لكل ثقافة وعاؤها
كان مما يلفت نظري دائمًا، أن أبناء ثقافة معينة، إذا ما ترجموا شيئًا من ثقافة أخرى، لم يسعهم في كثير جدًّا من الحالات، إلا أن يصبُّوا الفكرة المنقولة في قوالبهم الفكرية، فإذا هي عندهم شيء يختلف اختلافًا بعيدًا عن الأصل المنقول، ويحضرني الآن مَثَلٌ صغير، لكنه قوي الدلالة، وذلك أني كنت ذات يوم أقرأ الترجمة الإنجليزية لإحدى حكايات ألف ليلة وليلة، فلما أراد المترجم أن ينقل عبارةً عربية فيها دعاء شخصي لآخرَ بأن يُكثر له الله في «الخير» لم يجد في ثقافته الإنجليزية ما ينقل إليه كلمة «خير» إلا كلمة «دخل»، فأصبح الدعاء القائل في العربية: «زاد الله من خيرك» دعاءً في الإنجليزية يقول: «زاد الله من دخلك.»
وليس «الدخل» الذي يسهُل قياسه بالجنيهات أو ما يعادلها من وحدات المال، مرادفًا ﻟ «الخير» في السياق العربي الذي أسلفناه؛ لأن الخير في هذا المعنى أمرٌ يصعُب قياسه بأي معيار؛ فهو الدخل مضافًا إليه «بركة» من الله تجعل قليله كثيرًا؛ فالبركة في التصور العربي لا يكفي لحسابها وحداتٌ عددية أيًّا كان نوعها، أو بعبارة أخرى، هي حقيقةٌ «كيفيةٌ» يستحيل تحويلها تحويلًا كاملًا إلى صيغةٍ «كمية».
هكذا تختلف الثقافات اختلافًا يتعذَّر عبوره، مما يثير في النفس رِيبةً عندما يُقال إن هذا الكتاب العربي — مثلًا — ترجمةٌ لذلك الكتاب الإنجليزي أو الفرنسي أو غيرهما من اللغات، وتستطيع أن تقرأ في هذا المعنى، ما كتبه أديب العربية العملاق «الجاحظ» (في الجزء الأول من كتابه «الحيوان») بمناسبة ما رآه في بغداد من حركةٍ للترجمة عن اليونانية على أوسع نطاق، فتساءل في دقةٍ وعمقٍ بما معناه، تُرى كم هنالك من التطابق بين الأصل اليوناني والصورة العربية؟
ولقد وقعتُ في هذا الباب على دراسةٍ في الأدب المقارن، قام بها باحث ياباني، لِتقارن مقارنة تفصيلية دقيقة بين حكايات «إيسوب» في أصلها اليوناني، وترجماتها الإنجليزية والفرنسية واليابانية، ليستخرج من هذه المقارنة اختلاف «القيم» أو العادات أو التصوُّرات عند الشعوب المختلفة، وذلك على الأساس الذي أسلفناه، وهو أن المترجم في كل لغةٍ لا يستطيع إلا أن يَصبَّ الأفكار الأصلية في قوالبِ لغته، فتحدث المقارنة بين الأصل والصورة في كثير جدًّا من الحالات.
ولعله من المفيد — قبل أن أمضي في الحديث — أن أذكِّر القارئ بأن «إيسوب» كان أول مَن كتب على لسان الحيوان والطير مجموعةَ حكاياتٍ مما جرى العُرف على تسميته بالحكايات الخرافية (ولست أوافق على استخدام معنى «الخرافة» في هذا الضرب من الخيال الأدبي)؛ فقد كتب إيسوب حكاياته تلك في القرن السادس قبل الميلاد، ثم ما هي إلا أن تُرجمت إلى اللاتينية، ثم إلى كثير من اللغات الأوروبية الحديثة، لعل أشهرها بيننا هي ترجمة «لافونتين» الفرنسية، إبَّان القرن السابع عشر، وكان للغة العربية حظُّها في ذلك، فترجمها محمد عثمان جلال (تُوفي عام ١٨٩٨م) وهو مترجِم من تلاميذ رفاعة الطهطاوي، وله ترجماتٌ كثيرة عن الأدب الفرنسي بصفة خاصة، وقد ترجم حكايات لافونتين المنظومة شعرًا، إلى نظمٍ عربيٍّ كذلك.
