تعدُّد المبادئ في البناء الواحد
كنت قد سألت طفلًا لا يتجاوز العاشرة، قائلًا: كم تستغرق من الزمن بين البيت والمدرسة؟ فأجاب الطفل: ذلك يعتمد على الطريقة التي أذهب بها؛ فإذا مشيتُ استغرقتُ نصف الساعة، وإذا جريتُ استغرقتُ ثلث الساعة، وإذا ركبتُ دراجتي لم يَزد معي الزمن على عشر دقائق.
عندئذٍ أذهلتني لمعةُ الذكاء في تلك الإجابة التحليلية الحذرة بقدرِ ما أذهلتني غفلتي عند إلقاء السؤال؛ فلقد سألت الطفل عن الزمن الذي تقتضيه المسافة بين البيت والمدرسة، غافلًا عن وسيلة الوصول مع أن الجانبَين مرتبط أحدهما بالآخر ارتباطًا لا فِكاك منه.
ومثل هذا التحليل الحَذِر، الذي لا تحمله الرغبة في التبسيط على تجاهُل التفصيلات الهامة، وهو التحليل الذي اهتدى إليه الطفل الذكي بفطرته، ضروري عندما يدير أبناءُ الشعب حوارهم حول «الديمقراطية» بُغية تعميقها؛ إذ لا بد لهذا التعميق أن يسبقه وضوحٌ تامٌّ لما تعنيه لنا هذه الكلمة المرنة المطاطة، حتى لقد استطاعت كل شعوب الأرض في دنيانا الحاضرة، أن تصف نفسها بالديمقراطية، كائنًا ما كان نوع الحكم القائم فيها، وإننا لنلحظ في استعمالِ الناس لهذه الكلمة في أحاديثهم خلطًا عجيبًا، يدل على غموض معناها في أذهانهم؛ فهم يطلقونها على المتواضع من الناس، ويطلقونها بمعنى «المساواة» بين أفراد الشعب، ويطلقونها بمعانٍ أخرى كثيرة.
إن هذا التوسُّع في فهْم «الديمقراطية» توسُّعًا لا تضبطه حدود، هو الذي قد ينتهي بنا إلى موقفٍ يفوتنا فيه أن نرى مبادئَ أخرى لا بد لها من الوقوف إلى جانب الديمقراطية في إقامة حياتنا، ولتوضيح ذلك أقول:
إننا لنسأل أنفسنا بادئ ذي بدء: ما هي الخصائص الأساسية التي منها تتكوَّن هوية هذا الشعب العظيم الأصيل؟ أعني ما هي العناصر الأساسية التي دامت مع هذا الشعب العريق على طول تاريخه الطويل؟ وذلك لأننا لو وفِّقنا في الإجابة عن هذا السؤال، لوجب علينا أن نقيم حياتنا على دعائمها، ولعلي لا أخطئ إذا قلت إن بين الخصائص الأساسية، ثلاثًا تجيء في مقدمتها، وهي التي ميَّزتنا منذ قديم، ولم تزل تميِّزنا، وأعني بها: الدين، والأسرة، والوطن، وكلمة «الوطن» هنا مذكورة لشمل المعنيين: معنى الأسرة الكبيرة التي هي الأمة، ومعنى رقعة الأرض التي هي مصر، والتي يحبُّها المصري لذاتها.
والسؤال الذي نطرحه الآن هو هذا: هل يكفي مبدأ «الديمقراطية» وحدَه ليكون أساسًا للتنظيم في هذه المجالات الثلاثة على السواء؟ أَوَنحن في حاجةٍ إلى مبادئ رئيسية أخرى تُضاف إلى مبدأ الديمقراطية كي نجد لكل مجالٍ ما يلائمه؟
ولعل هذا هو الموضع الذي نحدِّد فيه معنى «الديمقراطية» تحديدًا واضحًا وبسيطًا، وإني لأفضِّل في تحديده أن يكون ذلك عن طريق وظيفتها، لا عن طريق مضمونها النظري؛ لأن الدخول في مضمونها النظري، ينتهي بنا إلى متاهاتٍ هي نفسها المتاهات التي أتاحت لكل حكومات الدنيا أن تصف نفسها بالديمقراطية، على اختلافِ ما بين تلك الحكومات في التكوين وطريقة الأداء، أما إذا حدَّدنا معناها بالإجراءات التي تُتَّبع عند اتخاذ القرار، قلنا في بساطةٍ واضحة إنها هي التي تأخذ بطريقةِ عدِّ الأصوات؛ فالقرار النافذ هو ذلك الذي تصوِّت له أكثريةُ أفراد الشعب من الراشدين، ولما كان من المتعذر على هؤلاء الأفراد أن تُحصى أصواتهم عند كل قرار يُتَّخذ، لجأنا إلى مَن أنابوهم عنهم باختيارهم.
