتها تُضفي قدْرًا من التحضُّر على وحشيتهم. والواقع أننا نجِدُ عند مدربي
روكي الذين تعاقبوا على تمرينه ومدلِّكه بولي نفس أنماط ردود الفعل الثلاثة عند الزوجة،
ولكنها مجرَّدة من الرزانة والتحفُّظ اللذين تميَّزت بهما. فنظراتهما لا تحيد عن روكي.
وهما
يخفضان العينَين وينحيان الرأس ويرفع كلٌّ منهما ذراعَيه ويصفِّقان ويعلِّقان على ما
يدور
في الحلبة، ولكنْ بردود فعلٍ عنيفة ومحتدَّة، تعبِّر في لقطات كبيرة عن جوهر الوحشية
الشعبية التي تتردد صيحاتها في خلفية الشاشة. وهما لا يكتفيان بتسديد بصرهما على روكي،
فنظراتهما دموية (خاصة المدرب ميكي، الذي أدَّى دوره برجس مرديت في روكي
١ وروكي ۲)، وهما يخفضان العينَين والرأس، ولكنهما يضربان في الوقت نفسه
حافة الحلبة بأيديهما بكلِّ عنف وغيظ، ويلوِّحان بالقبضات وهما يصرخان لحثِّ الملاكِم
على
النهوض من كَبوَته، ويعبِّران عن سعادتهما بالصياح ويصفقان وهما يتبادلان التهنئة واللكمات
الأليفة، كلٌّ منهما للآخَر، ولا يكفَّان عن إطلاق صيحات: «اهجمْ عليه»، «اضربه»، «ها».
أمَّا ردود فعل أدريان المعتدلة والمحتشمة، فتتدخل في اللحظة المناسبة وسط انفعالات
المدرِّبين وبولي التلقائية والمحتدَّة؛ فهي توفِّر المصداقية والشرعية للوحشية وتُضفي
عليها قدْرًا، ولو ضئيلًا، من الاحترام. فمن وِجهة نظَرِ قاعة العرض، تتيح اللقطات الكبيرة
لانفعالات زوجة روكي؛ تتيح للمتفرِّجين في قاعة العرض إمكانيةَ الانسياق وراءَ وحشية
روكي،
عن طريق المدرِّب والمدلِّك، مع تبرئة ضمائرهم في الوقت نفسه؛ لكونهم يتصورون أنهم يقِفُون
في صفِّ قضية مشروعة وعادلة، ألَا وهي قضية الوحدة القومية وقضية تماسُك الأُسرة.
وهناك رد فعلٍ لأدريان مؤثِّر للغاية، نشاركها فيه دومًا طوال مباريات الملاكمة في
الأفلام الأربعة، وهو يكشف — على خير وجهٍ — عن أسلوب تاليا شاير الرقيق وشِبه المتواري،
ويتمثَّل بلا منازع في إغلاق عينَيها حتى لا ترى الضربات المنهالة على زوجها. وترتبط
هذه
الانفعالات دائمًا، عن طريق المونتاج بردود فعل مماثِلة من جانب المدرب وبولي، وإن كانت
أوضح بحُكم الصخب والانفعال الملحوظ المصاحِب لها. وأودُّ أن أنوِّه بشيئين فيما يتعلَّق
بهذا النوع من رد الفعل؛ أولًا: إذا كانت انفعالات أدريان تجمع وتلخص، بل وتضفي طابعًا
حضاريًّا إلى حدٍّ ما على ردود فِعل المدرِّبين والمدلِّك المتَّسمة بالوحشية، إلا أنها
تتميز عنها. فعندما تغلق أدريان عينَيها (ممَّا يجعلها أقرب إلى السيدة العذراء المكلومة)
وتصدر عن يدها أحيانًا إشارةٌ تبدو وكأنها تريد أن تطرد بها صورًا لا تطاق؛ فهي تعبِّر
في
آنٍ واحد عن نفورها من العنف واضطرابها إزاءَ ما يعانيه زوجها من آلام مُبرحة. ومع أننا
قد
نلاحظ قدْرًا من الإشفاق على روكي من جانب ميكي وبولي إلا أن هذا الشعور تتغلَّب عليه
خيبة
الأمل التي تتبدَّى جهارًا. وعليه، ففي كلِّ مرة يتقهقر فيها روكي في المباراة، يكون
انفعال
المتفرِّج مقرَّرًا وموجَّهًا بالتأكيد بلقطاتِ رد الفعل المتميزة أي تلك الخاصة بأدريان
وهي وسط الجمهور وبالثنائي المحترف المرافِق للملاكم عند حواجز الحلبة، ويتصاعد تأثير
تلك
اللقطات بترادفها عن طريق المونتاج، كما تعتمد كلٌّ منها على الأخريات. وثانيًا: تُعيدنا
ردود فِعل المندوبين الثلاثة الرئيسيين، وتتكامل معها في أفلام روكي الأربعة إزاءَ هزيمته
العابرة إلى الظاهرة التي سبَقَ أنْ درسناها والمتعلِّقة بعملية التشرُّب، التي لا بد
وأن
تمهِّد للتحوُّل الجذري حتى يظلَّ المتفرِّج مشدودًا إلى الشاشة. وفيما عدا مشهدًا واحدًا
في روكي ٣ يتلقَّى فيه البطل ضربةً قاضية في الجولة الثانية، ولا نرى فيها — على أيَّة حال
— أيةَ لقطة رد فعل للمدرب أو لأدريان، نجِدُ أنَّ كلَّ مشاهد المباريات في الأفلام الأربعة
تعتمد على ذلك البناء الثنائي، الذي يؤدي وظيفته في كل الأحوال ويحكم إيقاع الجولات على
مرحلتَين: المرحلة التي يتلقَّى فيها روكي اللكمات، والتالية التي يصوِّب فيها ضرباته
لغريمه حتى يحرز النصر الأخير. وسنرى أنَّ هذه البنية الثنائية موجودة أيضًا في المشاهد
الأخرى، خارج المباريات، حيث لا يتوصل روكي في مرحلة أُولى إلى التدريب بالشكل الملائم،
ثم
ينجح في ذلك في مرحلةٍ ثانية. لقد تفهَّم ستالوني القاعدةَ الذهبية التي تقوم عليها السينما
الأمريكية تمامًا، كما استوعبها بنفس القوة فرانك كابرا قبله بأربعين سنة، ألَا وهي ضرورة
أن يمرَّ البطل بمرحلةٍ طويلة عامرة بالهزائم والعقبات والآلام تحت سمع وبصر مندوبي روَّاد
قاعة العرض، الموكلة إليهم مهمَّة تمثيلهم على الشاشة، حتى يتمكَّن بعد ذلك هؤلاء الروَّاد
من التصفيق كرجُلٍ واحد عندما يسجل انتصاراته. لقد استوعب ستالوني تمامًا كمخرِج، أي
كمسئول
عن البنية الإجمالية للفيلم، قاعدة التشرُّب الممتدِّ للتوصُّل بذلك إلى أفضل تحوُّل
جذري،
كما تفهَّم أيضًا كممثِّل رئيسي تلك المعطيات الأساسية التي باتت قالبًا منمَّطًا تعوِزه
أيُّ إبداعات متفرِّدة. والحقُّ أنَّ سلوك ستالوني وهو يؤدِّي دوره كملاكِم، يشكِّل النموذج
المثالي لثنائي التشرُّب والتحوُّل. وهو يجسد بذلك الصيغة الأمريكية الغالبة في أفلام
رعاة
البقر والمغامرات والحرب والكوميديا الموسيقية والرعب، وفي مختلف أنواع المسلسلات
التليفزيونية. ففي مواجهة الزوجة التي تمتنع عن النظر، والمدرِّبين الذين يشيحون بوجوههم،
وشقيق الزوجة الذي يعبِّر عن خيبة أمله بالصياح بأعلى صوته، وجمهور المباراة الذي يصرخ
تعبيرًا عن فراغ صبره وتوجُّسه، والمتفرِّج الذي «يعيش» كلَّ ذلك في آنٍ واحد؛ يجِدُ
روكي/ستالوني لذةً مازوخية في تلقِّي اللكمات من خصمه، فهو يتعمَّد خفضَ هامته والدماء
تسيل
من وجهه، ويفتح ذراعَيه ليستفزَّ غريمه داعيًا إيَّاه بإيماءاته وصوته إلى توجيه الضربات
لجسمه ورأسه. ومن الغريب، أو بالأحرى من باب التكتيك كما سندرك شيئًا فشيئًا من فيلم
إلى
آخَر، أنَّ روكي لا يستعيد قواه وينتعش من جديدٍ ويحيي داخليًّا تلك الوحشية الكامنة
والرغبة المكبوتة في ضرب الخصم والإجهاز عليه، إلا بعد أن تكون قد أصابتْه الدوخة وطُرح
أرضًا مرتَين أو ثلاثًا وأصبح جسمه مُثخنًا بالجِراح ووجه داميًا.