وأحسب أن ليس فينا مَن لم تصادفه بعضُ النماذج من تلك الحكايات، في كُتُب المطالعة العربية في المدارس الابتدائية، وأقول ذلك لأن حكاية «الفأر والأسد» كانت من الأمثلة التي صبَّ عليها الباحث الياباني تحليله العجيب، وخلاصة الحكاية كما يذكر القارئ، أن أسدًا أخذته غفوةُ النعاس، فمشى على جسده فأر، حتى إذا ما بلغ وجهه، استيقظ الأسد من نومه وأمسك بالفأر فاستعطفه الفأر أن يطلق سراحه ولعله ينفعه ذات مرة. فلم يعبأ الأسد بهذا الإغراء لكنه أطلق الفأر، ثم لم تمضِ إلا أيام قلائل، وإذا الأسد يزأر مرتاعًا من هولٍ أصابه، وسمع الفأر زئيره وعرف صوته، فاتجه إليه، ووجده في أُحبولةِ صياد لا يستطيع منها فِكاكًا، فأخذ الفأر يَقرض الحبال بأسنانه، حتى مكَّن الأسدَ من الإفلات، وكما هي العادة في حكايات إيسوب (ولافونتين من بعده) تُختتم الحكاية بالحكمة المستفادة منها، والحكمة هنا هي ألا نستصغر أحدًا؛ إذ لا يدري الإنسان من أين يأتيه الخلاص.
إنها حكايةٌ نذكرها جميعًا من كتب المطالعة كما قلت، لكن انظر إلى النتائج المذهلة التي استخلصها الباحث الياباني من مقارنته للترجمات المختلفة في اللغات المختلفة، ولقد وقفت طويلًا عند نتيجتين: الأولى هي أن طريقة الخطاب من الفأر إلى الأسد قد اختلفت عند المترجمين بسبب اختلاف ثقافاتهم؛ ففي الترجمة الإنجليزية لم يستخدم الفأر أية لفظة للتعظيم، إنه لم يَقُل للأسد — مثلًا — يا صاحب الجلالة، ولا يا صاحب العظمة، ولا أي شيء من هذا القبيل، بل خاطبه بضمير المخاطَب المفرد، قائلًا له ما معناه «أنت» بصورة بسيطة مباشرة، وأما في الترجمة اليابانية للحكاية، فقد أضاف المترجِم عبارةَ «يا صاحب الفخامة»، وأرجِّح أن تكون الترجمة العربية قد أضافت عبارة «يا مولاي» على الأقل إن لم تكن قد زادت على ذلك ألقابًا أخرى للتعظيم.
وأما النتيجة الثانية التي استوقفتني فهي عن التعليل الذي تُفسِّر به الحكاية إطلاق الأسد للفأر، فلماذا خلَّى سبيله وكان المتوقَّع أن يفتك به، ها هنا أيضًا اختلفت الثقافات عند الترجمة؛ فالمترجم الإنجليزي جعل الأسد يحس بشعور الفكاهة في أن يعده الفأر — برغم قدرته المحدودة — رد الجميل، وأما في الترجمة اليابانية، وفي الترجمة الفرنسية كذلك، حيث كان لطبقة الأشراف في كلا البلدين شأن عظيم، وحيث كانت «الكرامة» في نظر النبلاء، بالمعنى الذي كانوا يفهمونه منها، هي القيمة العليا، ومن مقتضيات تلك الكرامة عندهم ألا يقاتل النبيل مَن هو أدنى منه مرتبةً في البناء الاجتماعي؛ ذلك أن الترجمة اليابانية للحكايات وقعت في القرن السادس عشر، عندما كانت طبقة «الساموراي» (أي طبقة النبلاء المقاتلين بسيوفهم)، لها المكانة العليا ووقعت الترجمة الفرنسية في القرن السابع عشر، في عهد لويس الرابع عشر يحيط به طبقة الأشراف بكل مظاهر الأرستقراطية، أقول إنه في ظل الثقافتين اليابانية والفرنسية في عهد الأرستقراطية في كلٍّ منهما، أجرى المترجم في سياق ترجمته تفسيرًا على لسان الأسد لإطلاق سراح الفأر، وهو أنه مما يجرح كرامة الأسد في موضعه السامي من مملكة الحيوان أن يثأر من فأرٍ غير ذي وزن ولا مكانة.
