ألف ليلة وليلتان
هي مغامرة في دنيا الخيال، غامر بها بعض أدباء الغرب، وليس في علمي أن أديبًا عربيًّا غامر بمثل ما غامروا؛ ذلك أن شهرزاد — كما نعلم جميعًا منذ الطفولة — قد عرفت للكلام سرَّه وسحره، فأخذت تصبُّ حكاياتها في مسمع شهريار الملك، على فترةٍ طالت حتى بلغت ألف ليلة وليلة، فاستطاعت بحلاوة الخيال أن تصرِف شهريار عن قتل بنات جنسها؛ إذ لولاها لقتل واحدةً منهن كل ليلة.
وخطر سؤال على بعض أدباء الغرب، هو: ماذا حدث لشهرزاد في الليلة الثانية بعد الألف؟ وكان بين هؤلاء الأدباء «إدجار ألن بو» في قصةٍ له جعل عنوانها «الحكاية الثانية بعد الألف لشهرزاد» بدأها بقوله إنه عثر على مخطوطة قديمة، ربما كانت مجهولة عند المشتغلين بتحقيق النصوص، وإذا هي مخطوطة تحمل قصة شهرزاد، وقد أخذتها شهوة القصص بعد أن كانت أكملت مهمتها، فأرادت في الليلة الثانية بعد الألف أن تستأنف حكاياتها بحكاية أخرى، زعمت لشهريار أنها تتمة لما كانت قصَّته عليه من مغامرات سندباد، لكن شهريار ضاق صدرًا تلك الليلة بشهرزاد، ولم يُرِد أن يسمع منها شيئًا، وأمر بها الجلاد فساقها إلى القتل، لتلحق بأخواتٍ لها سبقنها إلى المصير نفسه، وهكذا لاحقتها ثرثرة النساء حتى لحقتها بلعنتها.
وكذلك حاول أديبٌ آخر، هو الذي اشتهر في الأدب باسمٍ مستعار، وهو «مارك توين» (واسمه الحقيقي صموئيل كلمنس)؛ إذ حاول بدوره أن يضيف ليلة إلى الألف ليلة وليلة، ولم يتسع خياله بأكثر مما اتسع خيال «إدجار ألن بو»، فجعل شهريار يضيق بثرثرة شهرزاد، فأمر بها هو الآخر أن تُساق إلى المصير المشئوم، لولا أن بديهة القصاصة قد أسعفتها هذه المرة، بأن زعمت للملك أن ثمة حادثة خطيرة نسيت أن ترويها له، فليمهلها حتى تفرُغ منها، فما إن أذن لها بذلك حتى طفقت تحكي وتحكي، ليلة بعد ليلة إلى أن بلغ شهريار نهاية حياته.
قلت لجليسي: انظر إلى صورة الملوك العرب في تصوُّر أدباء الغرب، فهي صورة ليس فيها إلا السيف والدماء، مع أن هؤلاء الأدباء لو أدركوا الروح العربية بعمق، لرأوها روحًا تعشق الفن الأدبي إلى حد الفتنة به؛ فكان مما يتفق مع تلك الروح أن تبلغ شهرزاد بسحرِ أدبِها ما كانت قد بلغته بالفعل في الألف ليلة وليلة، ألا وهو أن تشيع السكينة في نفس الملك، فتهدأ عنده نوازع الشر، فلا يعود به ميْل إلى سفك الدم، وربما كان أدباء الغرب هؤلاء ليقتربوا من الصواب في إدراكهم للروح العربية في تأثُّرها الشديد بالفن الأدبي، لو جعلوا شهريار يُغدِق لشهرزاد العطاء في نهاية الشوط جزاءَ فنها.
قال جليسي: بماذا تصوِّر الليلة الثانية بعد الألف، لو كنت لتصورها؟
قلت له: أمهلني لحظة، وعلى أية حال فلن يكون مدار الخيال عندي كما كان عند «بو» و«توين»؛ فكلاهما أبقى لشهريار بعد استماعه للحكايات، ما كان له قبل استماعه لها، من رغبةٍ في الانتقام من المرأة، وكأن الكلام لم يكن له في نفسه أثر.