فحيثما وجدنا الوصول إلى قرارٍ بهذه الطريقة العددية، قلنا إنها الطريقة الديمقراطية، وهي طريقةٌ نجِدُها في مجلس الشعب وهو يصنع قرارًا ما، كما نجدها في هيئاتٍ أخرى كثيرة، كمجالس الإدارة في المؤسسات، ومجالس الكليات ومجالس الجامعات، ومختلِف اللجان التي تُعقد للبحث في موضوعٍ معيَّن بُغية الوصول إلى قرار، ونستطيع أن نلخِّص هذه الحالات برغم تنوُّعها، فنقول إن ديمقراطيةَ عدِّ الأصوات، هي الأداة الصالحة كلما كان الأمر متصلًا برسم «سياسة» محددة لخطوات السير عند التنفيذ.
لكن هذه الطريقة إن صلُحت في رسم السياسات الخاصة بشئون «الوطن» ومؤسساته فهي لا تَصلُح في المجالين الآخرين: مجال الدين، ومجال الأسرة؛ أما الدِّين فليس القرار فيه من صنْع البشر، وإنما يهبط عليهم وحيًا، وليس للناس إلا أن يطيعوه إيمانًا، وهذا واضح في شعائر الدين، فلم تكن أكثرية الأصوات هي التي حدَّدت كم يكون عدد الركعات في كل صلاة، لكن الذي قد لا يكون بنفس هذه الدرجة من الوضوح، ما استبطن في شعائر الدِّين وشرائعه من «قيم» يُراد لها أن تكون للناس معاييرَ لسلوكهم في سائر أوجه الحياة؛ فكلما استخلص لنا العلماء معيارًا منها، كان ذلك المعيار بمثابة المبدأ الذي نقيم عليه نظامنا في مجاله، ويهمني في موضوع حديثي هذا من تلك المبادئ المستنبطة من شعائر الدين وشرائعه، مبدأ التفاوت في قدرات الناس حتى لا تُكلَّف نفسٌ إِلا وُسْعَها.
ومعنى ذلك عند التطبيق هو أنه كلما كان المجالُ مجالَ «قدرة» بأي معنًى من معانيها، وجب أن يستند القرار عند اتخاذه إلى «القدرة» وحدَها حتى لو جاءت أغلبيةُ الأصوات مخالِفةً لذلك، بعبارةٍ أخرى ليست «الديمقراطية» (وقد حدَّدناها بقولنا إنها طريقةُ عدِّ الأصوات) في هذه الحالة هي وسيلتنا إلى صنْع القرار، ما دام الأمر مرهونًا بمهارة معينة، أو قدرة خاصة، بغيرها يتعذَّر أداءُ ما يُراد أداؤه، وأمثلة ذلك كثيرة في حياتنا: فدخول الجامعات قائمٌ على أساس الأكفأ، لا على أساس الاختيار بأكثرية الأصوات، واختيار أصحاب المناصب العليا كالوزراء والمحافظين وأساتذة الجامعات ورؤساء المؤسسات، بل إن اختيارك للصانع الذي ينجز لك عملًا إنما يكون على أساس مهارته في حرفته، وهكذا. ولقد أجرى شعبنا هذا المعنى في أمثاله الجارية، حين أوصى أن تُوكَل صناعة الخبز إلى خبَّازه حتى إذا لم يكن أمينًا، فاحتجز لنفسه من الخبز شيئًا.