يبقى لنا أن نتدارس بعض انفعالات أدريان في المشاهد التي لا تتعلَّق بالمباريات.
فهنا
تتأكَّد الأهمية الأساسية للقطات رد الفعل التي تصنع النجومية في ظِل الرقابة المحكمة؛
فكما
يحتاج روكي لنظرات زوجته المحِبَّة لكي ينتصر في مبارياته، فإنه يشعُر بنفس الحاجة أيضًا
لكي ينجح في تدريباته. وعلى غِرار مَشاهِد الحلبة التي حلَّلناها آنفًا، تتكوَّن المَشاهد
التي يتمرَّن فيها البطل خارج الحلبة استعدادًا للمباريات الرسمية، من مرحلتَين متناقضتَين:
المرحلة الرخوة التي يفشل فيها، والمرحلة القوية التي تحقِّق له النجاح. وتواجُد أدريان
حاسم في كلٍّ من المرحلتَين؛ فالأمر يتوقَّف على «عين النمر» في كلِّ مرحلة، أو مجموعة
من
المشاهد. فهي تخبو في مرحلة التدريب الرخوة، وتلمع من جديدٍ في المرحلة القوية. وفي كِلتا
الحالتَين تحتلُّ نظرة أدريان مركزَ الاهتمام. والمرحلة الرخوة الوحيدة، التي كانت فيها
نظرة أدريان منتقَدةً بكلِّ وضوح، هي تلك التي سبقتْ مباشرةً انهزام روكي بالضربة القاضية
في روكي ۳.
ويتعيَّن أن نُضيف بخصوص تلك المباراة بالذات بعضَ التفاصيل، التي ستلقي الضوء على
المَشاهد غير المختصة بالمباراة ذاتها. ففي اللقاء الأول بين البطل والملاكِم كلوبر لانج،
الذي يتمُّ في الثلث الأول من الفيلم الثالث، مباشرة قبل أن يدقُّ الجرس إيذانًا ببدء
المباراة، وفي اللحظات القصيرة التي يتمُّ فيها التعارُف بين المصارعَين في الحلبة؛ نشهد
لقطاتٍ كبيرةً لنظرات كلٍّ منهما. ففي نظرات لانج، تكمن الوحشية الصرفة وقد استأثر شخصيًّا
بالخصائص المقلِقة ﻟ «عين النمر» … وهي مقلِقة لأنَّه لا يوجد أيُّ ردِّ فِعل يحدُّ من
غلوائها. ولانج شخص منعزل تمامًا، ولقطات رد الفعل الوحيدة التي يحظى بها، هي تلك الخاصة
بالمدرِّب الزنجي الذي لا يقلُّ عنه وحشية؛ ممَّا يضاعف بالتالي ويؤكِّد نظرته كقاتل.
أمَّا
نظرة روكي، فلَمْ تعُد مباشِرةً وهي تزوغ وتطرف باستمرار، وتدور من اليمين إلى اليسار.
إنها
نظرةٌ يتيمة ومرتاعة، عاجزة عن الاستقرار على الخصم؛ وذلك لأنَّ نظرات الزوجة والمدرِّب
«الديمقراطية» غائبة. فقد أُصيب ميكي بأزمةٍ قلبية مفاجئة قبل أن تبدأ المباراة مباشرة،
وتعيَّن على أدريان أن تصحبه للمستشفى، وغابت بذلك نظراتُهما لحثِّ وحشيته، وتهذيبها،
وإضفاء الطابع الإنساني عليها، وإكسابها مغزًى بالنسبة للمجتمع. وبعبارةٍ أخرى، فإن غياب
لقطات رد الفعل العائلية والديمقراطية يعطِّل التطوُّر الشعبي للفيلم الأمريكي، وستكون
هذه
المباراة قصيرةَ الأجل وبالغةَ القسوة، من النوع الرامي إلى تصفية الحسابات. كما أنَّها
ستقتصر على مرحلةٍ واحدة، مرحلة التشرُّب التي ستكال فيها اللكمات للبطل، حتى يتلقى الضربة
القاضية دون أن تبدو من جانبه أيَّةُ محاولة، ولو واهنة، لشنِّ هجومٍ مضاد. ولنلاحظ مرةً
أخرى أن المَشاهد التي تسبق هذا اللقاء والخاصة بتدريبات روكي، تشبه هزيمته في الحلبة.
