قواقع من ثمود
كانت السور القصار هي أول ما التقى بسمعي من القرآن الكريم، وأقول «سمعي» ولا أقول «عقلي»؛ إذ كيف كان لصبي في الخامسة أن يدرك ما احتوى عليه اللفظ القرآني المعجِز من معانٍ، اقتضته بعد ذلك عمرًا طويلًا ملأه بالدرس والتأمُّل، ليفهمها الفهْم الصحيح، أو ما ظنَّه الفهْم الصحيح؟ لكن صبي الخامسة — مع ذلك — قد أرهف أذنيه للنغم، فما زلتُ أذكر — بعد هذه الأعوام الطوال — كيف كان ذلك الصبي المفتون بما سمع وما حفظ، يترنم لنفسه بآياتٍ خاصة أكثر من سواها، ولست أدري الآن ماذا كان سر اختياره لما يترنم به، وكان منه قوله تعالى في سورة الشمس: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا.
إن الصبي لم يسأل يومئذٍ، ولا قيل له بغير سؤال، ما ناقة الله؟ وما سقياها؟ ومَن هم ثمود الذين قيل لهم هذا القول؟ ومَن رسول الله الذي قاله؟ ولماذا كذَّبوه؟ وما الذي فعلته ناقة الله بالقوم حتى ضاقت بها صدورهم فعقروها؟ لا، لم يسأل الصبي عن شيء من هذا، ولا طاف بباله أن يسأل، وربما لو سأل لما جاءه الجواب.
ومضت السنون وأصبح الصبي شابًّا طلعة، يُكثِر الأسئلة عما يصادفه من صنوف المعرفة التي أخذت تتكاثر عليه، وقد كان ذلك الشاب محبًّا لقراءة القرآن ولبِث أعوامًا يقسِّم الكتاب الكريم بين أيام الشهر ليقرأ في كل يوم جزءًا من أجزائه الثلاثين، ووقف عند سورة الشمس مرة أخرى، فلم يزل مفتونًا بنغمها كما كان سلفه الصبي مفتونًا. لكنه في تلك المرحلة الجديدة كان قد فهم من معانيها ما لم يحاول الصبي أن يفهمه، لولا أنه هذه المرة قد وقف وقفة متسائلة، ولم يعثر على شيء يرضي فيه تساؤله ذاك طوال الشباب، بل وما بعد الشباب بكثير، وكان مصدر حيرته هو الرابطة التي عساها أن تربط قول رسول الله لقبائل ثمود، ما قاله عن ناقة الله وسقياها، بالآيات الأولى من السورة؛ فالآيات الأولى ضروبٌ من القسم، بمشاهدَ من الطبيعة أولًا، وبجوانبَ من طبيعة الإنسان ثانيًا: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا — تلك هي مشاهدُ الطبيعة التي أقسم بها سبحانه وتعالى، ثم تأتي جوانبُ من فطرة الإنسان: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا وعند هذه اللحظة تَحدث النقلة فجأة: كَذَّبَتْ ثَمُودُ … إلخ، فكان السؤال الذي طرحه الشاب، وطرحه الرجل الناضج من بعده، سؤالًا يريد أن يفهم الرابطة بين آيات القسم في مرحلتيها السابقتين، وتكذيب ثمود الذي استدعى من رسول الله أن يوجِّه إليهم نذيره، ثم دارت دورة السنين مرحلة أخرى، فإذا الرابطة المقنَّعة تتجلى أمام الشيخ المتأمِّل، وقد كان يمكن لها أن تتجلَّى قبل ذلك لو أنه أمعن النظر في تفصيلات الموقف، ووقع فيه على الحقيقة المفتاح.