نعم إن الوسيلة الديمقراطية هنا قد تُتَّبع ابتداء، كأن يقرِّر مجلس الشعب — مثلًا — أن التحاق الطلاب بالجامعات يجب أن يُقام على أساس الكفاءة وحدَها فعندئذٍ يكون مثل هذا القرار ديمقراطيًّا لأنه أُخِذ بأكثرية الأصوات. لكن ذلك لا يتعارض مع قولنا إن أساس التنظيم في قبول الطلاب هو «القدرة» لا الرغبة المؤيدة بِعَدِّ الأصوات، فإذا كان رسم السياسات قائمًا على الديمقراطية (عد الأصوات) فمجال العمل بكل فنونه مداره الجدارة والقدرة على الأداء الأكمل، وعلى هذا الأساس ترانا لا نسوي بين قادة الجيش الذين يضعون خطة القتال، وضباطه وجنوده الذين ينفِّذون، وكذلك لا نسوي بين المدرِّس وتلاميذه في تحديد الحقائق العلمية، وغير ذلك من الحالات التي لا ينبغي لمبدأ الديمقراطية أن يكون فيها طريقًا لاتخاذ القرار.
وتأتي الركيزة الثالثة فيما ذكرناه بين ركائز الشخصية المصرية في استمرارها مدى تاريخ طويل، وأعني بها، الانتماء الأسري، فها هنا — أي في حياة الأسرة — لا عد الأصواتِ هو طريقة صنْع القرار، كلَّا ولا هو التمييز بين القادر وغير القادر من الأبناء، بل هو الحب الذي يوجِب على رب الأسرة أن يرعى أفرادها — من جهة — كما يوجِب على هؤلاء الأفراد أن يطيعوا ما يقرِّره لهم وعليهم — من جهة أخرى — نعم قد يحدث لرب الأسرة أن يطرح أمرًا ما على أفراد أسرته ابتغاءَ الشورى لكنه آخرَ الأمر هو وحدَه صاحب القرار ركونًا إلى موقعه من البناء الأسري واكتفاءً بما هو مفروض فيه من حبٍّ ورعاية لا يُؤجَر عليهما.
وليس مبدأ الحب والرعاية هذا مقصورًا على الأسرة الصغيرة، بل إنه ليتسع مجاله فتراه ساريًا في حياة الأسرة الكبرى — التي هي الأمة كلها، ولكنه يسري هناك في جوانبَ خاصة لا تُراعى فيها قواعدُ العمل من حيث العطاء للقادر وحدَه دون العاجز، ومن أمثلة ذلك أن نكفل لكل إنسان في شيخوخته ما يأمن به على عيشه وصحته؛ فنحن هنا لا نقول: لماذا نعطي العاجز عن العمل راتبًا أو رعاية صحية، لا نقول ذلك لأن المبدأ هنا ليس القدرة أو المهارة، بل هو الحب والرعاية.
مبادئ ثلاثة — إذن — نراها في جوانب الحياة المختلفة، فما يصلح في مجال «السياسة» قد لا يصلح في مجال المهارات، وما يصلح في هذين قد لا يصلح في الكيان الأسري، سواء أكانت الأسرة مأخوذة بمعناها الأصغر أم بمعناها الأكبر، وقد تسألني: وماذا تخسر لو أطلقنا على هذه المبادئ كلها اسمًا واحدًا، فنقول إنها هي «الديمقراطية»؟
وأجيبك على سؤالك فأقول: إن رؤية الفوارق بين المختلفات من شأنها أن تؤدي إلى دقة التطبيق؛ فإذا كنت قد سمعت بالانحلال الأسري في كثير من أقطار الأرض، فاعلم أن من أهمِّ ما أدَّى إليه من عوامل، هو خلط المبدأ الديمقراطي بالمبدأ الأسري، بحيث ظن أبناء الأسرة أن علاقتهم بوالديهم ينظمها أخذ الأصوات، على حين أن الذي ينظمها مبدأ آخر، هو رعاية الكبير للصغير، لقاءَ طاعة الصغير للكبير، وإذا كنت قد سمعت بتدهور التعليم هنا أو هناك، فاعلم أن من أهم العوامل المؤدية إلى ذلك، هو الخلط بين مبدأ الديمقراطية ومبدأ الكفاءة.