أمَّا المرحلة الثانية المعهودة في التدريب والمتوفِّرة في كلِّ مَشاهد المِران الأخرى،
والتي يتحقق من خلالها التحوُّل الجذري؛ فلا وجودَ لها في الحالة الراهنة. كما أننا نفتقد
بالطبع ردودَ فِعل الزوجة الإيجابية التي توقِظ وحشيةَ روكي وتروِّضها. فأدريان المعارِضة
لعودة زوجها إلى مزاولة الملاكمة — والرافضة بالأخص لتلك المباراة الوحشية؛ لأنها عقيمة
في
رأيها، لكونها بلا هدف اجتماعي مقبول — لا تظهر إلا مرتَين فقط في مشاهد التدريب المقتصرة
على المرحلة الرخوة فقط. وكان ظهورها في اللقطتَين خاطفًا بلا ارتباطٍ مباشِر بروكي،
وبدون
علمه. وظهورها الأول كان خاليًا من أيِّ رد فعل؛ فهي تتجوَّل على غير هدًى في مركزٍ تجاري
يعرض فيه زوجها تمارينَ تدريبه أمام عددٍ من المعجبين به. وفي اللقطة الثانية، نرى أدريان
وهي تدخل بالمصادَفة في قاعةٍ تغصُّ بصحفيين ومندوبي وكالات الإعلان؛ فتتسمَّر في مكانها
وتنفعل بضيقٍ إزاء إعجابِ فتاة تقطع تدريبات روكي لتستجدي منه قبلة. أمَّا ردود فِعل
ميكي،
فهي عديدةٌ ومتعلِّقة بروكي، ولكنَّها تفتقر إلى الحماس شأنها في ذلك شأن انفعالات أدريان.
وما كان يمكن أن تكون غير ذلك؛ لأنها تواكِب ردود فِعل الزوجة ذات الطابع الرقابي. وفي
البداية يرفض ميكي بإصرارٍ تدريبَ البطل استعدادًا لتلك المباراة، وذلك لسببَين أوضَحَهما
له بلا لفٍّ أو دوران: فلانج «حيوانٌ مفترِس» و«قاتِل»، أمَّا روكي فقد تبرجز، وذلك في
رأي
ميكي «أسوأ ما يمكن أن يتعرَّض له أيُّ ملاكِم». ولكنَّ روكي مصِرٌّ من جانبه؛ فقد استفزَّه
لانج وأهانه علَنًا؛ فبات مضطرًّا إلى قبول التحدِّي؛ حفاظًا على كرامته. وهكذا يقبل
ميكي
في نهاية الأمر أن يعدَّه لخوض المباراة، ولكنْ على مضضٍ وبلا حماس، فلا يصل التدريب
بذلك
إطلاقًا إلى المرحلة الثانية التي تتوفَّر فيها الفرصة لكي تتألَّق نظرته تحت وابلِ لقطات
ردِّ الفعل المدروسة والموزَّعة بعناية. وهكذا تتباطأ المَشاهد بعناءٍ في لقطاتٍ نصفِ
جامعة، بينما يظهر ميكي في مجالِ تلميذه وكأنَّه مضطرٌّ إلى الوقوف بجانبه.
فنحن باختصارٍ بصدد تدريبٍ زائف؛ لأنَّ المدرب لا يظهر في لقطات مكبَّرة وشخصية تلاحِق
تلميذه كالقذائف؛ لتفجِّر فيه الوحشية، ما دامت انفعالات الزوجةِ غيرَ موجودة لتُبارك
تلك
الوحشية التي أفاقت من جديد. وهكذا فإنه يدخل الحلبة لمواجهة الوحشية الصرفة (التي ليست
في
حاجةٍ إلى ردود فعل تنمُّ عن حُسن الجوار أو الرقابة المشدَّدة) متوهمًا أنه لا يزال
متوحشًا، بينما لم يعُد إلا بُرجوازيًّا متحضِّرًا. لقد ارتكب روكي خطأ جسيمًا بانعزاله
عن
ردود فِعل زوجته وإكراهه مدرِّبه على مجاراته، لكي ينطلق وحده في معركته؛ فأصاب بذلك
دوره
بالعُقم. لقد تخلَّى عن تقاليد الفردية الأمريكية والسينمائية التي يتعيَّن أن تحظى بحُسن
الجوار وتبادُل المساعدات. بل إني أعتقد أنني أغالي إذا قلتُ إنَّ روكي ارتكب جريمةَ
العَيب
في الذات السينمائية بتجريد مهمَّته من انفعالات المقرَّبين إليه؛ فعطَّل بذلك مسار الفيلم
الأمريكي (وسنرى ذلك بشكلٍ أوضح في روكي ۲)، فكأنه تسبَّب في إفلات شريط الفيلم من تروس
السحب في جهاز العرض.
أمَّا أبولو كريد، البطل الزنجي السابق الذي هزمه روكي في مباراتَين (روكي
۱، وروكي ۲)؛ فسيعيد بطلنا إلى ردود الفعل الثنائيةِ
البِنية التي لا غِنى عنها؛ لإيقاظها وحشيته وتهذيبها. فعلى أثر هزيمة روكي بالبوا على
يد
لانج، والتي أعقبها موتُ ميكي، تولَّى كريد رسميًّا مسئوليةَ تدريب البطل. وهو يستهلُّ
ذلك
بخطابٍ طويل حول تبرجُزه، ورسالته في الحياة كمُلاكِمٍ ممثلٍ للمجتمع، وحاجته لاسترداد
لقبه
والانتقام لشرفه، وضرورة أن يبدأ كلُّ شيء من الصفر ويستعيد «عين النمر»، التي سلبها
منه
كلوبر لانج. وهو يعود معه بصحبة أدريان وبولي إلى كاليفورنيا، حيث سيشرف على تدريبه.
وهكذا
ستتجدد فضائل البطولة وفقًا للتقاليد الشعبية الأصيلة وفحواها: «ارحل إلى الغرب أيها
الشاب.» ويختار أبولو كريد لتقويم «عين النمر» حيًّا شعبيًّا فقيرًا في لوس أنجلوس، سكَّانه
شاحبو الوجوه ونظراتهم مثيرة للقلق، وحيث «يقتضي الحذر حمل بندقية» حسب قول بولي. ويوجد
هناك ملعب بائس ومظلِم، عِبارة عن مأوًى «ينضح بالعرَق والغضب والدماء» من النوع الذي
حاول
ميكي عبثًا أن يعثر عليه لكي يدرِّب فيه تلميذه، واستهل فيه كريد احترافَ الملاكمة. وجرتْ
تدريبات روكي وسطَ ملاكِمين زنوج فتيان «يبرق في عيونهم وميضٌ متوحش» وفقًا لمَا حرص
أبولو
على تأكيده لتلميذه، وفي ظِل نظرات أدريان وبولي الساهرة.