أخذني الصمت حينًا قصيرًا، وصديقي ينتظر، وسرحت بخواطري إلى حيث لا أدري، ثم انطلقت أروي:
«… في الليلة الثانية بعد الألف، همَّت شهرزاد بمغادرة قصر الملك، لتنخرط في سلك حياتها مع الناس، لكن شهريار لمحها من نافذة غرفته وهي تنزل الدَّرَج إلى الحديقة في طريقها إلى الخروج، فناداها أن عودي، فعادت، ولمَّا مثُلت بين يديه أبلغته في أدبِ الرعية نحو ملوكها، بأنها لا تنوي بعد الليلة أن تحكي كما كانت تحكي؛ لأنها لم تصدر في حكاياتها عن ثرثرة نسوية كما قد ظن أصحاب الظنون، بل أرادت أن تُدخِل الطمأنينة إلى نفس الملك؛ ليهدأ من قلقه وليبرأ من شهوته في قتل البريئات.
فقال لها شهريار، لك يا شهرزاد أن تصمتي ما شئت، وإنما دعوتك لأكون أنا الحاكي هذه الليلة، ولتكوني أنت المستمعة، على أن حكايتي لن تكون من جنس حكاياتك الفاتنة بسحرها؛ فقد كنت تستخدمين معي ضروبًا من الخيال الجريء الضارب بأجنحته في أجواز المُحَال، كنتِ تأخذينني على بِساط الريح تارة، وفي الأنفاق المحفورة في جوف الأرض تارة، كانت ضغطة خفيفة منكِ على خاتمٍ مسحور كفيلةً بزحزحة الجبال، وكانت لفظة واحدة تنفثها ساحرة، كافيةً لإخراج الجن من قماقمه، كان المصباح السحري يصنع المعجزات لعلاء الدين، وكان الرمز الخالي من المعنى يفتح مغاليق الكنوز.
أما حكايتي يا شهرزاد فلا خيال فيها ولا سحر، بل هي حقيقة مأخوذة من وثائق التاريخ؛ فقد جاءني خازن كتبي بكتابٍ يروي عن مدينة وأهلها أمرًا عجبًا؛ فهي مدينةٌ من ورق، كلها ورق في ورق، بيوتها من ورق، ومصانعها من ورق، وشوارعها وأنهارها وجسورها من ورق، وأعجب من ذلك أن طعام الناس فيها وشرابهم كانا كذلك من ورق، وأما الناس أنفسهم فهم كسائر الناس، كُسيت عظامهم لحمًا، وتجري في شرايينهم الدماء، ولهم أجهزة الأعصاب التي تفرح وتحزن وتسخط وترضى، كما أن لهم المَعِدات التي تهضم الطعام لو وجدت طعامًا.
قلت لخازن كتبي، وقد كان يفتح كتابًا في يده عند الموضوع الذي ذكرتُ فيه تلك المدينة العجيبة وتاريخها، قلت له اقرأ فإني مستمع! فقرأ لي عن هؤلاء الناس كيف كان وصف الشيء بالكلام يغنيهم عن الشيء نفسه؛ فهي طريقة مجرَّبة عندهم، مارسوها فنجحت فمضَوا في ممارستها أعوامًا بعد أعوام، فلا مات أحد من قلة الطعام والشراب، ولا انهدم بيتٌ على ساكنيه، ولا خلت الطرق من زحامها بعباد الله، ولم تهدأ للناس في تلك المدينة حركة لا بالليل ولا بالنهار.
اشتد بي العجب، فقلت للخازن: امضِ يا ولدي في قراءةِ ما أنت قارئه، قُل لي كيف كانت تلك المدينة تزرع زرْعها، وكيف كانت تصنع صنائعها، وكيف كانت تربي أبناءها، وكيف كانت تعالج شئونها جميعًا؟ فقرأ الخازن، وإذا اللغز يزداد غموضًا! كيف أمكن لهؤلاء القوم أن يقولوا للأرض الزراعية: زيدي فتزيد؟!
قال القارئ لشهريار: إنهم كانوا يستخدمون طُرق التنجيم، وهي طرق ورِثوها فيما ورثوا من حضارة السالفين؛ فقد كان لأسلافهم علمٌ اسمه علم الطلاسم.
سأله شهريار: أسرعْ وقُل لي كيف كان ذلك ليتم لهم؟
قال القارئ: مذكور في هذا الكتاب، أنه لكي ندرك كيف يفعل الطِّلَسْم فعْلَه فيما يُراد له أن يفعله، فينبغي أن نقلب هذه الكلمة، فعندئذٍ نراها تفسِّر نفسها بنفسها؛ فمقلوب الكلمة هو «مسلَّط» (بتشديد اللام)؛ أي إن شيئًا يُسلَّط على شيء؛ «فالسلطة» هي مكمن السرِّ في كل شيء.