وليست هي بالحالات القليلة، تلك التي نخلط فيها بين مبدأ الكفاءة الذي ينبغي له أن يسود في مجال العمل ومبدأ الرعاية الأسرية الذي تكون له الأولوية حيثما وجبت الرعاية بغير افتئات على كفاءة العمل؛ فلقد حدث في ذات عامٍ أن كنت معارًا — على سبيل التبادل بين الجامعات — أستاذًا بإحدى جامعات الولايات المتحدة، فدَهِشت عندما اقترب العام الدراسي من ختامه؛ إذ رأيتهم يوزِّعون استماراتٍ على الطلاب، مؤداها أن يقول الطلاب آراءهم في أساتذتهم من كل الجوانب، فسألت زميلًا هناك قائلًا: وماذا لو قررتْ أكثرية الطلاب عدم الصلاحية بالنسبة إلى أستاذ؟ فأجابني الزميل أنه يفصل. فقلت له: مثل هذا التصرُّف محال علينا في مصر أن نلجأ إليه. فسألني: لماذا؟ قلت: لأننا أولًا لا نأخذ رأي التلميذ في أستاذه، وثانيًا: لأننا نأخذ في اعتبارنا أن هذا الأستاذ رب أسرة مسئول عن أفرادها، فماذا تكون حاله إذا نحن فصلناه؟ أجاب زميلي، والدهشة هذه المرة كانت دهشته: أهي جامعة أم هي جمعية خيرية لرعاية العاجزين؟ وهل من العدل أن تُراعى حياة أستاذ فيُضحى في سبيل ذلك بعدد من الطلاب الله أعلم بعددهم؟
هكذا ظهر الفارق بين ثقافة ذلك الزميل الأمريكي وثقافتي، فبينما هو يفرِّق بين المبادئ المختلفة ليجعل لكل مبدأ مجاله، كنت أنا أخلط بينها، فأضع المبدأ الأسري مكان مبدأي الديمقراطية والكفاءة معًا؛ فعلى أساس الأكثرية الديمقراطية في أصوات الطلاب بُني القرار، ثم على أساس انعدام الكفاءة فصل الأستاذ، وأما من جهتي أنا فقد شعرت وجوب أن تكون الأولوية لمبدأ الرعاية والحب. ذلك ما كان، وإني إذ أستعيده الآن لأعيد فيه النظر أجد أنهم أخطئوا حين جعلوا الرأي للطلاب وأصابوا حين فصلوا العاجز عن عملٍ لا يُحسِن صناعته، ولو أنهم لجئوا إلى مقياس علمي آخر ليحكموا به على قدرة الأستاذ لكان الصواب في جانبهم، وأما عن وجهة نظري أنا التي أبديتها عندئذٍ فأرى الآن موضع الخطأ فيها؛ لأنها احتكمت إلى العاطفة الأسرية في مجالٍ لا يجوز أن يُحتَكم فيه لغير الكفاءة.
الخلط بين المبادئ في المجالات المختلفة قد يؤدي إلى ضررٍ جسيم، انظر إلى ما حدث عندنا منذ قريب حين حُكم على كتاب الفتوحات المكية لابن عربي على المبدأ الديمقراطي، وهو الأخذ بأكثرية الأصوات، وتذكَّر ما حدث عندنا أيضًا منذ بضع سنوات حين جعلنا أساس الاختيار للمناصب العليا، الولاء وليس الكفاءة، والأمثلة كثيرة على وضْع المبدأ المعيَّن في غير مجاله فينتج الضرر، فلو احتكمنا إلى المبدأ الديمقراطي، وهو عدُّ الأصوات، في الحكم على العلماء — مثلًا — لجاز أن نقع في مثل الخطأ الذي وقعت فيه أكثرية الأصوات عندما حكمت على طه حسين بعدم الصلاحية للعمل بالجامعة، وعندما حكمت على الشيخ علي عبد الرازق بأن يُمحى اسمه من قائمة العلماء، وعندما حكمت على كتاب الفتوحات المكية بأنه غير صالح للنشر، وكذلك لو احتكمنا إلى مبدأ الكفاءة وحدَه لفعلنا ما فعله أهل إسبرطة قديمًا، عندما كانوا يُعرِّضون ضعاف الأطفال والشيوخ للصقيع فوق الجبل ليموتوا، ولو احتكمنا إلى العطف الأسري وحدَه، لاستمعنا إلى الوساطات في إدارة شئون الوطن صغيرها وكبيرها على السواء.
فلماذا نتمسك بوحدانية المبدأ، إذا كانت حياتنا تتطلب عدة مبادئ في وقت واحد، شريطة أن نحصر كل مبدأ منها في مجاله؟ إن تعدُّد المبادئ في هذه الحالة لا يلزم عنه التناقض، بل ينتج لنا ضربٌ من التكامل يدنو بنا نحو الكمال.