في المرحلة الأُولى من التدريب، يتعثَّر روكي ولا ينجح في التركيز على أدائه. وقد
أرهق
ذلك كريد الذي راح يتصرَّف بمزيدٍ من العصبية، بينما ظلَّت ردودُ فِعل بولي على نفس
المنوال، أي سلبية، فهو يُبدي طوال الوقت تذمُّره من عدم توفُّر الراحة في المكان ويردِّد
مِرارًا أنه من الأفضل أن ينسحب الفريقُ بأَسره ويعود إلى الشرق. ويتلخَّص ردُّ فِعل
أدريان
في نظرةٍ هادئة وصامتة مصوَّبة إلى زوجها متَّخِذة بذلك موقفًا وسطًا بين المدرِّب كريد
وبولي، بين التوحُّش والتحضُّر. وقد استهلَّ كريد المرحلةَ الأُولى من التدريب بخطابٍ
يرمي
إلى استثارة التوحُّش الانتقامي لدى تلميذه. وبدأت المرحلة الثانية بخطابٍ من أدريان،
ونرى
الفريق بأكمله — روكي، أدريان، أبولو، بولي — على البلاج، حيث فشلت المرحلة الأُولى من
التدريب بشكلٍ يدعو للرثاء. ويرفض روكي مواصلةَ التمرين على الركض. وقد توقف خارجَ مجال
الشاشة، بينما يوقف أبولو التدريب مُبديًا اشمئزازه وهو يقول: «انتهى الأمر.» وهو يغضُّ
الطرْفَ وينحي رأسه جانبًا؛ ليغادر المكان من يسار الكادِر، ويترك المجال للأمواج التي
يعلو
ضجيجها الصاخب للإيحاء بأنَّ البطل غير مستجيبٍ للوحشية. وعندئذٍ تظهر أدريان في المجال
الذي أضحى خاليًا، وذلك في لقطةٍ كبيرة عند الحافة اليُسرى للكادر، من الغرب، أي نفس
الجانب
الذي خرج منه أبولو. وهي تثبت نظرها بكثافةٍ على الحافة اليُمنى للكادر الذي نعرف أنَّ
روكي
يقف فيه مؤقتًا خارج المجال. لقد جاءت الزوجة لتحلَّ محلَّ المدرِّب.
ويتكوَّن مشهدُ ردِّ الفعل الشفوي لأدريان، الذي يُسفر عن مرحلةِ التحول الجذري، يتكوَّن
من أربعٍ وأربعين لقطةً. وهو يمتدُّ ما يقرب من ضِعف الوقت الذي استغرقه خطابُ أبولو
في
بداية المرحلة الأُولى من التدريب (اثنتَين وعشرين لقطةً). ويجري المشهد في وضَحِ النهار
أمامَ المحيط الممتدِّ حتى الأفق، على عكس المشهد المتضمِّن خطابَ أبولو، الذي جرى في
الليل
في ظِل الضوء الباهت لملعب المدرِّب ميكي. والمشهد مصحوبٌ بموسيقى عذبةٍ وشجيَّة، راحتْ
تنساب منذ اللقطات الأُولى لتحدَّ تدريجيًّا من ضجيج الأمواج الهادرة، وتوحي بأنَّ التدريب
سينظم من الآن إيقاع وحشيَّة البطل ويحكمها ويحجِّمها خلسةً. وسرعان ما سيضيق المجال،
وبداخله روكي، كما لو كان في زنزانة؛ لكي تنهال عليه مِرارًا وتَكرارًا نظراتُ أدريان
وكلماتها، أي كافة ردود الفعل التي كانت مكبوتةً في ظلام القاعة منذ مجيء البطل إلى الغرب،
لكي تنصبُّ عليه من كافَّة الجوانب؛ بُغية دفعه إلى التحرُّر من توتُّره. وتدخل اللقطات
الأربع والعشرون الأُولى من هذا المشهد، في نِطاق البنية الثنائية الكلاسيكية للمجال
والمجال المقابِل، بين أدريان التي تستجوب روكي وتحاول اجتذاب نظراته وتحاسبه على عدم
اهتمامه بالتدريب، وزوجها الذي يحاول عبثًا تلافي هذه الهجمات ويمتنع عن الإجابة ويتحاشى
التطلُّع إلى وجه زوجته. وتسجل اللقطة الخامسة والعشرون التحوُّلَ في موقف روكي؛ إذ يلتفت
صراحةً نحو أدريان ويقول لها وهو يرمقها بتحدٍّ: «أنتِ تدفعينني دفعًا إلى نهاية الدرك.
وها
أنا ذا أقول لك: إنني خائف. نعم؛ أنا خائفٌ لأول مرَّة في حياتي.» وابتداءً من هذه اللقطة
تتَّخذ المواجهة منحًى آخَر؛ إذ إن الزوجَين يلتقيان معًا في نفس المجال، لكي يتَّجها
—
لقطةً بعد أخرى — نحو اللقطات الفردية، التي تتلاقى وتُنهي المشهد. لقد تم إبعاد روكي
من
موضعه واستقرَّت أدريان في يمين الكادر، وراحت تشرح لزوجها وعيناها مرفوعتان نحوه: «المهم
أن يتغلَّب الشخصُ على خوفه»، و«أعدادٌ كبيرة من الناس تؤمن به، ولكنْ يجب أولًا أن تكون
أنت نفْسُك مؤمنًا بقوتك الذاتية …» أمَّا روكي الذي تمَّ إبعاده إلى يسار الكادر، تحت
رقابة زوجته التي يستمع إلى خطابها؛ فلن يحاول التهرب من الآن فصاعدًا. وقد حصلت أدريان
على
حقِّ شَغل المجال بأَسره وإخضاع زوجها لنظرتها، بينما لا تحاول نظرةُ البطل أن تغيِّر
مسارها. ونرى أدريان في لقطةٍ كبيرة للغاية (وهو تواصُل سليم لوصفها في اللقطات السابقة)
وقد اتَّجهت نظرتها المشبوبة بالعاطفة نحو اليسار، حيث ينتظرها هو بهدوء خارج المجال،
بينما
نطقت هي بجملةٍ قصيرة ولكنْ ذات مغزًى مهمٌّ؛ لأنه يتعيَّن عليها أن تبذل جهدًا خاصًّا
لكي
يعود إلى مدرِّبه، فتقول: «أبولو مؤمنٌ بك.» وتلي ذلك بالطبع لقطةٌ كبيرة للغاية لروكي
وقد
أبدى موافقته واستعاد وجهُه هدوءه واستردَّت عيناه بريقهما. وأخيرًا يقول روكي: «أحبُّك.»
وتُتحِفه هي بقُبلةٍ زوجية مُحتشِمة.
لقد أصبح روكي مهيَّأً الآن لاستئناف تمارينه على يد مدرِّبه، الذي كان متشوِّقًا
بالطبع
لمواصلة مهمَّته. ولن تستغرق المرحلة الثانية للتدريب، التي انطلقت على البِلاج، مدَّةً
طويلة. وستجري بمصاحبة موسيقى تتصاعد نغماتُها المظفرة، يواكبها مونتاج متزايد السرعة
للكلمات. وفي هذه المرة، يكرِّر روكي كافَّة تمارين المرحلة الأولى، ولكنْ بحماسٍ متَّقد
ونجاحٍ مطَّرد بتأييد وتصفيقِ ردود الفعل المتتابِعة للفريق المكلَّف سينمائيًّا بإبراز
قدراته. وبوُسع انفعالات الزوجة العاشقة أن تنضمَّ إلى ردود فعل المدرِّب الوحشية، من
خلال
عدَّة لقطات لهما في نفس المجال. أما روكي فيمكنه أن يسخر بلطفٍ من شقيق زوجته (فهو يلقي
به
في المَسبح بكامل ملابسه، ويدفعه إلى الهرب في حلبة الملعب بالتظاهر بأنه سيضربه) لأنَّ
البرجزة التي يتميز بها بولي، لم تعُد تهدِّد البطل، بعد أن أعادتْ أدريان الأمور إلى
نِصابها. ويقتصر التدريب — على البلاج — على الركض؛ حيث ينجح البطل هذه المرة في التغلب
على
مدرِّبه، في التباري معه في هذا المضمار. وهكذا غدا الانتصار في الحلبة مضمونًا، ونحن
نعلم
أنَّه آتٍ، كما جرى في مشاهد التدريب في نهاية المرحلة الثانية منها.