وكذلك جاء التفسير في الترجمة الأمريكية لافتًا للنظر، وهو أن الأسد في تصوُّر المترجِم الأمريكي، لم يأكل الفأر؛ لأنه لم يكن في تلك اللحظة جائعًا يريد الطعام؛ فالأمر هنا أمر «منفعة» مباشرة، لا أمر «قيمة» عليا.
هكذا صبَّت كلُّ ثقافة روحَها فيما تترجمه من الثقافات الأخرى، ألم يترجم العرب لفظتي «تراجيديا» و«كوميديا» (عندما ترجموا أرسطو) بلفظتي شعر «المديح» وشعر «الهجاء»؟ لم يكن لديهم مسرح، فلم يكن في أذهانهم تصوُّر صحيح للغة الأدب المسرحي؛ ولذلك وضعوا معانيها في القوالب التي يألَفونها؛ فكل إناء ثقافي ينضح بما فيه، ولا حيلةَ لنا في ذلك، لكننا قلما نتنبَّه إلى هذه الحقيقة، فننسى أن جانبًا من المعاني التي ننقلها من الثقافات الأخرى، هو من تصوراتنا نحن لما نقلناه، ثم يزعم الزاعمون أنها «ثقافة مستوردة» على نحوِ ما يقول بعضنا الآن.
بل الأمر أبعدُ من ذلك مدًى؛ فهو لا يقتصر على النقل من لغةٍ إلى لغة، وإنما يجاوز ذلك إلى النقل من عصرٍ إلى عصر، في تاريخ اللغة الواحدة؛ فنحن العرب المحْدَثين، إذ ننقل ألفاظنا وعباراتٍ استخدمها العرب السابقون، نتوهَّم أننا إنما نستخدم ما نقلناه بالمعاني نفسها التي أرادها السابقون مع أن تغيُّر خبراتنا عن خبراتهم، يجعله ضربًا من المحال أن تظل أوعيةُ اللغة حاملةً للمعاني نفسها برغم ذلك الاختلاف البعيد في الخبرات؛ فلقد كنت أقرأ منذ أيامٍ قليلة مقالةً يبيِّن فيها كاتبها المعاني الأصلية لهذه الأسماء: حصان، فرس، جواد، خيل، فكان مما نبَّه إليه أن «الفرس» فيها معنى الافتراس؛ ولذلك فهي أصلح لحالة الهجوم في القتال، على خلاف اسم «الحصان» لأنه يحمل في طيه معنى الحصن والتحصُّن والحصانة؛ ولذلك فهو الأصلح لحالة الدفاع … إلى آخر ما أورد كاتب المقال في تحليله، فإذا كان مصيبًا في تحليله ذاك، أفلا ينشأ لدينا سؤال، هو: هل منَّا مَن يلتفت إلى المحتوى الأصيل لهذه الأسماء وهو يستخدمها؟ لقد ذهب ذلك المحتوى مع ذهاب الخبرات التي كانت أنشأته وأصبح لنا خبرات أخرى مع هذا الصنف من الحيوان، فلم نعد نستخدمه في القتال، وبالتالي لم تَعُد هناك ضرورة لإيجاد الفوارق بين فرس يهجم وحصان يدافع وما إلى ذلك من فواصل، إننا نعلم أن «المترادفات» الكثيرة في اللغة العربية للمعنى الواحدة لم تكن في الأصل مترادفاتٍ متطابقة المعنى، بل كانت أسماءً مختلفةً لحالاتٍ مختلفة، ثم ذهبت منَّا خبرة الحياة الماضية التي كانت تتطلب إيجاد تلك الفوارق، فسقطت بالتالي من حسابنا، وأصبحت عندنا «مترادفات»؛ أي متطابقات في معناها، بعد أن لم تكن كذلك.
إنه ليكفينا هذا التحوُّل في خبرة الإنسان عصرًا بعد عصر، وجيلًا بعد جيل، ليدرك كم هو كلام بغير معنًى يُقال لنا: أعيدوا الثقافة العربية القديمة لتحيا بنا ونحيا بها مرة أخرى، اللهم إلا إذا وضعنا لمثلِ هذا القول قيودًا وحدودًا تجعله ممكن التطبيق.