فإذا ابتغينا استحداث شيء ما، سلَّطْنا عليه ما يماثله، وإذا أردنا أن نتقي شيئًا ما سلَّطْنا عليه ما يقابله؛ أي ما يضاده؛ فالمثيل يُستخدم لاستجلاب مثيله، والمقابل يُستخدم لإبعاد مقابله؟ على أن المماثلة والمقابلة مرتبطان بالكواكب والبروج؛ وعلماء التنجيم قادرون على أن يضبطوا التوقيت الذي يتم فيه استجلاب شيء تحت كوكب معيَّن أو في برج معيَّن، والذي يتم فيه إبعاد شيء يُراد التخلُّص منه.
فلنفرض الآن أننا نريد زيادة مساحة الأرض المزروعة دون أن نلجأ في ذلك إلى حسابٍ أو قلاب، فما علينا إلا أن نماثل بين الزراعة من جهة، وكواكب السماء وبروجها من جهة أخرى. أليست الزراعة تتميَّز بصفتين من الصفات الأربع التي كانت فيما مضى أساسًا للعلم كله، فتتميز الزراعة من تلك الصفات بصفتَي البرودة والرطوبة؟ إذن فلنبحث في بروج السماء عما يتصف بهاتين الصفتين المطلوبتين. ويقول علماء التنجيم في ذلك إن هنالك ثلاثة بروج فيها هاتان الصفتان، وهما بروج السرطان والعقرب والحوت؛ وبهذا يصبح الطريق واضحًا، وهو أن نكرِّر كلمة «زرع» آلاف المرات عندما يكون أحد هذه البروج قائمًا، فيحدث تسلُّط المثيل على مثيله، فتنزع الأرض كما أردنا لها.
وهكذا يا مولاي في كل الأمور، نريد مثلًا شفاء الناس من أمراضهم، فها هنا تكون الخطة هي أن نصنِّف خصائص الأمراض تحت الصفات، ومضى خازن الكتب يقرأ عليَّ — هكذا قال شهريار في حكايته لشهرزاد — كلَّ ما جاء في ذلك الكتاب العجيب عن تلك المدينة العجيبة، وكان من أغرب ما قرأ، أن المسألة كلها تبدأ بالحروف؛ فهنالك حروف نكتبها فإذا الشيء الفلاني يحدث، لما بين ذلك الشيء والحروف المكتوبة من صفة مشتركة، فإذا أراد القوم — مثلًا أن يزيدوا من كمية اللحم والدجاج في الأسواق، بحثوا أولًا عن طبيعة اللحم والدجاج من حيث صفاتها، فإذا وجدوا أنها تتصف بالحرارة والرطوبة، كتبوا على رقعة من الورق مجموعةَ الحروف الدالة على الحرارة، وهي: ا ﻫ ط ف ش د، وعلى رقعةٍ أخرى من الورق مجموعة الحروف الدالة على الرطوبة وهي: و ح ل ع ر خ غ، وتُوضع الرقعتان بطريقةٍ خاصة وفي وقت خاص، فإذا الأسواقُ ملأى باللحم والدجاج.
فماذا ترين يا شهرزاد في مدينة الورق وما يخط على الورق من حروفٍ فتتحقق لأهلها كل الأهداف؟
قالت شهرزاد: إنها يا مولاي لَمدينةٌ فاقت في غرابتها غرابةَ ما رويته لك من حكاياتٍ مُلئت بالعجائب، وفوق كلِّ عجيبةٍ عجيبةٌ أعجبُ، لكن لماذا أثارت فيك مدينة الورق وما عليه من كلمات سحرية، كلَّ هذا الاهتمام يا مولاي؟
فأجابها شهريار الملك قائلًا: كان أعجب ما ورد في الكتاب عن تلك المدينة، مما استوقف انتباهي وأثار اهتمامي، أن علماء التنجيم فيها قد تنبئوا بأن مدينةً أخرى مثلها سيشهدها العالَم بعد ميلاد المسيح بنحو عشرين قرنًا، فتمنيت لمدينتي أن يكون لها مثل هذا الحظ السعيد.»