وفي روكي ۲، لم تكُن أدريان في حاجةٍ إلى إلقاء خُطب لتُثبت أهميةَ ردود فِعلها لترويض
البطل، واقتصر الأمر على نظرةِ وجَّهتْها له وكلمةٍ أسرَّت بها في أذنه في نهاية المرحلة
الأُولى من التدريب لكي يسير كلُّ شيء قدمًا. ويقبل روكي على مضضٍ الاستعداد لمباراةٍ
رسمية
نتيجةً لإلحاح مدرِّبه ميكي (على عكس احتياجه إلى إقناع ميكي ليتولَّى أمرَ تدريبه كما
رأينا في روكي ٣). ولكنَّ أدريان لم توافق؛ فهي حاملٌ وتريد توفيرَ الراحة لنَفْسها ولزوجها
أيضًا. وعندما يحضر ميكي ليلحَّ على روكي أن يتوجَّه معه ليتدرَّب في الملعب، ترمُقه
أدريان
بنظرةٍ تنمُّ عن استهجانها وتُدير ظَهْرها لتترك الغرفة. وستكون المرحلة الأُولى من التدريب
شاقَّة ودون إحراز أيِّ تقدُّم. ولا تظهر أدريان في هذه الحالة سوى مرتَين، في نفس المكان
في كلتيهما، وفي لقطةٍ بعيدة ومستقلَّة ذاتيًّا، وبلا مبالاة بالنشاط العقيم الذي يبذله
زوجها. ونراها في لقطةٍ جانبية تؤدِّي عملها كبائعةٍ في متجر لبيع الحيوانات وقد ثَقلَ
جسمُها نتيجةً للحَمل. وفي اللقطة الثانية، يكون أخوها معها في مجال الشاشة ليؤنِّبها
ويُقنعها بالتدخُّل لدى روكي. وفي نهاية اللقطة، يتقوَّس ظَهْر أدريان التي بدأتْ تُعاني
من
التقلصات.
وتنتهي المرحلة الأولى بالفشل. ويوبِّخ ميكي تلميذه بشدَّة واصفًا إيَّاه بأنه لا
يصلح
لشيء، ويُنهي الأمر بأنْ يصرفه قائلًا: «مع السلامة، لا أريد أن أرى وجهك من الآن فصاعدًا.»
وعندئذٍ، وعملًا بالتواصل الواقعي المدروس، يتمُّ إخطار روكي بأنَّ زوجته في حالةٍ حرِجة
للغاية في المستشفى. وتلي ذلك سلسلةٌ من اللقطات المتباطئة؛ بُغيةَ الانتقال من ردود
فِعل
المدرِّب إلى ردود فِعل الزوجة. وهنا يبدأ رتَلٌ من لقطات التشرُّب الممتدَّة بلا حراك،
والمتعاقِبة عدَّة مرَّات الواحدة تِلوَ الأخرى، وجميعها يرمي إلى هدفٍ أوحد، ألَا وهو
استعجال ظهور ولو بادرة نظرة من جانب أدريان، التي راحتْ في غيبوبةٍ عميقة. وسنظلُّ في
هذا
الحال لوقتٍ طويل، يكفي لكي يظلَّ المدرِّب وأخوها صامتَين بجوارها يستجديان بنظراتهما
عودتها إلى الحياة؛ لاقتناعهما بأنَّ ردود أفعالهم لا جدوى منها بدون ردود أفعالها هي،
ولكي
يظلَّ روكي مضطرًا إلى عدم التحرك لفترةٍ طويلة تدلُّ على أنه عاجز وتائه (فهو ينوح ويبكي
كالطفل)، وبالأخص لكي يشعُر المتفرِّج بأنَّ مسار القصة قد توقف (نظرًا لغياب ردود فِعل
أدريان، مندوبته الأساسية). ويستغرق ذلك المشهد ثلاثَ عشْرةَ دقيقةً ونِصف، ويتضمَّن
خمسًا
وستين لقطةً بطيئة وممتدة كما ذكرْنا آنفًا. وعلاوةً على ذلك، فهي داكنةٌ في غالبيتها
ومنحصِرة بين غرفة المستشفى التي ترقد فيها أدريان في سكونٍ تام والممرِّ المجاوِر ذي
الحوائط العارية، والكنيسة الصغيرة التي تستوجب الخشوع. إنها لقطات تخضع لإيقاعات الانتظار
وصمت شخصيات المشهد واستسلامها أمام القدَر. غير أنَّ الصمت ينقطع ثلاثَ مرَّات؛ أُولاها
من
جانب ميكي في الكنيسة الصغيرة، في بداية المشهد، حيث يحاول عبثًا أن يُقنع روكي بالعودة
إلى
الملعب لمواصلة التدريب، بينما لا يستمع البطلُ إليه وتظلُّ نظرته مثبتةً على المَذبح،
وفي
المرتَين التاليتَين من جانب روكي الجالس بجوار سرير زوجته يتلو لها في أذنها نصوصًا
لإدجار
رايس بوروز، أو قصائد كتَبَها لها منذ بُرهة. ويفشل المدرِّب في محاولته تخليصَ البطل
من
حالة التبلُّد التي انتابتْه، ودفعَه إلى استعادة «عين النمر» التي لا غنى عنها لكي ينتصر.
غيرَ أنَّ خطابه الحماسي الذي يثير من جديدٍ فكرةَ الأخذ بالثأر والتنافس الوحشي، دون
أن
يليق ذلك بالظروف المحيطة، يقابل بفتورٍ من جانب روكي. ويهمس الأخير في أُذن زوجته بكلماتٍ
سحرية تتغنَّى بحياةِ الروَّاد الأوائل المتقشِّفة والبسيطة، أو يتحدَّث عن حبِّه لها
وحاجته الحيوية لوجودها في محاولةٍ يائسة من جانبه لجعلها تستعيد وعيها، فكأنه يريد أن
يؤكِّد بذلك أنَّ ردَّ فِعل زوجته الإيجابي، هو وحده الذي يمكن أن يُبرِئه من تراخيه.
ويتحول السرير الذي ترقد عليه أدريان في غيبوبتها، إلى نقطة الْتقاء يتجمَّع حولها المشهدُ
بأَسره؛ ممَّا يؤكِّد بكلِّ وضوح أنه ما لم يتوفَّر ردُّ فعلٍ من جانب أدريان، لظلَّ
المدرِّب عاجزًا عن تدريب البطل، الذي يفقد بذلك مبرِّر وجوده، كما أنَّ دور الشاشة في
جذب
المتفرِّج يصبح معطَّلًا.