وتلك الحقيقة المفتاح هي أن قبائل ثمود عُرفت ببراعتها في فن النحت، تنحِت الصخر بيوتًا وتماثيلَ وما شاءت لها موهبتها الفنية أن «تبدعه»، كان الوادي الذي يسكنونه (فيما هو الآن حدود الأردن مع الجزيرة العربية) صخري القاع والجدران، فأغرى أهله بأن يتخذوا من فن النحت متعةً وموردَ كسْبٍ في آنٍ معًا؛ إذ كانوا يبيعون التماثيل (أو الأصنام إذا شئت) للمسافرين من الجزيرة العربية إلى الشام أو من الشام إلى الجزيرة العربية.
فلما أُرسل إليهم «صالح» عليه السلام، كانت معجزته من جنسِ ما برعوا فيه — وهو الشأن في معجزات الأنبياء جميعًا؟ فإذا كانت براعتهم أن يقدُّوا من الصخر تماثيلَ تحاكي الأحياء، فليُخرِج لهم رسولُ الله من الصخر ذاتِه كائنًا حيًّا، هو الناقة التي انشق عنها الصخر فخرجت لهم كاملةَ التكوين نابضةً الحياة، لم يلدها أبوان، ولم تتدرج في النماء، فَبُهت القوم لما يرون ماثلًا أمام أبصارهم، إنها ناقة الله.
وتريد ناقة الله أن تشرب كما يشرب سائرُ الأحياء، ويطالب لها رسول الله صالح عليه السلام بالسقيا، فلم يكن من جماعة ثمود إلا أن تشعر بالهزيمة، وكان أقسى جوانب هزيمتهم هو شعورهم بالنكبة في موضوع اعتزازهم وفخرهم، ألا وهو إخراج الكائنات المنحوتة من صُم الجلاميد، فأين يكون كلُّ ما أخرجوه من تماثيلَ إذا قيس إلى هذه الآية المعجزة تنبثق من جوف الصخور؟ لكن العزة قد أخذتهم بالإثم، فكذبوا الرسول فيما تشهده الأبصار، وعقروا الناقة غيظًا، فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا.
وضحت لي الرابطة التي كنت أبحث عنها في سورة الشمس؛ فالعقل عند تلاوتها ينتقل انتقالًا مسلسلًا جميلًا، من مشاهد الكون الفسيح إلى دخيلة النفس الإنسانية المنطوية على فطرةٍ محايدة، تتشكَّل فجورًا عند الفاجر وتقوى عند التقي، ثم ينتقل العقل من هذه النفس في جملتها إلى مجال إبداعها الفني، هكذا يكون التسلسل: الكون، فالإنسان مجتزأ من ذلك الكون، فالفن مجتزأ من ذلك الإنسان.
وعند انتقال الذهن — في مجال الفن — من المنحوتات الصخرية التي كانت تبدعها ثمود إلى الناقة المعجزة التي انشق عنها الصخر فكأنما تضيء له ومضة من الإلهام بأن الفن كله إما أن يكون من أجل الحياة وإما ألا يكون، وكيف يكون الفن من أجل الحياة؟ إن الإنسان يريد أن يحيا حياته طولًا وعرضًا وعمقًا ما استطاع سبيلًا، فإما أن يحياها طولًا فذلك قد يكون مرهونًا — من جانب الإنسان — بنتاج العلوم الخاصة بالتغذية والصحة والطب وما إليها، وإما أن يحياها بالعرض فمتوقِّف على اتساع الدائرة التي يجول فيها فيزداد خبرةً بالأرض والسماء وما بينهما، وإما أن يحيا حياته عمقًا فها هنا تأتي الفلسفة ويأتي الفن؛ لأن نتاج العلم في الحالة الأولى واتساع الخبرة في الحالة الثانية، إنما يأتيان إلينا متفرقات مجزأة لا رابطة بينها، إننا عندئذٍ نكون كمن يصادف أفرادًا من الناس هنا وهناك دون أن يعلم أنهم أبناء أسرة واحدة حتى إذا ما عرف عنهم هذه الرابطة كان كمن يراهم رؤيةً أوضح، وهكذا تفعل الفلسفة بمتفرقات المعرفة تحاول أن تكشف عن الرباط الذي يجمعها عند نقطة التقاء واحدة. وأما الفن فأمره عجب لأنه هو الذي يكشف لك عما وراء الأقنعة التي تستر عنك حقائقَ الناس وطبائعَ الأشياء؛ فمَن ذا الذي كشف عن العلاقة الدفينة بين الولد والوالدين إلا سوفوكليز في أوديب؟ مَن ذا الذي كشف عن حقيقة الازدواج الوجداني بين البنات وأبيهن إلا شكسبير في الملك لير؟ مَن ذا الذي كشف الستار عن دخيلة البخلاء إلا الجاحظ؟ مَن ذا الذي جسَّد تطلُّع الإنسان إلى الخلود أروع مما جسَّده الفنان المصري القديم؟
نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا هذا ما طالب به رسول الله جماعةَ ثمود، وأما ناقة الله فقد أصبحت توحي إليَّ بمعنى التفوُّق عما هو سائد بين الناس، كان السائد في قبائل ثمود أن يُنْحت الصخر أصنامًا لا تنفع ولا تشفع، فخرجت ناقةُ الله من جلمود الصخر لتقيم المثِال بأن يكون الفن للحياة، وما دام المثل الأعلى قد ارتسم أمام الأبصار والأذهان وجب على الناس رعايته و«سقياه» ليعيش. لكن ثمود أخذتها الغيرة العمياء حفاظًا على ما هم فيه، فعقروا الناقة المعجزة لئلا تظل أمامهم تتحدى.
ولم تنفرد ثمود دون سائر البشر بنيران الغيظ المسموم التي تأكل القلوب أكلًا وتنهش الأكباد نهشًا، بل إن في كل قومٍ جماعةً من ثمود! فإذا كانت ثمود قد عقرت الناقة المعجزة ليطمسوا الشاهد الذي يُظهِر ضآلة فنهم، فما زلنا حتى يومنا نتلفت حولنا فإذا بقايا ثمود لم تزل فينا حيةً تسعى، ولن أتحدَّث هنا عن أقوامٍ بعيدةٍ لا أعرف عنها إلا قشورًا من أخبارها بل إني لأوجِّه بصري إلى الدائرة الضيقة التي أعرف أفرادها باطنًا لظاهر، فيقع البصر أولَّ ما يقع على قواقعَ ثموديةٍ رابضة في حنايا الصخور، أخذت على نفسها ألا يرفع رأسه رافعٌ إلا وتتوالى منها الضربات على أم ذلك الرأس حتى يتهشم أو يختفي، فإذا أراد صاحبه أن يعيش كان الشرط الأول لبقائه هو أن يتجانس معهم في هزال الفكر وضيق الأفق.
نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا هذا هو اللواء الذي يجب أن يرتفع فوق الرءوس لنهتدي بضيائه بمعنى الدعوة إلى التفوُّق والامتياز، ثم رعاية ذلك التفوق وهذا الامتياز بالغذاء الصالح حتى لا ينتكس.
تفوَّق سُقْراطُ على سائر مواطنيه فكان جزاؤه المحاكمة، وجريًا على سنَّة القانون اليوناني عندئذٍ طلبت منه المحكمةُ أن يقترح على نفسه حكمًا ليوازن بينه وبين حكم القضاة لعلهم يلتمسون نقطةً وسطًا، فأجابهم ساخرًا بقوله إنه لا يرى إلا أن تُجري عليه الدولة راتبًا لما يؤديه نحو أثينا وصالحها.
هكذا بدأ الصبي الذي كنته عند الخامسة مفتونًا بالنغم الحلو في قوله تعالى: فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ نَاقَةَ اللهِ وَسُقْيَاهَا، وهكذا انتهى الشيخ مرورًا بتطلُّع الشباب ونضْج الرجولة إلى ما وراء النغم الجميل من مبدأ للارتقاء بالناس نحو الأعلى، فإذا كذَّبت فينا ثمود حقَّت عليها اللعنة إلى يوم الدين.