ولذا فإنَّ استرداد أدريان وعيها في الساعات الأُولى من الصباح (صباح اليوم الثالث
على ما
يبدو) سيكون بمثابة بعثٍ حقيقي؛ أولًا: لقطة كبيرة للغاية ليَدِها المتصلِّبة عندما تبدأ
أصابعها في التحرك ببطء، ويرتفع في نفس الوقت مع تلك الحركة كلٌّ من صوت الموسيقى التي
كانت
خافتةً حتى تلك اللحظة ورأس روكي الذي كان يستند في خلفية الكادر على حافة السرير، ثم
لقطة
مقرَّبة لرأس أدريان التي تفتَّحت عيناها أمام النظرة المندهِشة لروكي، الذي يقول لها:
«كنتُ أعرف أنكِ ستعودين.» وفي التوِّ ينشط كلُّ شيءٍ بسرعة ويتدافع ليصبَّ في التحول
الذي
ستحقِّقه مرحلةُ التدريب الثانية. فبولي الذي كان يهيم على وجهه في الدهليز القريب من
الغرفة، يندفع فجأةً وفي يده زجاجة شمبانيا؛ وميكي الذي كان يغفو في ركنٍ من الغرفة التي
يكتنفها السكون، يفتح عيناه وترتسم على وجهه ابتسامة، وتظهر على الفور ممرِّضةٌ لتضع
المولود الجديد بين ذراعَي أمِّه. أمَّا مسئولية إعطاء إشارة بدء المرحلة الثانية من
التدريب المظفرة، فيقع عِبؤها على أدريان نفسها؛ فقد ضمَّت الطفل (وهو ولدٌ بالطبع) إلى
صدرها، وأشارت إلى زوجها أن يقترب منها، وهمستْ في أذنه وكأنَّها تردُّ على قصيدته: «أودُّ
أن تُقدِم على شيءٍ من أجلي.» ثم لمعت عيناها في تأثُّرٍ بالغ وبلهجةٍ تدلُّ بكلِّ وضوح
أنها غدتْ مسيطِرة من جديدٍ على قدرتها على الانفعال، واستطردت قائلةً: «اكسب!» وكررتْها
مرةً أخرى؛ لكي يعلم الجميع بلا لَبْس أنها توافق على التدريب، وكان ذلك كل ما ينتظره
ميكي
في الظِّل، خارج المجال تقريبًا. وقد قفَزَ فورًا على أثرِ ما سمِعَ، واستدار نحو روكي
صائحًا: «ماذا تنتظر بعدُ.» وهكذا بدأتْ مرحلة التدريب المظفَّر.
لقد استعاد بطَلُنا ثقته في نفسه، وانطلق مرِحًا ليعود إلى الحلبة، وذلك هو تأثير
مجرَّد
نظرة، خاصة إذا جاءت من جانبنا نحن المتفرِّجين، ولكن من خلال أدريان! ويجري مشهد المرحلة
الثانية من التدريب بسرعةٍ خاطفة: ثمانٍ وستون لقطةً في خَمس دقائق. وهي تبدأ بروكي وسط
الطبيعة، وجسمه المائل أفقيًّا يعتمد على ساعدٍ واحد وهو يؤدي تمارين الرياضة الصباحية،
ومن
خلفه الشمس المشرِقة تسطع في السماء. وينتهي ذلك المشهد بروكي وهو واقفٌ بلا حراك في
إطارٍ
ثابت عند مدخل فندقِ الشعب الشهير في فيلادلفيا، الذي تم فيه التوقيع على إعلان استقلال
البلاد. وقد حرص على أن يتوجَّه إلى هناك عدْوًا وفي أعقابه جمعٌ غفير من أبناء
المدينة.
أما اللقطات الست والستون، الواقعة بين الأُولى التي يتمرَّن فيها روكي بكلِّ همَّة
في
وضعٍ أفقي، والأخيرة التي ينتصب فيها رأسيًّا وحوله أبناء المدينة المهلِّلون له؛ فهي
تتدافع على الشاشة في بنيةٍ مكوَّنة من حلقات حقيقية لسلسلةٍ من التدريبات، جميعها مستقلٌّ
ذاتيًّا، بمعنى أنَّ كلًّا منها تشكِّل في حدِّ ذاتها تمرينًا فريدًا ومتميِّزًا للبطل.
غيرَ أنَّ هذه الحلقات، ترتبط معًا من خلال حركةِ كلٍّ منها، ولخضوعها وتماسُكها معًا
بواسطة نفس الموسيقى التي تتصاعد تدريجيًّا. وقد وزَّعتْ تلك اللقطات فيما بينها عمليةَ
التدريب وفقًا لنشاط جسدي يرفع جسمه شيئًا فشيئًا ليبلغ وضعه الرأسي. كما أنَّها (أي
اللقطات) تؤكِّد على مدى تتابُعها جملةٌ من ردود الفعل المسموعة: أنفاس البطل وهو يلهث
نتيجةَ الجهد الذي يبذله، وكلمات التشجيع من جانب ميكي، وقياسات الزمن التي يُجريها مساعده؛
وجميعها تتصاعَدُ مع تواصل عملية التدريب وتدافُعها. ونحن نعرف أنَّ أدريان غائبة وأنَّ
ردود الفعل اللازمة لنا — نحن المتفرِّجين — مفتقَدةٌ. غيرَ أنَّها تقدِّم لنا ما ننتظره
منها عن طريق ابنها الوليد، وذلك من خارج مجال الشاشة المتمثِّل في سرير المستشفى؛ حيث
نعلم
أنَّ فِكرها متَّجه بالكامل نحو زوجها.
ففي منتصف المشهد، بعد اللقطة الرابعة والثلاثين بالضبط، يوقِف روكي تدريبه بطريقةٍ
تقنية
ملحوظة تمامًا، وهو ما يحقِّقه بكلِّ اقتدار؛ لأنه المخرِج والممثِّل في آنٍ واحد. فصورتُه
تتسمَّر فجأةً على أثر ضربة كالها لكرة التدريب، بينما يتوقَّف في نفس اللحظة شريطُ الصوت
على الصورة الأخيرة لروكي وقد الْتوى فمه من المجهود، في حين بدأتْ تنطبع تدريجيًّا فوق
هذه
الصورة يداه اللَّتان تضعان ابنه بكلِّ رقَّة في مهده وتُعطيانه قارورة الرضاعة وتدثرانه
ببطانيته، بينما نسمع الجلجلة الخافتة لأجراسٍ صغيرة. وتلك هي اللقطة الأُولى التي استقرَّت
بين قوسَين وسط التدريب العنيف ﻟ «عين النمر». واللقطة التالية تستكملها؛ إذ تنتصب قامة
روكي وهو بجوار مهد ابنه، وينسحب ببطءٍ في الغرفة الصغيرة، ويغلق بابها وراءه دون إحداث
أيِّ ضوضاء. وهكذا تزوَّد البطل بجرعةٍ حصل عليها من ابنه، تدفعه إلى الأمام وتبرئ ضميره
وتبرِّر أعماله عن طريق لقطتَي المغفرة السابقتَين؛ ليواصل من جديد طقوسَ التوحُّش بمزيدٍ
من الجموح.
وابتداء من تلك اللحظة، لن يكون التدريب إلا حركةً واحدة مطَّرِدة، وإلى الأمام «على
الطريقة الأمريكية» ومتقطِّعة اثنتَين وثلاثين مرَّة: عدو البطل الذي خرَجَ من بيته بعد
أن
ترك ابنه ليذهب إلى الفندق، مَذبح الأمة المقدس. ونظرة الطفل الوليد المستلقي في مهْدِه،
هي
التي تدفع البطل إلى الانطلاق في هذا السِّباق المجنون؛ فهو يندفع ويقفز من لقطةٍ إلى
أخرى
عبْرَ الشوارع الشعبية في المدينة، ووسطَ الحقول وفوق مقاعد حديقةٍ عامة بوثباتٍ متتالية،
ويتَّجه من آنٍ إلى آخر نحو يسار الكادر، أي الغرب، ليجتاز الحدودَ. وقد جذَبَ وراءه
طوال
تلك المسافة، التي راح يقطعها بحماسٍ مرِح، وبمصاحبة «اللازمة» الموسيقية الخاصة بسلسلة
أفلام روكي، مجموعةً من الأطفال تتزايد مع تعاقُب اللقطات، تهتف باسمه وتصفِّق وتغنِّي
معًا
على نغمات الموسيقى (وأُعيد هنا إلى الأذهان أنَّ الذين ظهروا في هذا الفيلم على الشاشة،
كانوا — في الواقع — الصدى السينمائي لردود أفعال الأطفال في قاعات السينما عندما عُرض
روكي ۱).
لقد تم إذن تدبير سلسلةٍ متوالية ومنتظمة من ردود الأفعال الواقعية تمامًا: فأدريان
تدفع
زوجها إلى قبول عروض مدرِّبه، والمدرِّب يدفعه إلى تقويم مختلف أجزاء جسمه وبالأخصِّ
«عين
النمر» التي يتميَّز بها، والابن الوليد يواصل المهمَّة فيدفع بالتالي أباه نحو أطفال
المدينة الذين جاءوا مباشرة من واقع مشاهدتهم روكي ١، فدُفعوا بدورهم
إلى شاشة روكي ۲؛ لكي يدفعوا البطل نحو الهدف النهائي والقومي الذي
يحقِّقه التدريب. وهناك نقطة جديرة بالذِّكر، وهي أنَّ المرحلة الثانية من التدريب التي
يتحقَّق التحول عن طريقها تتمُّ هي أيضًا بواسطة البنية الثنائية؛ فالتشرب يتمُّ في الفترة
الأُولى بالعرَق المتصبِّب والجهود الشاقَّة والأليمة التي يبذلها البطل في مكانٍ مغلَق
وتحت رقابة مدرِّبه؛ لكي يندفع بعد ذلك في الهواء الطلق.
وفي روكي ٤، نجِدُ أنَّ نظام لقطة رد الفعل المكلَّف بإبراز دور
النجم وبدفع التحوُّل البطولي؛ قد تمَّ صقله تمامًا، حتى إن أدريان لا تحتاج إلى الظهور
إلا
لإضفاء المزيد من الحيوية على المرحلة الثانية من تدريب روكي. ولنُعِد إلى الأذهان قصةَ
الفيلم: لقد جاء إلى الولايات المتحدة بطلُ الملاكمة السوفييتي الأول، والْتقى مع أبولو
كريد في مباراةٍ عنيفة للغاية. انتهتْ بموت البطل الأمريكي السابق بالضربة القاضية. وقرَّر
روكي قبول تحدِّي دراجو له بالحضور إلى موسكو لملاكمته، وذلك رغم عدم موافقة زوجته وبواعث
تردده العديدة. وعندما غادَرَ منزلَه للذهاب إلى المطار بصُحبة بولي المخلص له وديوك
المدرب
الزنجي السابق لأبولو؛ لم تكُن أدريان بصحبتهم لكي تودِّعه وترجو له حظًّا سعيدًا. فهي
تراقب بلا انفعال سفَرَ الرجال الثلاثة من خلف زجاجِ نافذةِ غرفتها. وقد قرَّر ستالوني/روكي
أن يتمَّ التدريب للمباراة في روسيا، أرض غريمه، لكي يستغلَّ على وجهٍ أفضل المونتاجَ
المتوازي للقطات التدريب الخاصة به وبدراجو.
وسيُبرز ذلك المونتاج المتوازي الفروقَ الجذرية بين الرجلَين طوالَ فترة التدريب:
فروكي
يتدرب وسط الطبيعة الموحِشة وفي منطقةٍ جبليَّة بعزبةٍ خربة تحاصرها الثلوجُ من كلِّ
جانب،
أمَّا دراجو فيُجري تمارينه في ملعبٍ حديث ومتكلِّف؛ حيث يخضع للاختبارات والتجارب بواسطة
أجهزةٍ مزوَّدة بتقنياتٍ دقيقة للغاية، كما لو كان إنسانًا آليًّا. غير أنَّ المونتاج
المتوازي ليس مقصدي هنا، بل ردود فِعل أدريان لإبراز نجومية بطل الفيلم. ولكنَّ أدريان
غائبةٌ في المرحلة الأُولى من التدريب، وقد تم التنويه بذلك من خلال ما أقدم عليه روكي
فور
وصوله إلى العزبة؛ إذ ثبَّت في ركنِ مِرآةٍ معلقة على حائط الكوخ الذي يقيم فيه صورتَين
إحداهما لابنه والثانية لخصمه دراجو، ممَّا يشير إلى أنه سيتدرب على سحق هذا الغريم بوصفه
«ربَّ أُسرةٍ طيِّب». غيرَ أنَّ ذلك لن يكون كافيًا؛ فهو في حاجة إلى نظرةِ زوجته؛ لكي
يكون
تدريبه مُجديًا، وحتى يعدو من أجل ابنه، ككلِّ أمريكي طيِّب، كما كان الحال في
روكي ۲.
وبالطبع لم يكُن الحماس الصفةَ المميِّزة لتدريبات المرحلة الأولى. وقد استهلَّها
المدرِّب ديوك بالخطاب المعهود في هذه المناسبة وهو يصوِّب إليه نظراته بكلِّ رصانة:
«عندما
مات أبولو، مات جزءٌ منِّي. لقد أردتُ أن أدرِّبك لكي تنتقم لأبولو، وسيكون ذلك صعبًا
للغاية، ولكنَّك ستتجاوز المخاطر وتتغلب على الروسي.» ولن يكون وصفُ اللقطات المتعلقة
بتلك
المرحلة سوى تكرار للنموذج المعهود في كلِّ فيلم من أفلام هذا المسلسل. غير أنَّ هناك
جانبَين في تلك المرحلة الأولى أودُّ التنويه بهما باختصار: الجانب الأول يتعلَّق بسلوك
روكي، والثاني بردود فِعل التمارين التي يؤدِّيها. والواقع أنهما جانبان اعتدنا على التفكير
بخصوصهما.
يؤدي روكي العمل المكلَّف به بكلِّ دقَّة وعناية، وهو عبارة عن عملية تخلُّص من الميول
البُرجوازية، وذلك عن طريق المجهود المُضني الذي يبذله الحطَّابون لقطع الأشجار. لقد
جاء
إلى بلاد السوفييت، وفي ذلك في حدِّ ذاته حافزٌ يدفعه إلى تكرار ما كان يقوم به الروَّاد
الأمريكيون الأوائل؛ لكي يتشرَّب بالخصال الحميدة التي يعتمد عليها النجاح الأمريكي.
وهو
يقوم أيضًا بجولاتٍ شاقَّة وسط الثلوج التي تصل إلى الرُّكبتَين. غيرَ أنَّ هناك قدْرًا
من
الآلية في سلوك روكي. فلو أمعَنَ المرءُ في الأمر لتبيَّن له أنَّه لا يختلف كثيرًا عن
سلوك
دراجو المجرَّد من أيَّة سمة شخصية، والأقرب إلى تصرفات الإنسان الآلي، وهو ما يعرض علينا
عن طريق المونتاج المتوازي. والواقع أنَّ ردود الفعل الخاصة بروكي هي التي توحي بذلك؛
فهي
قليلة على عكس تلك التي تخصُّ دراجو. كان الجزء الأكبر من نشاط روكي يتمُّ في الخلاء
وسطَ
الطبيعة القاسية، ولذا فهو وحده في مجالِ الشاشة، ولا تتَّجه إليه إلا القليل من الأنظار
من
خارج مجاله المباشِر؛ ففيما عدا لقطةً واحدة كبيرة لمدرِّبه وهو يراقب تمارينه، تكون
ردود
الفعل الأخرى من جانب الحرَّاس الرُّوس المكلَّفين بحمايته وهم يراقبون انهماكه في قطْعِ
الأشجار ويرصدون أحيانًا سلوكه الغريب بالمِنظار المقرِّب، وردود الفعل هذه فاترةٌ أو
قلِقة
أو عدائية. وهكذا يكون روكي خاضعًا للرقابة.
ولكن الرقابة مفروضةٌ أيضًا على غريمه الروسي دراجو، حتى وإن كان هناك تعارُض بين
اللقطات
الخاصة بروكي وتلك الخاصة بدراجو، رغم تداخلهما؛ فالملاكِم الأمريكي يكدُّ كالمعتوه وسط
الثلوج والروسي يتدرب داخل ملعبٍ مزوَّد بأحدث الأجهزة الإلكترونية. غير أنَّ كلًّا منها
يلقى ردود فِعل من نفس النوع. فهي أكثر بالنسبة لدراجي وأقرب إليه؛ لأنها تتمُّ في مكانٍ
مغلَق، وعن طريق مدير أعماله ومدرِّبيه والفنيين في مجال الإلكترونيات وزوجته، وجميعها
تعبِّر عن قلق أخصائيين ويخضع لملاحظاتٍ مدروسة وفحوصٍ علمية. غير أنَّ المخرِج ستالوني
يرى
أن هذه الانفعالات إزاء دراجي الروسي منطقيةً؛ فهو ليس إلا فردًا تحوَّل إلى إنسان آلي
مكرَّس لخدمة الجماهير. على أنَّ هذا النوع من ردود الأفعال مرفوضٌ بالنسبة لروكي، ويتعيَّن
تدارُكها. ولكنْ كيف؟ بإحضار أدريان من الولايات المتحدة؛ فهي تظهر فجأةً في اللحظة التي
يعود فيها روكي إلى المعسكر، بعد يومٍ من العمل الشاقِّ وهو بمفرده. وتقول له أدريان:
«لقد
افتقدتُك.» ويردُّ عليها: «وأنا أيضًا مشتاقٌ إليكِ.» وبوُسعنا أن نُضيف أننا افتقدناها
نحن
أيضًا. وهنا يتعانقان بمصاحبة الموسيقى ووسط خلفيةٍ من الثلوج، إنه التحول المفاجئ.
وجميع اللقطات الأُولى من مرحلة التدريب الثانية داخليةٌ وضيِّقة وقصيرة وسريعة، حيث
يقفز
البطل ويرقص على أرضية الكوخ المكسوَّة بجذوع الأشجار، ويتعلَّق بعوارض السقف ويرفع أحجارًا
في القبو، وكل ذلك في ظِل ردود الفعل التي تحاصره من كافَّة الجوانب. ويتباطأ ظهور لقطات
تدريب دراجو في المشهد، وذلك لسببٍ واضح؛ إذ يتعيَّن أن نُحاط علمًا بأنَّ روكي المؤيَّد
بلقطاتِ رد فِعل مندوبينا لديه، قد استعاد من الآن فصاعدًا مركزه، وأنه لا مجال بالتالي
لإقصائه من هذا المركز عندما يأتي دور لقطات تدريب البطل الروسي الغريم، المتزامنة مع
تدريب
بطلنا. والواقع أنَّ دراجو يصبح في وضعٍ أدنى منذ بداية المونتاج المتوازي وحتى نهايته؛
فالطابع الآلي والغاشم لتمارينه يزداد، وردود فِعل التجسُّس تقلُّ، وهو عادةً وحده في
مجال
الشاشة كالآلة التي تتحرك من تلقاء نفسها بكفاءة، مع إبراز ذلك في لقطاتٍ كبيرة متميزة.
وهو
يظلُّ داخل الملعب تحت التصرف المطلَق لخُفرائه.
أمَّا روكي، فقد انتقل من برودة الشتاء القارص إلى داخل الكوخ؛ حيث يعكف على تدفئة
عضلاته
التي تنتفخ في ظِل نظرات مندوبينا الثلاثة الودودة وقد تجمَّعوا حوله من جديد، وعندما
سيترك
الكوخ بعد أن يفرك في يده صورةَ دراجو التي انتزعها من ركنِ مِرآةِ غرفته؛ سيكون مستعدًّا
لمواجهة الطبيعة القاسية للحدود المفروضة، بعد أن استردَّ أهليَّته وتشبَّع من جديد
بالتقاليد الأُسرية للرواد الأوائل. وهكذا سينطلق في سِباقٍ جدير بالجبابرة، فيتخطَّى
الثلوج المتراكمة ويهبط المنحدرات المغطَّاة بالجليد ويعبُر الجداول والبُحيرات المتجمِّدة،
في ظِل إيقاعات الموسيقى المظفرة وبصحبة جوقةِ المغنين، لكي تنتصب قامته في النهاية فوق
قمَّةٍ جبلية، حيث يصيح بأعلى صوته مناديًا خصمه دراجو.